قوا أنفسكم وأهليكم نارا
خطبة الجمعة 14 من رمضان 1430هـ الموافق
4/9/2009م
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا،
مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:
70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ
مُحَمَّدٍ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا،
وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي
النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فقد سألَ الفُضيل –رحمهُ الله- رجُلًا، فقال: كم أتتْ عليك؟
قال: ستونَ سنة.
قال: أنت منذُ ستين سنةً تسيرُ إلى اللهِ،
يُوشِكُ أنْ تَبْلُغَ.
فقال الرَّجُلُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه رَاجِعُون.
فقال: تعرفُ تفسيرَهَا -إنَّا للهِ وإنَّا إليه
رَاجِعُون-؟
مَن عَلِمَ أنه للهِ عَبْد وأنه إليه رَاجِع؛ عَلِمَ أنه موقوفٌ، ومَن
عَلِمَ أنه موقوفٌ؛ عَلِمَ أنه مَسْئولٌ، ومَن عَلِمَ أنهُ مَسئولٌ؛ أَعَدَّ
للسؤالِ جوابًا.
قال: فما الحيلةُ؟
قال: يسيرةٌ، أنْ تُحسِنَ فيما بَقيَ حَتى
يُغْفرَ لَكَ مَا مَضَى، فإنكَ إنْ أَسَأْتَ فِيمَا بقيَ؛ أُخِذْتَ بِمَا مَضَى
وما بَقِيَ.
فإذا أَحْسَنَ العَبْدُ فيما بَقِيَ؛ تَجَاوَزَ اللهُ عمَّا سَلَفَ.
وهذا كما يشملُ العُمرَ كلَّهُ؛ يشملُ مَواسِمَهُ التي جَعَلَهَا اللهُ –تباركَ وتَعَالَى-
للعطاءِ موصولًا وللنِّعْمَةِ مَذْكُورًا.
أنت تسيرُ إلىِ اللهِ –تبارك وتعالى- منذ كذا وكذا مِنَ السنين، يُوشكُ
أن تبلُغَ –يوشكُ أنْ تبلغَ المنزل ويوشكُ أنْ تُلقيَ عصا التَّسيارِ، ويوشكُ أنْ
تنزلَ الدار التي ما بعدها مِن دار.
لا حول ولا قوة إلا بالله، مَن علِمَ أنه للهِ عَبْد، وعَلِمَ أنه إلى
اللهِ راجع؛ عَلِمَ أنه مسئولٌ بعد أنْ يوقفَ على ربِّهِ –جَلَّ وعلا-، ومَن
عَلِمَ أنه مسئولٌ بين يدي ربِّهِ –جلَّ وعلا-؛ فعليه
أنْ يُعِدَّ للسؤالِ جوابًا.
فإنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- سائلُنا عمَّا قدَّمنا وما أخَّرْنا
وما أسررنا وما أعلنَّا، واللهُ –تبارك وتعالى- سائلُنا عن نيَّاتِنا وبواعثِنا
وسائلُنا عمَّا ائتمنَنَا عليه،فإنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- قد
ائتمنَنَا على شَرعِهِ، ائتمنَنَا على فرائضِهِ، كما ائتمنَنا النبيُّ –صلى الله عليه وعلى
آلِهِ وسلم- على سُنَنِهِ، وكلُّ ذلك لا بدَّ مِن أنْ يُسألَ المرءُ عنه، فما الحيلة؟!
أنْ تُحْسِنَ فيما بَقِيَ، فإنْ كان ما مَضَى قد مضَى على غيرِ الجَادَّة،
وإنْ كان المرءُ قد أساءَ فيه أو خلَّط؛ فإنَّ الفرصةَ سانحة، أَحسِنْ فيما بَقيَ
حتى يُغفرَ لك ما قد مَضَ؛ لأنكَ إنْ لم ترعوي وإن لم تنتبه وإن لم تُحسِنْ فيما
بقيَ؛ أُخِذتَ بما مضى وما بقيَ، ومَن أُخِذَ بذلك؛ هَلَكَ لا محالة، واللهُ –تبارك وتعالى- هو
أرحمُ الراحمين.
إنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- قد أمرنا بالتقوى، وهي وصيةُ
اللهِ للأولينَ والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
فوصيةُ اللهِ –تبارك وتعالى- لمَن سَبَقَ هي هي وصيتُهُ
تعالى لنا، أنْ نتقيَ اللهَ –تبارك وتعالى-،
وأمرَنَا ربُّنا –جلَّ وعلا- أنْ نتقيَهُ
حقَّ تُقاتِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102].
وحقُّ تُقاتِهِ: أنْ يُذكرَ فلا يُنْسَى، وأنْ يُطاعَ
فلا يُعصى، وأنْ يُشكرَ –سبحانه وتعالى- ولا يُكْفر،
فمَن أتى بذلك؛ فقد اتقى اللهَ –تبارك وتعالى- حقَّ تُقاتِهِ،
وأمَّا تقواهُ –جلَّ وعلا-: فهو أنْ تأخذَ
عاملًا بطاعةِ اللهِ على نورٍ من اللهِ ترجو رِضوانَ اللهِ، وأن تجتنبَ معصيةَ
اللهِ على نورٍ مِن اللهِ تخافُ عذابَ اللهِ، فإنَّ مَن أَخَذَ بالأوامرِ واجتنبَ
بالنواهي؛ فهو المُتقي للهِ –تبارك وتعالى- حقًّا وصِدْقًا.
وقد أمرَنَا ربُّنا –تبارك وتعالى- أنْ نقيَ أنفُسَنا النار،
ووصَفَها اللهُ –تبارك وتعالى- ببعضِ صفاتِها
كما وصفَ القائمين عليها ببعضِ صفاتِهم، وحذَّرَنَا اللهُ –تبارك وتعالى- من ذلك، وأَمَرَنَا أن نقيَ
أنفسَنا وأهلينا ذلك الأمرَ الكبير وهو ورودُ النار: ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:6].
إنَّ اللهَ –تباركَ وتعالى-
نادانا بوصفِ الإيمان؛ لكي يكونَ ذلك حافزًا لنا على إلقاءِ سمعِ القلبِ لِمَا يأمرُنا
به وما ينهانا عنه.
﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا}: يا مَن أعلنتم إيمانَكُم بربِّكِم –جلَّ وعلا-، فآمنتم
به وبما أنزلَ من كتاب وبالرسولِ الذي أرسلَهُ إليكم، إنْ كنتم مؤمنين حقًّا؛ فاسمعوا
وَعُوا، وامتثلوا أَمْرَ اللهِ –تبارك وتعالى- واجتنبوا مساخطَهُ.
{قُوا أَنفُسَكُمْ}: اجعلوا بين
أنفُسِكِم وبين نارِ اللهِ –تبارك وتعالى- وقايةً وجُنَّةً، {وَأَهْلِيكُمْ}: فإنكم
رُعاةٌ فيهم، وكلُّ راعٍ في رعيَّةٍ هو مسئولٌ عنها، والرجلُ في أهلِهِ راعٍ وهو
مسئولٌ عن رعيَّتِهِ، وما أحسنَ إليهم مَن مَكَّنَهُم من وسائلِ الفِسقِ واللهوِ
والفجورِ وإضاعةِ الأوقاتِ في معصيةِ ربِّ الأرضِ والسماوات، وما سَعَى بذلك في
وقايتِهِم النَّار التي وصَفَهَا العزيزُ الجبار بقولِهِ: {نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}: لا تُبقي ولا تَذَر، يُعذِّبُ اللهُ –تبارك وتعالى- بها
أهلَ الفجورِ والفسقِ والكُفرِ، واللهُ ربُّ العالمين على كلِّ شيءٍ قدير.
{عَلَيْهَا
مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}: فهُم في
غِلظتِهِم وشِدَّتِهِم مُطيعونَ للهِ –تبارك وتعالى- يتقربونَ
إليه بإنزالِ النَّكالِ والهوانِ والعذاب على مَن استحقَّ ذلك في النارِ التي أعدَّهاَ
اللهُ –تبارك وتعالى- للمجرمين.
فأمرنا اللهُ –تبارك وتعالى- بالتقوى-،
وأمرنا اللهُ ربُّ العالمين أنْ نقيَ أنفُسنا النار، ولن نقيَ أنفُسَنا النار حتى نجعلَ
بينا وبينها وقايةً من تقوى اللهِ –تبارك وتعالى-،
أنْ نعملَ بطاعتِهِ على نورٍ منه ابتغاءَ رضوانِهِ، ولن نتقيَ اللهَ –تبارك وتعالى- حتى
نجتنبَ نواهيه وحتى نبتعدَ عن معاصيه، وحتى يكونَ ذلك على نورٍ منَ الله نخشى بذلك
ونخافُ عذابَ اللهِ ربِّ العالمين، فوصَّانا اللهُ كما وصَّى الأولين، وأمرَنَا
اللهُ ربُّ العالمين بهذا الأمرِ العظيم، فأمرَنا اللهُ –تبارك وتعالى- بأنْ
نقيَ أنفُسَنا النارَ وأنْ نقيَ أهلينا النار، ووصَفَها ببعضِ ما جعلَها عليه من
صفات، ووصَفَ بعضَ القائمينَ عليها بما جَعَلَ اللهُ –تبارك وتعالى- مَسوقًا
في الآيةِ مِن بعضِ تلك الصفات، واللهُ –جلَّ وعلا- هو أرحمُ
الراحمين.
ومعلومٌ أنه في
الأزمانِ الفاضلةِ يكونُ آخرُ ما فيه أفضلَهُ، فجعلَ اللهُ –تبارك وتعالى- ذلك
في يومِ الجمعة، فإنَّ في آخرِها تُستجابُ فيها الدعوة، ولو أنَّ مسلمًا قَصَدَ ربَّهُ
في تلك الساعةِ داعيًا وسائلًا؛ يسألُ اللهَ –تبارك وتعالى- شيئًا
من أمرِ الدنيا أو الآخرة إلَّا أعطاهُ اللهُ –تبارك وتعالى- إيَّاهُ،
وجعلَ اللهُ –تبارك وتعالى- خيرَ الليلِ آخرَهُ، فذلك عند السَّحَرِ الأعلى إذا نزلَ ربُّنا
–تبارك وتعالى- إلى
السماءِ الدنيا: ((ينادي ألا هل من تائبٍ فأتوبَ عليه، ألَا هل من مُستغفرٍ فأغفرَ له، ألَا
هل من طالبِ حاجةٍ فأقضيَهَا له))، بل جعلَ اللهُ –تبارك وتعالى- ذلك
كما في عشرِ ذي الحَجَّة، فإنَّ آخرَ ذلك أفضلُه، وكذلك في عشرِ المُحَرَّمِ،
فإنَّ آخرَهم أفضلُهُ، وكذلك جعلَ اللهُ –تبارك وتعالى- في
شهرِ رمضان، فإنَّ العشرَ الأخيرَ منه هو أفضلُهُ، وخَصَّهُ اللهُ –تباركَ وتعالى-
بليلةِ القَدْرِ، هي خيرٌ من ألفِ شهر، جعلَ اللهُ –تبارك وتعالى- فضلًا
عظيمًا وخيرًا كبيرًا، يغفرُ اللهُ ربُّ العالمين فيها للمُستغفرين ويتوبُ اللهُ –تبارك وتعالى- على
التائبين.
وأوامرُ اللهِ –تبارك وتعالى- لا
بُدَّ أنْ تؤخذَ بعينِ الرِّعايةِ؛ لأنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- على
كلِّ شيءٍ قدير، نواصينا بيدِهِ وهو سبحانه إذا لم يُعَجِّل لنا العقوبةَ؛ فإنَّ
ذلك من فضلِهِ ومِن رحمتِهِ لكي يتوبَ التائبون ويُخبتَ المُخبِتون ويُنيبَ إليه
المُنيبون وحتى يعودَ إليه الشاردون، واللهُ –تبارك وتعالى- قد
فتح بابَ التوبةِ على مِصراعيْه، ولن يُغلِقَ اللهُ –تبارك وتعالى-
ذلك الباب حتى تطلُعَ منه الشمسُ وهو إلى المغربِ، وطلوعُ الشمسِ من مغربِها من
علاماتِ الساعةِ الكبرى، فمادام ذلك كذلك؛ فبابُ التوبةِ مفتوح والفرصةُ سانحةٌ.
واللهُ –جلَّ وعلا- قد أمرَنا
أنْ نقيَ أنفُسَنا وأهلينا النار، وذلك دلالةٌ لنا وبرهانٌ وعلامةٌ على أنَّ البيوتَ
ينبغي أنْ تكونَ طاهرةً وأنْ تكونَ من المعاصي نظيفة، وأن يجتهدَ الإنسانُ في رعايةِ
أهلِهِ وأولادِهِ، لا بما يُقدِّم إليهم من طعامٍ وشرابٍ وما يتنقلونَ به
ويتفكَّهونَ، فذلك أمْرٌ يسير، وهو قريبٌ مِن قريب، فطعامٌ دونَ طعام، ولباسٌ دون
لباس، وإذا ذُكِرَ الموتُ هانَ كلُّ شيء، ولكنْ بتنظيفِ البيوتِ من المعاصي
وإقامةِ مَن فيها على أمْرِ اللهِ بإقامةِ الصلاة؛ لأنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- جعلَهَا
فُرقانًا بين الإسلامِ والكُفرِ، فقال النبي –صلى الله عليه وعلى
آله وسلم-: ((العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَن تَرَكَهَا فقد كَفَرَ))، والعلماءُ
مختلفون هل يكفُرُ كُفرًا أكبرَ يُخرِجُ مِن المِلَّةِ أو هو كُفرٌ أصغرُ لا
يُخرِجُ منها وإنْ ناقضَ كمالَ التوحيد؟
على كل حال، لا
يقبلُ مسلمٌ يخشى على مستقبلِهِ وآخرتِهِ أنْ يتنازعَ فيه العلماء: هل هو كافرٌ
مُرتد أو كافرٌ دون ذلك، وكلُّ ذلك من أجلِ تَرْكِ الصلاة، وكان سلفُكُم الصالحون
يجتهدونَ السنينَ الطوالَ بأنْ يشهدوا الصلاةَ في الجماعةِ، لا تفوتُ الواحدَ
تكبيرةُ الإحرام، فمنهم مَن مَرَّ عليه سبعونَ عامًا لم تَفُتهُ تكبيرةُ الإحرامِ
في المسجدِ؛ لأنه يُبادرُ إلى الصلاة ويلبِّي أَمْرَ ربِّهِ –جلَّ وعلا-: {قُوا أَنفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.
نَظِّفوا
البيوتَ من معاصيها، طَهِّروها من آثامِها والذنوبِ التي هي فيها، مُروا أهليكُم
بالصلاةِ واصطبروا عليها، اصطبروا على الصلاةِ، لا على الأهلِ عند الأمرِ والنهي
فهذا أَمْرُ الله، فعلى مَن كان قائمًا على أهلِهِ بالرعايةِ بما يُرضي ربَّهُ –جلَّ وعلا- أنْ
يُراعيَهُم في صلاتِهم، وأنْ يُراعيَهُم في صيامِهِم، وأنْ يُراعيَهُم في أسماعِهِم
وأبصارِهِم وألسنتِهِم، وأنْ يجتهدَ في أنْ يحفظوا حدودَ اللهِ، وأنْ يستقيموا على
أَمْرِ اللهِ، لا أنْ يجعلَ ذلك أَمْرًا معكوسًا، فهو يُوَفِّرُ لهم وسائلَ
اللهوِ، وهو يجتهدُ في إطعامِهم وفي سُقياهُم بما تَلَذُّ به أنفسُهُم، وذلك
حَسَنٌ ما لم يتعد إلى حَدِّ الإسراف، ولكنْ أين غذاءُ القلوب؟ وأين قوتُ الأرواح؟
وذلك هو المعنى المقصود؛ لأن اللهَ –تبارك وتعالى- خَلَقَ
الخَلْقَ لعبادتِه.
لقد جَعَلَ
اللهُ –تبارك وتعالى- في
هذا الشهرِ من الرحمةِ ما لا يعلمُ قَدْرَهُ إلَّا اللهُ –تبارك وتعالى-،
فإنَّ اللهَ ربَّ العالمين يغفرُ فيه للمُسيئين، ويقبلُ فيه توبةَ التائبين،
ويُنَزِّلُ اللهُ ربُّ العالمين فيه الرحمات على الصائمين القائمين، فعلينا أنْ
نلتفتَ إلى هذه الأيام، وأنْ نعلمَ أنه إنْ كان قد مضى منها ما مضى على غيرِ ما
يُحبُّ اللهُ ويرضى، فعباداتُنا هزيلة وإنابتُنَا قليلة ومُجاهداتُنا في ذاتِ
اللهِ –تبارك وتعالى- عليلة
إلَّا مَن رَحِمَ اللهُ، فعلينا أنْ نجتهدَ فيما بقيَ حتى يغفرَ اللهُ –تبارك وتعالى- لنا
ما مضى، وإلَّا فإنْ فَرَّطْنَا فيما بقيَ؛ أخذَنا اللهُ –تبارك وتعالى- بما
سَلَفَ وما بقيَ، واللهُ يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ بما يُريد.
إنَّ البيوتَ
ينبغي أنْ تكونَ مُنيرةً بآياتِ اللهِ –تباركَ وتعالى-؛
بقرآنِ الرحمنِ لا بقرآنِ الشيطان، على الأسماعِ أنْ تتنزهَ عن سماعِ الخنا والزورِ
والبُهتان، وعلى الأبصارِ أنْ تتنزهَ عنِ النظرِ إلى الفواحشِ ومطالعةِ العوراتِ والتطلُّعِ
إلى تلك الأمورِ التي حَرَّمَهَا ربُّ الأرضِ والسماوات، والناسُ عاكفونَ في
ليلِهم ليلًا طويلًا إلى السَّحَرِ الأعلى، كأنما ينتظرون وقتَ السُّحورِ من أجلِ
أنْ يأتوا بهذه الطاعةِ لله، ولكنَّهم يقطعونَ ذلك الشَّوْطَ في معصيةِ اللهِ –تبارك وتعالى-.
لقد كانت
أبياتُ أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- بالليلِ لمَن سارَ في طُرقاتِ
مدينةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم-؛ كانت تلك الأبياتُ –أبياتُ الأصحابِ
رضوان الله عليهم- لها بالليلِ دويٌّ كدويِّ النحلِ من تلاوةِ القرآنِ العظيم.
فلنُوجِّه
أهلينا ولنُوجِّه أنفُسَنَا إلى كتابِ اللهِ –تبارك وتعالى-،
فما ضَلَّ مَن ضَلَّ إلَّا بتَرْكِ كتابِ اللهِ –تبارك وتعالى-؛
لأنَّ التزكيةَ للنَّفْسِ لا تكونُ إلَّا بالقرآنِ العظيمِ وبسُنَّةِ النبيِّ الكريم
-صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم-.
إنَّنا نُقيتُ
أهلينا بِما تقومُ به أجسادُهُم وأبدانُهُم، فعلينا أنْ نُقيتَ أرواحَهُم
وقلوبَهُم وأنفُسَهُم وعقولَهُم بما فيه الحياةُ الباقية، يستمدونَ الحياةَ
الحقيقيةَ من كتابِ اللهِ ومن سُنَّةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم-،
ألَا فلنُوجِّههُم بعد أنْ نَوجِّهَ أنفُسَنا إلى ذِكْرِ اللهِ –جلَّ وعلا-، فإنَّ
في القلبِ قسوةً لا يُذيبُهَا إلَّا ذِكْرُ اللهِ، وقد تكاثرَت علينا الأوامرُ وعظُمَت
علينا النواهي، فينبغي أنْ نتمسكَ بالأصلِ الأصيلِ كما دلَّ على ذلك النبيُّ النبيلُ-صلى
الله عليه وعلى آلهِ وسلم-، فإنه لمَّا سُئلَ –سألَهُ عبد
الله بن بُسر رضي الله عنه: إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كَثُرَت عليَّ، فدُلَّنِي على
أمرٍ أتمسكُ به جامع.
كثرُت عليَّ
الشرائع، عظُمَت عليَّ الأمور، صِرتُ في حَيرةٍ حائرة، وصِرتُ في بلبلةٍ كائنة،
((دُلَّنِي على أمرٍ أتمسكُ به جامع)): ضَع يدي على ذلك المَعْلَمِ الأصيلِ برايةِ
التوحيدِ أرفعُها، دُلَّني على الطريقِ المستقيم، وكان قد دلَّهُ، فدَلَّهُ على
المَعْلَمِ الأكبرِ فيه، فقال: ((لا يزالُ لسانُكَ رَطْبًا بذِكْرِ اللهِ –جلَّ وعلا-))، ففيه
يُبوسةٌ لا يُصيبُ رطوبتَها بخير إلَّا ذِكْرُ اللهِ –تبارك وتعالى-،
وفي القلبِ قساوة لا يُذيبُها إلَّا ذِكْرُ الله، حتى لا تتحولَ الفرائضُ
والشعائرُ إلى أمورٍ شكليةٍ وحركاتٍ آليةٍ، فكَم مِن مُصَلٍّ لم يُصَلّ، وقد قال
النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم-: للمُسيءِ في صلاتِهِ: ((ارجع فصلِّ
فإنك لم تُصلّ))، مع أنه يُصَلِّي في مسجدِ رسولِ الله، ويُصلِّي بين يدي رسولِ الله،
والذي يُخاطبُهُ فَمًا لأُذُن هو رسولُ الله، ولكنَّهُ كان مُسيئًا لم يُحسِنِ
الصلاة؛ لأنه لم يكن عارفًا كيف يُصَلِّي، فدَلَّهُ النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آلهِ
وسلم-.
في القلبِ
يُبوسةٌ وفي الروحِ قساوةٌ لا يُذيبُها إلَّا ذِكْرُ اللهِ –جلَّ وعلا-، وقد
كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- يذكرُ اللهَ على جميعِ أحوالِهِ، وقد
أمرَنا -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- بألَّا نَكُفَّ عن ذِكْرِ ربِّنا؛ لأنَّ اللهَ
–تبارك وتعالى- أمرَنا
بذلك ولم يجعلْ ذلك في حالاتنا التي فيها الأُنْسُ والدَّعَة والخفضُ واللين، بل
أمرَنا بذلك في ذلك وفي غير ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45]، عند الجهاد، عند لقاءِ الأعداء، عند تقابُلِ
الصفوفِ، {فَاثْبُتُوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الأنفال: 45]، وهذا وحدهُ يدُلُّكَ
على فضلِ ذِكْرِ ربِّك –جلَّ وعلا-.
ألَا إنَّ الذاكرينَ ربَّهم –سبحانه وتعالى- يظهرُ ذلك في حركةِ حياتِهم
سكينةً واطمئنانًا وإخباتًا وإنابةً وخشوعًا، سكينةً عند نزولِ المِحَن،
وتَثبُّتًا وتَريُّثًا عند حلولِ الفتنِ؛ لأنهم ألقَوا مَقادةَ القلبِ للشرعِ
يُصرِّفُها كما يشاءُ في: ((قال اللهُ، قال رسولُهُ، في الوحي المعصوم))، ومَن أخذ
بالوحي المعصومِ فإنه لا يَزِلُّ، والنبيُّ-صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- كان يُصلِّي
الصُّبحَ، يبقى في مُصَلَّاه ذاكرًا للهِ –جلَّ في عُلاه-
حتى تطلُعَ الشمسُ حسنًا –أي حتى تطلُعَ الشمسُ طلوعًا حسنًا-، ثم يُصلِّي
ركعتين، ونبَّأنا النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- إلى فضلِ هذه العبادةِ على
هذا النحو: ((مَن صلَّى الصُّبحَ في جماعة، ثم جلسَ يذكرُ اللهَ –تبارك وتعالى-
حتى تطلُعَ الشمسُ، ثم صلَّى ركعتين، كانت كأجرِ حَجةٍ وعمرة تامةٍ تامةٍ تامة)).
فبيَّنَ رسولُ
الله -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- أنَّ هذا الوقتَ الشريف تتنزلُ فيه رحماتُ
ربِّنا –جلَّ وعلا-، وأنَّ
الإنسانَ إذا صلَّى الصُّبحَ في جماعةٍ، وهي ثقيلةٌ على المنافقين كعشاءِ الآخرة؛ لأنَّ
النبيَّ -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- جعلَ ذلك إتمامًا مع ما يكونُ من صلاةِ
العشاءِ في جماعةٍ إتمامًا لقيامِ الليل، كأنما قام الليل: ((مَن صلَّى
العشاءَ في جماعة والصُّبحَ في جماعة فكأنما قامَ الليل))، يُكتبُ له
قيامُ ما بينهما، والنبيُّ -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- تحدُّثًا بنعمةِ ربِّهِ
وإقبالًا عليه وقد غفرَ اللهُ ربُّ العالمين له ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وما تأخَّرَ –صلى الله وسلم وبارك
عليه-، إذا صلَّى الصُّبحَ يبقى في مُصلَّاه ويوضحُ للمسلمين فضلَ هذا الأمر: ((مَن صلَّى
الصُّبحَ في جماعةٍ وقعدَ يذكرُ اللهُ –تبارك وتعالى-
حتى تطلُعَ الشمسُ؛ وحتى تحلَّ النافلةُ بارتفاعِ الشمسِ كقِيدِ رُمحٍ من رماحِ العرب، وذلك
على قَدْرِ ثُلُثِ الساعةِ من الشروقِ –من شروقِ الشمس-، ثم قام
فصلَّى ركعتين –هما ركعتا الإشراق-، هاتان الركعتان بيَّنا لنا
نبيُّنا -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- فضلَهُما، قال: كان كأجرِ
حَجَّةٍ وعُمرة تامةٍ تامةٍ تامة)).
فهذا الشهر
العظيم الذي جعلَ اللهُ ربُّ العالمين نزولَ القرآنِ فيه، فشرَّفَهُ زمانًا، وأجرى
على الأمةِ فيه ما أجرى من الخيرِ الواصلِ إليها برحمةِ ربِّها ومولاها، فيه ليلةٌ
هي خيرٌ من ألفِ شهر، والنبيُّ -صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- كان قد نُسِّيها
-صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- بسببِ المشاحنات؛ لأنه خرجَ ليخبرَ عنها تحديدًا
قاطعًا لا يشتبه بحيثُ تكونُ جازمًا جزمًا لا ريبَ فيه؛ لأنَّ هذه الليلةَ من
العشرِ الأواخرِ في كلِّ شهر –من رمضان يدور في الأعوامِ هي ليلةُ القدر-،
فخرجَ فوجد فلانٌ وفلانٌ يتلاحيان –مِن أخذِ الرجُلِ
بلحيةِ أخيه يجُرُّه إليه يخاصمُه ويجادلُهُ ويُماريه، فغَضبَ –صلى الله عليه وعلى
آله وسلم- وقال: ((كنتُ قد خرجتُ لأخبرَكم بليلةِ القَدرِ، فتلاحى فلانٌ وفلانٌ فرُفِعَت))، ولم تُرفعْ
عينُها، فهي باقيةٌ في الأُمة في رمضان في العشرِ الأواخرِ منه، ولكنْ رُفِعَ
عِلمُ تعيينها بتحديدِها قطعًا بلا اشتباه، ((وعسى أنْ يكونَ خيرًا لكم))، كذا قال
رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
الخصوماتُ
والمِراءُ والجدالُ؛ وكلُّ ذلك مُحدَثٌ في دينِ اللهِ –تبارك وتعالى- من
البدع، لم يتخاصم أصحابُ النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولم يتمارَوا
ولم يتجادلوا ولم يتخالفوا ولم يتنافروا، وإنما كانوا أخوةً في اللهِ مُتحابين، فالجدالُ
والكلامُ والمِراءُ والخصومة كلُّهُ مُحدَثٌ لم يكُن على عهدِ رسولِ الله، الخصامُ
في الدين والمِراءُ في القرآن؛ كلُّ ذلك مما نهى عنه ربُّنا وحذَّرَ منه نبيُّنا –صلى الله عليه وعلى
آله وسلم-، فقال: ((المراءُ في القرآنِ كُفر)).
ألَا إنَّ من
رعايةِ الأهلينَ في البيوتِ أنْ يُرشَدوا إلى هذا الأمر الكبيرِ، أنْ ينقُّوا
أنفسَهم من وَضَرِ الخصومات ومِن دَرَنِ الخلافات، وألَّا تكونَ الحياةُ مبنيةً
على أصلِ الجدال، فهو جدالٌ في جدال في داخلٍ وخارج، في قائمٍ وقاعد، هو جدالٌ في
جدال، ومِراءٌ في مراء، وخصومةٌ في خصومة، ما هكذا أبياتُ المسلمين الطيبينَ
الطاهرين المُوحدينَ المؤمنين، وإنما هي أبياتٌ تتنزلُ عليها الرَّحمات، وتغشاها
السكينة، وإنك لتعلمُ ذلك في كلِّ بيتٍ تمسَّكَ بكتابِ اللهِ وسُنَّة نبيِّهِ –صلى الله عليه وعلى
آله وسلم- حقًّا وصِدقًا، بعيدٌ هو عن المراءِ والخصامِ والمجادلة، حتى لا ينشأَ
الناشئُ منَّا مُرَبًّى على هذا الخللِ الكبيرِ والخطأ العظيم، فلا يُحسنُ بعد أن
يتلقى شيئًا؛ لأنه صارت عقليتُهُ جدلية، فهو لا يقبلُ شيئًا إلَّا بجدال، ومعلوم
كما قرَّرَ سلفُنا المتقدمون –رحمة اللهِ عليهم-: أنَّ مَن التمسَ الحقَّ
في الكلامِ والمخاصمةِ والجدالِ والمِراءِ فوصلَ إليه ووصلَ إلى وجهِ الحقِّ فيه؛
فهو مخطئٌ، أخطأ السبيلَ إلى الحقِّ المنشود؛ لأنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- جعلَ
الغايةَ وجعلَ الوسيلةَ إليها، ولم يجعلْ ذلك إلى أحد، فليس مُرَخَّصًا ولا
مسموحًا به لأحدٍ كائنًا مَن كان أنْ يصلَ إلى غايةٍ شريفةٍ بوسيلةٍ غيرِ شريفة،
بل لا يُتوصلُ إلى الغايةِ الشريفة إلَّا بالوسيلةِ الشريفة، ومَن صَفَّى صُفِّيَ
له، ومَن كدَّرَ كُدِّرَ عليه، ومَن أحسنَ بالليلِ؛ أُعطيَ الجزاءَ بالنهار، ومَن
أحسنَ بالنهار؛ أُعطيَ الجزاءَ الحسنَ بالليل.
فعلى الإنسان
أنْ يجتهدَ في أنْ يلزمَ سبيلَ المتقدمينَ من أصحاب النبيِّ الكريم –صلى الله عليه وعلى
آله وسلم-.
{قُوا أَنفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} ولن تقوا أنفسَكُم النار، ولن تَقُوا أهليكُم النَّارَ وأنتم بمبعدةٍ عن
عِلمِ الاعتقادِ الصحيحِ وعن معرفةِ ما أنزلَ اللهُ على رسولِهِ –صلى الله عليه وعلى
آله وسلم-.
وكيف يقي
العبدُ نفسَهُ النار، وكيف يقي العبدُ أهلَهُ النار وهو جاهلٌ بالاعتقادِ الذي
يُنجِّيه من النار؟!!
إنه إذا
أُلقِيَ في قبرِهِ، فجاءهُ المَلَكان، فأقعداهُ فسألاه تلك الأسئلة: مَن ربُّك؟
وما دينُك؟،
وما تقولُ في الرَّجُلِ الذي بُعِثَ فيكم –صلى الله وسلم وبارك
عليه-؟
يكونُ زائغًا
في الاعتقادِ، مبتدعًا فيه، فكيف يُجيب؟!!
لا يُجيبُ
إلَّا الموحدونَ الثابتون: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} عندما
يُسألون في قبورِهِم، وعندما يُعرضونَ على ربِّهم، ولا يكونُ ذلك إلَّا باستخراجِ
مكنوناتِ قلوبِهم، فما في القلبِ ينطقُ به اللسانُ.
وإنَّ أصحابَ
النبيِّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من النفاق كانوا يفزعون؛ لأنهم يعلمونَ عظيمَ
خطرِهِ، فكَم من باعثٍ لفعلٍ وهو باعثُ شهوةٍ وهو حظُّ نَفْسٍ وهو ذَوْقُها وهو
عملٌ للدنيا لا للآخرةِ، كم من باعثٍ لا يُحرَّرُ.
وأمَّا سلفُنا
الصالحون من الصحابةِ ومَن تَبِعَهم بإحسان فلم يُعالِجوا شيئًا هو أَشَقُّ
وأَشَدُّ عليهم مِن نيَّاتِهم، من أجلِ تحريرِها لربِّهم، لكي يكونَ الكلامُ للهِ
كما ينبغي أنْ يكونَ الصَّمْتُ للهِ، وأنْ يكونَ العملُ للهِ، وأنْ يكونَ الكَفُّ
عنهُ للهِ، حتى يكونَ العبدُ للهِ وباللهِ ومع اللهِ، فَمَا عَالَجوا شيئًا هو
أشقُّ وأشدُّ عليهم مِن نيَّاتِهِم، علينا أنْ نُحرِّرَها؛ لأننا إذا لم نفعلْ ذلك
أَهْلَكْنَا أنفُسنا وأَهْلَكْنَا مَن خلْفنا، ولذلك يَدُلُّنا نبيُّنا –صلى الله عليه وسلم-
أنَّ أقوامًا يُحسنونَ ظاهرًا في أعمالِهم، يكُّفونَ عن الطعامِ والشرابِ والشهوة وما
صاموا، وأنهم ينصِبونَ أقدامَهُم بين أيدي ربِّهِم بزَعْمِهِم ليلًا طويلًا وما
قاموا؛ لأنهم ما حقَّقُوا الشرطَ الذي يحفظُ القلبَ، والقلبُ إذا صلَحَ؛ صَلَحَ
الجسدُ كلُّهُ، وإذا فسدَ؛ فسدَ الجسدُ كلُّهُ، وإنَّ الصيامَ لتحصينٌ لرعايةِ
القلبِ بتقوى الربِّ، فإذا لم يتحصل ذلك برعايةِ البواعثِ والدوافعِ وراءَ
الأعمالِ والأقوالِ والتروكِ؛ فأين النجاةُ وكيف هي؟!!
هيهات هيهات!!
{قُوا أَنفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}: علِّمُوهم أصولَ الاعتقاد، دُلُّوهم على الحقِّ والرشادِ، كما تجتهدونَ
في تعليمِهِم اللغاتِ الأجنبية –لُغات الأقوامِ الذين حاربوا الدينَ وناصبوا
العداءَ للمِلَّةِ-، كما تجتهدون في رعايتِهِم في هذا الأصلِ ليُحَصِّلوا الدنيا؛ عَلِّمُوهم
دينَ ربِّهِم؛ عقيدتَهُ وعِبادتَهُ ومُعاملتَهُ وأخلاقَهُ وسلوكَهُ؛ ليفوزوا
بالرضوانِ في الآخرةِ مع السعادةِ في الدنيا، وإلَّا فَقَدْ خُنْتُم الأمانةَ،
وإلَّا فمَا أدَّيتُم حقَّ ذَويِكُم عَليكُم، تعلَّمُوا أصولَ الاعتقادِ
وعَلِّمُوها، قوا أنفسَكُم وأهليكُم مِن الشِّركِ الذي يُوَرِّطُ الخَلْقَ في
النَّارِ تَوَرُّطًا، والله لا يغفرُهُ {إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به}.
عَلِّمُوهم أنْ
يَنْذِروا لله.
عَلِّمُوهم
ألَّا يذبحوا إلَّا للهِ، ألَّا يتوكلوا إلَّا على اللهِ، ألَّا يُحبُّوا إلَّا في
الله، وألَّا يُبغضوا إلَّا في الله.
عَلِّمُوهم
أسماءَ اللهِ وصفاتِ الله.
دُلُّوهم على الصوابِ
والحقيقة في مسائلِ الإيمانِ والكُفْر، ألَّا يكونوا مُرجئة، وألَّا يكونوا خوارج؛
فيخسروا الدنيا والآخرة.
عَلِّمُوهم
الحقَّ الحقيق في بابِ القضاءِ والقَدَرِ، وإلَّا صاروا متواكلين، لا يَنهضونَ
لهِمَّة، ولا يأتونَ بعَزْمٍ في مُلِمَّةٍ، وإنما يصيرُ الواحدُ منهم كَلًّا، وهو
لا يمكنُ أنْ يكونَ كذلك وهو يُحسنُ بابَ الإيمانِ والقَدَرِ.
عَلِّمُوهم
الواجبَ تِجاه آلِ بيتِ رسولِ الله، ألَّا يكونوا رافضة وألَّا يكونوا ناصبة، حتى
يكونوا على مِنهاجِ النبوةِ مع أهلِ السُّنَّةِ.
عَلِّموهم
الحقَّ الحقيق في أصحابِ رسولِ اللهِ –صلى الله عليه وعلى
آلهِ وسلم-؛ حتى يُجانِبُوا الشيعةَ الروافض المَلاعين في سَبِّهِم لأصحابِ النبيِّ
الأمين، وفي تكفيرِهِم لهم، وفي رَميِهم بالخيانةِ للدين، وارتدادِهِم عنه بعدَ
موتِ النبيِّ الأمين، حتى لا يَنْجُمَ في بيتِكَ مَن يقول: هؤلاء إخوانُنَا وهؤلاء
نتقاربُ معهم!!
علِّموهم...علِّموهم
الحقَّ الحقيق في كتابِ اللهِ –جلَّ وعلا-؛ حتى لا يخدعُهم خادعٌ ولا
مُخَادع، فيزعمَ أنْ القرآنَ لو نَقَصَ منه شيء –شيءٌ قليل-؛ فلا
شيء في ذلك!! ومَن قال بأنه قد نقُصَ منه شيء –شيءٌ قليل-؛ فهو
أخونا!! ومِن أهلِ قِبلتِنَا!! نأكلُ ذبيحتَهُ!! ونوافقُهُ ونواليه!!
عَلِّمُوهم
ألَّا ينظروا إلى كتابِ ربِّهِم –جلَّ وعلا- نظرةَ السُّوءِ؛ فيرَوهُ
مُفَكَّكًا لا يتماسك كما يزعمُ العلمانيونَ والمُستشرقونَ وكما يزعمُ
المُكَفِّرونَ المُنَصِّرونَ، فإنهم يزعمون في القرآنِ كثيرًا وكثيرًا.
عَلِّمُوهم
حقَّ رسول الله، عرِّفوهم به.
وكلُّ ذلك مِن
امتثالِ أَمْرِ اللهِ في قولِهِ –جلَّ وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم:6].
فإنْ لم
تفعلوا؛ فستكونون وقودَهَا، يُحَذِّرُكُم اللهُ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا
مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ}
طَهِّرُوا
البيوتَ مِن أدرَانِهَا، نَظِّفُوهَا مِن أوسَاخِها؛ مِن الشِّركِ والبدعةِ، مِن
النفاقِ والسُّمعةِ، مِن كلِّ ما يَشين، مِن المِراءِ والجدالِ والخصومةِ في
الدين، مِن الإقبالِ على المُلَهيَّاتِ، وإضاعةِ الأوقاتِ في غيرِ ما يُرضي ربَّ
الأرضِ والسماوات.
اتقوا اللهَ –تبارك وتعالى- في
أنفُسِكم وفي أهليكم؛ فإنما هي أمانةٌ.
والله –عزَّ وجلَّ- يُصلحُني
ويُصلحُكم وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
وصلى الله وسلم
على نبيِّنا مُحمّدٍ –صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم-.
الخُطْبَةُ
الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً
وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:
6]، ولَن تقيَ الأهلَ نارًا وأنت لا تدْري وَلدُكَ مَنْ يُصَاحِبُ، ومِن أيِّ
مَعينٍ يَنْهَل؛ فلعلَّهُ قد قُيِّضَ له مُبتدعٌ يُضلُّهُ عن الصراط المستقيم،
وأنت في غَفلةٍ غفلاء، وفي ليلٍ بَهيم، لا تدري ما يكونُ بعد!
وأمَّا المُتقدِّمونَ مِن سَلَفِنا الصَّالحين: فكان الواحدُ منهم يقول:
«لَأَنْ يَصْحَبَ ابْنِي شاطرًا فاسِقًا سُنِّيًّا هو خيرٌ له مِنْ أنْ يَصْحَبَ
زاهدًا مُتَبَتِّلًا بِدْعِيًّا»، لِأَنَّهم يعلمونَ خطورةَ البدعةِ في الدِّين.
لا تَدَعْ وَلَدَك تَتَلَقَّفُهُ الجماعاتُ الضَّالَّةُ، والْفِرَقُ
المُنْحَرِفَةُ.
فما وقيْتَهُ النَّارَ، أَسَأْتَ، وتَعَدَّيْتَ، وَظَلَمْتَ! ولَمْ تَرْعَ
فيه أمانةَ اللهِ!
عَلِّمْهُ دينَ اللهِ، وَدينُ اللهِ لا فُرْقَةَ فيه، وَإِنَّما هُوَ قيامٌ
على منهاجِ النُّبُوَّةِ، الَّذِي جاءَ به رَسُولُ اللهِ.
كيْفَ يكونُ مُؤَدِّيًا الأمانةَ الَّتي حُمِّلَهَا مَنْ يَرَى وَلَدَهُ
يَضِلُّ الضَّلَالَ كُلَّهُ؟! هُجَيِّرَاهُ مع المُبْتَدِعَةِ؛ يَخْدَعُونَهُ
بِمَا يَدَّعُونَهُ تَقَرُّبًا إلى اللهِ! وهُو لا يَدْرِي أنَّهُمْ يَحْرِفُونَهُ
عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ!
تَأَمَّلُوا في أحْوَالِ أبْنائِكُمْ، وفِي أحْوالِ بَنَاتِكُمْ؛ فإنَّ
أَهْلَ الحِزْبِيَّةِ الدِّينِيَّةِ البَغِيضَةِ، وإنَّ أهلَ الأهْواءِ والفُرْقةِ
والتَّفْرُّقِ لَيَتَسَلَّلُونَ إلى البُيُوتِ عَنْ طريقِ البَنَاتِ!
يَحْرِفُوهُنَّ فِي المُجْتَمَعَاتِ، فِي المُدُنِ الجَامِعِيَّةِ، وفِي
الكُلِّيَّاتِ، وفي غيْرِ ذلك مِنَ المُنْتَدَيَاتِ، حتَّى تَصِيرَ حِزْبِيَّةً
بِدْعِيَّةً؛ لا تَعْرِفُ الكِتَابَ ولا السُّنَّةَ، ولا تَعْرِفُ حَقًّا، ولا
تُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهَا وَأُشْرِبَتْهُ.
وكلُّ ذلك بسببِ الغفلةِ الضائعةِ والتَّكالُبِ على الحُطامِ، ألَا إنَّ
خيرًا لبيتٍ أنْ يحيا في كفافٍ وعلى الكَفافِ، يَجِدُ كِسرَةً تَسُدُّ الجَوعةَ
وتَرُدُّها، وخِرْقَةً توارِي العورةَ وتَسْترُها بلا زيادةٍ، لخيرٌ لبيتٍ أنْ
يكونَ كذلك مُستقيمًا على مِنهاجِ النُّبوة سُنِّيًّا لا ينحرف، لا بدعةَ فيه، ولا
انتماءَ لأهلِ الضلالِ يحتويه، وإنما هو اتَّباعٌ للهِ ربِّ العالمين فيما بَيَّنَ
في وحيِهِ المعصوم كتابًا وسُنَّةً بفَهْمِ الصَّحابَةِ ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ،
خيرٌ لبيتِكَ أنْ يكونَ كذلك مُتقلِّلًا مُتزهِدًا، وليس بيتُكَ بخيرٍ من أبياتِ
رسولِ الله، فيما تتنافسونَ؟!!
وعلامَ تُقبِلونَ؟!!
وماذا تصنعون؟!!
ويحكُم!! أين تذهبون؟!!
((لقد كانَ يَمُرُّ الهلالُ في إثْرِ الهلالِ في إثْرِ الهلالِ، ثلاثةُ
أَهلَّةٍ في شهريْن لا يُوقَدُ في أبياتِ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم-
نار)).
((فَمَا كان يُقيتُكُم يا خالة)) يقولُ عروةُ بن الزُّبير لعائشةَ –رضي الله تبارك
وتعالى عنهم-: ((فَمَا كان يُقيتُكُم يا خالة)).
قالت: ((الأسودان؛ الماءُ والتَّمرُ)).
بيتُ رسولِ اللهِ، بل كثيرًا ما كانَ يكونُ بغيرِ شيءٍ، تسعةُ أبيات، يأتي
الضَّيْفُ، فيرسلُ رسولَهُ –صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- إلى أبياتِ نبيِّكُم
–صلى الله عليه وسلم-
يسعى سائلًا: ((هل عندكم شيء؟))
لا والذي بعثَ مُحَمَّدًا بالحقِّ ما عندنا إلا الماء –ما عندنا شيء-!!
في تسعةِ أبيات يَتَّحِدُ الجوابُ، حتى يقولَ رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وعلى
آله وسلم-: ((مَن يُضَيِّفُ ضَيْفَ رسولِ الله)).
فيأخذُ بيدِهِ واحدٌ مِن الأصحابِ.
يحطُّ هذا مِن المقدار؟! بل يُعليه.
يُؤثِّرُ هذا في شيءٍ من مروءةِ النَّفسِ أو كرمِها؟!
لا والله، بل إنه ليُعلي مِن قَدْرِ النَّفسِ ويُهذِّبُها ويرفعُ قَدْرَها
عند اللهِ ثم عند الناس.
لأَنْ يكونَ بيتُكَ مُتَقلِلًا زاهِدًا ولن يكون، فَقَدْ بَسَطَ اللهُ
للخَلْقِ الرِّزْقَ، حتى إنَّ كثيرًا مِن أهلِ الخيرِ ليتعجبونَ أين يضعونَ
صدقاتِهم؛ لأنَّ اللهَ أغنى الناسَ وهذا مِن فضلِهِ، وإنْ لم يقنعوا بما آتاهم –جلَّ وعلا- مِن
العطاء!!
ولكنْ لأَنْ يكونَ بيتُكَ سُنِّيًّا لا بِدعيًّا ولا حِزبيًّا ينتمي
انتماءاتِ الفِرَقِ الضَّالةِ والجماعاتِ المُنحرفةِ، لأَنْ يكونَ بيتُكَ
مُستقيمًا على الجَادَّةِ، مُتَقشِّفًا زاهِدًا غيرَ واجِد؛ خيرٌ لكَ ولهُ مِن أنْ
يكونَ قصرًا مَشِيدًا وأنْ يكونَ بناءً مُنِيفًا وأنْ يكونَ روضةً غَنَّاءً
والبدعةُ تَنْخَرُ في قواعدِه، والحزبيةُ بانتماءاتِها للفِرَقِ الضَّالة
والجماعاتِ المُنحرفة تعملُ فيها عَملَها تفريقًا للمسلمين وحيودًا عن منهاجِ ربِّ
العالمين وعن منهاجِ النبيِّ الأمين.
اتقوا الله ﴿قُوا
أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾، تعلَّمُوا وعَلِّمُوا عقيدةَ أهلِ
السُّنَّةِ؛ فهي طَوْقُ النَّجَاةِ، وهي سفينةُ نوح، مَن رَكِبَهَا نَجَا ومَن
تَخَلَّفَ عنها غَرِقَ، أحسِنُوا فيما هو آت، أحسِنُوا فيما بَقيَ حتى يغفرَ اللهُ
لكم ما مَضَى، وإنْ لم تفعلوا؛ أُخِذتُم بما بَقِيَ وما مضى على السَّواء.
علينا أنْ نتقيَ اللهَ فيما بقيَ من هذه الأيام، وأنْ نُصحِّحَ الاعتقاد،
وأنْ نُصَحِّحَ المِنهاج، وأنْ نسيرَ على الصراطِ، وأنْ نتفقَدَ الأحوالَ حولنَا،
وأنْ نبدأَ بِمَن نعول حتى يستقيموا على أمرِ اللهِ، وليكُن دائمًا منكَ على
ذُكْرٍ قولُ ذلك الذي سَلَفَ على القلبِ قد مَضَى وإلى الرُّشْدِ اهتدى: ((لأَنْ
يصحبَ ابني فاسقًا شاطرًا سُنَّيًّا –لا مِن أهلِ البدعةِ
ولا مِن أهلِ الانتماءات المُنحرفة- سُنَّيًّا خيرٌ له مِن أنْ يصحبَ زاهِدًا
مُتَبِتلًا بِدعيًّا)).
فاتقوا اللهَ فيهم، علِّموهم قواعدَ الاعتقاد، ودَعُوكُم ممن يَشْغَب،
فهؤلاءِ قومٌ فَسَدَت قلوبُهم وفَسَدَت عقولُهم على السَّواء؛ قلوبٌ مريضةٌ فيها
حِقدٌ وحسدٌ وغِلٌّ وبغضاء ونفورٌ وشحناء، دَعوكم من هؤلاء، اجعلوهم دَبْرَ
الآذان، لا تلتفتوا إليهم ولا تُخاصمُوهم ولا تُجادلُهم، بيِّنُوا الحقَّ وامضوا،
ولا تلتفتوا، فسيشغبُ عليكم الشاغبون، قلوبُهُم مريضةٌ وفاسدةٌ؛ لأنَّ ما عند
اللهِ لا يُنالُ إلَّا بطاعتِه، هكذا بوضوح، ما يكونُ بين الأخلَّاء والأودَّاء في
غرفةٍ مُغلقةٍ هو الذي يُقالُ على المِنبرِ على العَلَنِ بغيرِ ما زيادةٍ ولا
نُقصانٍ، وأمَّا هؤلاء فأهلُ دَسٍّ ومَكْرٍ ومؤامراتٍ بليلٍ وتحزيبٍ لأهلِ الهوى
وشياطين الإنسِ على أهلِ السُّنَّةِ والحق –عاملهُم اللهُ بعدلِهِ-،
فقد أفسدوا البلاد والعباد.
اتقوا اللهَ وتمسَّكوا بدين اللهِ على مُرادِ اللهِ وعلى مرادِ رسولِ الله،
كما قالَ الإمامُ الشافعيُّ: ((أومنُ باللهِ وبكتابِ اللهِ على مُرادِ اللهِ،
وأومنُ برسولِ الله، وبما قالَ رسولُ اللهِ على مُرادِ رسولِ الله)).
فأومنُ باللهِ وبما أنزلَ اللهُ على مرادِ اللهِ، وأومن برسولِ اللهِ وبما
جاءَ عنه –صلى الله عليه وسلم- على مُرادِهِ، لا على مُرادِ فلانٍ وفلان، لا نتقممُ أفكارَ
الخَلقِ، ما لنا ولهذا؟!!
لقد أمرَنَا نبيُّنا –صلى الله عليه وسلم- أنْ نعودَ إلى النَّبْعِ
الأصيل، قال لعُمر، وقد أتى بصحائفَ من التوراة وافقت بعض ما عندنا، فسَرَّهُ،
فأتى بها وأخذَ يقرأُ منها، ووجْهُ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم-
يتغيرُ ويتمعرُ، وعُمر لا ينتبهُ، فنَبَّههُ مَن نَبَّهَههُ، ثَكلتكَ أُمُّكَ يا عمر،
ألَا ترى ما في وجهِ رسولِ الله؟
فكَفَّ مُستغفرًا، وأقبلَ عليه النبيُّ مُحَذِّرًا وقال: ((أمتهوكونَ
فيها –أي: أمتحيرونَ فيها- يا ابن
الخطَّاب، لقد جئتكم بها بيضاءَ نقيَّة، والذي بعثني بالحقِّ لو كان موسى بن عمران
حيًّا فيكم ما وَسِعَهُ إلَّا أنْ يَتَّبِعني–صلى الله وسلم وبارك
عليه وعلى موسى وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين-)).
ليس لنا أنْ نَتَقَمَّمَ أفكارَ الناسِ ولا اجتهاداتِ الضَّائِعِينَ
الخَائِبِينَ الجَاهِلِينَ الفَاشِلين، يجتهدونَ وهُم لا يُحسِنون في دينِ اللهِ
ربِّ العالمين كثيرًا ولا قليلًا، يَتَسنَّمُونَ ذِرْوَةَ الاجتهادِ ويتكلمونَ
فيما يَعْلَقُ ويتعلقُ للأُمَّةِ مِن النَّوازلِ، وإنما يُرَدُّ ذلك للذين
يُحسِنون استنباطَهُ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، عُكِسَتِ الأمورُ وانقلبت على
أهلِها، فاللهُ المُستعان.
فإذن؛ مِمَّا ينبغي علينا ويتوجب أنْ نعودَ إلى النبعِ الأصيل، وهو وَصْفُ
الفِرقةِ الناجية: ((مَن كان على مِثْلِ ما أنا عليه اليوم وأصحابي)).
هل اختلفَ أصحابُ النبيِّ في العقيدةِ؟!!
هل توقفوا عن الدعوةِ إلى التوحيد؟!!
هل تخلَّفُوا عن الاتَّباعِ؟!!
هل كانوا مُتناحرينَ مُتفرقينَ جماعاتٍ جماعات وفِرَقًا فِرَقًا يتنازعون،
يُبَدِّعُ بعضُهُم بعضًا، ويُكَفِّرُ بعضُهُم بعضًا، ويقتلُ بعضُهُم بعضًا، ويعتدي
بعضُهُم على بعض، ويتآمرُ بعضُهُم على بعض؟!!
((مَن كان على مِثْلِ ما أنا عليه اليوم وأصحابي))، عودوا إليه
ولا تَصْدِفُوا عنه، فالأمرُ واضحٌ، ولا تَعجبنَّ لِمن يعشو عنه بل يعْمَى، فإنَّ
الهُدَى والضلالَ إلى اللهِ مَرجعُهُما، وحدَهُ يهدي مَن يشاء ويُضِلُّ مَن يشاء،
فاحمَدِ اللهَ على السلامةِ والعافية واسأل ربَّكَ المزيدَ منهما، وقل إذا رأيتَ
مُبتدعًا حِزبيًّا مُنتميًا: ((الحمدُ للهِ الذي عافاني مِمَّا ابتلَى به غيرِي
وفَضَّلني على كثيرٍ مِمَّن خَلَقَ تفضيلًا))، فَقَدْ ابتُليَ بطاعونِ القلبِ
وجُذَامِه، فالحمدُ للهِ الذي عافانا مِمَّا ابتلى به غيرَنَا وفضَّلنا على كثيرٍ
من خَلَقَ تفضيلًا.
﴿قُوا
أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾
واللهُ يرعاكُم، وهو وحدهُ يتولاكُم وهو نِعمَ المولى ونِعمَ النصير.
وصلى الله وسلم على البشيرِ النذير نبيِّنا مُحَمَّد وعلى آلِه وأصحابِهِ
الطيبين الطاهرين.