«الرد على الملحدين»
«تتمة أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث، وبيان شرك الملحدين»
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ،
وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ،
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
ففي كتاب «الفيزياء ووجود الخَالِق» ذِكْرٌ لبعض الأَسْبَابِ التي أَدَّتْ
إلي الْإِلْحَادِ فِي العصرِ الْحَدِيث.
*ومن هذه الأَسْبَاب: أن الخلاف بين الْعِلْمِ والدينِ لم
يكن خلافًا علميًا؛ بل كَانَ أَيْضًا خلافًا أخلاقيًا وسياسيًا مع الكنيسة التي تتحدث
باسم هذا الدين.
لِأَسْبَابٍ مثلِ هذه اعْتَقَدَ كثيرٌ من المؤمنين
بوجود الخَالِق والمدافعين عَنْ هذا الإيمان أَنَّهُ ينبغي أن لا يُرْبَطَ الإيمانُ
بالله بالدين.
قال أحد مؤرخي الْإِلْحَادِ فِي الحضارة الغربية:
«أنْ يكونَ هذا -يعني الدفاعَ عَنْ وُجُودِ الخَالِقِ-
من غير لجوء إلي الكنيسة -يعني الكنيسة الغربية-؛ قَالَ: أن يكون ذَلِكَ كذَلِكَ؛ فهذا
يبدو بدهيًا؛ فقد كَانَت الكنيسة جزءًا من المشكلة، جزءًا من المرض الَّذِي كَانَ يصيب
كلَّ معرفةٍ باللهٍ، لا جزءًا من العلاج، لقد كَانَت الكنائس الغربية هي الْأَرْضَ
التي أَنْبَتَت الْإِلْحَادَ».
قال هذا أحدُ مؤرخي الْإِلْحَادِ فِي الحضارة
الغربية.
*وكان
من أكبر أَسْبَاب الْإِلْحَاد: بعض القواعد الفكرية التي أَصَّلَ لها ودافع عَنْها فلاسفةٌ
مشهورون مُؤَثِّرون، كَانَوا فِي أنفسهم مؤمنين، أي: كَانَوا مؤمنين بوجود الخَالِق؛
لَكِنَّ قواعدَهم الفكريةَ كَانَت فِي حقيقتها قواعدَ الْإِلْحَاد؛
ولِذَلِكَ اقتنع كثير ممن جاء بعدهم بتلك القواعد
الفكرية، وأسسوا عليها إِلْحَادهم، واعتبروا إيمان أُولَئِكَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ
قَعَّدُوها؛ اعْتَبَرُوا إيمانَهم أمرًا شخصيًا لا يتناسب مع ما قَعَّدُوا مِنْ قواعدَ
عقليةٍ.
كان من هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَة: «رِينِيه دِيكَارْت» الَّذِي أَتَى بنظريةٍ للطبيعة، ومِن
ثَمَّ للعلومِ الطبيعيةِ، فَحْوَاهَا: أنَّ الطبيعة بعد أنْ خَلَقَهَا اللهُ صارت مُسْتَقِلَّةً
تمامًا بقوانينِها التي أَوْدَعَها إياها، ولم يَعُدِ الخَالِقُ يَتَدَخَّلُ فِي شُؤُونِهَا،
أو يُوقِفُ فَاعِلِيَّتَها.
صار
الخَالِق إِذَن -علي كلامِ هذا- شيئًا بعيدًا عَنْ حياة الناس اليوميةِ واهتماماتِهِمُ
الحاليةِ!!
صار شيئًا يمكن أن تستمر الحياة من غير لجوء
إِلَيْهِ، أو حتى من غير تَذَكُّرِهِ!!
ولم يَعُدْ مِنْ ضرورةٍ لذِكْرِهِ إلا إِذَا
كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ بدايةِ الخلقِ!!
لم يلبث هذا الخَالِقُ السلبي الَّذِي دلَّ عليه
«دِيكَارْت» أنْ تَحَوَّلَ عَنْد كثير من الْعلماء الطَّبِيعِيِّينَ
إِلَى مجرد اسم مجازي للمبدأ أو المبادئ التي يقوم عليها نظام الطبيعة.
كثيرٌ من الناس يظنون أن «أَيْنِشْتَايِنْ» كَانَ
مؤمنًا بالله حين يسمعون ذِكْرَهُ لله فِي عبارات؛ مثل قوله المشهور: «إن الإلهَ
الرَّبَّ لا يقامِر»؛ لَكِنَّ «أَيْنِشْتَايِنْ» إنما كَانَ يَسْتَعْمِلُ هذه العبارةَ مجازًا؛
لِيُعْرِبَ عَنْ رفضه للنظرية التي تقول بأنَّ المصادَفَةَ حقيقةٌ موضوعيةٌ فِي بِنْيَةِ
الكَوْنِ، وليست أمرًا نسبيًا خاصًا بالمُشاهِد للكون.
في أيامنا هذه قَالَ «جُورْجْ سْمُوتْ» الَّذِي اكْتَشَفَ وُجُودَ تَجَعُّدَاتٍ
فِي الإشعاع الكوني الخَلْفِيِّ ترجع إِلَى ثلاثِ مائةِ ألفِ سنةٍ الأولى لِعُمْرِ
الكونِ -كما يَقُول-!!، والتي كَانَت النواةَ التي تَكَوَّنَتْ منها الأجسام الكونية
على حسب ما ذهبوا إِلَيْهِ من نظرية الانفجار الْعَظِيم.
قال وهو يعلن ذَلِكَ الاكتشاف ويشرحه لغير المختصين
فِي مؤتمرٍ صحفيٍّ سنةَ اثنتينِ وتسعينَ وتِسْعِمِائَةٍ وألفٍ «1992» من القرن الْمُنْصَرِمِ؛
قَالَ: «إذا كنتَ متديِّنًا فكَأَنَّكَ تَرَى اللهَ».
وكانت هذه العبارةُ مِنْ بَيْنِ كُلِّ ما قَالَ
فِي شرحِ اكتشافه هي التي تناقلتها وسائل الإعلام، ونشرتها على نطاقٍ واسعٍ فِي العالم
كله؛ لَكِنَّهُ حين كتب كتابه المسمى «تجعداتٌ فِي الزمان»؛ قَالَ وكأنه يعتذر لإخوانه الفيزيائيين
فِي علم الكون:
يتلاقى علم الطبيعة بالفلسفة عَنْدما يقترب البحث
من السؤال الأقصى عَنْ وُجُودنا العقلاني للكون.
قال ذات مرة: «إنني أريد أن أعرف كيف خلق الله
العالم؟
أريد أن أعرف أفكاره!!»
لقد قَصَدَ أن يكونَ هذا مجازًا.
لقد كَانَ يُعَبِّرُ به عَنْ المدى العميقِ الَّذِي
ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي البحث.
وقد كَانَت ملاحظتي -كذَلِكَ هو يَقُول؛ لِأَنَّهُ
عَنْدما يتكلم عما قَالَه أَيْنِشْتَايِنْ فِي تلك العبارة التي مرَّت-: «إنني أريد
أن أعرف كيف خَلَقَ اللهُ العالم؟ أريد أن أعرف أفكاره».
راح يعتذر عَنْ هذه المقولة؛ قال: لقد قَصَدَ
أن يكون هذا مجازًا.
لقد كَانَ يُعَبِّرُ به عَنْ المدى العميقِ الَّذِي
ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي البحث، ولقد كَانَت ملاحظتي التي كثر الاستدلال بها مَصُوغَةً
فِي هذا القالَبِ نفسِهِ.
يعني كَانَت مجازًا؛ لِأَنَّهُ كَانَه يعتذر
لإخوانه الفيزيائيين عما قَالَ بأنه لا يؤمن بوجود الخَالِق أصلًا.
فهذا أمر عَنْدهم مما يُسْتَحْيَا منه، وإذا
اعتقده معتقِد؛ فعندهم ينبغي عليه أن يُخْفِيَهُ، وأن يكون ذَلِكَ خاصًا به.
*مِنَ الأَسْبَاب التي أدت إِلَى الْإِلْحَاد
فِي هذا العصر أَيْضًا: ما يتكررُ ذكره فِي كتابات الغربيين تعليلًا لنفورهم من
الدين؛ فإنه يتكرر فِي كتابات الغربيين أنَّ كثرةَ الحروبِ والمَآَسِي التي حَدَثَتْ
فِي تاريخِهِم إنما حَدَثَتْ بِسَبَبِ الخِلَافَاتِ الدينيةِ!!
فيقولون: هذا هو الْمُبَرِّرُ الَّذِي يَجْعَلُنا
لا نُحِبُّ الدين ولا نعتقده؛ لِأَنَّهُ لم يأت منه خيرٌ كما يَقُولون!! وإنما حدثت
بِسَبَبه فِي تاريخِهِم الْمَآَسِي والحروبُ، وكلُّ ذَلِكَ إنما وَقَعَ بِسَبَب الخِلَافَاتِ
الدينيةِ كما يزعمون!!
يقول عالِمُ الأحياءِ البريطانيُّ «بِيتَرْ مدورْ» كما نَقَلَ عَنْه «تِيلَرْ»:
لقد كَانَ الثمنُ الَّذِي اضْطُرَّت البشريةُ
فِي عُمُومِهَا لِتَدْفَعَهُ مُقَابِلَ الراحةِ والانتعاشِ الرُّوحِيِّ الَّذِي آتَاهُ
الدينُ قِلَّةً مِن الناس؛ كَانَ الثمنُ الَّذِي دَفَعَتْهُ البشريةُ اضْطِرارًا؛ كَانَ
دَمًا وَدُمُوعًا، وهو مِنَ الْغَلَاءِ بحيث لا يَسُوغُ لنا أنْ نَأْتَمِنَ الاعتقادَ
الدينيَّ علي الْخُلُقِيِّ.
ولا جِدَالَ فِي أَنَّهُ حَدَثَ باسمِ ما يُسَمَّى
بالدينِ حُرُوبٌ وَمَآَسٍ وَمَظَالِمُ فِي البلادِ الغربيةِ وفي غيرِها؛ ولَكِنْ هل
يُعَدُّ هذا مُسَوِّغًا لِرَفْضِ كُلِّ دينٍ أَيًّا كَان؟!
هذا لا يُقْبَلُ؛ فإنَّ المنهجَ الْعِلْمِيَّ
الْمُنْصِفَ يَسْتَدْعِي أنْ نَنْظُرَ فِي هذه الأديانِ لِنُمَيِّزَ بينَها؛ فاسْمُ
الدينِ اسْمٌ تَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مُعْتَقَدَاتٌ وَقِيَمٌ وَدَعَاوَى مختلفةٌ اختلافًا
لا يَجْعَلُ بينَها صلةً إلا ذَلِكَ الاسمُ، وَيَسْتَدْعِي أن نَنْظُرَ فِي هذه المعتقداتِ
والقِيَمِ والدَّعَاوَى المختلفةِ؛ لِنَتَبَيَّنَ ما هو منها حَقٌّ، وما هو باطلٌ.
وإذا كَانَ بينَها أمرٌ مُشْتَرَكٌ؛ فهل كَانَ
هو السببَ فِي تلك المآسِي حتى نَحْكُمَ على الأديانِ كلِّها هذا الحكمَ العامّ؟
أو أن السبب كَانَ أمرًا خارجًا عَنْ تلك المعتقداتِ،
فلا تَتَحَمَّلُ جَرِيرَتَه؟
يعني: قد يكون بِسَبَب استغلال تلك الأديان،
أو بِسَبَب سوء فهمٍ لها، أو بِسَبَب ظلم واقع على الفئة المتدينة؛ لأن استغلال الدين
كاستغلال كل شيء حسن.
يكون استغلالًا سيئًا فِي كثيرٍ من الأحوال،
كما هو الواقع فِي كثير من البلدان، وكثيرٍ من المجالات، والدينُ الْحَقّ يقرر هذا،
ويُحَذِّرنا منه.
لا نعرف كلامًا هو أشد فِي التحذير من الَّذِينَ
يستغلون الدين لتحقيق مآرب دنيوية، والذين يرتكبون الفظائع بِسَبَب التصور المنحرف
للدين مثلَما نجد ذَلِكَ فِي كتاب ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛
فإن الله -عز وجل- يَقُول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا
مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
هذه صورةٌ من صور استغلال الدين استغلالًا سيئًا،
وقد ذكرها الله رب العالمين للتحذيرِ منها ومن الوقوع فِي شِبْهِهَا.
وأيضًا يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ الخوارج: «يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ
مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ،
وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»، كما فِي «الصحيحين».
فهذا أَيْضًا من استغلال الدين فِي إراقة الدماء،
وما فوق ذَلِكَ وما دونَهُ من تكفير المسلمين، ومِنْ سلب أموالهم وانتهاكِ حرماتهم.
فعندنا فِي كتاب ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ما يحذر؛ بل ما فِيه من التحذير لا تجد مثله من استغلال
الدين استغلالًا سيئًا.
فالآخرون يَقُولون: إنَّ الدين قد اسْتُغِلَّ
استغلالًا سيئًا، ووقع ما وقع من الحروب والمآسي بِسَبَبه.
فيقال لهم: إن المنهج الْعِلْميَّ يفرض عليكم
أن تبحثوا فِي كل دينٍ، فإذا ما نظرتم فِي الدين الإسلامي مثلًا؛ وجدتم الكتاب والسُّنة
يحذران من استغلال الدين استغلالًا سيئًا على نحو ما مَرَّ فِي النصين الكريمين.
ثم على افتراض أن المعتقدات الدينية هي التي
أدت إِلَى تلك الحروب؛ فهل توقفت الحروب بعد أن حلت الْعَلْمَانِيَّة فِي الغرب محل
الدولة الدينية؟!!
هم أزاحوا الدين، وأحلوا الْعَلْمَانِيَّة مَحَلَّ
الدينِ، ووقعت الحروب الكبرى التي لم يَشْهَد العالَمُ مِنْ قَبْلُ لها مَثِيلًا مع
غِيَابِ الدينِ، ومع وُجُودِ الْعَلْمَانِيَّةِ.
إنَّ القتلَ والْقَرْحَ والأذَى والتدميرَ والإفسادَ
الَّذِي حدث بِسَبَبِ الْحَرْبَيْنِ العَالَمِيَّتَيْنِ لم يَكُنْ له مَثِيلٌ فِي تاريخِ
البشريةِ كلِّها؛ فهل كَانَ هذا بِسَبَبِ الدينِ؟!!
الحروبُ التي شَنَّتْهَا الدولُ الغربيةُ الرأسِمَالِيَّةُ
والشيوعيةُ على الشعوب الضعيفة لاستعمارها وسَرِقَةِ خيراتها؛ هل كَانَت حروبًا
دينية؟!!
الحروب التي حدثت فِي السنوات الأخيرة فِي العراقِ
وإيرانَ والصُّومالِ واليمنِ وغيرِها؛ هل كَانَت بِسَبَب معتقداتٍ دينية؟! أم بِسَبَب
اسْتِلَابِ الثَّرْوَاتِ وإِذْلَالِ الشُّعُوبِ؟!!
فإذا كَانَت الحروبُ وَالْمَآَسِي التي حَدَثَتْ
بِاسْمِ الدينِ سَبَبًا فِي النُّفُورِ مِن الأديانِ كلِّها، وعدمِ الثقةِ بها؛ فَلْتَكُنْ
هذه الحروبُ والمآسي سَبَبًا أقوى للنفور من الْعَلْمَانِيَّة وعدم الثقة بها، على
حسب قياسهم، وإلا؛ فإنهم يتناقضون.
يجب إِذَن؛ إِذَا أردنا أن نكون منصفين فِي تقويمنا
للدين؛ أن نضع كل هذه الأمور فِي اعتبارنا؛ وإلا كَانَ رَفْضُنا للدينِ وَنُفُورُنَا
منه أمرًا عاطفيًا يقوم على الهوى؛ لَكِنه يتزيى بِزِيِّ الْعِلْمِ والعقلِ.
*مِن الأَسْبَابِ التي أَدَّتْ إِلَى الْإِلْحَاد: أنَّ الْمُلْحِدِينَ اتبعوا طريقةً
خَدَّاعَةً، هي: أن يضعوا الدين فِي مقابل الْعِلْم الطبيعي، ثم يتكلموا عَنْ المزايا
التي يمتاز بها منهجه الْعِلْمي، وعن الثمار التي جناها الناس من المخترعات التي قامت
على أساسه، وعن توسيعه لدائرة معارف الناس بالكون، وقضائه بذَلِكَ على كثير من الخرافات
المتعلقة بطبيعة الكون أو طبيعة الأَسْبَاب الفاعلة فِيه، إِلَى غير ذَلِكَ.
ثم يَقُولون: أَنَّهُ لهذا كلِّه ينبغي أن يكون الاعتماد
على الْعِلْم الطبيعي إِلَى الدين فِي معرفة الْحَقائق.
وهذه الحجة كَانَت تصلح لو أن الدين والْعِلْمَ
الطبيعي كَانَا أَمْرَيْنِ متناقِضَيْنِ لا يمكن للعاقلِ أن يَجْمَعَ بينهما.
وربما كَانَت تَصْلُحُ هذه الحجةُ لو أَنَّهُ
كَانَ مِن الممكنِ أنْ يُسْتَعْمَلَ منهجُ الْعِلْمِ الطبيعيِّ فِي كل المجالات التي
يحتاج إِلَيْهِا الناس، بما فِي ذَلِكَ –مثلًا-: الهدفُ من حياتهم على هذا الكوكب الْأَرْضي؛ فهل
يستطيع الْعِلْم المادي أن يبين لنا هذا الهدف؟!
وكذَلِكَ ما يصير إِلَيْهِ الناس بعد هذه الحياة.
وكذَلِكَ القِيَمُ التي يَسْتَهْدُونَ بها فِي
حياتهم؛ لَكِنَّ الْعِلْمَ الطبيعي بطبيعة منهجه، وكذَلِكَ باعتراف أساطينه لا يستطيع
أن يَفْصِلَ لنا فِي هذه الأمور.
فالذي يَقُول للناس -والحالُ هذه-: خذوا الْعِلْم
الطبيعي واتركوا الدين؛ هو كَإنسانٍ يَقُول لك: إن الناس يتفقون على ما يشاهدون بحواسهم
أكثرَ من اتفاقهم على ما يستنتجون بعقولهم.
فإذا
ما وافقته على ذَلِكَ؛ مَضَى لِيقول: إِذَا؛ فِيجب أن نعتمد على الحواس ونترك العقل
جانبا!!
فالقياس واحد.
وأنه لا تناقض بين الاعتماد على الحس فِي معرفة
ما مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْرَفَ بها –أي: بالحواسِّ-، والاعتمادِ على العقلِ فِي معرفة ما لا يُعْرَفُ
إلا به.
إنه لا تَقَابُل بين الْعِلْم الطبيعي والدين؛
بل إن الدين الْحَقّ يعترف بالمنهج الْعِلْمي الطبيعي وسيلةً إِلَى المعرفة؛ بل إن
المنهج التجريبي وَضَعَهُ علماؤنا المسلمون، فأوَّلُ مَنْ وَضَعَ المنهجَ التجريبي
هو «شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-»، وسُرِقَ منه، ثم رُوِّجَ فِي الغرب على أَنَّهُ
من ابتكار فلان وفلان فِي البحث الْعِلْمي!! ولَكِن الثابت الَّذِي لا يقبل المجادلة
ولا النقض: أن أولَ من وضع أسس المنهج التجريبي هو «شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمه
الله تعالى-».
إذًا؛ فالدين ليس مقابلًا للعلم الطبيعي؛ ولَكِنه
يَقُول –أي الدينُ الْحَقُّ الَّذِي يَعْتَرِفُ
بالْعِلْمِ الطبيعي-: أَنَّهُ ليس وسيلةً –يعني: الْعِلْمَ الطبيعي– إِلَى كل المعارف؛ فأنت لا تستطيع بالْعِلْم
الطبيعي أنْ تَصِلَ إِلَى كل المعارف؛ بل هُنَاكَ معارف لا تدرك إلا بالرواية، إلا
بالخبر، كما مر ذَلِكَ فِي كلام شيخ الإسلام وغيره عَنْد النظر فِي رسالة العلامة السعدي
رحمه الله.
بل هُنَالِكَ أَيْضًا معارف لا تُدرك إلا بالاستنتاج
العقلي.
فهذه كلها من وسائل المعرفة ومن طرقها: العقل
والحِس، وكذَلِكَ الرواية والخبر.
وأيضا هُنَالِكَ ما لا يمكن معرفته إلا من طريق
الرسل، وهو بالخبر الصادق، فالعاقل هو الَّذِي يستفيد من كل هذه الوسائل بحسب نوع المعرفة
التي يريدها، ومَن لا عَقْلَ له يَحْصُرُ نفسَه فِي بعضِها، ويُنْكِرُ غيرَه؛ لِذَلِكَ
فإن الناس لشدة حاجتهم إِلَى تلك المعارف التي لا يُوصِلُهُمُ الْعِلْمُ الطبيعيُّ
إِلَيْهِا؛ يفضلون التعلق بأي دين؛ ولو رأوا فِيه بعض الأباطيل؛ لِأَنَّهُ يلبي شيئا
من حاجتهم إِلَى هذه المعارف؛ لأن الناس فِيهم جوعٌ فطري إِلَى التعبد للإله الْحَقّ،
وهم يتطلعون إِلَى شيء باطل.
الْعِلْم الطبيعي لا يمكن أن يُشْبِعَ هذه الحاجات،
ولا أنْ يَسُدَّ تلك الجَوعات، وحينئذ يتعلق الناس بأي دين يأتي لهم ولو بالخرافات؛
ولَكِن يتكلم عَنْ أمثال هذه المعاناة الباطنة التي يجدها الكائن الإنساني فِي نفسه.
كذَلِكَ من المقالات الْمُفْتَعِلَةُ؛ بل هي
مضحكةٌ فِي حد ذاتها: ما قَالَه الفيلسوف «بُوبَرْ» الَّذِي اسْتَشْهَدَ به «وَايِنْبِيرْج»:
«إنه من البديهي جدًا أنَّ اللاعقلانية، لا العقلانية،
هي المسؤولة عَنْ كل الحروب والعداوات القومية قبل الحروب الصليبية وبعدها؛ ولَكِنني
لا أعرف حربا أُشْعِلَتْ لغايةٍ علمية، أو بإِيعَازٍ من الْعِلْماء».
هذا ما قَالَه ذَلِكَ الفيلسوف!!
فيقال له: كذَلِكَ لم تقم حروب بِسَبَب الاختلافات الأدبية
والأذواق الفنية؛ لَكِنَّ المتحاربين –متدينين كَانَوا أو غير متدينين– يستفيدون مما يعرفون من علمٍ بالدنيا
فِي حروبهم؛ فلئن لم تقم الحروب باسم هذا الْعِلْم –فقد كَانَ خادما مسخَّرًا فِيها-؛ فأيُّ
فضلٍ له على الدين فِي ذَلِكَ؟!!
ويقال له: إنَّهُ قد قامت حروب بِسَبَب الاختلافات اللَّوْنية
والانتماءات العنصرية؛ فهل يتخلى الناس عَنْ ألوانهم وأجناسهم؟!!
ويقال أَيْضًا: إنَّ الحرب شرٌّ، ما فِي ذَلِكَ
شك؛ ولِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ للمؤمنين:
«أَيُّهَا النَّاسُ؛ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسألوا اللَّهَ العَافِيَةَ».
كما فِي «الصحيحين».
لَكِنَّ هذا الشَّرَّ قد يكون عملًا صالحًا إِذَا
كَانَ وسيلة وحيدة للدفاع عَن الْحَقّ، أو لدرءِ شر أكبر.
*كان أَيْضًا من أَسْبَاب الْإِلْحَاد: دعاوى ادعاها وما يزال يدعيها الْمُلْحِدُونَ
عَن التناقض بين الإيمان وحقائق الْعِلْم الطبيعي.
سَلَّمَ بها كثير من المفكرين فِي الغرب، وبدأت
تتكررُ مُسْتَشْرِيَةً مِنْ جِيلٍ إِلَى جيل، وتُنْقَلُ مِنْ كتابٍ بَعْدَ كتابٍ؛ مع
أَنَّهُا لا تَدُلّ على شيء مما أراد لها مُدَّعُوها.
مِنْ أمثال ذَلِكَ: تَوَهُّمُهم أن الإيمان بوجود
الخَالِق مرتبط بتصوراتٍ مُعَيَّنًةٍ للدنيا كَانَت شائعة عَنْد الناس فِي أُورُوبَّا،
وأن الْعِلْم أثبت عدم صحة تلك التَّصَوُّرَات، فأزال بذَلِكَ الأساسَ الَّذِي كَانَ
يقوم عليه ذَلِكَ الإيمانُ.
هذا
مع أَنَّهُ لا علاقة بالضرورة بين الإيمان وتلك التَّصَوُّرَات.
مِن أكثر ما يذكرونه فِي هذا المجال: اعتقاد
الناس فِيما مضى بأن الْأَرْض هي مركز الكون، وأنَّ «كُوبَرْ نِيكُوسْ» جاء فأثبت أن الْأَرْض إنْ هي إلا كوكب من
كواكب عدة، وأنه لا ميزة لها على سائر الكواكب والنجوم.
ينسى أصحاب هذا القول أن الْعِلْم الطبيعي كذَلِكَ
ارتبط فِي أذهان كثير من أهله بتصورات للكون ما لبث الْعِلْم نفسه أن أبطلها.
ألم يكن كثير من الْعلماء الطَّبِيعِيِّينَ يتصورون
أن الكون أزلي لا بداية له ولا نهاية؟!!
بل يَعُدُّ هذا أمرًا لازمًا للنظرة الْعِلْمية
حتى جاءت نظرية الانفجار الْعَظِيم --وهي مما يتمسك به كثير منهم- فَسَبَّبَتْ لهم
حَرَجًا عظيمًا.
فإذا كَانَ الدينُ سَيَرْفُضُ الناسُ التمسكَ
به؛ لأن بعض التَّصَوُّرَات قد ارتبطت عَنْد بعض الناس به، وهي ليست بلازمة، لا عقلًا
ولا نقلًا؛ فَلْيَرْفُضْ الناسُ الْعِلْمَ الطبيعيَّ أَيْضًا؛ لِارْتِبَاطِهِ فِي أذهانِ
بعضِ أهلِه بتصوراتٍ تُبَيِّنُ البُطْلَانَ، وقد تَبَيَّنَ واضحًا فِيها.
فأمثال هذه الحُجج إنما أتت على حَسَبِ البيئة
التي نشأ الْإِلْحَاد المعاصر فِيها؛ لِأَنَّهُم -كما مَرَّ- إنما بدأوا فِي الْإِلْحَاد
وتطليق الدين والتحلل منه لما وجدوا المصادمة قائمة بين ما تقرره الَكِنيسة الغربية،
وتدَّعي أَنَّهُ هو الإيمان الْحَقّ، وأنَّ ما عداه هرطقة وكفر؛ وبَيْنَ ما أثبته الْعِلْم
من الْحَقائق الثابتة التي لا يمكن أن يجادَلَ فِيها ولا أن يُمَارَي، فَكَفَرُوا بالدين
الَّذِي دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ، وتمسكوا بالْعِلْم، وقالوا: إن هذا الدين غير صالح لشيء،
وإنما يصل المرء إِلَى ما يصل إِلَيْهِ؛ بل العالم كله؛ بل الجنس الإنساني يصل إِلَى
ما يصل إِلَيْهِ من الرُّقِيِّ بهجر الدين وتطليقه، والْبُعْدِ عَنْه، والكفرِ بالإله
الخَالِق !!
هذا لم يكن عَنْدنا !!
هذا كَانَ عَنْدهم !!
وأما نحن؛ فديننا يدعو إِلَى الْعِلْم، ويحض
عليه، ويدعو الناس إِلَى الاغتراف من مَعِينِه، و إِلَى الإكثار من طلبه، إِلَى غير ذَلِكَ مما هو معلوم.
زعم «وَايِنْ بِيرْ» -وهو فِيزيائي مشهور– فِي كتابٍ له:
«أنَّ الْمُتَدَيِّنِينَ كَانَوا يظنون أنَّ
الْأَجْرَام السَّمَاوِيَّة ذات طبيعة سامية مختلفة عَنْ طبيعة الْأَجْرَام الْأَرْضيَّة؛
لِذَلِكَ كَانوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُا هي
التي تَدُلُّ على وُجُود الخَالِق؛ لَكِنَّ الشَّمْسَ وسائرَ النُّجُوم فَقَدَتْ مَكَانَتَهَا
المتميزةَ، فنحن نعلم أَنَّهُا كُرَاتٌ مِنْ غازٍ ملتَهِبٍ مُتَمَاسِكٍ بِفِعْلِ الجاذبيةِ،
وممنوعةٍ من التَّقَوُّضِ بِضَغْطٍ يَظَلُّ مُسْتَمِرًّا بِسَبَبِ الْحَرَارَةِ الناشئةِ
عَن الْمُفَاعِلَاتِ الْحَرَارِيَّةِ النوويةِ الموجودةِ فِي قَلْبِ النُّجُومِ، إن
النُّجُوم لا تُنْبِئُنا عَنْ عظمة الخَالِق -هذا كلامه!!- بأقل ولا أكثر مما تُنبئنا
به الحجارة الموجودة على الْأَرْض حولنا».
فَيَسْتَدِلُّ بهذا الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ
الْعِلْمُ الْحَدِيثُ إِلَى الْكُفْرِ بالخَالِقِ الْعَظِيمِ، ويقول: أُولَئِكَ الْمُتَدَيِّنُونَ
كَانوا يَعْتَقِدُونَ أن الْأَجْرَامَ السَّمَاوِيَّةَ لها مَنْزِلَةٌ ساميةٌ، وأَنَّهُا
هي التي تَدُلُّ على وُجُودِ الخَالِقِ، وما دام هذا الاعتقادُ قد ثَبَتَ بُطْلَانُهُ؛
إِذَن؛ فلا خَالِقَ هُنَاكَ!!
وتَعْجَبُ مِنْ كثيرٍ مِنْ أُولَئِكَ عَنْدما
تَعْمَلُ عقولُهم بِهِمَّةٍ كاملةٍ ونشاطٍ تامٍّ فِيما يَتَعَرَّضُونَ له مما يُزَاوِلُونَهُ
مِنَ العُلُومِ الماديةِ، فإذا جَاؤُوا إِلَى أمثالِ هذه المسائلِ اليسيرةِ الواضحةِ؛
ضَلُّوا فِيها وتَخَبَّطُوا فِي الوقتِ الَّذِي يَهْتَدِي الطِّفْلُ الغَرِيرُ إِلَى
وَجْهِ الْحَقِّ فِيها!!
ما وجهُ التَّلَازُمِ بين هذا وهذا؟!!
وهل جاء الدين بإثبات أن هذه النُّجُوم هي وحدها
التي تَدُلّ على وُجُود الخَالِق؛ لأننا لا نعرف طبيعتها؟!!
وإنما تَدُلُّنا على حَسَبِ ما وَصَلَ إِلَيْهِ
الْعِلْمُ المادي على وُجُود الخَالِق، وعلى عظمته أَيْضًا؛ لِأَنَّهُا وإن كَانَت
لا تَعْدُو أنْ تكونَ مِن الكُرَاتِ الناريةِ الملتهبةِ من الغازات المتماسكةِ بِفِعْلِ
الجاذبيةِ.... إِلَى آخرِ ما يَقُولُ الْعِلْمُ المادي؛ فمَن الَّذِي جَعَلَهَا كذَلِكَ؟!!
ومَن
الَّذِي وَضَعَ لها سُنَّتَهَا التي تَسِيرُ عليها؟!! وهي سنةٌ إلهيةٌ.
ومَن الَّذِي جَعَلَ دَوَرَانَهَا وَحَرَكَتَهَا
وَإِشْعَاعَهَا وَحَرَارَتَهَا وَمَرْكَزَهَا وَمَوْقِعَهَا عَلَى هَذَا؟!!
ومِنْ أين أَتَتْ؟!!
لِأَنَّهُا إنما تَفْقِدُ الْحَرَارَةَ مع الوقت؛
ولو كَانَ الفَقْدُ يسيرًا حتى تَصِلَ إِلَى الْهُمُود.
فإذن؛ مَن الَّذِي أعطاها الحركةَ مِنْ قَبْلُ؟!!
إِلَى غير ذَلِكَ من الأمور العقلية التي تَدُلُّنا
على أننا نَسْتَخْدِمُ هذا فِي الدلالةِ على وُجُود الخَالِق.
فهذه مِن المخلوقات، وهي دالةٌ على وُجُودِ مَنْ
خَلَقَهَا وَسَوَّاهَا.
ويُقال لهذا الرجلِ وأمثالِهِ أَيْضًا: على فَرْضِ
أنَّ بعضَ الْمُتَدَيِّنِينَ كَانَوا يَعْتَقِدُونَ
أن الْأَجْرَامَ السَّمَاوِيَّةَ ذاتُ طبيعةٍ مختلفةٍ عَن المخلوقاتِ الْأَرْضيَّةِ؛
فَمَن الَّذِي قَالَ: إنَّ كل المؤمنين بوجود الخَالِق كَانوا يَعْتَقِدُونَ هذا الاعتقاد؟!!
وعلى فَرْضِ أَنَّهُم كَانوا يَعْتَقِدُونَه جميعًا؛ فَمَن الَّذِي قَالَ: إنَّ
إيمانَهم بوجود الخَالِق كَانَ مُتَوَقِّفًا على مِثْلِ هذا التصورِ للأجرامِ السَّمَاوِيَّةِ؟!!
ما أَكْثَرَ ما يَتَصَوَّرُ الإنسانُ الشيءَ،
ثم يَجِدُه على غَيْرِ ما تَصَوَّرَ، فلا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي إيمانِه، ولا فِي ثِقَتِهِ
بربه؛ بل يَعْزُو ذَلِكَ إِلَى جَهْلِهِ، ويَسُرُّهُ أَنَّ اللهَ هَدَاهُ إِلَى التصورِ
الصحيحِ.
إنَّ كلَّ إنسانٍ يَمُرُّ عليه زمانٌ وهو طفلٌ؛
يَتَصَوَّرُ السماءَ والشمسَ والنجومَ والقمرَ على غَيْرِ حقيقَتِها، ثم يَشِبُّ وَيَعْلَمُ
أنَّ هذه القُبَّةَ الزرقاءَ التي تَرَاهَا بالنهار وَكَذَلِكَ بالليلِ، ليستْ بِأَحْجَامِهَا
الباديةِ لِلْعَيْنِ؛ بل هي أكبرُ مِنْ ذَلِكَ بكثير، فلا يَدْعُوهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ
يَتَحَوَّلَ مِن الإيمانِ إِلَى الْكُفْر؛ فلماذا إِذَن يكونُ خطؤُهُ فِي تَصَوُّرِهِ
لِطَبِيعَةِ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ داعيًا لِمِثْلِ هذا التَّحَوُّلِ؟!!
إنَّ الملحِدَ لا يَتَحَدَّثُ هنا عَنْ واقعٍ
مُشَاهَدٍ، ولا عَنْ لازمٍ عقليٍّ؛ بل يُعَبِّرُ عَنْ وَهْمٍ تَوَهَّمَهُ، وإلا لو
كَانَ الأمرُ كما زَعَمَ؛ لَمَا بَقِي على ظَهْرِ الْأَرْضِ مؤمنٌ، ولَمَا كَانَ الناسُ
مُحْتَاجِينَ إِلَى الْعِلْمِ الطبيعيِّ الْحَدِيثِ لِيَنْتَقِلُوا مِن الإيمانِ إِلَى
الْكُفْرِ؛ لأنَّهم كَانُوا يَكْتشفون مِثْلَ هذه الأخطاءِ فِي تصوراتِهِم؛ حتى قَبْلَ
مَجِيءِ هذا الْعِلْمِ؛ كما مَرَّ فِي تطورِ الإنسانِ مِنَ الطُّفُولةِ إِلَى الْيُفُوعَةِ،
إِلَى الشبابِ، إِلَى الكُهُولَةِ؛ فإنَّ الإنسانَ تَنْمُو مَدَارِكُهُ، وتَزْدَادُ
مَعَارِفُهُ، وَيَعْرِفُ مِن الكونِ ما لم يكنْ قَبْلُ يَعْرِفُهُ؛ فهل معنى ذَلِكَ:
أَنَّهُ كلما عَرَفَ شيئًا جديدًا؛ ذَهَبَ به وَهَمٌ سابقٌ تَوَهَّمَهُ، أَنَّهُ حينئذٍ
يَتْرُكُ الإيمانَ ويَدْخُلُ فِي الْكُفْر؟!!
وهل الإيمانُ يَتَوَقَّفُ على أمثالِ هذه التَّوَهُّمَاتِ؟!!
لو كَانَ اكتشافُ الإنسانِ أن الْأَجْرَام السَّمَاوِيَّة
هي غازات ملتهبة، لو كَانَ هذا الاكتشافُ داعيًا لِأَنْ يَقُولَ: إنَّ اللهَ لم يَخْلُقْهَا؛
لَكَانَ يَكْفِيهِ أَيْضًا للوصولِ إِلَى مِثْلِ هذه النتيجةِ أنْ يَعْلَمَ –مَثَلًا– أنَّ الإنسانَ بِرَغْمِ عَقْلِهِ وَمَوَاهِبِهِ
وَعَوَاطِفِهِ وإِنجازاتِهِ؛ تُمَثِّلُ كَمِّيَّةُ الماءِ ستينَ بالمائةِ 60% مِنْ
جِسْمِهِ.
فالماءُ يُمَثِّلُ ستين بالمائة 60% مِنْ جِسْمِكَ بكُلِّ مَوَاهِبِكَ، وبكلِّ عقْلِكَ،
وبكل ما تَصِلُ إليه مِنْ الإنجازات، وهذه حقيقةٌ تَعْلَمُها الآن؛ فهل يَدْعُو هذا
إِلَى تركِ الإيمان؟!!
لم أَكُنْ أَعْلَمُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ الماءَ
يُمَثِّلُ ستينَ بالمائةِ 60% مِنْ جِسْمِي،
فإذا ما عرفتُ؛ يَتْرُكُ الإنسانُ الإيمانَ، ويَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ جَدَّ
له أمرٌ لم يكن مِن قَبْلُ يَعْرِفُهُ، وما كَانَ يتصورُه؟!!
هل كان يَعْتَقِدُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ هذه
الحقيقةَ أنَّ جسمَه يبلغُ الماءُ فيه سِتِّينَ بالمائةِ منه؟!!
ما كان يَعْرِفُ ذلك، ولا كان يتصورُه، فلما
عَرَفَهُ كان ماذا!!
لا شيء.
يقول: سبحانَ اللهِ الخالِقِ العظِيمِ الذي جَعَلَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ.
مِن الأمورِ أَيْضًا أوْ مِن الأمثلةِ: ما تَوَهَّمُوهُ
مِنْ وُجُودِ التناقضِ بين فكرةِ الخلقِ وفكرةِ الأَسْبَابِ.
أي: أَنَّهُ لكي يكونَ الشيءُ مخلوقًا لله؛ فلا
ينبغي أنْ تَكُونَ لِحُدُوثِهِ أَسْبَابٌ طبيعيةٌ، فإِذَا اكْتَشَفْنَا أَسْبَابَ حُدُوثِهِ
الطبيعيةَ؛ كَانَ هذا دليلًا على أَنَّهُ لم يَحْدُثْ بقدرةِ الخَالِق!!
وهذه فكرةٌ غالِطَةٌ رَغْمَ انتشارِها بين الناس،
مؤمِنِهم وكافِرِهم، فِي الشرق والغرب، وعلى مَدَى تاريخٍ طويلٍ.
ولا بُدَّ أنْ يَأْخُذَ الناسُ بما قرره علماءُ
أهلِ السُّنةِ مِنْ أَنَّهُ لا تَنَاقُضَ بَيْنَ كَوْنِ الشيءِ مخلوقًا، وأنَّ لِحُدُوثِهِ
أَسْبَابًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى مِنْ سُنَّتِهِ وَعَادَتِهِ: أَنْ يَخْلُقَ بالأَسْبَابِ،
ولأنه هو سبحانه خالقُ تلك الأَسْبَابِ، وجَاعِلُها أَسْبَابًا؛ فإنَّ اللهَ جَعَلَ
الإنسانَ سَبَبًا مباشرًا ظاهرًا فِي وُجُودِ وَلَدِهِ؛ فهل معنى ذَلِكَ أَنَّهُ هو
الَّذِي خَلَقَه؟!!
هو الذي أَوْجَدَهُ مِن العَدَم؟!!
فالله -عز وجل- خَلَقَنَا بهذا السببِ الَّذِي
هو مخلوقٌ له جل وعلا، فَخَلَقَ اللهُ آباءَنا، ثم جَعَلَ آباءنا سَبَبًا فِي وُجُودِنا؛
فاللهُ خالِقُنا وخالقُ السببِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي وُجُودنا، واللهُ خالقُ كلِّ
شيء.
الغفلة عَنْ هذه الْحَقيقة التي قررها أهل السنة
قديمًا هي التي جعلت الْمُلْحِدِينَ يَسْتَطِيلُونَ على بعض المؤمنين، ويَتَحَدُّونهم
كلما اكتشفوا لِبعضِ الأحداث أَسْبَابًا لم تكن معروفةً مِنْ قَبْلُ.
من ذَلِكَ: ما يَقُوله صاحبُ ذَلِكَ الكتاب فِي
الفصل الَّذِي خصصه «للعَلاقةِ بين الْعِلْم ووجودِ الخَالِق»، يَقُول:
«بل إنَّهُ حتى القرنِ التاسعَ عَشَرَ كَانَ
تصميمُ النباتاتِ والحيواناتِ يُعَدُّ دليلًا بَيِّنًا على وُجُودِ الخَالِقِ، ما تزالُ
فِي الطبيعةِ أشياءُ لا حَصْرَ لها لا نستطيعُ تفسيرَها؛ لَكِننا نَرَى أننا نَعْرِفُ
المَبَادِئَ التي تَحْكُمُ الطريقةَ التي تَعْمَلُ بها،
إنَّ عَلَى مَنْ يريدُ السِّرَّ الغامضَ الْحَقيقيَّ
اليومَ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُ فِي مجالِ عِلْمِ الفَلَكِ، أو عِلْمِ الجزئياتِ الصغيرةِ».
فيَكْفُرُ باللهِ هذا الْكُفْرَ الأصلعَ!!
يقول: كان الناسُ يتأملون في تصميمِ –أي في خَلْقِ– الحيواناتِ والنباتات، ويجعلون هذا
الإحكامَ الظاهرَ سببًا لِتَقْوِيَةِ إيمانِ المؤمنِ، ودليلًا على وجودِ الخالِقِ عندَ
الملحِدِ.
يقولون: انظر إِلَى تَنَوُّعِ الخلقِ فِي هذه
الحيواناتِ، وفي هذه النباتاتِ.
فهو يَقُولُ مثلًا: إننا إِذَا نظرنا إِلَى النباتِ
فِي أصله؛ فإننا نستطيع أن نُرْجِعَ المسألةَ إِلَى وِحْدَةٍ واحدةٍ، وهي الْخَلِيَّةُ
النباتيةُ، وكذَلِكَ الحيواناتُ، نُرْجِعُها إِلَى وِحْدَةٍ واحدةٍ، وهي الخليةُ الحيوانية؛
فَقَدْ اكْتَشَفْنَا السِّرَّ!!
أَيُّ سِرٍّ؟!!
هذه الخليةُ الحيوانيةُ، لماذا تَتَنَوَّعُ هذا
التنوعَ؟!
ولماذا تختلف حتى فِي الكائن الْحَيَوَانِيِّ
الواحدِ هذا الاختلافَ الْعَظِيمَ؟!
إنَّ الإنسانَ –مثلًا– تَخْتَلِفُ خَلَايَاهُ؛ بل إنَّ الْغُدَدَ
التي جَعَلَها اللهُ -تبارك وتعالى- فِيه –وهي مُنْضَوِيَةٌ تحتَ عُنْوَانٍ واحدٍ-؛
كالغُدَدِ العَرَقِيَّةِ، هي مختلفةٌ بالنسبةِ لِمَوْضِعِهَا فِي الجسدِ البشريِّ،
فالْغُدَدُ العَرَقِيَّةُ فِيما بين الفَخِذَيْنِ والعَانَةِ مختلفةٌ عَنْ الغُدَدِ
العَرَقِيَّةِ الموجودةِ تحتَ الإِبِطَيْنِ، مختلفةٌ عَن الغُدَدِ العَرَقِيَّةِ الموجودةِ
على سطح الجسم، وهي كلُّها غُدَدٌ عَرَقِيَّةٌ، وتركيبُها واحدٌ، وإفرازُها هو العَرَقُ؛
ولَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ اختلافًا مَّا على حَسَبِ مَوْقِعِ الغُدَّةِ فِي الجسدِ الإنساني.
فهذه غدةٌ واحدة؛ ولكنها يختلف إفرازها هذا الاختلافَ
العظيمَ على حَسَبِ وجودِها في الجسد الواحد؛ فكيف بوجودها فِي أجساد متنوعة من الحيوانات؟!!
يريد أن يَقُول لنا هذا الملحد -كما قَالَ مئاتُ
الْفَلَاسِفَةِ والعلماءِ الغربيينَ قبله-: إنَّ السِّرَّ الَّذِي يَعْتَمِدُ عليه
الإيمانُ يُكْشَفُ ويَزُولُ، فَتَزُولُ بِزَوَالِهِ الحاجةُ إِلَى وُجُود الخَالِق؛
حتى نستطيعَ تفسيرَ حدوثِ الأشياءِ تفسيرًا طبيعيًا، وأنه لم يَبْقَ هُنَالِكَ اليومَ
مِنْ سِرٍّ، أيْ: شيءٍ مَا زالَ الْعِلْمُ عاجزًا عَنْ تفسيره، إلا في الْمَجَالَيْنِ
اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا، فَهُمَا وحدَهما اليومَ مَلَاذُ مَنْ يَبْحَثُ عَنْ سِرٍّ
يُرْسِي عليه إيمانَه، يعني: عِلْمَ الفَلَكِ وَعِلْمَ الجزئياتِ الصغيرةِ.
هذا كلُّه وَهَمٌ، وَهَمُ وَاهِمٍ، لأنَّ الفِصَامَ
النَّكِدَ الَّذِي وَقَعَ بين الْعِلْمِ والدينِ فِي أُورُوبَّا لَمَّا رَكِبَت الكنيسةُ
الغربيةُ رَأْسَهَا، وَأَبَتْ إلا أنْ تُصَادِمَ الْحَقائقَ الْعِلْميةَ على حَسَبِ
أَسَاطِيرِهَا وَأَوْهَامِهَا؛ هذا الفِصَامُ النَّكِدُ جَعَلَ الناسَ يَلِجُّونَ فِي
طُغْيانِهِم، ويجتهدون فِي السيرِ فِي طريقِهِمُ الَّذِي اخْتَطُّوهُ لأنفسِهِم، فكلما
أَمْعَنُوا فِيه؛ زَادَ كُفْرُهُمْ وزَادَ إِلْحَادُهُم، وإلا فإنه لا تَنَاقُضَ بينَ
كونِ الشيءِ مخلوقًا لله، وأنْ يكونَ لِحُدُوثِهِ تفسيرًا طبيعيًا؛ لَكِنَّ غايةَ ما
يَبْلُغُهُ الْعِلْمُ هو أنْ يُفَسِّرَ لنا الحدوثَ بأسبابٍ ثَانَوِيَّةٍ، أيْ: أسبابٍ
هي نفسُها بحاجةٍ إِلَى أَسْبَابٍ، ونحن مُحْتَاجُونَ بلا شكٍّ إِلَى معرفةِ مِثْلِ
هذه الأَسْبَابِ فِي حياتِنا اليوميةِ؛ لَكِنَّها ليست الأَسْبَابَ التي تُفَسِّرُ
لنا وُجُودَ الأشياءِ تفسيرًا نهائيًا.
ثُمَّ: إنَّ الكُشُوفَ الْعِلْميةَ الهائلةَ
التي ساعدت الناسَ على فهمِ كثيرٍ مِن الظواهرِ الكونيةِ، والتي بُنِيَتْ عليها تِقْنِيَةٌ
يَسَّرَتْ للناسِ مَعَاشَهُم؛ مِنْ أكلٍ وشُرْبٍ ولُبْسٍ وعِلَاجٍ وعِمَارَةٍ واتصالٍ
وغيرِ ذَلِكَ، هذه فَتَنَتْ كثيرًا من الناس، فجَعَلَتْهُم يَعْتَقِدُونَ أنَّ الْعِلْمَ
التجريبيَّ سَيُغْنِيهِمْ عَن الدينِ؛ بل سَيَنْجَحُ حيثُ أَخْفَقَ الدينُ؛ فكان مَثَلُهُمْ
فِي ذَلِكَ كما قَالَ ربُّنا -جَلَّ وَعَلَا-:﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ
رَآهُ اسْتَغْنَى (7)﴾.
وكما قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ
وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ
نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنَ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾.
قال مُؤَرِّخُ العلومِ: إنه لم يُخَفِّفْ مِنْ غُلَوَاءِ هذا
الغرورِ إلا الحربُ العالميةُ الأُولى، ثم الثانيةُ.
لَمَّا صُدِمَ الإنسانُ المعاصرُ فِي نتيجةِ
ما وَصَلَ إِلَيْهِ مِن العلومِ والأبحاث؛ لأنَّ الَّذِي وَقَعَ مِن الدَّمَارِ، والذي
وَقَعَ ِمن الخَرَابِ والتَّقْتِيلِ والتَّشْرِيدِ؛ إنما كَانَ بِسَبَب ما وَصَلُوا
إِلَيْهِ مِن العلومِ الماديةِ الْحَدِيثةِ فِي مجالاتِ صناعةِ الأسلحةِ أسلحةِ الدمارِ
الشاملِ.
وهذا إنما أُسِّسَ على ما اكتشفوه مِنْ قوانينِ
المادةِ فِيما يتعلق بالفيزياءِ والكيمياءِ وما أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَتَوَصَّلُوا إِلَى
صناعةِ ما صَنَعُوهُ مِنْ تلك الأسلحةِ، ثم اسْتُخْدِمَتْ بغير هُدَى وَلَا وَعْيٍ،
حتى أَدَّى استعمالُها إِلَى النتائجِ الكَارِثِيَّةِ التي تَمَخَّضَتْ عَنْها الحربُ
الأولى، ثم تَمَخَّضَتْ عَنْ أَقْسَى منها الحربُ الثانيةُ، والعالَمُ يَنْتَظِرُ على
مِثْلِ الْجَمْرِ الحربَ الثالثةَ، وما دامتْ مقاليدُ القُوَى البشريةِ فِي الأرضِ
في أَيْدِي أُولَئِكَ الشياطينِ؛ فلا تَسْتَبْعِدْ شيئًا.
نَجَحَ «الْعَلْمانيون» فِي إيهامِ كثيرٍ مِن
الناس بأنَّ الْحَقائقَ الْعِلْميةَ تُبْطِلُ الدَّعَاوَى الدينيةَ، وتُؤَيِّدُ النظرياتِ
الْإِلْحَاديةَ؛ بل نَجَحُوا فِي إِيهَامِهِمْ بِأَنَّ النظرةَ الْإِلْحَاديةَ إِلَى
الوجودِ هي وَحْدَهَا النظرةُ الْعِلْميةُ، فصارت الْعَلْمَانِيَّةُ أو الْإِلْحَادُ
جزءًا مِنْ مفهومِ الْعِلْمِ نفسِه، وقد ظَفِروا بهذا الَّذِي أَرَادُوهُ بِوَسَائِلَ
عِدَّةٍ، أَهَمُّها:
*تفسيرُ الْحَقائق الْعِلْمية بنظرياتٍ إِلْحَادية:
ثم تصويرُ هذه النظرياتِ على أَنَّهُا وَحْدَها القادرةُ على تفسيرِ تلك الْحَقائقِ،
واستبعادُ كلِّ نظريةٍ يُمْكِنُ أَنْ يُشَمَّ منها رائحةُ تَأْيِيدٍ للدينِ، ثم نَشْرُ
هذه النظرياتِ الْإِلْحَاديةِ، والدفاعُ عَنْها، وتَدْرِيسُها للطلابِ؛ حتى يَنْشَئوا
على اعتقادِ أَنَّهُا جزءٌ مِن الحقائقِ الْعِلْميةِ، لا نظرياتٌ قد تَصْدُقُ وقد تَكْذِبُ؛
بل هي حقائقُ وليست بنظريات!!
ثم التعصبُ لهذه النظرياتِ تَعَصُّبًا يَجْعَلُهُمْ
يُغْفِلُونَ الْحَقائقَ التي تُكَذِّبُها أو تُضْعِفُ مِنْ قُوَّتِها، وسَتَجِدُ مِنَ
الأمثلةِ على هذا التعصبِ الَّذِي يَتَجَاهَلُ الْحَقَائِقَ.
ستجد التعصبَ للنظريةِ الدَّارْوِينِيَّةِ فِي
التطورِ؛ فإنَّ المؤمنينَ بهذه النظريةِ -وَهُم الآنَ مُعْظَمُ الأسماءِ الكبيرةِ فِي
مجالِ علمِ الإحياءِ-، ما زالوا مِنَ المؤمنينَ بنظريةِ دَارْوِنْ فِي التطورِ، وهُمْ
يَضِيقُونَ ذَرْعًا بكُلِّ مَنْ يَتَفَضَّلُ فَيُبَيِّنُ للناسِ ضَعْفَ بعضِ الْمُرْتَكَزَاتِ
التي تَقُومُ عليها النظريةُ الدَّارْوِينِيَّةُ، ويتهمونه إِمَّا بالجهلِ، أو بالتعصبِ
الدينيِّ، أو بغيرِ ذَلِكَ مِنَ الأوصافِ التي لا تَلِيقُ بِرَجُلِ الْعِلْمِ.
حَدَثَ هذا –مثلًا– لِصَاحِبِ كتابِ «حقائقِ الحياةِ» الَّذِي
نُشِرَ فِي بِرِيطَانْيَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ
«1992»، ولَمْ يَلْبَثْ أَنْ صَارَ مِنْ أَعْظَمِ الكُتُبِ بَيْعًا.
*مما زاد من حِدَّةِ البغضاء للدين، وتَحَوُّلِ
الناسِ إِلَى الْعَلْمَانِيَّةِ والإِلْحَاد:
أنْ رَأَوا الأمةَ التي حَبَاهَا اللهُ بالهدايةِ
إِلَى الدينِ الْحَقِّ الَّذِي ليس فِيه شيءٌ مِنْ تلك الْمَآَخِذِ التي أَخَذَها الغَرْبِيُّونَ
على الدينِ الَّذِي عَرَفُوه، وَجَدَ الناسُ هذه الأمةَ المرحومةَ واقعةً فِي مُعْظَمِها
تحتَ تأثيرِهِمْ، ورَأَوْهَا حتى بَعْدَ أنْ يَسَّرَ لها الْخَلَاصَ مِن الاستعمارِ
تَنْهَجُ فِي مُعْظَمِ دُوَلِهَا نَهْجَ مُسْتَعْمِرِيها، فِي سياستِها واقتصادِها،
وفي كثيرٍ مِنْ تصوُّرَاتِهَا، ورَأَوْهَا أمةً ضعيفةً مُتَخَلِّفَةً عَنْهُمْ فِي
العلومَ والتِّكْنُولُوجْيَا، ولم يَرَوْهَا قادرةً على أنْ تَتَحَدَّاهُم بدينها،
أو أنْ تُرِيَهُم الفَرْقَ بين دينِهم ودينِها؛ فَفُتِنُوا بذَلِكَ إلا مَن رحم الله
منهم.
وهذه هي الحالُ الغالبةُ على هذه الأمةِ المرحومةِ
التي انْصَرَفَ أكثرُ أبنائِها عَن النظرِ فِي الدينِ، وتقديرِه حَقَّ التقديرِ، فلمَّا
نَظَرَ الآَخَرُونَ إلينا قَالَوا: ما وَصَلْنَا نحن إِلَيْهِ –يعني: مِن الْإِلْحَادِ الَّذِي صاروا
إِلَيْهِ مع التقدمِ المادِّيِّ الَّذِي رَبَطُوهُ بالكفرِ بالدينِ–، قالوا: نحن خيرٌ مِنْ أُولَئِكَ، هَؤُلَاءِ
لا خَيْرَ عَنْدَهم -يَعْنُونَ أمةَ محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَتَخَلُّفُنَا إِذَن ليس تقصيرًا فِي حقِّ أنفسِنا
فحَسْب، وإنما هو فتنةٌ للأمَمِ المتطورةِ مادِّيًّا، يُغْرِيهَا بالتَّمَادِي فِي
كُفْرِها وإِلْحَادِها.
إنَّ هذا التقصيرَ ظُلْمٌ للإنسانيةِ، يفوت عليها
فرصة الاهتداء والسعادة الدنيوية والأخروية: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)﴾.
هذه جملةُ الأَسْبَابِ، ووَرَاءَهَا أَسْبَابٌ
سواها، التي أدت إِلَى ظهور الْإِلْحَاد فِي أُورُوبَّا، وفُشُوِّهِ بعد ذَلِكَ، وانتقالِه
إِلَى أمريكا، ومن أُورُوبَّا وأمريكا إِلَى سائر بقاع العالم.
والحقيقةُ: أن وُجُود الخَالِق للكون أمرٌ تَعْرِفُهُ
العقولُ بَدَاهَةً؛ لِذَلِكَ لم يكنْ يُنْكِرُ وُجُودَ الخَالِقِ فِيما مَضَى إلا فئاتٌ
قليلةٌ مِن البَشَرِ كما مَرَّ؛ ولِذَلِكَ كَانَت الرسالاتُ السَّمَاوِيَّةُ تَنْبَنِي
على إقرارِ الناسِ بوجود الله؛ لأن الرسل لم يَأْتُوا من أجل أن يُقْنِعُوا أقوامَهم
بوجود الله، وإنما أتوا من أجل أن يَأْمُرُوا أقوامهم بعبادة الله الَّذِي يؤمنون بوجوده.
إِذَن؛ هذا أمر مقرَّرٌ فِي الطبيعة، وهو ما
يَقُول له علماؤنا فِي التوحيد: هو توحيد الربوبية.
فهذا مستقِرٌّ مُرْتَكِزٌ فِي الفطرةِ الإنسانية.
فالرسل جاءوا؛ لا من أجل أن يقرروا توحيد الربوبية،
وإنما جاءوا من أجل دعوة الأقوام إلى عبادة الله وحده، فهذا يكون مرتكزًا على إقرار
الخلق بوجود الخالق العظيم، وأنه هو خالقُ كلِّ شيءٍ ومَالِكُهُ، وهو الذي يُدَبِّرُه
ويُصَرِّفُه.
فالأنبياء لم يبدئوا من توحيد الربوبية؛ لأن
هذا مستقر في الفِطَرِ الإنسانية، وإنما جاءوا يأمرون أقوامهم بعبادة الله الَّذِي
خلقهم، وهو يَرْزُقُهم ويُحْيِيهم ويُمِيتُهم، ثم لِيَزِيدَهُم الأنبياء عِلْمًا بالله
-تبارك وتعالى- وبأسمائه وصفاته، ويَدْعونهم إِلَى عبادتِه وحدَه دونَ سواه مما يَعْلَمُون
أنه لم يَخْلُقْ، أيْ الأقوامُ يَعْلَمُون أنَّ هذا الذي يعبدونه لم يَخْلُقْ منهم
أحدًا، ولا يَرْزُقُهم شيئًا، ولا يُحْيِي ولا يُمِيتُ، ولا يَتَّصِفُ بشيءٍ مِن صفاتِ
الخَالِقِ.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عَنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ
وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)﴾.
إذًا؛ هو لم يَقُلْ لهم: تعالوا من أجل أن أُثْبِتَ
لكم أن الله موجود!!
هذا مقرَّرٌ عَنْدهم؛ ولَكِنْ قال لهم: انظروا
إلى آلهتكم التي تعبدون من دون الله تبارك وتعالى، واعلموا –بل أنتم تعلمون– أن الذي يرزقكم في الحقيقة هو الله،
هو الذي خلقكم، وهو الذي يملك أمركم ويدبره.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(22)﴾.
فبَدَأَ بدعوتِهِم بأَمْرِهم بعبادتِه وحده،
وهذا هو توحيد الألوهية ،وأَنْهَى كذَلِكَ الآيةَ الثانيةَ بهذا الأمر: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾، وهذا هو مَحْضُ توحيدِ الألوهية،
وجَعَلَ بين هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ بَدْءًا ومُنْتَهى ما يتعلق بتوحيدِ الربوبية: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ﴾.
هُمْ لا يُمَارُون فِي ذَلِكَ، وهذا كلُّه من
توحيد الربوبية، فجَعَلَهُ سُلَّمًا لِإِلْزَامِهِم بتوحيدِ الألوهية، فلمَّا أقروا
بتوحيد الربوبية؛ ألزمهم بتوحيد الألوهية؛ لِأَنَّهُ ما دُمْتُمْ تُقِرُّونَ أنَّ اللهَ
تعالى هو الَّذِي خَلَقَ، وهو تعالى الَّذِي
يَمْلِكُ، وهو الَّذِي يُدَبِّرُ الأمرَ، وهو الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ؛ فهو المستحقُّ
للعبادةِ وحدَه.
فالأنبياء جاءوا يَدُلُّونَ الأقوامَ على هذا؛
حتى الَّذِينَ أنكروا وُجُود الخَالِق.
والذين يُسَمَّوْنَ فِي عصرنا بالْمُلْحِدِينَ
لا يُنْكِرُ مُعْظَمُهُمْ وُجُودَ الخَالِقِ أيَّ خالقٍ، وإنما ينكرون وُجُود الخَالِق
الْحَقِّ الَّذِي دَعَتْهُمْ إِلَى الإيمانِ به رسالاتُ السماء.
فهذا الَّذِي به يكفرون، والذي كَانَ يُؤْمِنُ
بربوبِيتِهِ مَنْ يُشْرِكُ معه غيرَه فِي عبادته.
انظر إِلَى حال الْمُلْحِدِينَ فِي عصرنا.
تراهم إذْ أَنْكَروا وُجُودَ الخَالِقِ الْحَقِّ؛
يَعْزُونَ حُدُوثَ الأشياءِ إِلَى أشياءَ أُخَرَ، وَهُمْ وإِنْ لم يُسَمُّوها بالخَالِقة؛
إلا أَنَّهُا لا بد أن تقوم عَنْدهم مَقَامَ الخَالِقِ سبحانه؛ بل ويُطْفُونَ عليها
بعضَ صفاتِ الخَالِق الْعَظِيم.
خُذِ الْمُلْحِدِينَ الماديين فِي عصرنا مثلًا:
لقد
كَانَ عُمْدَتَهُم فِي إِلْحَادِهم: قولُهم بأن المادة أَزَلِيَّةٌ لا تُسْتَحْدَثُ
ولا تَفْنَى، وكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّ هذا شيءٌ أَثْبَتَهُ الْعِلْمُ؛ فلا مجالَ
للخلافِ فِيه!! لَكِنَّ المادةَ التي يتحدثون عَنْها، ويَصِفُونَها بهذا الوصف، ليست
هي المادةَ التي نَعْرِفُها ونتعاملُ معها فِي حياتِنا اليومية، وفي مَعَامِلِنَا الْعِلْمِيةِ.
إن المادة التي نعرفها هي مادةٌ فِي صورةٍ مِنْ
أجسامٍ سماويةٍ، أو أجسامٍ أرضيةٍ، أو مكوناتِ هذه الأجسامِ مِنَ الذَّرَّاتِ، ومكوناتِ
الذراتِ والفُوتُونَاتِ، وما أشبهَ ذَلِكَ مما تَتَكَوَّنُ منه تلك المخلوقاتُ؛ لَكِنْ
ليس شيءٌ مِنْ هذا أَزَلِيًّا؛ بل إنَّ كل مادة فِي صورةٍ مِنَ الصُّوَرِ تَحْدُثُ
وتَزُولُ، وأما المادة التي لا صورةَ لها؛ فإنها كما قَالَ ماركس نفسُه: «وَهْمٌ فِي
أذهانِ الْفَلَاسِفَةِ، لا وُجُودَ له فِي الخارجِ».
يعني: هي موجودةٌ وُجُودًا ذِهْنيًا، لا وُجُودًا
واقعيًا.
فهذا هو كبير الْمُلْحِدِينَ المعاصرين!!
زعيمُهم وإمامُهم وشيخُهم الَّذِي إِلَيْهِ يَحُجُّون،
وبه يؤمنون!!
هو يقول نفسُه: إنَّ المادَّةَ التي لا صُورةَ
لها، إنما هي وَهْمٌ فِي أذهانِ الْفَلَاسِفَةِ، لا وُجُودَ له فِي الخارِجِ.
وإذا كَانَت المادةُ قد أُعْطِيَتْ صِفَتَيْنِ
مِنْ صفاتِ الخَالِق، هما: الأَزَلِيَّةُ والْأَبَدِيَّةُ؛ إذِ اللهُ وحده هو الأولُ
الَّذِي ليس لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، والْآَخِرُ الَّذِي ليس لِآَخِرِيَّتِه انْتِهَاءٌ؛
فإنًّ شيئًا اسمه «الطبيعة» قد عُزِيَتْ إِلَيْهِ بعضُ أفعالِ الخَالِق سبحانه.
فأنتَ كثيرا مًا تَسْمَعُ الْمُلْحِدِينَ ومَنْ
يُقَلِّدُهُم -وإن لم يِكُنْ مُلْحِدًا مِثْلَهُم- يَقُولون: إنَّ الطبيعةَ فَعَلَتْ
كذا وكذا، واختارت الطبيعةُ كذا وكذا!!
لَكِنَّ الطبيعةَ التي نَعْرِفُها ونتعامل معها
فِي حياتِنا اليوميةِ والْعِلْميةِ هي: مجموعُ الكائناتِ الحيَّةِ والجامدةِ والسائلةِ،
وهذه الموجوداتُ هي التي تَنْفَعِلُ، لا هي التي تَفْعَلُ؛ بل هي التي تَنْفَعِلُ،
وهي التي تُوجَدُ وتَتَكَوَّنُ وتَنْمُو وتَفْنَى؛ فأين هي تلك الطبيعةُ التي تَفْعَلُ
كلَّ هذا مِنَ الطبيعةِ هذه التي نَعْرِفُها، التي هي مُنْفَعِلَةٌ وليست بفاعلةٍ؟!!
هُمْ يَقُولون: الطبيعةُ فاعِلَةٌ، وليست بِمُنْفَعِلَةٍ، أو
هي فاعلةٌ مُنْفَعِلَةٌ مَعًا.
وأمَّا الطبيعةُ التي يَعْرِفُها الخلقُ أجمعون؛
فهي الطبيعةُ الْمُنْفَعِلَةُ التي تُوجَدُ وتَتَكَوَّنُ وتَنْمُو وتَفْنَى.
أَهُمَا طَبِيعَتَانِ حَقًّا؛ الواحدةُ تَفْعَلُ،
والثانيةُ تَنْفَعِلُ؟!
كَلَّا؛ إنما الطبيعةُ الْحَقَّةُ هي هذه الطبيعةُ
التي نَشْهَدُها، وأما الأخرى التي تُقَامُ فِي مَقَامِ الخَالِقِ سبحانه؛ فإنما هي
وَهْمٌ كبيرٌ فِي رُؤُوسِ الْمُلْحِدِينَ، وهم يُطْفُونَ عليها صِفَتَيْنِ مِنْ صفاتِ
اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: الأزليةَ والأبديةَ.
الله هو الأول، ليس قبلَه شيءٌ، والآَخِرُ، ليس
بعدَه شيءٌ.
ما يقال عَنْ الطبيعةِ يقال أَيْضًا عَنْ التطور.
إن التطورَ فِي مفهومه الْعِلْمي هو: الطريقةُ
الْمُتَدَرِّجَةُ التي نَشَأَتْ بها الكثرةُ الحاضرةُ فِي الحياةِ النباتيةِ والحيوانيةِ
عَنْ أَقْدَمِ الكائناتِ الْحَيَّةِ، وأَكْثَرِها بِدَائِيَّةً، كما هو مُقَرَّرٌ فِي
«القاموسِ الْعِلْميِّ».
فالتطور إِذَن هو: الطريقةُ التي حَدَثَ بها هذا التنوعُ،
وليس هو صانِعَ التنوعِ –على حَسَبِ ما يَعْتَقِدُونَ!!-.
فالتطورُ هو الطريقةُ التي حَدَثَ بها التنوعُ،
وليس التطورُ بِصَانِعِ التنوعِ،
لَكِنَّ الْمُلْحِدِينَ يتحدثون عَنْ التطورِ
كما لو كَانَ هو الفاعلَ.
يقول «دَارْوِنْ» فِي الطبعةِ الثانيةِ مِنْ كتابِه «أصلُ الأنواع»:
«يُمْكِنُ أنْ يُقَالَ مَجَازًا: إنَّ الِانْتِقَاءَ
الطبيعيَّ مستمرٌّ فِي تَفَحُّصِهِ فِي كلِّ يومٍ وكلِّ ساعةٍ، وفي العالَمِ كلِّه
لكلِّ تَغَيُّرٍ وَإِنْ دَقَّ، رافضًا للسَّيِّءِ، حافظًا وجامعًا لكلِّ ما هو جيِّدٌ،
عاملًا فِي صَمْتٍ ولُطْفٍ، كلما سَنَحَتْ فُرْصَةٌ لِتَحْسِينِ كلِّ كائنٍ حَيٍّ بالنسبةِ
لِظُروفِ حياتِه الماديةِ وغيرِ المادية، ونحن لا نَرَى شيئًا مِنْ هذه التغيراتِ البَطِيئةِ
وهي تَحْدُثُ، حتى تَضَعَ يدُ الزمان -كما قال!- علامةً على الآمادِ الطويلةِ التي
مضت».
قال «اسْتَانْلِي» –وهذا النصُّ منقولٌ عَنْه، أي هذا النصٌّ
الدَّارْوِينِيُّ-:
«إنَّ دَارْوِنْ لم يُضِفْ كلمة «مَجَازًا» إلا
فِي الطبعةِ الثانيةِ مِنْ كتابه». يُفَسِّرُ هذه الإضافةَ بأنه: وقد كَانَ يعيش فِي
عصرٍ كَانَ يُدَّعَى فِيه أنَّ للحياة قصدًا إلهيًا، فأراد -فِيما يبدو- أنْ يُبَيِّنَ للقارئ أَنَّهُ لا مكانَ
فِي حُجَّتِهِ لِمِثْلِ هذا الكلامِ الديني، وأنَّ مشروعَه آَلِيٌّ إِلَى درجةٍ مُفْزِعَةٍ!!
فأنتَ ترى أمثالَ هَؤُلَاءِ يَقُولون: إنَّ التطورَ
أو الانتقاءَ يَفْعَلُ كذا وكذا، وَيَضَعُونَهُ بذَلِكَ فِي موضعِ الخَالِقِ سبحانه.
هذا؛ مع أَنَّ وَصْفَ الطريقةَ التي تَحْدُثُ
بها الأشياءُ لا يَتَنَافَى مع وُجُودِ خالقٍ لها يُحْدِثُها ويُطَوِّرُها بتلك الطريقةِ.
فنحن يُمْكِنُ أن نَصِفَ الطريقةَ التي يَتَطَوَّرُ
بها الإنسانُ منذ كَانَ جنينًا فِي بطن أمِّهِ، إِلَى أنْ
يَخْرُجَ طفلًا، فَيَنْمُو شابًّا، حتى يَصِيرَ
شيخًا، ولا نَجِدُ فِي هذا ما يَتَعَارَضُ مع إيمانِنَا بهو الَّذِي خَلَقَ هذه الأطوارَ
الإنسانيةَ كُلَّها؛ فالله تعالى يَقُولُ: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا
مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾، ويقولُ تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ
لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)﴾.
فليس هُنَالِكَ مِنْ حيث الْمَبْدَأُ تَنَاقُضٌ
فِي ذَلِكَ، وهذا لا يَطْعَنُ فِي إيمانِ المؤمنين، ولا يُشَكِّكُهُمْ فِي دينِهم ولا
فِي إيمانِهِمْ.
فلا تَسْتَغْرِبَنَّ بعدُ أنْ يُقَالَ: «إنَّ الْمُلْحِدِينَ مشركون»؛ فالشركُ
نَقِيضُ التوحيدِ، وهم مشركون،
هُمْ يريدون أنْ يكونوا فِي مرتبةٍ أَرْقَى مِنَ
الشركِ؛ لأن الشركَ يُثْبِتُ وُجُودَ الله، ثم يَجْعَلُ له شريكًا، وأما هُمْ؛ فَيُنْكِرُونَ
وُجُودَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ ولَكِنْ هُمْ مع ذَلِكَ يُثْبِتُونَ إِلَهًا بصورةٍ
من الصور، وأنت تعلم أن التوحيدَ الواجبَ لا يَتِمُّ إلا بأمورٍ ثلاثةٍ:
*أولًا: أنْ يَعْتَقِدَ الإنسانُ أنَّ اللهَ تعالى هو
الربُّ الخَالِقُ البارىءُ الْمُصَوِّرُ... إِلَى آخِرِ صفاتِ الربوبيةِ، إِلَى أَنْ
يَعْتَقِدَ أنَّ هُنَالِكَ أفعالًا لا يَفْعَلُها ولا يستطيعُ فِعْلَهَا إلا اللهُ
سبحانه.
*وثاني هذه الأمور: أَنْ يَعْتَقِدَ أنَّ هذا الربَّ سبحانه
هو وحدَه الْمُتَّصِفُ بكلِّ صفاتِ الكمالِ، فلا يُضِيفُ إِلَيْهِ صفةَ نَقْصٍ، ولا
يَسْلُبُهُ صِفَةَ كمالٍ، ولا يَصِفُ غيرَه بصفةٍ مِنْ هذه الصفاتِ.
فالْأَوَّلُ توحيدُ الربوبيةِ، وهذا هو توحيدُ
الأسماءِ والصفاتِ.
*والثالثُ: أنْ يَعْتَقِدَ أنَّ هذا الربَّ وحدَه هو الإلهُ
الَّذِي يستحِقُّ العبادةَ؛ فلا يَعْبُدُ معه غيرَه، وهذا هو توحيدُ الألوهيةِ.
والأولُ –يعني توحيدَ الربوبيةِ– هو أساسُ توحيدِ الأسماءِ والصفاتِ؛
لأنك لَنْ تُثْبِتَ صِفَةً لِمَعْدُومٍ، وإنما تُثْبِتُ الصفاتِ للموجودِ؛ فلا بُدَّ
مِنْ إثباتِ الوجودِ أَوَّلًا.
فهذا الأولُ –يعني توحيدَ الربوبيةِ– هو أساسُ توحيدِ الأسماءِ والصفاتِ،
وهو أساسُ توحيدِ الألوهيةِ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَصِفُ اللهَ بصفاتِ الكمال، ولا يَرَاهُ
مُسْتَحِقًّا للعبادةِ؛ إلا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُتَّصِفُ بصفاتِ الربوبيةِ
تلك؛ ولِذَلِكَ تَجِدُ القرآنَ يَجْعَلُ هذه الْحَقيقةَ أساسًا فِي دَعْوَتِهِ للمشركينَ
الَّذِينَ يُسَلِّمُون بها –يعني توحيدَ الربوبيةِ، يعني وُجُودَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-،
فَيَدْعُوهُمْ إِلَى عبادةِ اللهِ وحدَه، وإِلَى عدمِ وَصْفِهِ بما لا يَلِيقُ، أو
وَصْفِ غَيْرِهِ بشيءٍ مِنْ صِفَاتِهِ.
وإذن؛ فالذي يَعْتَقِدُ فِي وُجُودِ خالقٍ غيرَ
الله، أوِ الَّذِي يَصِفُ مخلوقًا مِنْ مخلوقاتِ اللهِ ببعضِ صفاتِ اللهِ – كما يَفْعَلُ الْمُلْحِدُونَ، عَنْدما
يَصِفُونَ الطبيعةَ بِبَعْضِ صفاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فهذا مشركٌ بالله؛
سواءٌ اعْتَقَدَ أَنَّ اللهَ تعالى هو أَيْضًا خالقٌ، أو لم يَعْتَقِدْ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا وُجُودَ الخَالِقِ الْحَقِّ –وإنْ كَانَوا قِلَّةً شَاذَّةً-؛ إلا
أنَّ بعضَهم قد يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الناسِ، فَيُثِيرُ الشُّكُوكَ فِي نُفُوسِهِمْ،
حتى بالنسبةِ لهذا الأمرِ الْبَدَهِيِّ الَّذِي فُطِرَ عليه الْخَلْقُ؛ ولِذَلِكَ لم
يُهْمِلِ القرآنُ الكريمُ ذِكْرَ هذا الصِّنْفِ مِنَ الناسِ، ولم يُهْمِلِ الردَّ على
شُبُهَاتِهِمْ؛ رَدَّ على الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لا خالقَ الْبَتَّةَ، كما
رَدَّ على الَّذِينَ اتَّخَذُوا خَالِقَيْنِ غيرَ اللهِ الخَالِقِ الْحَقِّ، وأَبَانَ
لهم أَنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يكونوا خَالِقِينَ حَقًّا، وإنما هم مخلوقون فِي الْحَقيقة.
فهذه كلُّها مقدِّمَةٌ تَتْبَعُهَا أَيْضًا بعضُ
المقدماتِ إنْ شَاءَ اللهُ -تبارك وتعالى- بين يَدَيْ ما نُعَالِجُهُ إنْ شاءَ اللهُ
-جَلَّ وَعَلَا- وبِحَوْلِهِ وقوتِهِ مِنَ الرَّدِّ على الْمُلْحِدِينَ.
عَسَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أنْ يَجْعَلَ
ذَلِكَ هدايةً لِضَالٍّ، أو إِرْشَادًا لِحَائِرٍ، أو تَثْبِيتًا لمؤمنٍ على الإيمانِ
الْحَقِّ واليقينِ الثابتِ.
واللهُ تعالى مِنْ وَرَاءِ القَصْدِ، وهو يَهْدِي
السبيلَ.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.