((مَعَانِي وَأَسْرَارُ دُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ
وَجُمْلَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَةِ وَالْعِيدِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((فَضَائِلُ يَوْمِ عَرَفَةَ))
فَفِي الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ؛ يَومٌ عَظِيمٌ قَدْرُهُ, جَلِيلٌ أَثَرُهُ؛ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ.
أَخرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بسَنَدِهِ، عَنْ عَائشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَة, فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).
وَفِي الْحَدِيثِ إِثبَاتُ صِفَةِ النُّزُولِ لِلرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- فِي يَوْمِ عَرَفَةَ؛ وَهُوَ نُزُولٌ حَقِيقِيٌّ علَى مَا يَلِيقُ بِالرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأخَرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بسَنَدِهِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنّْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبلَهُ, وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعدَهُ)).
وَفِي لَفظٍ: سُئلَ عَنْ صَومِ يَومِ عَرَفَةَ, فَقَالَ: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالسَّنَةَ الْبَاقِيَةَ)).
وَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَا يَكُونُ لِلْكَبَائرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ, وَلَا يَكُونُ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تُؤَدَّى, فَإِنَّمَا يُكَفَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يُكَفَّرُ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ.
وَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا صَامَ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوُرِ وَلَا الْعَمَلَ بِهِ, وَأَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ وَإِنَّمَا الصِّيَامُ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ.
فَإِذَا أَمْسَكَ عَمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ, وَأَخَذَ فِي أَثنَاءِ صِيَامِهِ عَمَّا أُحِلَّ لَهُ؛ يَأْتِي بِمَا حُرِّمَ عَلَيهِ -صَائِمًا وَمُفْطِرًا- مِمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- حَرَامًا فِي كُلِّ حِينٍ وَآنٍ؛ فَمَا هَذَا بصَائمٍ!!
يَصُومُ عَنِ الحَلالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ وَيُمْسِكُ عَنْ ذَلِك؛ وَيَرتَعُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ, وَيَشْتُمُ هَذَا, وَيَسُبُّ هَذَا, وَيَأْكُلُ مَالَ هَذَا, وَيَنفَلِتُ لِسَانُهُ بِمَا لَا يَجْمُلُ وَلَا يَحِلُّ, فَأَيُّ صِائمٍ هَذَا؟!!
وَمَا الَّذِي يُؤَمِّلُهُ مِنْ تَكْفِيرِ ذُنُوبِ سَنَةٍ مَضَتْ أَوْ سَنَةٍ بَقِيَتْ؟!!
إِنَّمَا هَذا يَأْتِي بِالْوِزرِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي الطَّاعَةِ بمَا يَمْحَقُ ثَوابَهَا مَحْقًا, وَالنَّبِيُّ ﷺ أَرْشَدَنَا إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَامَ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّى بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ, وَأَنْ يُمسِكَ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَمَا دُونَهُمَا, ((وَإنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَتَمَهُ فَلْيَقُل: إِنِّي صَائمٌ, إِنِّي صَائمٌ)) .
فَهَذَا فِي رَمَضَانَ، وَفِي كُلِّ صَومٍ.
يَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ فِيهِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ فِيهِ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ؛ فَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَاشَ بَعْدَهَا وَاحِدًا وَثَمَانِينَ يَوْمًا.
قَالَ الْبَغَوِيُّ : ((فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَعْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا -مَعْشَرَ الْيَهُودِ- نَزَلَتْ؛ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا.
قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟
قَالَ: قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ)).
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدَيْنِ؛ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ)) .
فَلْيَعْزِمِ الْمَرءُ وَلْيَنوِ أَنْ يَصُومَ يَومَ عَرَفَةَ -إِنْ لَمْ يَكُنْ صَائمًا فِي الْعَشْرِ-, وَمَنْ لَمْ يَصُمْ فَيَنبَغِي عَلَيهِ أَلَّا يُفَوِّتَ هَذِهِ الفُرصَةَ العَظِيمَةَ.
وَلْيَجتَهِدْ فِي الدُّعَاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ, فِي وَقتِ النُّزولِ الإِلَهِيِّ, وَلْيَسْأَلِ اللَّهَ المَغفِرَةَ, وَلْيَسْأَلِ اللَّهَ الرَّحمَةَ, وَلْيَسْأَلِ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَا أَبَاحَهُ مِنَ الْمَسَائلِ.
لَا يَدْعُو بِإِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ, وَلَا يَعْتَدِي فِي الدُّعَاءِ.
((أَسْرَارُ وَمَعَانِي دُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ))
عَلَى الْمُسْلِمِ أن يُقْبِلَ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَيَأْخُذَ بِذِكْرِ اللهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا قَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَه, لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)) , فَهَذَا خَيْرُ مَا يُقَالُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ.
أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَكْثَرُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، وَإِنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ لَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ.
قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ حَدِيثَ مَنْصُورٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، فَهَلْ سَمِعْتَهُ؟
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: ذَاكَ تَفْسِيرُ هَذَا.
ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي مَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ حِينَ أَتَى ابْنَ جُدْعَانَ يَطْلُبُ نَائِلَهُ وَمَعْرُوفَهُ؟
قَالَ: قُلْتُ: لَا.
قَالَ: إِنَّمَا أَتَاهُ فَقَالَ:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي = حَيَاؤُكَ، إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا = كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَـاءُ
وَهَذَا الْبَيْتُ يُقْرَأُ هَكَذَا -أَيْضًا-:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي = حِبَاؤُكَ، إِنَّ شِيمَتَكَ الْحِبَاءُ
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا = كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ
قَالَ سُفْيَانُ: فَهَذَا مَخْلُوقٌ حِينَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْجُودُ، قِيلَ: يَكْفِينَا مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى حَاجَتِنَا؛ فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ الْعَظِيمِ؟!))
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((جَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ وَأَفْضَلِ الثَّنَاءِ؛ فَإِنَّ الذِّكْرَ نَوْعَانِ: دُعَاءٌ، وَثَنَاءٌ، فَقَالَ: ((أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). وَلَمْ يَقُلْ: أَفْضَلُ مَا قُلْتُ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ، وَإِنَّمَا هُوَ أَفْضَلُ مَا قُلْتُ مُطْلَقًا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ)).
*فَضْلُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)):
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمُقْتَضٍ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُقْتَضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، فَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ؛ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ.
وَلِهَذَا قِيلَ لِلْحَسَنِ: ((إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
فَقَالَ: ((مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)) .
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: ((أَلَيْسَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ؟
قَالَ: بَلَى؛ وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَا أَسْنَانَ لَهُ لَمْ يُفْتَحْ لَكَ، وَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحِ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ)) . فَـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) هِيَ أَعْظَمُ مَا يُقَالُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، كَمَا قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ.
وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) اشْتَمَلَتْ عَلَى نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ؛ فَنَفَتِ الْإِلَهِيَّةَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى، فَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ -فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ-؛ فَلَيْسَ بِإِلَهٍ، وَلَا لَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ شَيْءٌ.
وَأَثْبَتَتْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) الْإِلَهِيَّةَ للهِ وَحْدَهُ؛ بِمَعْنَى: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَأْلَهُ غَيْرَهُ، أَيْ: لَا يَقْصِدُهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّأَلُّهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ الَّذِي يُوجِبُ قَصْدَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ؛ كَالدُّعَاءِ، وَالذَّبْحِ، وَالنَّذْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَأْلَهُ إِلَّا اللهَ؛ أَيْ: لَا يَعْبُدُ إِلَّا هُوَ، فَمَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) عَارِفًا لِمَعْنَاهَا، عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا؛ مِنْ نَفْيِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ للهِ، مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ وَالْعَمَلِ بِهِ.
فَهَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ حَقًّا، فَإِنْ عَمِلِ بِهَا -أي: بـ(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)-ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ فَهُوَ الْمُنَافِقُ، وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِهَا مِنَ الشِّرْكِ فَهُوَ الْكَافِرُ وَلَوْ قَالَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَعْمَلُونَ بِهَا ظَاهِرًا وَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ؟!!
عَبْدَ اللهِ! عَلَيْكَ أَنْ تُحَقِّقَ تَوْحِيدَكَ؛ فَلَيْسَ عَمَلٌ بِنَافِعِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَوْحِيدُكَ مُحَقَّقًا، كَمَا لَوْ أَنَّكَ صَلَّيْتَ بِدُونِ طُهُورٍ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكَ لَا تُعَدُّ صَلَاةً فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ، وَكَذَا مَهْمَا أَتَيْتَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ تَتَزَلَّفُ بِهِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَعَ الشِّرْكِ؛ فَإِنَّهُ حَابِطٌ مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ.
وَعَلَى المَرءِ أَنْ يَجتَهِدَ فِي ذَلِكَ اليَومِ, وَفِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ, وَلَكِنْ فِي هَذَا الْيَوْمِ خَاصَّةً؛ لِعَظِيمِ الرَّحَمَاتِ المُتَنَزَّلَاتِ بِهِ, كَمَا رَوَت عَائشَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَإِنَّهُ تَعَالَى لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ, فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).
فَهَذَا زَمَانُ عِتْقٍ مِنَ النَّارِ, فَلْيُعَرِّضِ الْمَرءُ نَفْسَهُ لِرَحمَةِ رَبِّهِ؛ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ ذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ, وَبِالْإِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَحَابِّهِ.
وَلَيُقبِلْ عَلَى قَلْبِهِ؛ فَلْيُنَقِّهِ مِنْ غِشِّهِ, وَلْيُخَلِّصْهُ مِن وَضَرِهِ, وَلْيَحْمِلْ عَلَى قَلْبِهِ؛ حَتَّى يَستَقِيمَ عَلَى أَمْرِ رَبِّه, وَلْيَدْعُ اللَّهَ جَاهِدًا أَنْ يَهْدِيَ قَلْبَهُ, وَأَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ, وَأَنْ يُصلِحَ بَالَهُ, وَأَنْ يُدْرِكَ أَمَّةَ مُحَمَّدٍ بِرَحْمَةٍ شَامِلَةٍ؛ تَرْفَعُ عَنْهَا الْكَرْبَ, وَتَكْشِفُ عَنْهَا الْهَمَّ وَالْغَمَّ.
فَيَجْتَهِدُ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ فِي الْأَخْذِ بِمَا قَالَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ وَرَغَّبَ فِيهِ؛ وَهُوَ الصِّيَامُ.
ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ خَاصَّةً عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِيُصَادِفَ وَقْتَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ مُتَعَرِّضًا لِرَحَمَاتِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-, عَسَى أَنْ يَرْحَمَهُ اللَّهُ رَبُّ الْعَالْمِينَ, وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مُخْتَصَرُ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَّةِ))
فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَغْفُلُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الطَّيِّبِينَ, فَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ رَغَّبَ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَحَثَّ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ ﷺ.
*ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا:
قَالَ الْعَلَّامَةُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلُ النَّبِيِّ ﷺ وَعَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ؛ وَلِأَنَّ الذَّبْحَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ تَعَالَى، فَلَوْ عَدَلَ النَّاسُ عَنْهُ إِلَى الصَّدَقَةِ لَتَعَطَّلَتْ تِلْكَ الشَّعِيرَةُ)).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الذَّبْحُ فِي مَوْضِعِهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهِ -قال: وَلِهَذَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ بِأَضْعَافِ أَضْعَافِ الْقِيمَةِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ)).
وَشُرُوطُ الْأُضْحِيَّةِ سِتَّةٌ سِوَى الْإِخْلَاصِ؛ فَالْإِخْلَاصُ شَرْطٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ جِمِيعِهَا.
- 1- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ؛ وَهِيَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ -ضَأْنُهَا وَمعْزُهَا-؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ [الحج: 34].
- 2- الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ الْأُضْحِيَّةُ السِّنَّ الْمَحْدُودَ شَرْعًا، بِأَنْ تَكُونَ جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةً مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ.
فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً -وَهِيَ الثَّنِيَّةُ فَمَا فَوْقَهَا- إِلَّا أَنْ تَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ».
وَالجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ: مَا تَمَّ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَالثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ: مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ.
وَالثَّنِيُّ مِنَ الْبَقَرِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ.
وَالثَّنِيُّ مِنَ الغَنَمِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَةٌ.
فَلَا تَصِحُّ الأُضْحِيَّةُ بِمَا دُونَ الثَّنِيِّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقرِ وَالغَنَمِ، وَلَا بِمَا دُونَ الجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ.
- 3-الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِجْزَاءِ؛ وَهِيَ: الْعَوَرُ البَيِّنُ، وَالْمَرَضُ الْبَيِّنُ، وَالْعَرَجُ الْبَيِّنُ، وَالْهُزَالُ الْمُذِيبُ لِلْمُخِّ، وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الْعُيُوبِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
- 4-الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِلْمُضَحِّي، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ.
- 5-الشَّرْطُ الْخَامِس: أَلَّا يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ، فَلَا تَصِحُّ التَّضْحِيَةُ بِالْمَرْهُونِ.
- 6-الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ تَقَعَ فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ شَرْعًا؛ وَهُوَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِيدِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ -وَهُوَ الْيَّوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ-.
فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعَيدِ أَوْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ، لَمْ تَصِحَّ أُضْحِيَّتُهُ.
- وَالْأَفْضَلُ مِنَ الْأَضَاحِي مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ: الْإِبِلُ، ثُمَّ الْبَقَرُ -إِنْ ضَحَّى بِهَا كَامِلَةً-، ثُمَّ الضَّأْنُ، ثُمَّ الْمَعْزُ، ثُمَّ سُبُعُ الْبَدَنَةِ، ثُمَّ سُبُعُ الْبَقَرَةِ.
- وَالْأَفْضَلُ مِنَ الْأَضَاحِي مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ: الْأَسْمَنُ، الْأَكْثَرُ لَحْمًا، الْأَكْمَلُ خِلْقَةً، الْأَحْسَنُ مَنْظَرًا.
- وَتُجْزِئُ الْأُضْحِيَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْغَنَمِ عَنِ الرَّجُلِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَيُجْزِئُ سُبُعُ الْبَعِيرِ أَوْ سُبُعُ الْبَقَرَةِ عَمَّا تُجْزِئُ عَنْهُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْغَنَمِ.
فَلَوْ ضَحَّى الرَّجُلُ بِسُبُعِ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَلَا تُجْزِئُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْغَنَمِ عَنْ شَخْصَيْنِ فَأَكْثَرَ يَشْتَرِيَانِهَا فَيُضَحِّيَانِ بِهَا.
كمَا لَا يُجْزِئُ أَنْ يَشتَرِكَ ثَمَانِيَةٌ فَأَكْثَرَ فِي بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ؛ فَالْعِبَادَاتُ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَلَا يُتَعَدَّى الْوَارِدُ كَمًّا وَلَا كَيْفًا.
*عَمَّنْ تُجْزِئُ الْأُضْحِيَّةُ الْمُضَحَّى بِهَا؟
وَالْأُضْحِيَّةُ الْوَاحِدَةُ تُجْزِئُ مِنَ الْغَنَمِ عَنِ الرَّجُلِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَنْ شَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا نَوَى ذَلِكَ، لَا أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهَا بِدَفْعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِثَمَنِهَا.
*كَيْفِيَّةُ تَوْزِيعِ الْأُضْحِيَّةِ:
وَيُشْرَعُ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، وَأَنْ يُهْدِيَ، وَيَتَصَدَّقَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}.
فَعَلَيْكَ -عَبْدَ اللهِ- أَنْ تَجْتَهِدَ فِي أَنْ تُقَدِّمَ قُرْبَانًا لِرَبِّكَ أَفْضَلَ مَا عِنْدَكَ؛ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
وَمَهْمَا قَدَّمْتَ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ يُخْلِفُهُ.
((جُمْلَةٌ مِنْ سُنَنِ الْعِيدِ))
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: ((مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟)).
قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فَهَذَانِ هُمَا عِيدَا الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، ومِنْ شَعَائِرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: الْفَرَحُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، وَجَعَلَ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ بِعَقِبِ عِبَادَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وَفَرْضَيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ.
((هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ))
* صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى:
مِنَ السُّنَّةِ الَّتِي لَا خِلَافَ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّهَا الرَّسُولُ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ قَطُّ، لَا فِي عِيدِ فِطْرٍ وَلَا أَضْحَى، مَعَ أَنَّ مَسْجِدَ النَّبيِّ ﷺ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ؛ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المُصَلَّى،... » الْحَدِيثَ.
وَأَيْضًا «كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى -جَمِيعَ النِّسَاءِ-»، حَتَّى الْحُيَّضُ يَخْرُجْنَ إِلَى الْمُصَلَّى، يَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى، يَقِفْنَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ بَعِيدًا، يَشْهَدْنَ الخَيْرَ، وَجَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
* فَيُخْرَجُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
* الْحِكْمَةُ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى:
ذَكَرَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْمُصَلَّى.
وَقَالَ:((هَذِهِ السُّنَّةُ -سُنَّةُ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى- لَهَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ بَالِغَةٌ: أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَانِ فِي السَّنَةِ يَجْتَمِعُ فِيهِمَا أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ رِجَالًا وَنِسَاءً وَصِبْيَانًا، يَتَوَجَّهُونَ إِلَى اللهِ بِقُلُوبِهِمْ، تَجْمَعُهُمْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيُصَلُّونَ خَلْفَ إِمَامٍ وَاحِدٍ يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ، وَيَدْعُونَ اللهَ مُخْلِصِينَ كَأَنَّهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ الْعِيدُ عِنْدَهُمْ عِيدًا.
وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِخُرُوجِ النِّسَاءِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَعَ النَّاسِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَا تَلْبَسُ فِي خُرُوجِهَا، بَلْ أَمَرَ أَنْ تَسْتَعِيرَ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِهَا؛ حَتَّى إِنَّهُ أَمَرَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُنَّ عُذْرٌ يَمْنَعُهُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى؛ لِيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَالْأُمَرَاءُ النَّائِبُونَ عَنْهُمْ فِي الْبِلَادِ يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ الْعِيدَ، ثُمَّ يَخْطُبُونَهُمْ بِمَا يَعِظُونَهُمْ بِهِ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ مِمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ، فَيَعْطِفُ الْغَنِيُّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَيَفْرَحُ الْفَقِيرُ بِمَا يُؤْتِيهِ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فِي هَذَا الْحَفْلِ الْمُبَارَكِ الَّذِي تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ وَالرِّضْوَانُ)).
قَالَ: ((فَعَسَى أَنْ يَسْتَجِيبَ الْمُسْلِمُونَ لِاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَلِإِحْيَاءِ شَعَائِرِ دِينِهِمْ الَّذِي هُوَ مَعْقِدُ عِزِّهِمْ وَفَلَاحِهِمْ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
* حُكْمُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ:
صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ؛ لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَيْهَا، وَأَمْرِهِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهَا.
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى -الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ- فَأَمَّا الْحُيَّضُ؛ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! إِحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ.
قَالَ: ((لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا)).
قَالَ صِدِّيقْ حَسَنْ خَانْ -رَحِمَهُ اللهُ-:((قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ صَلَاةُ الْعِيدِ وَاجِبَةٌ أَوْ لَا؟
وَالْحَقُّ: الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ ﷺ مَعَ مُلَازَمَتِهِ لَهَا قَدْ أَمَرَنَا بِالْخُرُوجِ إِلَيْهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَمْرِهِ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ الرَّكْبُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ... وَسَاقَهُ.
قَالَ: فَالْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ لِمَنْ لَا عُذْرَ لَهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَالرِّجَالُ أَوْلَى مِنَ النِّسَاءِ بِذَلِكَ؛ بَلْ ثَبَتَ الْأَمْرُ الْقُرْآنِيُّ بِصَلَاةِ الْعِيدِ كَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر: 2]، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْمُرَادُ: صَلَاةُ الْعِيدِ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا: أَنَّهَا مُسْقِطَةٌ لِلْجُمُعَةِ إِذَا اتَّفَقَتَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ, وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يُسْقِطُ مَا كَانَ وَاجِبًا)).
وَقَالَ: ((وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ مَا يُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ)).
قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-:((وُجُوبُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ)).
عَنْ أُخْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((وَجَبَ الْخُرُوجُ عَلَى كُلِّ ذَاتِ نِطَاقٍ -يَعْنِي: فِي الْعِيدَيْنِ-)).
فَالرِّجَالُ أَوْلَى كَمَا قَالَ صِدِّيق حَسَن خَان -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.
فَصَلَاةُ الْعِيدِ؛ الْأَدِلَّةُ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى وُجُوبِهَا.
* وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ يُلْبَسُ الْجَدِيدُ:
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ))، وَجَوَّدَهُ -أَيْ: جَوَّدَ إِسْنَادَهُ- الْأَلْبَانِيُّ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْأَحْمَرَ الْمُصْمَتَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ نَهَى عَنْ لُبْسِهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمْرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ))
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
* وَيُسْتَحَبُّ مُخَالَفَةُ الطَّرِيقِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَيَذْهَبُ فِي طَرِيقٍ، وَيَرْجِعُ فِي آخَرَ:
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ؛ خَالَفَ الطَّرِيقَ)).
«سُنَّةُ التَّكْبِيرِ مُنْفَرِدًا فِي الطَّرِيقِ وَالْمُصَلَّى بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ»
عَلَيْنَا أَنْ نُكَبِّرَ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ الذَّهَابِ إِلَى الْمُصَلَّى بِصَوْتٍ عَالٍ، لَا نَسْتَحِي؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا نَسْتَحِي مِنَ التَّكْبِيرِ.
تُكَبِّرُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ, وَأَنْتَ سَائِرٌ فِي الطَّرِيقِ إِلَى أَنْ تَجْلِسَ فِي الْمُصَلَّى، فَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: «كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ العِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ البِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ وَطُهْرَتَهُ».
* وَإِذَا دَخَلْتَ الْمُصَلَّى لَا تُصَلِّ؛ لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي الْمُصَلَّى -يَعْنِي قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ-»، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ يَوْمَ الفِطْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَمَعَهُ بِلَالٌ».
* التَّكْبِيرُ فِي عِيدِ الْأَضْحَى:
وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- التَّكْبِيرُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الْحَمْدُ». أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «تَمَامِ الْمِنَّةِ».
* وَمِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ الثَّابِتَةِ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ»؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ, يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ».
وَمِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ أَيْضًا: «اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الْحَمْدُ، اللهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، اللهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا».
فَالتَّكْبِيرُ يَكُونُ بِأَيِّ صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ الْوَارِدَةِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
* التَّحْذِيرُ مِنْ بِدْعَةِ التَّكْبِيرِ الْجَمَاعِيِّ:
«وَإِذَا مَا جَلَسَ الْإِنْسَانُ فِي الْمُصَلَّى عَلَيْهِ أَنْ يُكَبِّرَ وَحْدَهُ»، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَائِدٌ يَأْخُذُ الْمُكَبِّرَ -مُكْبِّرَ الصَّوْتِ- وَيَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ... وَهُمْ يَسِيرُونَ خَلْفَهُ مِثْلَ الْمَايِسْتِرُو مَعَ فِرْقَتِهِ، فَهَذَا غَيْرُ وَارِدٍ، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ!!
كُلُّ وَاحِدٍ يُكَبِّرُ وَحْدَهُ مَعَ رَبِّهِ -وَحْدَهُ-، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ، فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ، بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، فَهَذَا بِدْعَةٌ.
النَّاسُ يُعْلِنُونَ التَّكْبِيرَ لَا يَسْتَحُونَ، يُكَبِّرُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي الطُّرُقَاتِ، عَلَى الْفُرُشِ، فِي الْبُيُوتِ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، لَا يَتَوَاطَؤُونَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَأْتُونَ بِالتَّكْبِيرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ مَعَ الْجَهْرِ فِي مَسَاجِدِ اللهِ بِعَقِبِ الصَّلَوَاتِ؛ هَذِهِ بِدْعَةٌ.
وَالتَّكْبِيرُ الْجَمَاعِيُّ بِدْعَةٌ فِي الطُّرُقَاتِ، فِي الْمَسَاجِدِ، فِي الْمُصَلَّى، وَإِنَّما «يُكَبِّرُ كُلٌّ رَبَّهُ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ، يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ، هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ فِيهِ»، يُكَبِّرُ رَبَّهُ، وَيَشْكُرُ وَيَفْرَحُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ؛ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، يَفْرَحُ بِالطَّاعَةِ، وَيَشْكُرُ اللهَ بِهَا.
فَيُكَبِّرُ التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا إِلَّا فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا لِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.
وَيُكَبَّرُ تَكْبِيرٌ مُقَيَّدٌ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ مِنْ فَجْرِ عَرَفَةَ إِلَى عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ غَيْرِ مَا تَوَاطِئٍ وَلَا اجْتِمَاعٍ مُتَعَمَّدٍ عَلَى التَّكْبِيرِ.
((الْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي عِيدِ الْمُسْلِمِينَ))
شَرَعَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَيْضًا الْفَرَحَ فِي أَيَّامٍ هِيَ مِنْ أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَعْيَادُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ».
وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ الْإِنْسَانُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ الحَادِي عَشَرَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ وَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ عِيدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَكْبَرُ, وَهُوَ بِعَقِبِ أَدَاءِ النُّسُكِ الجَلِيلِ الَّذِي يُيَسِّرُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ؛ مِنَّةً مِنْهُ وَعَطَاءً.
وَقَدْ رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِاللَّعِبِ الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ:
فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ -وَهُوَ شِعْرٌ حَمَاسِيٌّ-، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!! وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ((دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي, وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ؟!! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((دَعْهُمَا))، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا)).
وَفِي حَدِيثِ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ))، وَفِيهِ رِوَايَةٌ: وَزَادَ فِيهِ:((وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).
وَتُسْتَحَبُّ التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ:
فَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ؛ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ((تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ)).
فَهَذَا اللَّهْوُ الْمُرَخَّصُ فِيهِ مُرَخَّصٌ فِيهِ، فَهُوَ لَهْوٌ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَلَيْسَ بِأَيِّ لَهْوٍ، وَأَمَّا أَنْ يُتَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ الْمَرْءُ إِلَى مَا حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ فَمَا يَلِيقُ بِعَبْدٍ أَنْ يُقَابِلَ نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ..
((يَوْمُ عَرَفَةَ بِدَايَةُ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ!!))
عِبَادَ اللهِ! مَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ كَفَّرَ اللهُ عَنْهُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ: سَنَةٍ مَاضِيَةٍ وَسَنَةٍ بَاقِيَةٍ.
وَيَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ عِنْدَ اللهِ، يَدْنُو فِي عَشِيَّتِهِ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَأَهْلُ الْمَوْقِفِ فِي الْمَوْقِفِ يَتَبَتَّلُونَ يَبْكُونَ، يَتَضَرَّعُونَ يَجْأَرُونَ بِالتَّوْبَةِ لِلْعَلِيِّ الْجَلِيلِ، وَقَدْ تَرَكُوا الْأَهْلَ وَالْمَالَ وَالْوَلَدَ، وَخَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ جَمِيعَ مَا مَلَكُوا وَمَا آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ نِعْمَةِ الدُّنْيَا.
وَلَيْسَ أَمَامَهُمْ إِلَّا اللهُ، يَضْرَعُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بَاكِينَ مُتَبَتِّلِين، ضَارِعِينَ مَتَذَلِّلِينَ، خَائِفِينَ وَجِلِينَ مُشْفِقِينَ، قَلِقِينَ؛ يَقْلَقُ مِنْهُمُ الْحَشَا، وَيَضْطَرِبُ الْفُؤَادُ، وَيَتَلَهَّبُ الْكَبِدُ؛ شَوْقًا إِلَى الْعَلِيِّ رَبِّ الْأَرْبَابِ، حَتَّى لَوْ أَنَّكَ أَعْمَلْتَ الْبَصِيرَةَ نَوْعًا مَا؛ لَشَمَمْتَ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ رَائِحَةَ الْكَبِدِ الْمُحْتَرِقِ؛ شَوْقًا وَمَحْبَّةً، وَتَقَرُّبًا إِلَى اللهِ وَتَزَلُّفًا.
يَوْمُ عَرَفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُخْلِصَ فِيهِ الْمَرْءُ للهِ، أَنْ يَتُوبَ الْإِنْسَانُ لِرَبِّهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فَهُوَ يَوْمٌ فَرِيدٌ فِي الْعَامِ، وَإِذَا مَضَى لَنْ يَعُودَ إِلَّا بَعْدَ عَامٍ.
وَمَنْ يَدْرِي أَيَعُودُ وَالْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا يَتَمَتَّعُ بِالْحَيَاةِ أَمْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ طَرِيحَ الْفِرَاشِ قَدْ حُبِسَ فِي جِلْدِهِ؟!! وَأَصْبَحَ بَعْضُه فِي حَاجَةٍ إِلَى بَعْضِهِ، فَيَهْفُو إِلَى الطَّاعَةِ، وَيَنْدَمُ عَلَى التَّقْصِيرِ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ!!
لَا يَدْرِي الْمَرْءُ أَيَعُودُ -إِنْ عَادَ- وَالْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا يَتَمَتَّعُ بِنِعْمَةِ الْحَيَاةِ أَمْ يَكُونُ حَبِيسَ قَبْرٍ مُظْلِمٍ، فِيهِ الْوَحْشَةُ، وَفِيهِ الْغُرْبَةُ، وَفِيهِ الْهَوَانُ وَالدُّودُ!!
يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ، تَقُولُ فِيهِ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِيمَا سَمِعَتْهُ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ)).
مَا مِنْ يَوْمٍ فِي الْعَامِ.. مَا مِنْ يَوْمٍ فِي الْحَيَاةِ.. مَا مِنْ يَوْمٍ فِي الدُّنْيَا هُوَ أَكْثَرُ عِتْقًا لِلْمُذْنِبِينَ مِنَ النَّارِ فِيهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَهُوَ يَوْمُ الْعِتْقِ الْأَكْبَرِ.
((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو -يَعْنِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، يَدْنُو الْجَبَّارُ -جَلَّ وَعَلَا-- وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ؛ يَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((إِنَّ اللهَ يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي! جَاؤُونِي شُعْثًا غُبْرًا)) .
وَلَمْ يَحْرِمْنَا اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وَلَمْ نَشْهَدِ الْمَوْسِمَ- مِنْ عَطَايَاهُ.
فَلْيَكُنْ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ تَغْيِيرٍ فِي خَرِيطَةِ الْحَيَاةِ.
فَلْيَكُنْ يَوْمُ عَرَفَةَ وَقْفَةً يَقِفُ فِيهَا الْمَرْءُ مُتَأَمِّلًا فِي الَّذِي فَاتَ فِي الْعُمُرِ، الَّذِي مَضَى فِي السِّنِينِ الَّتِي تَوَلَّتْ، فِي الْأَيَّامِ الَّتِي كَرَّتْ، فِي الدُّهُورِ الَّتِي انْصَرَمَتْ، فِي الْأَنْفَاسِ الَّتِي احْتَرَقَتْ.
يَنْظُرُ الْمَرْءُ فِيمَا مَضَى، وَيَقِيسُ الْآتِي عَلَى الْمَاضِي، وَالَّذِي مَضَى لَحْظَةٌ أَوْ كَمِثْلِ اللَّحْظَةِ، فَالْآتِي -مَهْمَا طَالَ- لَحْظَةٌ أَوْ كَمِثْلِ اللَّحْظَةِ، فَالْبَاقِي مِنَ الْعُمُرِ لَحْظَةٌ!!
هَذَا الْيَوْمُ الْجَلِيلُ الْكَبِيرُ الْقَدْرِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يَحْتَاجُ تَوْبَةً، وَيَحْتَاجُ إِنَابَةً، وَيَحْتَاجُ ذِكْرًا وَإِقْبَالًا عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَيْهِ أَلَّا نَكُونَ نَشَازًا فِي هَذَا الْكَوْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْصِي اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْكَوْنِ إِلَّا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ؛ إِلَّا الثَّقَلَانِ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَطَائِعٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مُسَخَّرٌ لِجَلَالِ قُدْرَتِهِ.
فَيَنْبَغِي أَلَّا نَكُونَ نَشَازًا -هَكَذَا- فِي مَنْظُومَةِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [النجم: 6].
النَّجْمُ: مَا نَجَمَ مِنَ الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ لَهُ سَاقٌ، وَلَيْسَ النَّجْمُ الَّذِي يَتَرَاءَى مُتَلَأْلِئًا فِي السَّمَاءِ، وَالشَّجَرُ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ {النَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}.
فَادْخُلْ فِي مَنْظُومَةِ السُّجُودِ الْأَخْضَرِ سَاجِدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَكُلُّ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَبَاتٍ سَاجِدٌ للهِ، وَالْحَصَى مُسَبِّحٌ بِحَمْدِ اللهِ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ جَبَلٍ وَلَا حَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ نَبَاتٍ وَلَا شَجَرٍ ،وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللهِ، لَا يَعْصِي اللهَ إِلَّا الْإِنْسَانُ وَإِلَّا الْجِنُّ؛ إِلَّا الثَّقَلَانِ.
عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِكَيْ يَكُونَ فِي عِيدٍ حَقًّا وَصِدْقًا؛ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي طَهَارَةِ قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ، عَلَيْهِ أَنْ يَحْنُوَ عَلَى ضَمِيرِهِ وَدَاخِلَتِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُفَتِّشَ فِي أَطْوَاءِ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الدَّغَلَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ وَالْغِشِّ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.