((سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ))
((2))
((عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ))
مُحَاضَرَةٌ لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ أ.د: سُلَيْمَان بْن سَلِيم اللهِ الرّحيلِي -حَفِظَهُ اللهُ-
أُسْتَاذُ الدِّرَاسَاتِ الْعُلْيَا بِالْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
وَأُسْتَاذُ كُرْسِيِّ الْفَتْوَى فِيهَا
وَالْمُدَرِّسُ بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَجُلٌ اسْتِثْنَائِيٌّ فِي تَارِيخِ أُمَّةِ النَّبِيِّ ﷺ ))
ثُمَّ يَا مَعَاشِرَ الْفُضَلَاءِ! إِنَّ دَرْسَنَا الْيَوْمَ -فِي مَسْجِدِ رَسُولِنَا ﷺ، بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ، الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ وَثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ مِنْ هِجْرَةِ نَبِيِّنَا ﷺ (10 مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ 1443هـ)- دَرْسٌ اسْتِثْنَائِيٌّ، وَعَنْ رَجُلٍ اسْتِثْنَائِيٍّ، عَنْ حَبِيبِ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، عَنِ الْفَارُوقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَلَنْ نَسْتَطِيعَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ أَنْ نَأْتِيَ عَلَى سِيرَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَإِنَّمَا سَأَذْكُرُ شَذَرَاتٍ نَيِّرَاتٍ مِنْ سِيرَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَنَقِفُ مَعَ مَوَاقِفَ عَظِيمَاتٍ مِنْ مَوَاقِفِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((مَنْزِلَةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي الْأُمَّةِ))
فَنَقُولُ مُسْتَعِينِينَ بِاللهِ: يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ: ((إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ؛ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ لِنَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِهِ)).
فَرَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدِ اصْطَفَى رِجَالًا وَنِسَاءً لِصُحْبَةِ رَسُولِهِ ﷺ، فَشَرَّفَهُمْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الْعَظِيمَةِ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
يَقُولُ رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
فَرَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- رَضِيَ عَنْهُمْ، وَهُمْ رَضُوا عَنْ رَبِّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
فَوَصَفَهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ، وَمَاتَ نَبِيُّنَا ﷺ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ، وَنَهَى ﷺ عَنْ سَبِّهِمْ، وَبَيَّنَ لِلْأُمَّةِ سَبْقَهُمْ، فَقَالَ ﷺ: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَمَهْمَا فَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مَنْزِلَةَ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأُولَئِكَ الْقَوْمُ لَهُمُ السَّبْقُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَالْمُؤْمِنُونَ يُحِبُّونَهُمْ؛ فَحُبُّهُمْ إِيمَانٌ، وَبُغْضُهُمْ نِفَاقٌ.
((مَكَانَةُ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ))
وَهُمْ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَفْضَلُهُمْ هُمُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ؛ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، وَأَفْضَلُ الْأَرْبَعَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: ((أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
فَقَالَ ﷺ: ((عَائِشَةُ)).
قَالَ: فَقُلْتُ: ((مِنَ الرِّجَالِ؟)).
فَقَالَ: ((أَبُوهَا))؛ أَيْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَمِنْ حُبِّ النَّبِيِّ ﷺ لِعَائِشَةَ قَالَ هُنَا: ((أَبُوهَا))، وَلَمْ يَقُلْ: أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
قَالَ: قُلْتُ: ((ثُمَّ مَنْ؟)).
قَالَ: ((عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَيُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؟)).
فَقَالَتْ: ((أَبُو بَكْرٍ)).
قَالَ: قُلْتُ: ((ثُمَّ مَنْ؟)).
قَالَتْ: ((عُمَرُ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي -أَيْ: لِعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((يَا أَبَتِ! مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟)).
قَالَ: ((يَا بُنَيَّ! وَلَا تَعْلَمُ؟!!)).
قَالَ: قُلْتُ: ((لَا)).
قَالَ: ((أَبُو بَكْرٍ)).
قُلْتُ: ((ثُمَّ مَنْ؟)).
قَالَ: ((يَا بُنَيَّ! وَلَا تَعْلَمُ؟!!)).
قُلْتُ: ((لَا)).
قَالَ: ((ثُمَّ عُمَرُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَ اللهُ الْجَمِيعَ-.
((حُبُّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دِينٌ وَسُنَّةٌ))
وَحُبُّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دِينٌ وَسُنَّةٌ، وَمِنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَعْرِفَةُ فَضْلِهِمَا مِنَ السُّنَّةِ)).
وَعَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ قَالَ: ((كَانَ السَّلَفُ يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ حُبَّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا يُعَلِّمُونَهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ)).
فَكَانَ السَّلَفُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعْتَنُونَ بِتَعْلِيمِ النَّشْءِ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَتَعْلِيمِهِمْ حُبَّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَعَنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَجْمَعِينَ-.
((اسْمُهُ وَنَسَبُهُ وَكُنْيَتُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ))
وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ.
فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي (كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ).
وَأُمُّهُ: هِيَ حَنْتَمَةُ بِنْتُ هَاشِمِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَخْزُومٍ.
وَيُكَنَّى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِـ(أَبِي حَفْصٍ)، وَحَفْصٌ هُوَ الْأَسَدُ؛ وَذَلِكَ لِقُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَمَا يُكَنَّى بِأَبِي عَبْدِ اللهِ؛ بِأَكْبَرِ أَوْلَادِهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ-.
((مَوْلِدُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَصِفَتُهُ الْخَلْقِيَّةُ))
وُلِدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ أَيْ: بَعْدَ وِلَادَةِ الرَّسُولِ ﷺ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَاتَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.. وُلِدَ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَاتَ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ فَمَاتَ وَعُمُرُهُ كَعُمُرِ النَّبِيِّ ﷺ؛ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً.
كَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شَدِيدَ الْأُدْمَةِ؛ أَيْ: شَدِيدَ السُّمْرَةِ، أَوْ مَا يُسَمَّى الْيَوْمَ عِنْدَ النَّاسِ بِاللَّوْنِ الْقَمْحِيِّ، فَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شَدِيدَ الْأُدْمَةِ، وَكَانَ طَوِيلًا ضَخْمًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، كَثَّ اللِّحْيَةِ، شَدِيدَ الصَّلَعِ.
((مَكَانَةُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْجَاهِلِيَّةِ))
كَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَمِنْ وُجَهَائِهِمْ، وَمِنْ مُحْسِنِي الْكَلَامِ فِيهِمْ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتِ السَّفَارَةُ إِلَيْهِ إِنْ وَقَعَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا حَرْبٌ.
وَكَانَ إِذَا نَافَرَ أَحَدٌ قُرَيْشًا أَوْ فَاخَرَهُمْ؛ بَعَثُوا عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُنَافِرًا وَمُفَاخِرًا، وَرَضُوهُ لِذَلِكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((إِسْلَامُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَتْحٌ وَعِزٌّ لِلْمُسْلِمِينَ))
دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ: ((اللهم أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ؛ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ)).
وَكَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَرَ؛ فَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الدُّعَاءِ، ثُمَّ خَصَّ النَّبِيُّ ﷺ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِالدُّعَاءِ فَقَالَ: ((اللهم أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ)).
فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ نَبِيِّهِ ﷺ، فَأَسْلَمَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ عِزًّا لِلْمُسْلِمِينَ.
يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ)).
وَقَالَ أَيْضًا: ((إِنَّ إِسْلَامَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا، وَإِنَّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا، وَإِنَّ إِمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً)).
وَكَانَ يَقُولُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا كُنَّا نَقْدِرُ أَنْ نُصَلِّيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ)).
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْإِسْلَامِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)).
وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَبْلَ إِسْلَامِهِ شَدِيدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لَكِنْ عِنْدَمَا خَرَجَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى الْحَبَشَةِ مُهَاجِرِينَ، فَارِّينَ بِدِينِهِمْ، وَمَعَهُمْ بَعْضُ النِّسَا، وَرَآهُمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ رَقَّ لَهُمْ، وَلَانَ قَلْبُهُ لَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: ((صَحِبَكُمُ اللهُ)).
((إِسْلَامُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ))
وَقَدْ ذُكِرَ فِي إِسْلَامِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قِصَصٌ مَشْهُورَةٌ؛ لَكِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ، فَلَمْ أَرَ قِصَّةً مِنْهَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَمِنْ أَمْثَلِ مَا جَاءَ فِي إِسْلَامِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَا جَاءَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ((خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا -وَاللهِ- شَاعِرٌ كَمَا تَقُولُ قُرَيْشٌ.
قَالَ: فَقَرَأَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40-41].
قَالَ: قُلْتُ: إِذَنْ؛ هُوَ كَاهِنٌ، قَالَ: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 42-47].. إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَمَا قَرَأَهَا حَتَّى وَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ)).
وَأَشْهَرُ الْقِصَصِ فِي إِسْلَامِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَفِيهَا ضَعْفٌ-: أَنَّ أُخْتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطَّابِ كَانَتْ تَحْتَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ يُخْفِيَانِ إِسْلَامَهُمَا عَنْ عُمَرَ؛ لِشِدَّةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شَدِيدًا عَلَى مَنْ يُسْلِمُونَ، فَكَانَتْ أُخْتُهُ تَخْشَاهُ وَتَخَافُهُ، فَكَانَتْ تَكْتُمُ إِسْلَامَهَا عَنْهُ.
وَكَانَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَخْتَلِفُ إِلَى فَاطِمَةَ يُقْرِؤُهَا الْقُرْآنَ، فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا وَمَعَهُ سَيْفُهُ، يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَالْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا، وَعِنْدَهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَحْوِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا عُمَرُ؟
قَالَ: أُرِيدُ مُحَمَّدًا الَّذِي فَرَّقَ أَمْرَ قُرَيْشٍ وَعَابَ دِينَهَا فَأَقْتُلُهُ!
فَقَالَ لَهُ: وَاللهِ! غَرَّتْكَ نَفْسُكَ، أَتَرَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَارِكِيكَ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُسْلِمًا، أَفَلَا تَرْجِعُ إِلَى أَهْلِكَ، فَتُقِيمُ أَمْرَهُمْ؟!!
قَالَ: وَأَيُّ أَهْلِي؟!!
قَالُ: خَتْنُكَ، وَابْنُ عَمِّكَ، وَأُخْتُكَ فَاطِمَةُ؛ فَقَدْ -وَاللهِ- أَسْلَمَا.
فَرَجَعَ عُمَرُ إِلَيْهَا -وَكَانَ غَرَضُ الرَّجُلِ أَنْ يَصُدَّهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ- وَعِنْدَهَا خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ يُقْرِؤُهُمَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا حِسَّ عُمَرَ تَغَيَّبَ وَتَخَفَّى خَبَّابٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَخَذَتْ فَاطِمَةُ الصَّحِيفَةَ فَأَخْفَتْهَا، وَقَدْ سَمِعَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ قُدُومِهِ قِرَاءَةَ خَبَّابٍ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: مَا هَذِهِ الْهَمْهَمَةُ الَّتِي أَسْمَعُهَا؟!!
قَالَ: مَا سَمِعْتَ شَيْئًا.
فَقَالَ: بَلَى -وَاللهِ- لَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّكُمَا تَابَعْتُمَا مُحَمَّدًا، وَبَطَشَ بِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَامَتْ أُخْتُهُ لِتَصْرِفَهُ وَتَكُفَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَضَرَبَهَا وَلَطَمَهَا، فَشَجَّهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ أُخْتُهُ: نَعَمْ -وَاللهِ- قَدْ أَسْلَمْنَا، نَعَمْ -وَاللهِ- قَدْ أَسْلَمْنَا، وَآمَنَّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ.
وَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِأُخْتِهِ مِنَ الدَّمِ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَقَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الصَّحِيفَةَ الَّتِي سَمِعْتُكُمْ وَأَنْتُمْ تَقْرَؤُونَهَا حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ.
قَالَتْ: إِنَّا نَخْشَاكَ عَلَيْهَا، فَحَلَفَ أَنَّهُ يُعِيدُهَا.
قَالَتْ -وَقَدْ طَمِعَتْ فِي إِسْلَامِهِ-: إِنَّكَ نَجِسٌ عَلَى شِرْكِكَ؛ فَلَا تَمَسَّهَا!
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَمَا عَرَفْتُ ذُلَّ الشِّرْكِ إِلَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ.
فَقَامَ وَاغْتَسَلَ، فَأَعْطَتْهُ الصَّحِيفَةَ، فَقَرَأَهَا وَفِيهَا سُورَةُ طَهَ، وَكَانَ كَاتِبًا، فَلَمَّا قَرَأَ بَعْضَهَا قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ!
فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ ذَلِكَ خَرَجَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا عُمَرُ! وَاللهِ! إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ خَصَّكَ بِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُهُ أَمْسَ وَهُوَ يَقُولُ: ((اللهم أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ))؛ فَاللهَ اللهَ يَا عُمَرُ!
فَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ: فَدُلَّنِي يَا خَبَّابُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ؛ حَتَّى آتِيَهُ فَأُسْلِم.
فَدَلَّهُ خَبَّابٌ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَنَظَرَ مِنَ الْبَابِ فَرَآهُ مُتَوَشِّحًا بِسَيْفِهِ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِذَلِكَ، فَقَالَ حَمْزَةُ: ائْذَنْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْنَا لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ شَرًّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى لَقِيَهُ، وَأَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، ثُمَّ جَذَبَهُ إِلَيْهِ جَذْبَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟ مَا أَرَاكَ تَنْتَهِي حَتَّى تَنْزِلَ بِكَ قَارِعَةٌ!
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! جِئْتُ لِأُومِنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ تَكْبِيرَةً، فَعَرَفَ مَنْ فِي الْبَيْتِ بِهَا أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَسْلَمَ)).
هَذِهِ أَشْهَرُ الْقِصَصِ فِي إِسْلَامِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ لَكِنْ فِي إِسْنَادِهَا ضَعْفٌ، وَالْأَقْوَى هُوَ مَا قَدَّمْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَعِنْدَمَا أَسْلَمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ بِطَرِيقَةٍ فَرِيدَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي لَا أَدَعُ مَجْلِسًا جَلَسْتُهُ فِي الْكُفْرِ إِلَّا أَعْلَنْتُ فِيهِ الْإِسْلَامَ)).
ثُمَّ سَأَلَ: ((أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلَ لِلْحَدِيثِ؟)) يَعْنِي: أَسْرَعُ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ وَنَشْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ.
فَقِيلَ لَهُ: ((جَمِيلٌ الْجُمحِيُّ)).
فَغَدَا عَلَيْهِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: ((وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثْرَهُ، وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلَّ مَا رَأَيْتُ، حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: ((أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ؟)).
قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((فَوَاللَّهِ! مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! أَلَا إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ)).
قَالَ: وَيَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: ((كَذَبَ، وَلَكِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).
قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: وَثَارُوا إِلَيْهِ فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ.
قَالَ: وَطَلَعَ فَقَعَدَ، وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ بِاللهِ! أَنْ لَوْ كُنَّا ثَلَاثَ مِائَةِ رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا.
قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟
فَقَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ.
قَالَ: فَمَهْ! رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا؛ فَمَاذَا تُرِيدُونَ مِنْهُ؟!! أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيٍّ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ هَذَا؟!! خَلُّوا عَنِ الرَّجُلِ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَوَاللَّهِ! لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ)).
وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ فِي عِزٍّ بَعْدَ إِسْلَامِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-..
وَعِنْدَمَا أَذِنَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ عِشْرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
((صُحْبَةُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلنَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ))
وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُنْذُ إِسْلَامِهِ رَفِيقَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الصُّحْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهَا حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ لَهُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي)).
فَقَالَ النَّاسُ: ((سُبْحَانَ اللهِ!)).
لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنَّ الذِّئْبَ تَكَلَّمَ وَقَالَ لِلرَّاعِي: إِنِ اسْتَنْقَذْتَهَا الْيَوْمَ فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ حِينَ لَا يَكُونُ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي)).
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْيَوْمِ؛ هَلْ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ؟
وَالْأَقْوَى أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
فَتَعَجَّبَ النَّاسُ قَالُوا: ((سُبْحَانَ اللهِ! ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ؟!!)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ))، وَمَا ثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
يَعْنِي: النَّبِيُّ ﷺ قَالَ: إِنِّي أُومِنُ بِهَذَا، وَيُؤْمِنُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَيُؤْمِنُ بِهِ عُمَرُ، وَمَا كَانَا مَوْجُودَيْنِ، وَمَا سَمِعَا الْخَبَرَ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى ثِقَةٍ بِقُوَّةِ إِيمَانِهِمَا، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا يُؤْمِنَانِ بِذَلِكَ.
وَأَيْضًا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا عَلَيْهَا الذِّئْبُ، فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ؛ يَوْمَ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي، وَبَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا، فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَلَكِنِّي خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ)).
فَقَالَ النَّاسُ: ((سُبْحَانَ اللهِ! ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، وَبَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ!!)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِنِّي أُومِنُ بِذَلِكَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)).
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ تَوَضَّأَ يَوْمًا فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَلَأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا، فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالُوا: خَرَجَ تِجَاهَ كَذَا.
قال: فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ (بِئْرَ أَرِيس)، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ -وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ- حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ؛ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى الْبِئْرِ، وَتَوَسَّطَهَا، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ: لَأَكُونَنَّ بَوَّابًا لِلنَّبِيِّ ﷺ الْيَوْمَ، قَالَ: فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟
فَقَالَ: ((أَبُو بَكْرٍ)).
فَقُلْتُ: ((عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ)).
فَقَالَ: ((ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)).
قَالَ: فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَلَى يَمِينِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَعَهُ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ.
قَالَ: وَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ، وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟
فَقَالَ: ((عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)).
فَقُلْتُ: ((عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ)).
فَقَالَ: ((ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)).
قَالَ: ((فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ، وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ)).
فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُجَالِسَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مُجَالِسَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَنْ يَسَارِهِ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ -أَيْ: بَعْدَمَا طُعِنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--, قَالَ: فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي؛ فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: ((مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَأَيْمُ اللهِ! إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَحَسِبْتُ أَنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)) )).
فَكَانَا صَاحِبَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ وَذَهَابِهِ، وَفَهِمَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَهُوَ الذَّكِيُّ الْأَلْمَعِيُّ- مِنْ هَذَا أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَيُدْفَنُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَدْ كَانَ.
((شُهُودُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ))
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَطُّ)).
قُلْتُ: وَهُوَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
((عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَوَفَاةُ الرَّسُولِ ﷺ ))
وَعِنْدَمَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ انْزَعَجَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَقَدْ رَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ فَقَالَ: ((لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَكَى النَّاسُ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَطِيبًا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: لَا أَسْمَعَنَّ أَحَدًا يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، لَكِنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْهِ كَمَا أُرْسِلَ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، فَلَبِثَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَاللهِ! إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ)).
وَلِهَيْبَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي نُفُوسِ النَّاسِ سَكَتَ النَّاسُ عَنْ هَذَا الْخَبَرِ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِنَّ مُحَمَّدًا ﷺ قَدْ مَاتَ.
وَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ مِنْ مَسْكَنِهِ حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَتَيَمَّمَ رَسُولَ اللهِ ﷺ -أَيْ: قَصَدَ رَسُولَ اللهِ ﷺ- وَهُوَ مُغَشًّى بِثَوْبٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتَ، وَاللهِ! لَا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا)).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَرَجَ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: ((اجْلِسْ يَا عُمَرُ!)).
فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((أَمَّا بَعْدُ؛ فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144])).
قَالَ: ((وَاللهِ! لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا عَنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ)).
قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ- أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ-: ((فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا)).
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: ((مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعُقِرْتُ، حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وَحَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا؛ عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ مَاتَ)).
((مَوْقِفُ عُمَرَ الْعَظِيمُ فِي جَمْعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ))
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((كَانَ مِنْ خَبَرِنَا -أَيْ: مِنْ خَبَرِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-- حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا تَخَلَّفُوا فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَخَلَّفَتْ عَنَّا الْأَنْصَارُ بِأَجْمَعِهَا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ! انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نَؤُمُّهُمْ، حَتَّى لَقِيَنَا رَجُلَانِ صَالِحَانِ، فَذَكَرَا لَنَا الَّذِي صَنَعَ الْقَوْمُ، فَقَالَا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟
قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَقُلْتُ: ((نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ)).
فَقَالَا: ((لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَقْرَبُوهُم، وَاقْضُوا أَمْرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ)).
قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَقُلْتُ: ((وَاللهِ! لَنَأْتِيَنَّهُمْ)).
فَانْطَلَقْنَا حَتَّى جِئْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ؛ فَإِذَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ رَجُلٌ مُزَمَّلٌ، فَقُلْتُ: ((مَنْ هَذَا؟)).
فَقَالُوا: ((سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ)).
فَقُلْتُ: ((مَا لَهُ؟)).
قَالُوا: ((وَجِعٌ)).
قَالَ: ((فَلَمَّا جَلَسْنَا قَامَ خَطِيبُهُمْ -أَيْ: خَطِيبُ الْأَنْصَارِ- فَأَثْنَى عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ مِنَّا، وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَيَحْضِنُونَا مِنَ الْأَمْرِ)).
فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَكُنْتُ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ كُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ، وَهُوَ كَانَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ)).
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((عَلَى رِسْلِكَ يَا عُمَرُ!)).
قَالَ: ((فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ، وَوَاللهِ! مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي إِلَّا قَالَهَا فِي بَدِيهَتِهِ -أَيْ: بِدُونِ تَزْوِيرٍ- وَأَفْضَلَ، حَتَّى سَكَتُّ فَقَالَ: ((أَمَّا بَعْدُ؛ فَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ أَهْلُهُ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْعَرَبُ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَيَّهُمَا شِئْتُمْ)).
قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ)).
قَالَ: ((فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا -يَعْنِي: كَرِهْتُ أَنْ سَمَّانِي لِلْخِلَافَةِ- قَالَ: وَكَانَ -وَاللهِ- أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي لَا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ إِلَى إِثْمٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ)).
فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: ((أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ)).
قَالَ عُمْرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ حَتَّى خَشِيتُ الِاخْتِلَافَ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ)).
فَكَانَ ذَلِكَ مَوْقِفًا جَلِيلًا عَظِيمًا لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، اجْتَمَعَتْ بِهِ الْأُمَّةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((خِلَافَةُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَعْظَمُ الْإِنْجَازَاتِ فِي عَصْرِهِ))
وَعِنْدَمَا حَضَرَتِ الْوَفَاةُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنِّي رَضِيتُ لَكُمْ عُمَرَ فَبَايِعُوهُ، فَبَايَعُوهُ)).
وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ عَشْرَ سِنِينَ وَنِصْف وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَلُقِّبَ بِـ(أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ)، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عِزًّا وَفَتْحًا وَعَدْلًا.
وَفِي خِلَافَتِهِ كُتِبَ تَارِيخُ الْمُسْلِمِينَ، وَابْتَدَأَ التَّارِيخُ الْإِسْلَامِيُّ؛ فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: ((جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، فَقَالَ: مَتَى نَكْتُبُ التَّارِيخَ؟)).
يَعْنِي: بِأَيِّ شَيْءٍ نَبْتَدِئُ التَّارِيخَ؟
فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مُنْذُ خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ))؛ يَعْنِي: مِنْ يَوْمِ هَاجَرَ.
قَالَ: ((فَكَتَبَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَصَّرَ الْأَمْصَارَ، وَأَنْزَلَهَا النَّاسَ..
وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَقْضَى الْقُضَاةَ فِي الْأَمْصَارِ..
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، وَكَتَبَ النَّاسَ عَلَى قَبَائِلِهِمْ، وَفَرَضَ لَهُمُ الْأَعْطِيَةَ، وَفَرَضَ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَفَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ..
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ..
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَطَحَ هَذَا الْمَسْجِدَ، كَانَ مَسْجِدُ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ تُرَابٌ وَطِينٌ، فَجَاءَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِـ(الْبَطْحَاءِ مِنْ وَادِي الْعَقِيقِ)، فَبُطِحَتْ وَوُضِعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ..
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: ((سَمِعَ النَّاسُ قَوْلَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَرَأَوْا عَمَلَهُ -يَعْنِي: شَهِدُوا لَهُ؛ رَأَوْا أَفْعَالَهُ، وَسَمِعُوا أَقْوَالَهُ-، وَكَانَ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَيَطُوفُ فِي الطُّرُقَاتِ، وَيَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فِي قَبَائِلِهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَيَخْلُفُ الْغُزَاةَ فِي أَهْلِيهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ أَلْيَنَهُمْ فِيمَا يَنْبَغِي، وَأَقْوَاهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ)).
((جُمْلَةٌ مِنْ مَنَاقِبِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْجَلِيلَةِ وَمَوَاقِفِهِ الْعَظِيمَةِ))
لَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَنَاقِبُ جَلِيلَةٌ، وَمَوَاقِفُ عَظِيمَةٌ؛ جَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((رَأَيْتُنِي أَدْخُلُ الجَنَّةَ؛ فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ؛ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ، وَسَمِعْتُ خَشَفَةً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟
فَقَالُوا: هَذَا بِلَالٌ.
وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟
فَقَالُوا: لِعُمَرَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ -يَعْنِي: يُخَاطِبُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- قَالَ: فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ)).
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟!!)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ إِذْ قَالَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟
فَقَالُوا: لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا)).
فَبَكَى عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالَ: ((أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!!)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ؛ إِذْ رَأَيْتُ قَدَحًا أُتِيتُ بِهِ فِيهِ لَبَنٌ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَجْرِي فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ)).
قَالُوا: ((فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: ((الْعِلْمَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ أَعْلَمِ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا.
وَجَاءَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ -أَيْ: عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ-، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ، وَمِنْهَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ)).
قَالُوا: ((فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).
قَالَ: ((الدِّينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ أَقْوَى النَّاسِ فِي الدِّينِ، وَمِنْ أَشَدِّهِمْ تَمَسُّكًا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَجَاءَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ)).
يَعْنِي: لَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ وَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ؛ كُلُّ وَاحِدَةٍ قَامَتْ تُعَدِّلُ حِجَابَهَا أَكْثَرَ؛ هَيْبَةً لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ يَضْحَكُ)).
لَمَّا رَأَى مَا فَعَلَتْهُ النِّسَاءُ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَعْدِيلِ الْحِجَابِ، وَإِلَى السُّكُوتِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ؛ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَضْحَكُ.
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ)).
قَالَ: ((عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ!!)).
قَالَ عُمَرُ: ((فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَكَ)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ! أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟!!)).
قُلْنَ: ((نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ )).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعُمَرَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي هَذَا بَيَانُ هَيْبَةِ النَّاسِ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيدًا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ.
وَفِي هَذَا -أَيْضًا- أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفِرُّ مِنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَلَا زَالَتِ الشَّيَاطِينُ تَفِرُّ مِنْ حُبِّ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَجَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَقَدْ كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رِجَالٌ يُكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْ أُمَّتِي أَحَدٌ مِنْهُمْ فَعُمَرُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
فَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فَرَاسَةً.. مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فَرَاسَةً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَجَاءَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ)). رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَجَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَقَدْ وَافَقَ الْقُرْآنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مَوَاقِفَ؛ مِنْ ذَلِكَ: مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ؛ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ -يَعْنِي: أَعْطَاهُ الرَّسُولُ ﷺ قَمِيصَهُ؛ إِكْرَامًا لِعَبْدِ اللهِ، وَلَيْسَ لِلْمُنَافِقِ- وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ: ((تُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ، وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ؟!!)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
فَقَالَ: سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ)).
قَالَ: ((فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84])). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى -أَيْ: فِي بَدْرٍ- قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: ((مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟)).
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((يَا نَبِيَّ اللهِ! هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَة، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ؛ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟)).
قَالَ: ((لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا)).
فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ عُمَرُ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا)).
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؛ إِلَى شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 67-69]، فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ)). وَهَذَا فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَافَقْتُ اللهَ فِي ثَلَاثٍ، أَوْ وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَوِ اتَّخَذْتَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الْحِجَابِ، قَالَ: وَبَلَغَنِي مُعَاتَبَةُ النَّبِيِّ ﷺ بَعْضَ نِسَائِهِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ، قُلْتُ: إِنِ انْتَهَيْتُنَّ أَوْ لَيُبْدِلَنَّ اللهُ رَسُولَهُ ﷺ خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أَتْيَتُ إِحْدَى نِسَائِهِ، قَالَتْ: يَا عُمَرُ! أَمَا فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ؟!! فَأَنْزَلَ اللهُ: {عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الْآيَةَ [التحريم: 5])). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحِ)) عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.
((عَدْلُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعِزُّ الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَافَتِهِ))
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ -أَيْ: عَلَى بِئْرٍ- عَلَيْهَا دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ -أَيْ: أَبُو بَكْرٍ-، فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ رُؤْيَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي وِلَايَةِ النَّاسِ؛ فَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ))؛ الذَّنُوبُ: دَلْوٌ صَغِيرٌ، ((وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ)): لَيْسَ فِي هَذَا تَنَقُّصٌ لِأَبِي بَكْرٍ، أَوْ نَقْصٌ فِي مَنْزِلَتِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ قِصَرِ مُدَّةِ خِلَافَتِهِ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ خَلِيفَةً بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَكُونُ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ قَصِيرَةً، ((ثُمَّ اسْتَحالَتْ غَرْبًا))؛ وَالْغَرْبُ: هُوَ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ، أَكْبَرُ مِنَ الذَّنُوبِ، ((فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا))؛ الْعَبْقَرِيُّ: هُوَ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ الْمُتْقِنُ لِلْأَمْرِ.. الْعَبْقَرِيُّ: هُوَ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ الَّذِي لَهُ مَكَانَةٌ، الْمُتْقِنُ لِلْأَمْرِ، ((يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ))؛ يَعْنِي: حَتَّى كَثُرَ الْمَاءُ؛ فَنَصَبَ النَّاسُ خِيَامَهُمْ حَوْلَ هَذِهِ الْبِئْرِ، وَأَتَوْا بِإِبِلِهِمْ تَشْرَبُ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى طُولِ خِلَافَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعِزِّ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ كَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي خِلَافَتِهِ عَادِلًا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَمَعَ الْجَمِيعِ.
قَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ: ((إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ، فَبَقِيَ مِرْطٌ جَيِّدٌ -بَقِيَ مِرْطٌ وَاحِدٌ-، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَعْطِ هَذَا ابْنَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّتِي عِنْدَكَ -يُرِيدُونَ حَفِيدَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--.
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ -وَأُمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ- قَالَ عُمَرُ: فَإِنَّهَا كَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ))؛ أَيْ: تَخِيطُ الْقِرَبَ لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَوْمَ أُحُدٍ.
وَالْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ فَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فِي أَرْبَعَةٍ، وَفَرَضَ لِابْنِ عُمَرَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَخَمْسَ مِائَةٍ؛ فَقِيلَ لَهُ: هُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؛ فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ؟
فَقَالَ: ((إِنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبَوَاهُ)) يَعْنِي: هُوَ لَيْسَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
((خَوْفُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَمُحَاسَبَتُهُ نَفْسَهُ))
وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَخَافُ فِي خِلَافَتِهِ خَوْفًا شَدِيدًا، وَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ، وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ -يَعْنِي: فِي جَوْفِ الْبُسْتَانِ-: ((عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَخٍ بَخٍ، وَاللهِ! لَتَتَّقِيَنَّ اللهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ)).
يَعْنِي: يُخَاطِبُ نَفْسَهُ وَيُحَاسِبُهَا، وَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: لَا تَغْتَرِّي، النَّاسُ يَقُولُونَ: عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللهِ! لَتَتَّقِيَنَّ اللهَ فِي النَّاسِ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ اللهُ وَلَا تَنْفَعُكَ هَذِهِ الْمَنَاصِبُ.
((اسْتِشْهَادُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ))
كَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَدْعُو بِدُعَاءٍ عَظِيمٍ اسْتَجَابَهُ اللهُ؛ فَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ ﷺ )).
وَهَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ؛ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ مَا كَانَ فِيهَا قِتَالٌ، وَمَعَ ذَلِكَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ؛ أَنْ يَمُوتَ فِي الْمَدِينَةِ، وَأَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَشَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالشَّهَادَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ مَعَنَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَعِنْدَمَا رَقَى النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أُحُدٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ أُحُدٌ؛ فَقَالَ: ((اثْبُتْ أُحُدُ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ))؛ هُمَا عُثْمَانُ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
وَقَدْ كَانَ مَا سَأَلَهُ عُمَرُ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونَ قَالَ: ((رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ وَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، قَالَ: ((كَيْفَ فَعَلْتُمَا؛ أَتَخَافَانِ أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ؟)).
قَالَا: ((حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ، مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ)).
قَالَ: ((انْظُرَا أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ! )).
قَالَا: ((لَا)).
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَئِنْ سَلَّمَنِيَ اللهُ لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا)).
قَالَ: ((فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ، قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ غَدَاةَ أُصِيبَ، وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ قَالَ: اسْتَوُوا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلًا تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ أَوِ النَّحْلِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ -فَكَانَ يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ-، قَالَ: فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ كَبَّرَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَتَلَنِي أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ.. حِينَ طَعَنَهُ، فَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ، حَتَّى طَعَنَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا؛ مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا، فَلَمَّا ظَنَّ الْعِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ.
وَتَنَاوَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ، فَمَنْ كَانَ يَلِي عُمَرَ فَقَدْ رَأَى الَّذِي رَأَى، وَأَمَّا نَوَاحِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ -لَمْ يَعْلَمُوا بِالْخَبَرِ-، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ اللهِ، فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَلَاةً خَفِيفَةً.
فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: ((يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي)).
هُوَ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ هُوَ ذَلِكَ الْعِلْجُ؛ لَكِنِ انْظُرْ مَا شَأْنُهُ، ((انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي)).
فَجَالَ سَاعَةً، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: ((غُلَامُ الْمُغِيرَةِ)).
قَالَ: ((الصَّنَعُ؟!!)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((قَاتَلَهُ اللهُ، لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا، الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ، قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ))؛ يَعْنِي: كَانَ الْعَبَّاسُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَهُ رَقِيقٌ كَثِيرٌ -هَذَا الْمَقْصُودُ-.
فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ قَالَ: ((فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ -مِنْ حُبِّهِمْ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--، فَقَائِلٌ يَقُولُ: لَا بَأْسَ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَخَافُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ -يَعْنِي: أُتِيَ بِعَصِيرٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ عِنَبٍ فَشَرِبَهُ-، فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ -خَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ-، فَأُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ، فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ.
قَالَ: فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، وَجَاءَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبُشْرَى اللهِ لَكَ؛ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ ﷺ، وَقَدَمٍ فِي الْإِسْلَامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ شَهَادَةٌ.
فَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ؛ لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَ!!)).
فَلَمَّا أَدْبَرَ الشَّابُّ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الْأَرْضَ، فَقَالَ: ((رُدُّوا عَلَيَّ الْغُلَامَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي! ارْفَعْ ثَوْبَكَ؛ فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ، وَأَتْقَى لِرَبِّكَ!!)).
لَمْ يَمْنَعْهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخَيْرِ.
وَفِي هَذَا -يَا إِخْوَةُ- دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْبَالَ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا؛ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ قَصْدُ الرِّيَاءِ؛ فَإِنَّ هَذَا الشَّابَّ لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ، وَلَوْ لَمْ يُرِدِ الْخُيَلَاءَ، لَا يَظْهَرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ، وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمْ يَسْتَفْصِلْ مِنْهُ، بَلْ أَمَرَهُ بِرَفْعِ ثَوْبِهِ.
ثُمَّ قَالَ: ((يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ! انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ)).
فَحَسَبُوهُ، فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا أَوْ نَحْوَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَهُ بِطَرِيقِ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: ((انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْ: يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ، وَلَا تَقُلْ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا، وَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ)).
فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَاسْتَأْذَنَ، فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ: ((يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلَامَ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ)).
فَقَالَتْ: ((كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي)).
فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ: ((هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ)).
قَالَ: ((ارْفَعُونِي -أَيْ: قَالَ عُمَرُ-: ارْفَعُونِي)).
فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ((مَا لَدَيْكَ؟))
قَالَ: ((الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذِنَتْ أَذِنَتْ)).
فَقَالَ: ((الْحَمْدُ للهِ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي، ثُمَّ سَلِمَّ -يَعْنِي: عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- فَقُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؛ فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي، وَإِنْ رَدَّتْنِي فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ)).
وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ مَعَهَا، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَامُوا لَهَا، فَوَلَجَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ، فَوَلَجَتْ دَاخِلًا لَهُمْ فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا مِنْ الدَّاخِلِ -فَدَخَلَتْ فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ، وَسَمِعَ النَّاسُ بُكَاءَهَا-، فَقَالُوا: أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-... )).
ثَبَّتَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى الدِّينِ وَالسُّنَّةِ، وَأَلْحَقَنَا بِأُولَئِكَ الْأَخْيَارِ ثَابِتِينَ غَيْرَ مُغَيِّرِينَ، وَرَزَقَنَا مَوْتًا فِي مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
هَذِهِ شَذَرَاتٌ يَسِيرَاتٌ مِنْ سِيرَةِ حَبِيبِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، اخْتَرْتُهَا مُرَاعِيًا الْوَقْتَ؛ وَإِلَّا فَسِيرَتُهُ عَطِرَةٌ، مَلِيئَةٌ بِالْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ.
أَسْأَلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ أَحَبَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَلَزِمَ مَنْهَجَهُمْ، وَدَعَا إِلَى ذَلِكَ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْقَاهُ.
وَاللهُ -تَعَالَى- أَعْلَى وَأَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَسَلَّمَ.