إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ
لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
-صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ،
وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-،
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ السَّواءَ النفسيَّ أَمْرٌ عزيزٌ في
البَّشَرِ، قد تَحْيَى حَيَاتَكَ كلَّهَا لا تَرَى رَجُلًا سويًّا قد حَصَلَ
السَّواءَ النَّفْسيَّ كما ينبغي أنْ يُحصِّلَهُ، البَشَرُ دائمًا يحيَونَ في
الأكاذيب يستمرئونَها ويُبغضِونَ الحقائقَ ويُبغِضُونَ مَن يُواجِهُهُم بها؛ لأنَّ
الإنسانَ يُشاركُ في صُنْعِ نفسيتِهِ وفي تهيئةِ خلفيتِهِ العقليةِ والفِكريةِ.
كثيرًا مِن الأمورِ؛ لا ينفردُ أمرٌ واحدٌ
بتشكيلِ نَفْسيةِ المرءِ، وإنَّمَا يشاركُ في صُنْعِ هذه النَّفْسيةِ أطرافٌ
كثيرةٌ، وهذه الأطرافُ قد تكونُ مُتعارِضَةً؛ فيقعُ الصِّرَاعُ النَّفسيُّ على
المستوى الشخصيِّ، ورُبَّمَا أَدَّى إلى كثيرٍ مِن الأمراضِ التي لا تُنْظَرُ ولا
تُحَسُّ، السببُ في ذلك أنَّ الإنسانَ لا يُحَدِّدُ طريقَهُ برَويَّةٍ وفِكْرٍ
وعقلٍ، وإنَّمَا يجدُ نَفْسَهُ في مجتمعٍ ما؛ في زمانٍ ما؛ في ظروفٍ ما؛ في وقتٍ
ما؛ على هيئةٍ ما، خُلِقَا لأبويْن لم
يخترهُمَا وفى ظروفٍ اجتماعيةٍ وعِلميةٍ واقتصاديةٍ لَم يُحَدِّدهَا ثم يمضي في
الحياةِ، ويَظلُّ ماضيًا فيها على حَسَبِ النُّقْطةِ التي بَدَأَ مِنْهَا، قد
تكونُ البدايةُ غَيْرَ صحيحةٍ، فَكُلَّمَا أَمْعَنَ واجتهدَ في السَّيْرِ؛
ابْتَعَدَ عن الغايةِ.
والأمرُ يسيرٌ، لو أننا الآنَ نُريدُ أنْ
نَقِفَ مِن أجلِ الصلاةِ نتوجهُ إلى قِبْلَةِ اللهِ -جلَّ وَعَلَا-، لو أَخَذْنَا
خَطًّا مِن النُّقطةِ التي نَقِفُ عليها -خَطًّا مُستقيمًا- يَصِلُ إلى سواءِ الكعبةِ،
مع أنَّ ذلك لا يلزمُنَا بالتَّوجُّهِ إلى عينِهَا مادُمْنَا لا نراها، ولَكِن
نتوجهُ إلى جهتِهَا، على كلِّ حال لو أنَّنَا أخذنا خَطًّا مُستقيمًا مِن النقطةِ
التي نقفُ فيها مُهيِّئينَ أَنْفُسنَا إلى الصلاةِ مُتوجهينَ إلى قِبْلَةِ اللهِ،
وهذا الخَطُّ المستقيمُ يبدأُ مِن بين أرجُلِنَا إلى سواءِ الكعبةِ المُشَرَّفَةِ،
فانحرَفْنَا في بدايةِ الوقوفِ عن هذا الخّطِّ المستقيمِ الذي يَصِلُ إلى سواءِ
الغايةِ التي نَتغيَّاهَا، انحرفُنَا عن
هذا الخَطِّ درجةً واحدةً مِن الدرجاتِ الهندسيةِ المعروفةِ؛ كلَّمَا أَمْعَنَّا
في السَّيرِ ابتعدْنَا عن الغايةِ، إذن البدايةُ لا يتوقفُ المرءُ حينًا يسيرًا
للنَّظَرِ فيها وإنما يَمْضِي في طريقِهِ.
قد تكونَ بدأتَ بدايةً خاطئة، وُضِعْتَ في
مكانٍ ما لم تُفَكِّر فيه ولم تلتفت إلى عواقبِهِ ونتائجِهِ، الدليلُ على ذلك
أَنَّكَ رُبَّمَا لا تَعرفُ أحدًا في هذا الكَوْنِ غَيَّرَ مَسَارَ حياتِهِ بعد
نظرٍ وفِكْرٍ ورَويَّةٍ، وأَخَذَ يتأملُ في حالِهِ ومآلِهِ ثم تَبيَّنَ خَطَأ ما
هو عليه؛ فَغَيَّرَ مَسَارَ حياتِهِ، أنت لا تَعْلَمُ مِن هؤلاءِ البَّشَرِ إلَّا
أنهم يَمْضُونَ فيما وُجِدُوا فيه جَادِّينَ في تحصيلِ ما تَوَهَّمُوه، مع أنَّ
هذا لا يكونُ إلَّا خيالًا وسَرَابًا.
النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- دَلَّنَا على
أَمْرٍ ما، وهذا الأمرُ قد نُخالفُهُ كثيرًا -بَلْ نحن نُخالِفُهُ كثيرًا-، نَهَى
النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنْ يُضْرَبَ الصغيرُ على الصَّلاةِ إذا
تَرَكَهَا حتى يَصِلَ إلى عَشْرَةِ سنوات:
«مُرُوا أولادَكُم بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ واضْربُوهُم عَليهَا -على
تَرْكِهَا- لِعَشْرٍ».
فَمَنَعَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-
الأمْرَ بالصلاةِ أَمْرًا جَازِمًا؛ لأنهُ لا يَلْزَمُهُ الصلاةَ وليست بفَرْضٍ
عليه، وإنَّمَا ينبغي أنْ يُعَوَّدَ على ذلك، ولَكِنَّهُ يُؤْمَرُ أَمْرًا رفيقًا
فيه ترغيبٌ وترهيبٌ؛ لا يَصِلُ إلى حَدِّ الضَّرْبِ، ولَكِن لا يُضْرَبُ إلَّا إذا
بَلَغَ عَشْرَ سنواتٍ.
يقولُ النَّفْسيونَ: إنهُ
لا عُصَابَ في الكِبَرِ إلَّا بعُصَابٍ في الصِّغَرِ، يعني لَن تِجِدَ أحدًا
أُصيبَ بالاكتئابِ أو بالفِصَامِ أو بالجنونِ أو بالهلاوسِ السمعيةِ أو البصريةِ
أو الحِسيَّةِ، بأيِّ مرضٍ نفسيٍّ؛ لن يُصَابَ به على كِبَرٍ إلَّا وقد بَدَأَت
الإصابةُ به في الصِّغَرِ -في أيِّ سِنٍّ إلى
سِتِّ سنوات-، فلا عُصَابَ في الكِبَرِ إلَّا بِعُصَابٍ في الصِّغَرِ؛ لذلك
يُرْجِعُونَ ذلك إلى الخلفيَّةِ القديمةِ في حالِ الطفولةِ، الناسُ يَحْيَونَ
دائمًا في الأوهامِ والأكاذيبِ، ويأخذونَ بِمَا يُسَمَّى بالحِيَلِ الدِّفَاعيَّةِ
مِن أَجْلِ أَلَّا ينكسرَ أمامَ نَفْسِهِ وأمامَ مُجتمعِهِ.
مِن الحِيَلِ النَّفسيةِ شيءٌ معروفٌ وهو
التبريرُ، وكذلك مِن الحِيَلِ النَّفسيةِ: الإسْقَاط وهو أَمْرٌ معروفٌ أيضًا،
التبريرُ يعرفُهُ النَّاسُ جميعًا ويضربونَ عليه المَثَل، ولَكنَّهُم لا يلتفتونَ
إلى معناه ولا يجتهدونَ في معرفةِ مَغْزَاهُ، حتى لا يأخذوا بتلكَ الحيلة
الدِّفَاعيَّةِ مع وقوعِهِم في الأخطاءِ، فَيُبَرِّرُونَ لأَنْفُسِهِم أخطائَهُم.
تَذكرونَ قِصَّةَ الثَّعْلَبِ الذي أرادَ
أنْ يَتحصلَ على قِطْفِ العِنَبِ، وكان عاليًا، فأخذا يَثِبُ مِن أَجْلِ أنْ
يُحَصِّلهُ، فَلَم يَبْلغهُ، ففي النهايةِ قالَ هو حَامِض، فهذا تبريرٌ، تَجِدُ
هذا كثير عند الطلابِ مَثَلًا إذا مَا
تَحَصَّلُوا على الثانوية ثم تَقَدَّمُوا إلى كليةٍ مِن الكُليَّاتِ التي
تتطلبُ مُقَدَّراتٍ وقُدُرَاتٍ خاصة، ويكونُ حريصًا غايةِ الحِرْصِ على الالتحاقِ
بِهَا؛ فَيَفْشَلُ، فيقولُ إذا ما أُخْبِرَ
بِفَشَلِهِ: تعلمونَ لو أنني قُبِلْتُ فيها؛ ما دَخَلْتُهَا، هل هذه
كليَّة؟ هل هذا مُستقبل؟
هذا تبرير، وهو يحاولُ جاهدًا ألَّا ينكسرَ
أمامَ نَفْسِهِ.
الناسُ في الجُملةِ يَحيَونَ في الأكاذيبِ،
لا يُواجِهُونَ الحقائقَ وإذا وَاجَههُم أحدٌ بالحقيقةِ عارية؛ فإنَّهُم
يُبغضونَهُ ويُحاربونَهُ، مع أنَّ الحقيقةَ لا يُمكنُ أنْ يَمْتريَ فيها أَحَدٌ.
أيضًا الإسقاطُ، وتَعْجَبُ غايةَ العَجَبِ
عندما تجدُهُ في الحياةِ ولا تكونُ مُطَّلِعًا على خلفيتِهِ ومغزاهُ، أبٌ قاسٍ فيه
صَرَامَةٌ وخُشونةٌ وعُنْف؛ فَيَقْسُو على وَلَدِهِ قَسْوَةً مُفْرِطَةً مِن غيرِ
ما مُبَرِّرٍ، وَعَمٌّ أليفٌ شفيقٌ رحيمٌ ودودٌ يَحْنُو على ابنِ أخيهِ أكثرَ
مِمَّا يحنو عليه أبوه، فماذا تَجِدُ؟
تَجِدُ الولدَ الذي يَقْسُو عليه أبوهُ؛ يَطْعَنُ
ويَذُمُّ عَمَّهُ، هذا إسقاطٌ، هو لا يريدُ أنْ يَذُمَّ عَمَّهُ الذي يَحْنُو
عليه ويرحمُهُ ويَوَدُّهُ، وإنَّمَا يريدُ بالذَّمِ وبالقَدْحِ أبَاهُ، ولكنَّهُ
لا يُواجِهُ نَفْسَهُ، فماذا يصنعُ؟
يُنْزِلُ سُخْطَهُ كُلَّهُ ونِقْمَتَهُ على
عَمِّهِ الذي يرحمُهُ، هذا إسقاطٌ، نحنُ نفعلُ هذا طوالَ الوقتِ، الناسُ لا
يُحبِّونَ الحقيقةَ، وإذا وَاجَهَهُم أَحَدٌ بالحقيقةِ أَبْغضوهُ كمَا يُبغضونَ
الحقيقة.
مِن الحقائقِ الكُبْرَى في هذا الوجودِ:
الموتُ، فإذا قُلْتَ لإنسانٍ ستموت، بل أنتَ
مَيِّت كما قالَ اللهُ -تباركَ وتَعَالَى- لِنَبيِّهِ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ﴾؛ يعني ستموتُ وسيموتونَ، هذه حقيقةٌ لا يمتري فيها أَحَدٌ، وكلُّ
النَّاسِ يتأكدونَ غايةَ التَّأكُّدِ مِن هذه الحقيقةِ، ومع ذلك يُبغضونَهَا
ويُبغضونَ مَن يُذَكِّرُهُم ويُواجِهُهُم بها، وإذا وُجِهُوا بها فَتَذَّكرُوهَا؛
لم يَعْملوا لَهَا، مع أنَّ اللهَ -تباركَ وتعالى- وَاجَهَ بِهَا نَبيَّهُ
ومُصْطَفَاهُ وأَحَبُّ الخَلْقِ إليه وأَشْرَفُ خَلْقِ اللهِ -جَلَّ وعَلَا-:؛
فقال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾.
كثيرٌ مِن الأمورِ، تبدأُ بدايةً خاطئةً،
فيجبُ على الإنسانِ أنْ يتوقفَ:
لماذا أنتَ في هذا المَسَارِ؟
لماذا أنت في هذا السبيل؟
ما الذي أَوْجَدَكَ في هذا المجالِ الذي أنت
فيه؟
لماذا تأخذُ بهذه الحِرْفَةِ؟ ولماذا
تَمْتَهِنُ هذه المِهْنَة؟
ولماذا تتعاملُ مع الناسِ بهذا الأسلوبِ؟
ولماذا تُحَصِّلُ غاياتَكَ بهذه الأساليب؟
ينبغي على الإنسانِ أنْ يتوقفَ؛ لأنكَ لم
تَبْدَأ بدايةً اختيارية، وإنَّمَا فُرِضَ عليكَ ذلك فَرْضًا، ولم تتوقف مِن
أَجْلِ أنْ تُرَاجِعَ، واللهُ ربُّ العالمينَ قد أرسلَ إلينا نَبيَّهُ الكريم -صلى
اللهُ عليه وآلِهِ وسلم- يُذَكِّرنَا بالحقائقِ، بِضَعْفِ الإنسانِ، فالإنسانُ
ضعيفٌ، وخُلِقَ الإنسانُ مِن ضَعْفٍ، ويَحْيَى في الضَّعْفِ ويموتُ ضعيفًا، ويُبْعَثُ
يومَ القيامةِ بِلَا حَوْلٍ ولا حِيلة.
الإنسانُ لا يستطيعُ أبدًا أنْ يُواجِهَ
نَفْسَهُ بِضَعْفِهِ، هل تَجِدُ مُتَكبرًا قَط يُقِرُّ بِضَعْفِ نَفْسهُ وأنه لا
حَوْلَ له و لا حيلة، مع أنَّ هذه حقيقةٌ لا يستطيعُ أنْ يفعلَ شيء، بل إنهُ لو
حَاوَلَ أنْ يُثْبِتَ لِنَفْسِهِ قوتَهُ و قدرتَهُ بشيءٍ مِن ذَاتِهِ بأنْ يرفعَ
يَدَهُ مَثَلًا هكذا لَيْلًا طويلًا!! لا يستطيعُ، فإذا كان لا يستطيعُ السيطرةَ
على عضوٍ مِن أعضائِهِ، فكيف بجَسدِهِ كلِّهِ؟ فكيف بمُستقبلِهِ؟ فكيف بمستقبلِ
الناسِ مِن حولِهِ؟
ينبغي علينا أيُّها الأَحبَّة أنْ
نَتَرَوَّى قليلًا، فإنَّ الحياةَ فرصةٌ واحدةٌ لا تتكررُ، وإذا مَضَت فَلَن
تَعُودَ، والذي يَمْضِي مِنْهَا مِن غيرِ مَا نَفْعٍ ولا ثَمَرَةٍ ولا نتيجةٍ
يُحَصِّلُهَا الإنسانُ، هذا هَدَرٌ ضَائِعٌ، بل إنهُ يكونُ في الجُملةِ على مَن
ضَيَّعَهُ.
ستموتُ، حَتْمًا ستموت، هل يُمكنُ أنْ تُمَارِي في هذا؟
مَن الذي يستطيعُ أنْ يقولَ أنهُ خَالِدٌ لن
يموت؟
سيموت.
فماذا تصنعُ؟
منذُ أنْ وُلدتَ إلى يومِ لقاءِ رَبِّكَ زمانٌ
محدودٌ، مسافةٌ زمنيَّةٌ لا تَمْتَدُّ طُولًا، ولَكِن يُمكنُ أنْ تَتَّسِعَ
عَرْضًا بالبركةِ في العُمُرِ، بالبركةِ في الآثَارِ، بِحُسْنِ الذِّكْرِ بَعْدَ
الموتِ، بِمَا يَتركُهُ الإنسانُ مِمَّا يدعوا له به النَّاسُ الذين عَايَشَهُم
وعَاصَرَهُم؛ بَلْ مَن لَم يُعَاصِرهُ مِمَّن
يأتي بَعْدَهُ.
اترُك أَثَرًا فِي الحيَاةِ يَذكُرُكَ بِهَا
النَّاسُ بَعدَ أَنْ تَمضِي مِن هَذِهِ الحَيَاةِ...
لَا تَترُك أَثَرًا سَيِّئًا، يَفرَحُ
النَّاسُ بِمَوتِكَ وَبِتَخَلُّصِ الحيَاةِ مِنْكَ، وَيَقُولُونَ: كَانَ شَرًّا
يَمضِي عَلَى الأَرضِ، وَلَكِنْ لِيَبكِي عَلَيكَ مَن يَبكِي بَعدَ أَنْ تَمُوتَ؛
لِأَنَّهُ يُحِسُّ أَنَّهُ فَقَدَ بِفَقدِكَ بَعضَهُ، لَا أَنَّهُ تَخَلَّصَ مِن
شَرٍّ كَانَ يَنبَغِي أَنْ يُزَالَ مِنَ الحيَاةِ.
الفُرصَةُ سَانِحَةٌ وَالأَمرُ يَسِيرٌ،
وَدَعكَ مِن التَّهوِيلِ وَالتَّعقِيدِ، فَإِنَّ اللهَ لَم يَجعَل الحُجَّةَ
القَائمَةَ علَى البَشَرِ فِي الأَرضِ شَيئًا عَسِيرًا لَا يُنَال, وَلَا أَمرًا
صَعبًا لَا يُفهَم، بَلْ إِنَّ هَذا الأَمرَ مِن أَيسَرِ الأُمُورِ, وَإِلَّا مَا
قَامَت حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلقِهِ فِي أَرضِهِ!!
الأَمرُ يَسِيرٌ، لَا تُعَقِّد الأُمُور,
فَالعِلمُ قَريبُ المُتَنَاوَل، سَهلٌ دَانِي القِطَاف، يَستَطِيعُ الإِنسَانُ
أَنْ يُحَصِّلَ أصُولَه؛ لِأَنَّ العِلمَ نُقطَة كَثَّرَهَا الجَاهِلُون!!
دَعُوكُم مِنَ شَقشَقَةِ الكَلَامِ،
وَتَطوِيلِ البَيَانِ، وَالهَزَرِ الفَارِغِ الذِي لَا حَصِيلَةَ مِن تَحتِهِ،
وَانظُر فِيمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيكَ, وَمَا لِأَجلِهِ خَلَقَكَ اللهُ، فَحَصِّلهُ
وَأَقبِل عَلَيهِ، وأَقبِل عَلَى شَأنِكَ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ نَبِيُّكَ ﷺ.
سَتَمُوتُ وَحدَك،
وَتُبعَثُ وَحدَك، وَتُسأَلُ بَينَ يَدَيْ اللهِ وَحدَك...
وَسَوفُ تُحَاسَبُ عَلَى
مَا أَظهَرتَ وَمَا أَضمَرت، وَسَوفُ تُحَاسَبُ عَلَى مَا قَدَّمتَ وَمَا أَخَّرت.
وَمَعلُومٌ أَنَّ
الإِنسَانَ سَيَقِفُ بَينَ يَدَيْ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا وَلَدَتهُ
أُمُّهُ، لَا يَخفَى عَلَى اللهِ مِنهُ شَيء، وَكُلُّ مَا قَدَّمَ فِي هَذِهِ
الحَياة -فِي الفُرصَةِ التِي أَعطَاهُ اللهُ إِيَّاهَا- مَسطُورٌ مَكتُوبٌ ﴿أَحْصَاهُ
اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُحصَى عَلَيهِ شَيء!!
بَل إِنَّ اللهَ؛ فَسَيَستَنطِقُ
الأَعضَاء؛ لِكَي تَنطِقَ بِمَا عَمِلَ الإِنسَانُ فِي هَذِهِ الحَيَاة، وَمَا
اقتَرفَهُ وَمَا اجتَنَاهُ، لِأَنَّ الإِنسَانَ سَيُدَافِعُ عَن نَفسِهِ أَمَامَ
الله، وَاللهُ لَا تَخفَى عَلَيهِ خَافِيَة، وَلَكِنَّ الإِنسَانَ سَيَقِفُ
يُدَافِعُ عَن نَفسِهِ أَمَامَ اللهِ عَمَّا اقتَرَفَت يَدَاهُ!!
فَيَقُولُ اللهُ رَبُّ
العَالمِينَ: سَأَجعَلُ عَلَيكَ اليَومَ شَاهِدًا مِن نَفْسِك، فَمَا ظَلَمَهُ
وَإِنَّمَا عَدَلَ فِيهِ غَايَةَ العَدلِ, وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى
كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.
يَختِمُ عَلَى فَمِهِ
وَيَأمُرُ أَعضَاءَهُ بِأَنْ تَنطِقَ بِمَا عَمِلَت فِي هَذِهِ الحَيَاة، وَمَا
اقتَرَفَت مِن السَّيِّئاتِ وَالخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ
يُنطِقُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَيُقبِلُ عَلَى أَعضَائِهِ لَائِمًا
يَقُولُ: وَيحَكُنَّ! عَنكُنَّ كُنتُ أُنَاظِر!!
فَتَقُولُ أعَضَاؤهُ
وَجَوارِحُهُ: ﴿أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾
يَنبَغِي أَنْ تُغَيِّرَ
مِن حَيَاتِك، لَا تَستَسلِم، طعَامُك وَشَرَابُك...
لمَاذَا أَنتَ سَمِينٌ
بَدِينٌ مِن غَيرِ مَا مُبَرِّر؟!
لمَاذَا؟ سَوفَ تُوزَنُ
عِندَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَحمًا وَشَحمًا؟!
«إنَّ اللهَ يُبغِضُ الحَبْرَ
السَّمِين»
لمَاذَا تُسرِفُ فِي
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَفِي الكَلامِ وَالمَنَام؟!
لمَاذَا لَا تُغَيِّرُ
حَيَاتَك؟!
لمَاذَا لَا تَتَوَقَّف
مِن أَجلِ أَن تُرَاجِعَ مَا كَان؟ وَمِن أَجلِ أَنْ تَنظُرَ فِيمَا هُوَ آت؟!
مِن أَجلِ أَنْ تُبَدِّلَ
مَسَارًا خَاطِئًا سِرتَ فِيهِ وَأَنتَ مُمْعِنٌ فِي السَّيرِ فِيهِ، وَكُلُّ
لَحظَةٍ تَمضِي فِي هَذِهِ الطَّرِيق فَإِنَّهَا تُوَصِّلُكَ إِلَى الخَرابِ
وَالدَّمَارِ وَالبَوَارِ!!
تَوَقَّف وَتَأَمَّل فِي
أَخلَاقِكَ وَطِبَاعِكَ, فَإِنَّكَ تَجِدُ الغَضُوبَ إِذَا مَا رَاجَعتَهُ وَقُلتَ
لَهُ: هَذَا لَا يَجمُلُ بِكَ, أَنتَ رَجُلٌ عَاقِلٌ مُتَّزِنٌ، وَإِذَا مَا
غَضِبتَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدرِي مَا يَخرُجُ مِن فَمِك، لَوْ أَنَّكَ نَظَرت فِي
مِرآةٍ فِي حَالِ غَضَبِكَ؛ لَأَبغَضَّتَ نَفسَكَ، كَالشَّيطَانِ فَائِرَ
الرَّأسِ, مُنتَفِضَ البَدَنِ, لَا تَكَادُ تَستَقِرُّ عَلَى حَالٍ, اتَّقِ
اللهَ!!
سَيَقُولُ لَكَ: هَذَا
طَبعِي فَقَد خُلِقتُ غَضُوبًا.
نَعَم؛ وَقَد نَزَلَ
الشَّرعُ مِنَ السَّمَاءِ لِيُغَيِّرَ الطِّبَاعَ، فَحُجَّتُكَ غَيرُ مَقبُولَة.
يَنبَغِي عَلَينَا؛ أَنْ
نَجتَهِدَ فِي تَغيِيرِ مَا نَحنُ فِيهِ بَعدَ أَنْ نَنظُرَ فِيهِ بِرَوِيَّةٍ
وَرِفقٍ، وَأَنْ نَعلَمَ أَنَّ المُستَقبَلَ الحَقِيقِيَّ هُوَ مَا يَأتِي لَا مَا
مَضَى، وَلَا مَا نَتَخَيَّلُهُ وَنَتَوَهَّمُهُ.