((الْخُطَبُ الْمِنْبَرِيَّةُ
فِي
التَّوْحِيدِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ))
الْخُطْبَةُ السَّابِعَةُ
((أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ.. خَافُوا مِنَ الشِّرْكِ وَاحْذَرُوهُ!))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإنّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ ﷺ وَشَرّ اْلأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةً، وَكُلّ ضَلاَلَةِ فِي النّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَالْخَوْفُ مِنَ الشِّرْكِ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ.
إِنَّ التَّوْحِيدَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِذَا مَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ، وَحَفِظَهَا عِلْمًا وَعَمَلًا؛ فَعَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْ زَوَالِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، بِمَعْرِفَةِ مَا يُضَادُّهَا -وَهُوَ الشِّرْكُ-، وَالْخَوْفِ مِنْهُ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
وَقَالَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ}: اجْعَلْنِي وَبَنِيَّ فِي جَانِبٍ، وَاجْعَلْ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فِي جَانِبٍ آخَرَ.
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَالصَّنَمُ: مَا كَانَ مَنْحُوتًا عَلَى شَكْلٍ صُورَةٍ.
وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ: فَهُوَ صِدْقُ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللهِ وَالِاعْتِصَامِ بِهِ، وَأَنْ يُفَتِّشَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشِّرْكِ وَأَسْبَابِهِ وذَرَائِعِهِ -أَيْ: وَسَاَئلِهِ-، وَمَهَالِكِهِ؛ فَيَحْذَرَ مِنْهُ.
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
((أَقْسَامُ الشِّرْكِ))
الشِّرْكُ: هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ، وَأَقْبَحُ الْقَبَائِحِ؛ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وَأَمَّا أَقْسَامُهُ: فَالشِّرْكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شِرْكًا أَكْبَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شِرْكًا أَصْغَرَ.
الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: هُوَ تَسْوِيَةُ غَيْرِ اللهِ بِاللهِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ اللهِ؛ كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ، وَالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ؛ فَهَذَا كُلُّهُ شِرْكٌ أَكْبَرُ.
وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ: فَهُوَ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُ شِرْكٌ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ، كَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَوْلَا اللهُ وَفُلَانٌ.
((الْفُرُوقُ بَيْنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَالشِّرْكِ الْأَصْغَرِ))
عِبَادَ اللهِ! مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَالشِّرْكِ الْأَصْغَرِ:
- الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: يُخْرِجُ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.
وَالْأَصْغَرُ: لَا يُخْرِجُ مِنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.
- الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ.
وَالْأَصْغَرُ: لَا يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ.
- الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: يُحْبِطُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ.
وَالشِّرْكُ الْأَصْغَرُ: يُحْبِطُ الْعَمَلَ الَّذِي قَارَنَهُ، كَمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رِيَاءً؛ فَهَذَا لَا أَجْرَ لَهُ، بَلْ عَلَيْهِ إِثْمٌ.
- الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: يُبِيحُ النَّفْسَ وَالْمَالَ، مَا لَمْ يَكُنْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُعَاهَدًا مُسْتَأْمَنًا.
وَالشِّرْكُ الْأَصْغَرُ: لَا يُبِيحُ النَّفْسَ وَالْمَالَ.
وَأَمَّا مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ: فَالذُّنُوبُ الَّتِي دُونَ الشِّرْكِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، إِنْ شَاءَ غفَرَ اللهُ لِلْمُذْنِبِ بِفَضْلِهِ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِعَدْلِهِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}؛ أَيْ: مَا دُونَ الشِّرْكِ.
((خَافُوا مِنَ الشِّرْكِ وَاحْذَرُوهُ!))
عِبَادَ اللهِ! الْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- كَانُوا يَخَافُونَ مِنَ الشِّرْكِ؛ فَهَذَا خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى بَنِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ أُمَّةً وَحْدَهُ، وكَسَّرَ الْأَصْنَامَ بِيَدِهِ، فَدَعَا رَبَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِبَنِيهِ أَنْ يُجَنِّبَهُمُ اللهُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ؛ لَمَّا رَأَى أَكْثَرَ النَّاسِ قَدِ افْتُتِنَ بِهَا: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36].
فَكَثْرَةُ الْهَالِكِينَ بَاعِثَةٌ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالضَّلَالِ، وَمَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؟!!
فَإِذَا كَانَ الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلاَمُ- خَافَ الشِّرْكَ عَلَى نَفْسِهِ -وَهُوَ مَنْ هُوَ- وَخَافَهُ عَلَى بَنِيهِ؛ فَنَحْنُ أَوْلَى بِالْخَوْفِ مِنْهُ.
فَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنَ الشِّرْكِ كُلِّهِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ بِسُؤَالِهِمْ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجَ الْكُرُبَاتِ، وَبِالنَّذْرِ وَالذَّبْحِ لَهُمْ، وَطَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ؛ وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ أُمَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَا كَفَّارَةَ لِهَذَا الشِّرْكِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ للهِ وَحْدَهُ، وَإِلَّا فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]؛ فَلَابُدَّ مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ وُجُوبًا.
وَالْخَوْفُ: هُوَ تَوَقُّعُ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ ضِدُّ الْأَمْنِ.
وَالشِّرْكُ: هُوَ صَرْفُ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
إِنَّ الْمُشْرِكَ مُوَزَّعُ الْقَلْبِ، مُقَلْقَلُ الْبَالِ، لَا يَهْدَأُ لَهُ ضَمِيرٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ يُحَرِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَيُوجِبُ لَهُ النَّارَ وَالْخُلُودَ فِيهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ فِي الْحَيَاةِ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُوَ أَضَلُّ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
((آيَتَانِ دَالَّاتَانِ عَلَى وُجُوبِ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ))
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}: أَيْ؛ لَا يَعْفُو عَنْ عَبْدٍ لَقِيَهُ وَهُوَ يَعْبُدُ غَيْرَهُ.
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ}: أَيْ؛ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ.
{لِمَنْ يَشَاءُ}: أَيْ؛ لِمَنْ يَشَاءُ الْمَغْفِرَةَ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ، حَسَبَ فَضْلِهِ وَحِكْمَتِهِ.
اللهُ سُبْحَانَهُ يُخْبِرُ خَبَرًا مُؤَكَّدًا، أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِعَبْدٍ لَقِيَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ؛ لِيُحَذِّرَنَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الشِّرْكِ، وَأَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ؛ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا؛ لِئَلَّا نَقْـنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَقَالَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -الْخَلِيلُ: هُوَ الَّذِي بَلَغَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَحَبَّةِ؛ وَالْمُرَادُ: إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: اجْعَلْنِي وَإِيَّاهُمْ فِي جَانِبٍ وَحَيِّزٍ بَعِيدٍ عَنْ ذَلِكَ.
وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَهُوَ: مَا كَانَ مَنْحُوتًا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ، أَوْ عَلَى صُورَةِ أَيِّ حَيَوَانٍ، وَالْوَثَنُ أَعَمُّ؛ فَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى يُسَمَّى: وَثَنًا، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ)) .
دَعَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنْ يَجْعَلَهُ هُوَ وَبَنِيهِ فِي جَانِبٍ بَعِيدٍ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَنْ يُبَاعِدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ بِهَا عَظِيمَةٌ وَلَا يَأْمَنُ الْوُقُوعَ فِيهَا.
الْآيَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ.
فِي الْآيَتَيْنِ: أَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَاَلى أَخْبَرَ: أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَأَنَّ مَا عَدَا الشِّرْكَ مِنَ الذُّنُوبِ إِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ الْعَبْدُ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ غَفَرَهُ بِلَا تَوْبَةٍ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ بِهِ، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى خُطُورَةِ الشِّرْكِ -أَيْضًا-.
وَفِيهِمَا: الْخَوْفُ مِنَ الشِّرْكِ؛ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، وَهُوَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ الَّذِي كَسَّرَ الْأَصْنَامَ بِيَدِهِ خَافَ الشِّرْكَ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟!!
وَفِيهِمَا: الرَّدُّ عَلَى الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَقَعُ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَأَمِنُوا مِنْهُ، فَوَقَعُوا فِيهِ؛ وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!!)). رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَهَذَا يُوجِبُ لِلْقَلْبِ الْحَيِّ أَنْ يَخَافَ مِنَ الشِّرْكِ.
هَذِهِ الْآيَةُ، وَهِيَ قَوْلُ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: قِيلَ: الْمُرَادُ بِبَنِيهِ: بَنُوهُ لِصُلْبِهِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مِنْ صُلْبِهِ سِوَى إِسْمَاعِيلَ، وَإِسْحَاقَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ ذُرِّيَّتُهُ وَمَا تَوَالَدَ مِنْ صُلْبِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ، وَذَلِكَ لِلْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى دَعْوَتِهِ لِلنَّاسِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.
وَلَكِنْ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ أَلَّا تُجَابَ دَعْوَتُهُ فِي بَعْضِهِمْ؛ كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ دَعَا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَ أُمَّتِهِ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يُجِبِ اللهُ دُعَاءَهُ.
وَأَيْضًا، يَمْنَعُ مِنَ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْآيَةَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ لِإِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَبْنَاءِ سِوَى إِسْمَاعِيلَ، وَإِسْحَاقَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ {اجْنُبْنِي}: أَيِ: اجْعَلْنِي فِي جَانِبٍ وَالْأَصْنَامَ فِي جَانِبٍ؛ وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قَالَ: امْنَعْنِي وَبَنِيَّ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي جَانِبٍ عَنْهَا كَانَ أَبْعَدَ.
((خَوْفُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الشِّرْكِ))
إِبْرِاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَخَافُ الشِّرْكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ وَإِمَامُ الْحُنَفَاءِ، فَمَا بَالُكَ بِنَا نَحْنُ إِذَنْ؟!!
فَلَا تَأْمَنِ الشِّرْكَ، وَلَا تَأْمَنِ النِّفَاقَ؛ إِذْ لَا يَأْمَنُ النِّفَاقَ إِلَّا مُنَافِقٌ، وَلَا يَخَافُ النِّفَاقَ إِلَّا مُؤْمِنٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: ((أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ)) .
وَهَا هُوَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَافَ عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ؛ فَقَالَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي أَسَرَّ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ أَسْمَاءَ أُنَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ لَهُ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنْشُدُكَ اللهَ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعَ مَنْ سَمَّى مِنَ الْمُنَافِقِينَ)).
فَقَالَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا)) .
أَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ زِيَادَةَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ شَهِدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ بِالْجَنَّةِ.
((خَوْفُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ))
عَنْ مَحْمُودَ بْنِ لَبِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ: الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ)).
قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((الرِّيَاءُ)) .
يَقُولُ اللهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جَزَى النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ: ((اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا، هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءَ؟)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَراِنُّي، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ»، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
فَأَخْوَفُ مَا خَافَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ: الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ -وَهُوَ الرِّيَاءُ-؛ بَلْ إِنَّهُ يَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الرِّيَاءِ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ.
فَشَفَقَةُ النَّبِيِّ ﷺ علَى أُمَّتِهِ دَعَتْهُ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا إِلَّا دَلَّ عَلَيْهِ، وَلَا شَرًّا إِلَّا حَذَّرَ مِنْهُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الشَّرِّ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ: الرِّيَاءُ، وَهُوَ شِرْكٌ أَصْغَرُ يُبْطِلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَارَنَهُ، وَيَأْثَمُ صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا.
وَقَدْ خَافَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَصْحَابِهِ، مَعَ كمَالِ عِلْمِهِمْ، وَقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مُوَافَقَةً لِلنَّفْسِ، وَأَسْهَلُ لِلنفُّوذِ إِلَيْهَا، فَنَحْنُ مِنْ بَابِ أَوْلَى يَجِبُ أَنْ نَحْذَرَ الرِّيَاءَ، وَنَخَافَ مِنْهُ.
((أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ)): الْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ إِذِ الْمُسْلِمُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ النَّاسِ.
((الرِّيَاءُ)): مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، مَصْدَرُ: رَاءَى يُرَائِي، وَالْمَصْدَرُ رِيَاءً؛ كَقَاتَلَ يُقَاتِلُ قِتَالًا.
وَالرِّيَاءُ: أَنْ يَعْبُدَ اللهَ لِيَرَاهُ النَّاسُ؛ فَيَمْدَحُوهُ عَلَى كَوْنِهِ عَابِدًا، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلنَّاسِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَكَانَ شِرْكًا أَكْبَرَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ رِيَاءً، وَقَدْ يَكُونُ سَمَاعًا -أَيْ: يُقْصَدُ بِعِبَادَتِهِ أَنْ يَسْمَعَهُ النَّاسُ فَيُثْنُوا عَلَيْهِ-؛ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي الرِّيَاءِ، فَالتَّعْبِيرُ بِالرِّيَاءِ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْأَغْلَبِ.
فَالَّذِي يَفْعَلُ الْفِعْلَ الشَّرْعِيَّ؛ لِكَيْ يَسْمَعَ النَّاسُ بِهِ؛ فَهَذَا طَالِبُ سُمْعَةٍ، هَذَا يُرِيدُ التَّسْميِعَ، ((وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ))؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَأَمَّا إِذَا عَمِلَ الْعَمَلَ؛ لِيَرَاهُ النَّاسُ, ثُمَّ لِيَمْدَحُوهُ عَلَيْهِ فَهَذا هُوَ الرِّيَاءُ.
فَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّسْمِيعِ، فَيَقْصِدُ بِعِبَادَتِهِ أَنْ يَسْمَعَهُ النَّاسُ، فَيُثْنُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا دَاخِلٌ فِي الرِّيَاءِ؛ فَالتَّعْبِيرُ بِالرِّيَاءِ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْأَغْلَبِ.
أَمَّا إِنْ أَرَادَ بِعِبَادَتِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ النَّاسُ بِهِ فِيهَا، فَلَيْسَ هَذَا رِيَاءً، بَلْ هَذَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((فَعَلْتُ هَذَا؛ لِتَأْتَمُّوا بِي، وَتَعْلَمُوا صَلَاتِي)) .
((طُرُقُ عِلَاجِ الرِّيَاءِ))
وَأَمَّا طُرُقُ عِلَاجِ الرِّيَاءِ:
- فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُدَافِعَ الرِّيَاءَ إِذَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ، وَأَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ فِي الْخَلَاصِ مِنْهُ فِي صَلَاتهِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ بِإِخْلَاصِهَا للهِ وَحْدَهُ.
- وَأَنْ يَتَذَكَّرَ الْعَبْدُ أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يُصَاحِبهُ الرِّيَاءُ يُحْبَطُ، وَيَأْثَمُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ.
- وَأَنْ يَتَذَكَّرَ عَظَمَةَ اللهِ، وَجَلَالَهُ، وَاسْتِحْقَاقَهُ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ، وَصَاحِبُهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ.
وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ: فَهُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ}.
- وَأَنْ يَدْعُوَ الْعَبْدُ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ)) . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي «الْمُسْنَدِ».
((حُكْمُ الْعِبَادَةِ الَّتِي خَالَطَهَا الرِّيَاءُ))
عِبَادَ اللهِ! ها هُنَا مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِانْـقِسَامِ الْأَعْمَالِ إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا الرِّيَاءُ، مِنْ حَيْثُ إِبْطَالُ الْعِبَادَةِ، وَعَدَمُ إِبْطَالِهَا، وهَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الرِّيَاءُ فِي أَصْلِ الْعِبَادَةِ -أَيْ: مَا قَامَ يَتَعَبَّدُ إِلَّا لِلرِّيَاءِ-؛ فَهَذَا عَمَلُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مَرْفُوعًا: ((قَالَ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِيَ فِيهِ غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)).
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرِّيَاءُ طَارِئًا عَلَى الْعِبَادَةِ؛ أَيْ أَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ للهِ، لَكِنْ طَرَأَ عَلَيْهَا الرِّيَاءُ، فَهَذَا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَطَرَأَ الرِّيَاءُ عَلَى عِبَادَتِهِ، فَيُدَافِعَهُ؛ فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ.
وَهَذَا -عِبَادَ اللهِ- كَرَجُلٍ صَلَّى رَكْعَةً، ثُمَّ جَاءَهُ أُنَاسٌ وَهُوَ يُصَلِّي فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَحَصَلَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ، بِأَنْ أَطَالَ الرُّكُوعَ أَوِ السُّجُودَ أَوْ تَبَاكَى، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا.
فَإِنْ دَافَعَ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ بِاْلجِهَادِ، فَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي هَذَا الرِّيَاءِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَرْسِلَ مَعَ الرِّيَاءِ، فَكُلُّ عَمَلٍ يَنْشَأُ عَنِ الرِّيَاءِ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ.. كَمَا لَوْ أَطَالَ الْقِيَامَ، أَوِ الرُّكُوعَ، أَوِ السُّجُودَ، أَوْ تَبَاكَى؛ فَهَذَا كُلُّهُ عَمَلٌ حَابِطٌ.
وَلَكِنْ -عِبَادَ اللهِ- هَلْ هَذَا الْبُطْلَانُ يَمْتَدُّ إِلَى جَمِيعِ الْعِبَادَةِ أَوْ لَا؟
هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
الْحَالُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعِبَادَةِ مَبْنِيًّا عَلَى أَوَّلِهَا، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ أَوَّلُهَا مَعَ فَسَادِ آخِرِهَا، فَهَذِهِ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا فَاسِدَةٌ.
وَذَلِكَ كَالصَّلَاةِ, فَالصَّلَاةُ -مَثَلًا- لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْسَدَ آخِرُهَا وَلَا يَفْسَدَ أَوَّلُهَا؛ وَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ كُلُّهَا إِذَا طَرَأَ الرِّيَاءُ فِي أَثْنَائِهَا وَلَمْ يُدَافِعْهُ وَاسْتَرْسَلَ مَعَهُ؛ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ كُلُّهَا.
الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْعِبَادَةِ مُنْفَصِلًا عَنْ آخِرِهَا، بِحَيْثُ يَصِحُّ أَوَّلُهَا دُونَ آخِرِهَا، فَمَا سَبَقَ الرِّيَاءَ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الرِّيَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ.
كَرَجُلٍّ عِنْدَهُ مِئَةُ جُنَيْهٍ، فَتَصَدَّقَ بِخَمْسِينَ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِخَمْسِينَ بِقَصْدِ الرِّيَاءِ؛ فاَلْأُولَى مَقْبُولَةٌ، وَالثَّانِيَةُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ؛ لِأَنَّ آخِرَهَا مُنْفَكٌّ عَنْ أَوَّلِهَا.
((خَفَاءُ الرِّيَاءِ وَخُطُورَتُهُ))
إِنَّ النَّفْسَ تَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَمَسَالِكُهَا خَفِيَّةٌ، وَدُرُوبُهَا مُتَشَعِّبَةٌ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ حَذِرًا مِنْهَا حَذَرًا تَامًّا، وَإِلَّا أَهْلَكَتْهُ!!
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاقِبَ ضَمِيرَهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْبُعْدِ عَنْ مَظِنَّةِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا لِغَيْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ هَذَا الرِّيَاءَ مِنَ الشِّرْكِ.. وَمِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ؛ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: هُوَ أَخْوَفُ مَا يَخَافُهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ بِأَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ مَا تَعَوَّدَ، فَإِذَا سَمِعَ حِسًّا حَوْلَهُ -دَخَلَ النَّاسُ- فَإِنَّهُ يَبْدَأُ فِي التَّجْوِيدِ فِي الصَّلَاةِ.
وَرُبَّمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ مِنْ بَابٍ آخَرَ: هُوَ طَالِبُ عِلْمٍ تَمَسَّكَ بِالسُّنَّةِ ظَاهِرًا، وَيْجَتَهِدُ فِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا بَاطِنًا، وَهُوَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَإِذَا دَخَلَ النَّاسُ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ، أَنْتَ رَجُلٌ مَتْبُوعٌ، وَهَؤُلَاءِ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِكَ، فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُجَوِّدَ صَلَاتَكَ وَأَنْ تَتَأَنَّي، هُوَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عِنْدَمَا كَانَ وَحْدَهُ.. هَذَا مُرَاءٍ!!
وَإِذَا اسْتَرْسَلَ مَعَ هذَا الرِّيَاءِ فَهَذِهِ الصَّلَاةُ بَاطِلَةٌ -كَمَا مَرَّ-؛ لِأَنَّ أَوَّلَهَا مَبْنِيٌّ عَلَي آخِرِهَا، فَالصَّلَاةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنَ الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ، وَلَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ عَظِيمَةٌ.
وَحَاوِلْ أَنْ تُجَرِّبَ مَعَ نَفْسِكَ: هَلْ صَلَاتُكَ وَحْدَكَ حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، كَصَلَاتِكَ بَيْنَ النَّاسِ؟!!
جَرِّبْ!
فَإِذَا اسْتَوَتْ خَلْوَتُكَ وَجَلْوَتُكَ؛ فَأَنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَإِنْ كَانَتْ جَلْوَتُكَ أَفْضَلَ مِنْ خَلْوَتِكَ؛ فَضَعْ نَفْسَك حَيْثُ تَكُونُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ خَلْوَتُكَ أَفْضَلَ مِنْ جَلْوَتِكَ فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّكَ تَخَافُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُلَاحِظُوهُ، وَمَعْلُومٌ: ((أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ هُوَ الرِّيَاءُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ فَهُوَ شِرْكٌ)).
((الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ)): يَعْنِي أَنْ يَقْصِدَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ، هَذَا شِرْكٌ لَا يُقَالُ لَهُ رِيَاءٌ.
((وَأَمَّا تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ)): يَعْنِي كَأَنْ يَقُولُ: سَأَتْرُكُ هَذَا الْعَمَلَ؛ حَتَّى لَا يَقُولَ النَّاسُ إِنَّنِي أَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ، فَيَدْخُلُ عَلَيَّ شَيْءٌ يُفْسِدُ عَلَيَّ قَلْبِي أَوْ نِيَّتِي أَوْ مَا أَشْبَهَ، هَذَا هُوَ الرِّيَاءُ!!
فَتَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَأَمَّا الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ فَهُوَ الشِّرْكُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! الْخَوْفُ مِنَ الشِّرْكِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِذَا كَانَ الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ يَخَافُ هَذَا الشِّرْكَ، وَيَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُنَجِّيَهُ مِنْهُ، فَكَيْفَ بِنَا نَحْنُ؟!!
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الشِّرْكَ مَهَانَةٌ لِلْإِنْسَانِيَّةِ، وَقَضَاءٌ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ، وَسَبَبٌ لِلذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ دُنْيَا وَآخِرَةً، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلَا عِزَّةَ لَهُ.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْحَقَّةُ إِلَّا إِذَا حَقَّقُوا الْغَرَضَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِذَا لَمْ يُحَقِّقُوهُ تَمَزَّقَتْ نُفُوسُهُمْ.
فَالشِّرْكُ يُمَزِّقُ وَحْدَةَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُحَقِّقَنَا بِالتَّوْحِيدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَوْلاً وَعَمَلًا، وَأَنْ يُنْقِذَنَا مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٌ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مَعْرِفَةُ عُقُوبَاتِ الشِّرْكِ مُوجِبٌ لِشِدَّةِ الْخَوْفِ مِنْهُ))
فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَالنِّدُّ: الشَّبِيهُ، وَالْمَثِيلُ.
((مَنْ مَاتَ)): ((مَنْ)) هَذِهِ شَرْطِيَّةٌ تُفِيدُ الْعُمُومَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
((وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ ندًّا)): أَيْ: يَتَّخِذُهُ نِدًّا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، سَوَاءٌ دَعَاهُ دُعَاءَ عِبَادَةٍ، أَمْ دَعَاهُ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَنْقَسِمُ إِلَي قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: دُعَاءُ الْعِبَادَةِ: كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ أَوْ صَامَ فَقَدْ دَعَا رَبَّهُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَأَنْ يُجِيرَهُ مِنْ عَذَابِهِ، وَأَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ نَوَالِهِ، وَهَذَا فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ.
كَمَا أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ بِلِسَانِ الْمَقَالِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقِسْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}.
فَجَعَلَ الدُّعَاءَ عِبَادَةً، وَهَذَا الْقِسْمُ كُلُّهُ شِرْكٌ؛ فَمَنْ صَرَفَ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ كُفرًا مُخْرِجًا لَهُ عَنِ الْمِلَّةِ.
فَلَوْ رَكَعَ لإِنْسَانٍ، أَوْ سَجَدَ لِشَيْءٍ يُعَظِّمُهُ كَتَعْظِيمِ اللهِ فِي هَذَا الرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ لَكَانَ مُشْرِكًا؛ وَلِهَذَا مَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الِانْحِنَاءِ ِعِنْدَ الْمُلَاقَاةِ، لَمَّا سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟
قَالَ: ((لَا)).
قَالَ: أَيَلْتَزِمُهُ؟
قَالَ: ((لَا)).
قَالَ: أَيُصَافِحُهُ؟
قَالَ: ((نَعَمْ)) .
وَهَذَا عَلَى خِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ، إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكَ انْحَنَى لَكَ؛ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِاللهِ أَنْ يُنْكِرَهُ؛ لِأَنَّهُ عَظَّمَكَ عَلَى حِسَابِ دِينِهِ؛ فَهَذَا هُوَ دُعَاءُ الْعِبَادَةِ.
الثَّانِي هُوَ: دُعَاءُ الْمَسْأَلَةِ: فَهَذَا لَيْسَ كُلُّهُ شِرْكًا، بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَخْلُوقُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ بِشِرْكٍ؛ كَقَوْلِكَ: اسْقِنِي مَاءً، لِمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؛ قَالَ ﷺ: ((مَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ)) .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8].
فَإِذَا مَدَّ الْفَقِيرُ يَدَهُ وَقَالَ: ارْزُقْنِي -أَيْ: أَعْطِنِي- ؛ فَلَيْسَ بِشِرْكٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}.
وَأَمَّا إِنْ دَعَا اْلمَخْلُوقُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُ شِرْكٌ مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ تَدْعُوَ إِنْسَانًا أَنْ يُنَزِّلَ الْغَيْثَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا)): هُوَ النِّدُّ فِي الْعِبَادَةِ.
دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شِرْكٌ أَكْبَرُ، ((مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ)).
فَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ مِنْ أَجِلِّ الْعِبَادَاتِ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
قَالَ الْعُلَمَاءُ: عَنْ دُعَائِي.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) .
فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الدُّعَاءِ لِغَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
فَمَنْ جَعَلَ للهِ نِدًّا يَدْعُوهُ -سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا مُقَرَّبًا، أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا، أَوْ عَبْدًا صَالِحًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ-؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ مَعَهُ عمَلٌ صَالِحٌ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ شِدَّةَ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ، حَيْثُ إِنَّهُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَيُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ-.
فَمَنْ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ -أَيْ: تَارِكًا لِلشِّرْكِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ؛ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ-؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَمَنْ مَاتَ عَلَى مَعْصِيَةٍ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةٍ مُصِرًّا عَلَيْهَا -لِأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَبِيرَةٌ-؛ فَهُوَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، إِنْ شَاءَ اللهُ عَفَا عَنْهُ بِفَضْلِهِ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنَ النَّارِ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ.
مَعَ الْأَسَفِ! فَفِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ فُلَانًا الْمَقْبُورَ، الَّذِي صَارَ جُثَّةً وَأَكَلَتْهُ الْأَرْضُ -يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ، أَوْ يَأْتِي بِالنَّسْلِ لِمَنْ لَا يُولَدُ لَهُ!!
وهَذَا -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- شِرْكٌ أَكْبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ، وَإِقْرَارُ هَذَا أَشَدُّ مِنْ إِقْرَارِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَالزِّنَا، وَقَتْلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى كُفْرٍ، وَلَيْسَ إِقْرَارًا عَلَى فُسُوقٍ فَقَطْ.
((مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ))؛ أَيْ: خَالِدًا.
وَأَيْضًا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
وَإِذَا حُرِّمَتِ الْجَنَّةُ؛ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ خَالِدًا فِي النَّارِ أَبَدًا.
وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ)).
((مَنْ لَقِيَ اللهَ)): أَيْ: مَنْ مَاتَ.
((لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)): شِرْكًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، لَا يَتَّخِذُ مَعَهُ شَرِيكًا فِي الْعِبَادَةِ، أَيْ: لَمْ يَتَّخِذْ مَعَهُ شَرِيكًا فِي الْإِلَهِيَّةِ وَلَا فِي الرُّبُوبِيَّةِ.
((دَخَلَ الْجَنَّةَ)): هَذَا الدُّخُولُ لَا يُنَافِي أَنْ يُعَذَّبَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ؛ إِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ ذُنُوبٌ؛ لِدَلَالَةِ نُصُوصِ الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَغْفِرِ اللهُ لَهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.
((لَا يُشْرِكُ)): فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ لَقِيَ.
((لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)): شَيْئًا: نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ؛ فَيَعُمُّ أَيَّ شِرْكٍ، حَتَّى وَلَوْ أَشْرَكَ مَعَ اللهِ أَشْرَفَ الْخَلْقِ وَهُوَ الرَّسُولُ ﷺ!!
فَإِنَّهُ لَوْ أَشْرَكَ مَعَ اللهِ تَعَالَى أَشْرَفَ الْخَلْقِ ﷺ دَخَلَ النَّارَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَجْعَلُ الرَّسُولَ ﷺ أَعْظَمَ مِنَ اللهِ، وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَلَا يَلْجَأُ إِلَي اللهِ، بَلْ رُبَّمَا يَلْجَأُ إِلَي مَا وَمَنْ دُونَ الرَّسُولِ ﷺ؟!!
وَهُنَاكَ مَنْ لَا يُبَالِي بِالْحَلِفِ بِاللهِ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، وَلَكِنْ لَا يَحْلِفُ بِقَوْمِيَّتِهِ إِلَّا صَادِقًا؛ وَلِهَذَا اخْتُلِفَ فِيمَنْ لَا يُبَالِي بِالْحَلِفِ بِاللهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَحْلِفُ بِمِلَّتِهِ، أَوْ بِمَنْ يُعَظِّمُهُ إِلَّا صَادِقًا، فَلَزِمَتْهُ يَمِينٌ؛ هَلْ يُحَلَّفُ بِاللهِ، أَوْ يُحَلَّفُ بِهَذَا الَّذِي يُعَظِّمُهُ؟
قِيلَ: يُحْلَفُ بِاللهِ وَلَوْ كَذَبَ، وَلَا يُعَانُ عَلَى الشِّرْكِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقِيلَ: يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُصُولُ إِلَي بَيَانِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ إِذَا كَانَ كَاذِبًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَ، وَلَكِنْ نَقُولُ: إِذَا كَانَ صَادِقًا، حَلَفَ وَوَقَعَ فِي الشِّرْكِ.
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا قُلْتَ لَهُ: تَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّ هَذَا مَا كَانَ؟!!
يَمْضِي فِي ذَلِكَ -أَيْ: فِي الْحَلِفِ- كَالسِّكِّينِ فِي قِطْعَةِ الزُّبْدِ، وَإِذَا قُلْتَ لَهُ تَحْلِفُ بِفُلَانٍ مِنَ الْمَقْبُورِينَ، أَوْ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ فِيهِمُ الْوَلَايَةَ؛ تَلَجْلَجَ وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ، وَاصْطَكَّتْ أَسْنَانُهُ، وَلَمْ يَحْلِفْ بِوَلِيِّهِ وَلَا بِمُعَظَّمِهِ، وَقَدْ مَضَى فِي الْحَلِفِ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَاذِبًا لَا يُبَالِي.
هَذِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ تُؤَدِّي إِلَى خَطَرٍ كَبِيرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَغْفِرُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
هَلْ يَلْزَمُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ الْخُلُودُ لِمَنْ أَشْرَكَ؟
هَذَا بِحَسَبِ الشِّرْكِ؛ إِنْ كَانَ الشِّرْكُ أَصْغَرَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ.
لَوْ حَمَلْنَا الْحَدِيثَ عَلَى الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ((مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
وَفِي قَوْلِهِ: ((مَنْ لَقِيَ اللهَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ))، وَقُلْنَا: مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شِرْكًا أَكْبَرَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنْ عُذِّبَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي النَّارِ بِمَا يَسْتَحِقُّ؛ فَيَكُونُ مَآلُهُ إِلَي الْجَنَّةِ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ شِرْكًا أَكْبَرَ دَخَلَ النَّارَ مُخَلَّدًا فِيهَا.
((اتَّقُوا اللهَ! وَخَافُوا الشِّرْكَ، وَاحْذَرُوهُ!))
يَجِبُ أَنْ نَخَافَ مِنَ الشِّرْكِ مَا دَامَتْ هَذِهِ عُقُوبَتَهُ، فَالْمُشْرِكُ خَسِرَ الْآخِرَةَ؛ لِأَنَّهُ فِي النَّارِ خَالِدٌ، وَخَسِرَ الدُّنْيَا -أَيْضًا-؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْهَا شَيْئًا، قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَجَاءَهُ النَّذِيرُ وَلَكِنَّهُ خَسِرَ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، مَا اسْتَفَادَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا.
قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 11-13].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].
فَخَسِرَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْهَا شَيْئًا، وَخَسِرَ أَهْلَهُ؛ لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَلَا يَتَمَتَّعُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانُوا فِي النَّارِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا.
وَالشِّرْكُ خَفِيٌّ جِدًّا، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْإِنْسَانِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ إِلَّا بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ الدَّقِيقَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((مَا جَاهَدْتُ نَفْسِي عَلَى شَيْءٍ مَا جَاهَدْتُهَا عَلَى الْإِخْلَاصِ)).
الشِّرْكُ أَمْرُهُ صَعْبٌ جِدًّا لَيْسَ هُوَ بِالْهَيِّنِ، وَلَكِنْ يُيَسِّرُ اللهُ الْإِخْلَاصَ عَلَى الْعَبْدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَهُ اللهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، فَيَقْصِدَ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللهِ، لَا يَقْصِدُ مَدْحَ النَّاسَ أَوْ ذَمَّهَمُ أَوْ ثَنَاءَهُمْ عَلَيْهِ، فَالنَّاسُ لَا يَنْفَعُونَهُ أَبَدًا، حَتَّى لَوْ خَرَجُوا مَعَهُ لَتَشْيِيعِ جَنَازَتِهِ، لَمْ يَنْفَعْهُ إِلَّا عَمَلُهُ.
قَالَ ﷺ: ((يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَي عَمَلُهُ)) . وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
وَكَذَلِكَ -أَيْضًا- مِنَ الْمُهِمِّ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُفْرِحُهُ أَنْ يَقْبَلَ النَّاسُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ قَوْلُهُ، وَلَكِنْ يُفْرِحُهُ أَنْ يَقْبَلَ النَّاسُ قَوْلَهُ إِذَا رَأَى أَنَّهُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ الْحَقُّ لَا لِأَنَّهُ قَوْلُهُ، وَكَذَا لَا يُحْزِنُهُ أَنْ يَرْفُضَ النَّاسُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَدْ دَعَا لِنَفْسِهِ.
لَكِنْ يُحْزِنُهُ أَنْ يَرْفُضُوهُ لِأَنَّهُ الْحَقُّ، وَبِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْإِخْلَاصُ، فَالْإِخْلَاصُ صَعْبٌ جِدًّا، إِلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُتَّجِهًا إِلَى اللهِ اتِّجَاهًا صَادِقًا سَلِيمًا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ اللهَ يُعِينُهُ وَيُيَسِّرُهُ لَهُ.
وَمِمَّا يُعَسِّرُ الْإِخْلَاصَ، وَيُسَهِّلُ الْوُقُوعَ فِي الرِّيَاءِ وَالشِّرْكِ: أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَتَوَفَّرُ عَلَى بَيَانِ هَذِهِ الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، بَلْ يُكَلِّمُونَهُمْ فِيمَا يَضُرُّهُمْ فِي الْغَالِبِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَيُهَوِّمُونَ بِهِمْ فِي أَوْدِيَةِ الظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ.
وَالْأَصْلُ أَنْ يَحَذِّرُوهُمْ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَهَالِكِ، وَأَنْ يُبَيِّنُوا لَهُمْ الطَّرِيقَةَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَسْلُكُوهَا، مِنْ أَجْلِ أَلَّا يَتَوَرَّطَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَغْفِرُهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! كُلُّ مَا فِي الْحَيَاةِ مِنْ نَشَاطٍ وَحَرَكَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ للهِ؛ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَتَتَحَقَّقُ -حِينَئِذٍ- وَحْدَةُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَتَهْدَأُ وَتَسْتَقِرُّ الرُّوحُ، وَيَطْمَئِنُّ الضَّمِيرُ، وَيَهْدَأُ الْجَنَانُ، وَتَسْتَقِيمُ عَلَى الصِّرَاطِ الْأَقْدَامُ.
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
عَبْدٌ وَاحِدٌ، لِرَبٍ وَاحِدٍ، لِإِلَهٍ وَاحِدٍ، يُحَقِّقُ أَمْرَهُ، وَيَجْتَنِبُ نَهْيَهُ، وَيَعْبُدُهُ مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ وَالدِّينَ، أَهَذَا فِي اسْتِقْرَارِ قَلْبِهِ، وَقَرَارِ ضَمِيرِهِ، وَرَاحَةِ فُؤَادِهِ وَرُوحِهِ، كَمَنْ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ، هَذَا يَأْمُرُهُ وَهَذَا يَنْهَاهُ، وَهَذَا يُقِيمُهُ وَهَذَا يُقْعِدُهُ، وَهَذَا يُوقِظُهُ وَهَذَا يُنِيمُهُ، فَأَنَّى يَسْتَقِرُّ لِهَذَا قَلْبٌ عَلَى قَرَارٍ؟!!
{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}؟!!
سَيُجِيبُ كُلُّ مَنْ آتَاهُ اللهُ عَقَلًا: لَا يَسْتَوِيَانِ.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ}.. لَقَدْ نَطَقْتُمْ أَنْتُمْ، وَأَجَبْتُمْ عَنِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبْتُ لَكُمْ لِلْمُوَحِّدِ وَالْمُشْرِكِ.
{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}؟!!
وَالْجَوَابُ هَا هُنَا مَحْذُوفٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، وَالتَّعْقِيبُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
هَذَا حَالُ الْمُشْرِكِ!!
{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأنعام: 71].
تَأَمَّلْ فِي مَثَلِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].
إِنَّ الشِّرْكَ يَقْضِي عَلَى مَنَازِعِ النَّفْسِ السَّامِيَةِ، وَيُحَطِّمُ مُثُلَهَا الْعُلْيَا.
إِنَّ الشِّرْكَ مُسَوِّغٌ لِلْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ.
إِنَّ الشِّرْكَ مَبْعَثٌ لِلْمَخَاوِفِ.
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} مِنَ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا}، مَا أَعْجَبَ الْمُفَارَقَةَ {لَوْ كُنتُم تَعلَمُونَ} [الأنعام: 80-81].
كَيْفَ أَخَافُ آلِهَتَكُمُ الْبَاطِلَةَ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ ((اللهَ)) الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟!!
كَيْفَ أَخَافُ آلِهَتَكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْإِلَهَ الْحَقَّ الَّذِي أَعْبُدُ؟!!
{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82].
عِبَادَ اللهِ! الشِّرْكُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ دُنْيَا وَآخِرَةً.
فَيَجِبُ -إِذَنْ- أَنْ تَعْرِفَ هَذَا الْخَطَرَ الْعَظِيمَ؛ لِتَجْتَنِبَهُ، وَأَنْ تَعْرِفَ هَذَا الشِّرْكَ وَتِلْكَ الشَّبَكَةَ؛ لِتَتَوَقَّى كُلَّ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَيْهَا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوَرِّطَكَ فِيهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْرِفَ التَّوْحِيدَ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ: أَنْ تَعْرِفَ الشِّرْكَ أَيْضًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَجْتَنِبَهُ؛ حَتَّى لَا تَقَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٌ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.