((تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ))
النَّبِيُّ ﷺ -بِأَمْرِ اللهِ- يُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللهِ، وَيُرَاعِي حُرَمَاتِ اللهِ، وَهُوَ أَتْقَى الْخَلْقِ قَلْبًا ﷺ.
رِعَايَةُ شَعَائِرِ اللهِ، وَاحْتِرَامُ شَعَائِرِ اللهِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ، لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]؛ لَا تُمَسُّ، هِيَ للهِ خَالِصَةٌ.
عَظِّمُوا شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، عَظِّمُوا حُرَمَاتِ اللهِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
*تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:
دِينُ اللهِ بِنِظَامِ الشَّرِيعَةِ فِيهِ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ، فِيهِ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ، وَفِيهِ الْفَوْزُ وَالنَّجَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ هُوَ أَوْلَى مَنْ رَاعَى الْحُرُمَاتِ -حُرَمَاتِ اللهِ-، هُوَ أَعْظَمُ مَنْ قَدَّرَ شَعَائِرَ اللهِ، لَمَّا رَأَى النُّخَامَةَ فِي الْقِبْلَةِ، قَامَ يَحُكُّهَا بِثَوْبِهِ بِنَفْسِهِ ﷺ ، وَقَدْ تَغَيَّظَ عَلَى فَاعِلِهَا جِدًّا، وَقَالَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ)).
النَّبِيُّ ﷺ قَدْ حَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى تَعْظِيمِ شَعَائرِ اللهِ وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّ بُيُوتَ اللهِ لَهُ حُرْمَةٌ، وَهِيَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، لَيْسَتْ كَسَائِرِ بُيُوتِ الْخَلْقِ، سُبْحَانَ اللهِ!! وَهَلْ يُمَارِي فِي هَذَا أَحَدٌ؟!!
وَهَلْ يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ؟!!
بَيْتُ اللهِ؛ وَقَدْ رَفَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِإِذْنِهِ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، هِيَ بُيُوتٌ مَرْفُوعَةٌ بِإِذْنِ اللهِ، فَلَهُ خَاصِيَّةٌ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَحُرْمَةً، لَيْسَتْ كَسَائِرِ بُيُوتِ الْخَلْقِ.
وَالْخَلْقُ أَمْرُهُمْ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَقْبَلُ عَلَى بَيْتِهِ الِاعْتِدَاءُ لَا مِنْ دَاخِلٍ وَلَا مِنْ خَارِجٍ، وَيَرْضَى لِبَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الِاعْتِدَاءَ!!
بَيْتُ اللهِ لَهُ حُرْمُتُهُ، كَمَا بَيَّنَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَكَمَا بَيَّنَهَا نَبِيَّهُ الْكَرِيمُ، يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، فَهُوَ مَسْجِدُ اللهِ، هُوَ بَيْتُ اللهِ.
*حَائِطُ الْمَسْجِدِ مِنْ خَارِجٍ كَالْمَسْجِدِ فِي الْحُرْمَةِ:
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، فَجَعَلَهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ مَأْذُونٌ بِرَفْعِهَا مِنْ لَدْنُهُ؛ لِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: ((وَحَائِطُ الْمَسْجِدِ كَهُوَ))، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَبَدًا لِأَحَدٍ أَنْ يُلَطِّخَ الْمَسْجِدَ، أَوْ أَنْ يَعْبَثَ بِهِ، أَوْ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ، فَحَائِطُ الْمَسْجِدِ كَالْمَسْجِدِ فِي الْحُرْمَةِ مِنْ خَارِجٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي كَلَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ مِنَ الْمَسْجِدِ بِلَا نِزَاعٍ وَلَا خِلَافٍ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وَإِهَانَتُهُ وَاضِحَةٌ، وَلَكِنْ ((وَحَائِطُ الْمَسْجِدِ كَهُوَ))، فَمَنْ اعْتَدَى عَلَى حَائِطِ الْمَسْجِدِ مِنْ خَارِجٍ فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى بَيْتِ اللهِ، مَاذَا يَنْتَظِرُ هَذَا؟!!
*سَنَّ النَّبِيُّ ﷺ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ:
النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا إِذَا دَخَلْنَا مَسَاجِدَ اللهِ أَلَّا نَجْلِسَ حَتَّى نُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، الْمَسْجِدُ مُحْتَرَمٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْتُ اللهِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: ((إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ)).
وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: ((صَلِّ رَكْعَتَيْنِ)).
فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ وَفِي غَيْرِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ جَاءَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ -وَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ-: ((قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا))، تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، مَكَانٌ مُحْتَرَمٌ، مُحَجَّرٌ وَقْفٌ للهِ، هَذَا بَيْتُهُ، فَالِاعْتِدَاءُ عَلَى هَوَائِهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى شَعَائِرِ اللهِ، فَكَيْفَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ لِذِكْرِ اللهِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ؟!!
لَا يَجُوزُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ حَتَّى بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الدَّاخِلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ مِنْ خَارِجٍ، لَا بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا بِالسَّفَهِ وَالْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَالطُّغْيَانِ، أَيْنَ يُذْهَبُ بِالْمُسْلِمِينَ؟!!
دَاءُ الِاسْتِهَانَةِ، اسْتَهَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ بِشَعَائِرِ اللهِ، وَاسْتَهَانُوا بِحُرُمَاتِ اللهِ، وَلَمْ يَرْقُبْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوتِ اللهِ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَإِنَّمَا يَعْتَدُونَ كَأَنَّمَا يَعْتَدُونَ عَلَى بُيُوتِ السِّفْلَةِ مِنَ الْبَشَرِ!!
*خَيْرُ الْبِلَادِ وَأَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا:
الْمَسَاجِدُ هِيَ خَيْرُ الْبِقَاعِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((خَيْرُ الْبِلَادِ وَأَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا))، فَهَذَا نَقِيضٌ وَنَقِيضٌ، هَذَا ضِدٌّ وَضِدُّهُ، مَسْجِدٌ وَسُوقٌ، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
رَايَةُ الْهُدَى مَرْفُوعَةٌ فِي مَسَاجِدِ اللهِ، أَعْلَامُ الْهُدَى مَنْصُوبَةٌ فِي بُيُوتِ اللهِ، وَرَايَةُ الشَّيْطَانِ مَرْفُوعَةٌ فِي الْأَسْوَاقِ، يَنْصِبُ الشَّيْطَانُ وَيَرْفَعُ رَايَتَهُ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْأَسْوَاقِ؛ لِأَنَّهَا مَرَاتِعُ الشَّيَاطِينِ، ((شَرُّ الْبِقَاعِ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ ، فَكَيْفَ يَصِيرُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ حُكْمَ السُّوقِ؟!!
كَيْفَ يَتَعَامَلُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ كَمَا يَتَعَامَلُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ؟!!
فَالْمَعَاصِي هِيَ هِيَ، وَالِانْحِرَافَاتُ هِيَ هِيَ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ هِيَ بِغَيْرِ فَارِقٍ وَمِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ!! أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!! أَيْنَ يُذْهَبُ بِالْمُسْلِمِينَ؟!!
إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَغَارُ عَلَى حُرُمَاتِهِ أَنْ تُنْتَهَكَ فِي أَرْضِهِ، فَإِنْ قَامَ أَهْلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِوَاجِبِهِمْ؛ فَذَلِكَ، وَإِلَّا عَمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، يَغَارُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَغَيْرَتُهُ غَيْرَتُهُ، وَغَيْرَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ تُوْتَ فِي الْأَرْضِ مَحَارِمُهُ.
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ ((خَيْرَ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ))، خَيْرُ بُقْعَةٍ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ يَقُومُ فِيهِ الْعَبْدُ للهِ مُصَلِّيًا، يَرْكَعُ فِيهِ لِرَبِّهِ حَانِيًا صُلْبَهُ مُتَذَلِّلًا، وَاضِعًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ فِي التُّرَابِ رَاغِمًا، يُسَبِّحُ رَبَّهُ مُعَظِّمًا وَمُبَجِّلًا، خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا))، فَأَحَبُّ بُقْعَةٍ فِي بَلَدٍ الْمَسْجِدُ.
الْمَسْجِدُ فِي الْبَلَدِ أَحَبُّ بِقَاعِ الْبَلَدِ إِلَى اللهِ، أَحَبُّ الْأَمَاكِنِ فِي كَلِّ بَلَدٍ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَسَاجِدُهَا، ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا))، فَذَكَرَ النَّقِيضَ وَالنَّقِيضَ؛ لِكَيْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ وَاعِيًا، إِذَا دَخَلَ بَيْتَ اللهِ يَدْخُلُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهُ إِلَى الْيُمْنَى يَسْعَى، وَإِذَا خَرَجَ فَخَارِجٌ إِلَى اضْطِرَابٍ، إِلَى قَلَقٍ وَنَصَبٍ وَتَعَبٍ وَعَذَابٍ، فَيَخْرُجُ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى.
*فَضَائِلُ وَثَمَرَاتُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْعِلْمِ فِي بُيُوتِ اللهِ خَاصَّةً:
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ -بُيُوتَ اللهِ- فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشَيْتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)).
هَذَا فِي بَيْتِ اللهِ، صَحِيحٌ؛ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ((وَيَصْدُقُ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى الْمَدَارِسِ والرُّبُطِ -جَمْعُ رِبَاطٍ- إِذَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ، وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ وَدَرْسِهِ، وَتَلَّقِيهِ وَحَمْلِهِ، فَلَهَا فَضْلُ الْمَسْجِدِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ)).
((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ))، هُوَ بَيْتُ اللهِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ، وَتَكْرِيمٍ وَإِعْلَاءٍ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، تَسْكُنُ الْأَرْوَاحُ، يَنْتَفِي الْقَلَقُ، يَنْمَحِي الِاضْطِرَابُ، تَسْكُنُ الرُّوحُ إِلَى رَحْمَةِ بَارِيهَا، إِذْ تَغْشَاهُمُ الرَّحْمَةُ، وَتَحُفُّهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ((تَحُفُّهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُمْ فِي حِلَقٍ؛ لِأَخْذِهِمْ بِهَذَا الْمَقْصِدِ الْجَلِيلِ، لَا كَالَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ يَجْعَلُونَ أَحَادِيثَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ، يَتَحَلَّقُونَ حِلَقًا حِلَقًا، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْآخِرَةَ، أُولَئِكَ لَيْسَ للهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ)).
الْمَسَاجِدُ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْحِلَقَ لِدَرْسِ الْعِلْمِ، لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ، لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَتَدَارُسِ الْقُرْآنِ، لِمَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ، وَالْإِحَاطَةِ بِأَحْكَامِ اللهِ، هَذِهِ تَحُفُّهَا الْمَلَائِكَةُ.
أُولَئِكَ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَسْأَلُ الْمَلَائِكَةَ -وَهُوَ بِخَلْقِهِ أَعْلَمُ- عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ فِي الْمَسَاجِدِ -مَسَاجِدِ اللهِ-، يَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ-، فَيَذْكُرُونَ وَيَذْكُرُونَ، فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ((اشْهَدُوا يَا مَلَائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ)).
تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: ((يَا رَبِّ! فِيهِمْ فُلَانٌ -فِي هَؤُلَاءِ الْمُجْتَمِعِينَ فِي بَيْتِكَ، التَّالِينَ لِكِتَابِكَ، الْمُقْبِلِينَ عَلَى ذِكْرِكَ، الْمُتَحَلِّقِينَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ بِحِلَقِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ- فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ)).
قَالَ: ((هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)).
غَفَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَعَهُمْ، وَمَعِيَّتُهُمْ لَهَا قَدْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَغَفَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ.
*أَهَمِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَالْحِفَاظُ عَلَيْهِ فِي ضَوْءِ سِيرَةِ الرَّسُولِ ﷺ:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ بَنَى مَسْجِدَهُ ﷺ ، ثُمَّ آخَى ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا دَخَلَ الْأَعْرَابِيُّ فَبَالَ فِي مَسْجِدِهِ ﷺ وَبِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَهَمَّ بِهِ الْأَصْحَابُ، غَلَّبَ جَانِبَ الْمَصْلَحَةِ، وَرَاعَى دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الرَّجُلِ، وَقَالَ الصَّحَابَةُ: ((مَهْ مَهْ))، يَزْجُرُونَهُ، مَاذَا تَفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ -فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ-، وَالرَّجُلُ لَا يَعْلَمُ الْأَحْكَامَ، حَدِيثُ عَهْدٍ هُوَ بِهَذَا الْحُكْمِ، لَا يَعْلَمُهُ، فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ.
فَنَهَاهُمُ الرَّسُولُ ﷺ ، وَقَالَ: ((لَا تُزْرِمُوهُ)).
وَالْإِزْرَامُ: قَطْعُ الْبَوْلِ وَالدَّمْعِ وَمَا أَشْبَهَ، فَقَطْعُهُ يَضُرُّ -يَضُرُّ فَاعِلَهُ-.
قَالَ: ((لَا تُزْرِمُوهُ))، فَلَمَّا قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ، أَتَى النَّبِيُّ ﷺ بِأَمْرَيْنِ، أَزَالَ جَهَالَةٍ الرَّجُلِ، وَأَمَرَ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ، فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُرَاقَ عَلَى مَوْضِعِ بَوْلِ الرَّجُلِ، فَطَهَّرَ الْمَوْضِعَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، إِنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللهِ)).
وَنَبِيُّكُمْ ﷺ قَدْ مَنَعَ مَنْ كَانَ ذَا رِيحٍ خَبِيثَةٍ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ اللهِ، يَقُولُ نَبِيُّكُمْ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوْ الْبَصَلَ أَوْ الْكُرَّاتَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتِزْلْ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
هُوَ بَيْتُ اللهِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَمَ، وَأَنْ يُعَظَّمَ، إِذَا أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاتًا، أَوْ كَانَ آتِيًا بِمَا عَلَى قَانُونِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ مِنَ الرَّوَائِحِ لَا مِنْ أَصْلِ الْمَطْعُومِ -فَأَصْلُهَا حَلَالٌ- فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ، وَلْيَعْتَزِلْ بُيُوتَ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسَاجِدِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ الْمُصَلِّينَ فِي بُيُوتِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ مَلَائِكَةَ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ، ((فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
*أَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ لِلسَّعْيِ إِلَى الْمَسَاجِدِ:
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ فَضَائِلِ بُيُوتِ اللهِ ((أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ، وَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ، كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَرْفَعُ دَرَجَةً، وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً مَهْمَا بَعُدَ مَمْشَاهُ))، تُكْتَبُ آثَارُهُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ، ((إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَانْتَظَرَ الصَّلَاةَ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا صَلَّى فَظَّلَ فِي مُصَلَّاهُ، مَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ)).
أَيُّ عَظَمَةٍ، وَأَيُّ شَرَفٍ، وَأَيُّ جَلَالٍ لِمَسَاجِدِ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ!
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ ((أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ -فِي مَسْجِدِهِ؛ يَعْنِي الَّذِي صَلَّى فِيهِ- يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَ كَحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
أَيُّ فَضْلٍ، وَأَيِّ شَرَفٍ، وَأَيُّ جَلَالٍ لِبُيُوتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ عَنْ شَرَفِ وَعُلُوِّ قَدْرِ بُيُوتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ! اتَّقُوا اللهَ فِي شَعَائِرِ اللهِ، وَفِي حُرُمَاتِ اللهِ.
المصدر:الدِّفَاعُ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَمَنْزِلَةُ الْمَسَاجِدِ وَوُجُوبُ حِمَايَتِهَا فِي الْإِسْلَامِ