تفريغ محاضرة ((وَقَفَاتٌ وَعِبَرٌ مِنْ سِيرَةِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )) الشَّيْخُ د. مُحَمَّد بْن غيث غيث -حفظه الله-.

((وَقَفَاتٌ وَعِبَرٌ مِنْ سِيرَةِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )) الشَّيْخُ د. مُحَمَّد بْن غيث غيث -حفظه الله-.

 ((وَقَفَاتٌ وَعِبَرٌ مِنْ سِيرَةِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ))

الشَّيْخُ د. مُحَمَّد بْن غيث غيث -حفظه الله-.

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عِمْرَان: ١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النِّسَاء: 1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَاب: ٧٠-٧١].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ))

أَيُّهَا الْأَفَاضِلُ! عُنْوَانُ مُحَاضَرَتِنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ: ((وَقَفَاتٌ وَعِبَرٌ مِنْ سِيرَةِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-)).

قُدْوَةٌ مِنْ قُدْوَاتِ الْأُمَّةِ الَّتِي إِذَا تَنَاسَتْهَا تَخَبَّطَتْ فِي طَرِيقِهَا، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَنْ يَأْتِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَعِيشَ حَيَاتَهُمْ، وَأَنْ يَسْلُكَ نَهْجَهُمْ.

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وَرَأْسُ الصَّادِقِينَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا ﷺ صِدِّيقُهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-.

{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} مُحَمَّدٌ ﷺ، {وَصَدَّقَ بِهِ} أَبُو بَكْرٍ، {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.

مَعَ أَعْظَمِ رَجُلٍ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ.

سِيرَتُهُ تَعْجَزُ عَنْ سَرْدِهَا الْأَزْمَانُ، وَتَتَقَاصَرُ دُونَ حَمْلِهَا الْأَسْفَارُ الْكِبَارُ.

خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((اسْمُهُ وَنَسَبُهُ وَمَوْلِدُهُ))

أَبُو بَكْرِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ.

يَلْتَقِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي (مُرَّةَ).

وَأُمُّهُ: أُمُّ الْخَيْرِ سَلْمَى بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبٍ، بِنْتُ عَمِّ أَبِيهِ.

وَأَبُوهُ أَبُو قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَمْرٍو، وَهُمَا صَحَابِيَّانِ هُوَ وَأَبُوهُ -عَلَيْهِمَا رِضْوَانُ اللهِ-

وُلِدَ بَعْدَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ ﷺ بِسَنَتَيْنِ وَأَشْهُرٍ، وَمَاتَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً.

 

((لُقِّبَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِالصِّدِّيقِ وَالْعَتِيقِ))

أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ الْمَلِكِ الْخَلَّاقِ، وَقَدِ اخْتُصَّ بِأُمُورٍ كَبِيرَةٍ، وَمَوَاقِفَ عَظِيمَةٍ لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ.

سَمَّاهُ النَّبِيُّ ﷺ بِـ(الصِّدِّيقِ)، وَسَمَّاهُ بِـ(الْعَتِيقِ).

فِي ((الْبُخَارِيِّ)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَعَدَ أُحُدًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ أُحُدٌ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اثْبُتْ أُحُدٌ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ)). 

 وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) عن النَّزَّالِ بْنْ سَبُرَةَ قَالَ: ((قُلْنَا لِعَلِيِّ! يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَخْبِرْنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ)).

قَالَ: ((ذَاكَ امْرُؤٌ سَمَّاهُ اللهُ (الصِّدِّيقَ) عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ، وَعَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَانَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى الصَّلَاةِ، رَضِيَهُ لِدِينِنَا فَرَضِينَاهُ لِدُنْيَانَا)). وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.

وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي يَحْيَى قَالَ: ((لَا أُحْصِي كَمْ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: إِنَّ اللهَ سَمَّى أَبَا بَكْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صِدِّيقًا)).

وَكَانَ ابْتِدَاءُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؛ أَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟

قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ؛ لَقَدْ صَدَقَ.

قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟!!

قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ)).

وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ بِـ(عَتِيقٍ)؛ فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((أَنْتَ عَتِيقُ اللهِ مِنَ النَّارِ)), فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ عَتِيقًا)).

((أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَحَبُّ النَّاسِ لِلرَّسُولِ ﷺ ))

وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَحَبَّ الرِّجَالِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَا يُدَانِيهِ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ: فَأَتَيْتُ فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟)).

قَالَ: ((عَائِشَةُ)).

قُلْتُ: ((فَمِنَ الرِّجَالِ؟)).

فَقَالَ: ((أَبُوهَا)).

قُلْتُ: ((ثُمَّ مَنْ؟)).

قَالَ: ((ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)).

قَالَ: ((فَعَدَّ رِجَالًا)).

((صُحْبَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَسُولَ اللهِ ﷺ ))

أَطْوَلُ الصَّحَابِةِ صُحْبَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، صَحِبَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبْلَ الْبِعْثَةِ، وَسَبَقَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ طُولَ حَيَاتِهِ؛ مِنْ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ، ثُمَّ مُرَافَقَتُهُ فِي الْهِجْرَةِ، ثُمَّ فِي الْغَارِ، ثُمَّ فِي الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا إِلَى أَنْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَقَّبَهُ الْمُسْلِمُونَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: ((أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: لِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ فِي الْمُهَاجِرِينَ: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، فَمَنْ سَمَّاهُ اللهُ صَادِقًا لَمْ يَكْذِبْ، هُمْ سَمَّوْهُ وَقَالُوا: ((يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ)) )).

وَهُوَ أَخَصُّ النَّاسِ صُحْبَةً بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي)).

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي، وَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا)).

أَيْ: نَبِيُّنَا خَلِيلُ اللهِ.

فَالْخُلَّةُ لِنَبِيِّنَا، لَيْسَتْ لِلْبَشَرِ، إِنَّمَا هُوَ خَلِيلُ اللهِ، وَأَمَّا الصِّدِّيقُ فَهُوَ صَاحِبُهُ.

وَثَبَتَ عِنْدَ ((الْبُخَارِيِّ)) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ؛ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ)).

فَسَلَّمَ وَقَالَ: ((إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ -أَيْ: كَانَ بَيْنَهُمَا تَلَاسُنٌ فِي الْكَلَامِ-، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ -يَعْنِي: تَكَلَّمَ فِيهِ الصِّدِّيقُ-، ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ)).

ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ؛ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبَا بَكْرٍ، فَسَأَلَ: ((أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟)).

فَقَالُوا: ((لَا)).

فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ -أَيْ: عَلَى عُمَرَ-، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَاللهِ! أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، وَاللهِ! أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي؟)).

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: ((فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا)).

وَيَكْفِيهِ فِي إِثْبَاتِ الصُّحْبَةِ إِثْبَاتُ اللهِ لَهُ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّاحِبِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: ((عَاتَبَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ وَحْدَهُ؛ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40])).

((أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ ))

وَهُوَ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، كَمَا أَنَّ ابْنَتَهُ الصِّدِّيقَةَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَعْلَمُ نِسَاءِ الْأُمَّةِ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْهَا: ((وَلَا يُعْلَمُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ امْرَأَةٌ بَلَغَتْ مِنَ الْعِلْمِ مَبْلَغَهَا)).

وَأَمَّا عِلْمُ الصِّدِّيقِ فَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ-: ((وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُ لَهُ وَلِعُمَرَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَعْظَمَ اخْتِصَاصًا بِالنَّبِيِّ ﷺ مِنْهُ ثُمَّ عُمَرُ.

وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِثْلُ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصِّدِّيقَ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ، قَالَ: وَهَذَا بَيِّنٌ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي وِلَايَتِهِ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَصَّلَهَا هُوَ بِعِلْمٍ يُبَيِّنُهُ لَهُمْ، وُحُجَّةٍ يُذْكُرُهَا لَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ مَوْتَ النَّبِيِّ ﷺ، وَتَثْبِيتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقِرَاءَتَهُ عَلَيْهِمُ الْآيَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَوْضِعَ دَفْنِهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ لَمَّا اسْتَرَابَ فِيهِ عُمَرُ.

هَذِهِ أُمُورٌ انْفَرَدَ بِهَا الصِّدِّيقُ دُونَ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ.

وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْخِلَافَةَ فِي قُرَيْشٍ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ لَمَّا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا تَكُونُ فِي غَيْرِ قُرَيْشٍ.

قَالَ: وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَوَّلِ حَجَّةٍ حُجَّتْ مِنْ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

قَالَ: وَعِلْمُ الْمَنَاسِكِ أَدَقُّ مَا فِي الْعِبَادَاتِ، وَلَوْلَا سَعَةُ عِلْمِهِ بِهَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا، وَلَوْلَا عِلْمُهُ بِهَا لَمْ يَسْتَخْلِفْهُ.

قَالَ: وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ غَيْرَهُ؛ لَا فِي حَجٍّ، وَلَا فِي صَلَاةٍ.

قَالَ: وَكِتَابُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ -يَعْنِي: أَنْصَابَ الزَّكَاةِ- أَخَذَهُ أَنَسٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: وَهُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِيهَا، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْفُقَهَاءُ.

قَالَ: وَفِي الْجُمْلَةِ؛ لَا يُعْرَفُ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْأَلَةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ غَلِطَ فِيهَا، وَقَدْ عُرِفَ لِغَيْرِهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((وَلَا يُحْفَظُ لِلصِّدِّيقِ خِلَافُ نَصٍّ وَاحِدٍ أَبَدًا، وَلَا يُحْفَظُ لَهُ فَتْوَى وَلَا حُكْمٌ مَأْخَذُهَا ضَعِيفٌ أَبَدًا، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ خِلَافَتِهِ خِلَافَةِ نُبُوَّةٍ)).

وَمِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ النَّاسَ فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللهِ)).

قَالَ: ((فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ، أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا)).

قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي ((تَارِيخِ الْخُلَفَاءِ)): ((وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((كَانَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَقْرَأَ الصَّحَابَةِ -أَيْ: أَقْرَأَ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِالْقُرْآنِ-، قَالَ: لِأَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدَّمَهُ إِمَامًا لِلصَّلَاةِ بِالصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مَعَ قَوْلِهِ: ((يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ))، فَلَمَّا قَدَّمَهُ لِلصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الصِّدِّيقُ أَحَدُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ كُلَّهُ)).

قَالَ السُّيُوطِيُّ: ((وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أَعْلَمَهُمْ بِالسُّنَّةِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَبْرُزُ عَلَيْهِمْ بِنَقْلِ سُنَنٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ يَحْفَظُهَا هُوَ وَيَسْتَحْضِرُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ وَاظَبَ عَلَى صُحْبَةِ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ أَوَّلِ الْبِعْثَةِ إِلَى الْوَفَاةِ؟

وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَذْكَى عِبَادِ اللهِ وَأَعْقَلِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُرْوَ عَنْهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُسْنَدَةِ إِلَّا الْقَلِيلُ؛ لِقِصَرِ مُدَّتِهِ، وَسُرْعَةِ وَفَاتِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَإِلَّا فَلَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ لَكَثُرَ ذَلِكَ عَنْهُ جِدًّا.

قَالَ: وَلَمْ يَتْرُكِ النَّاقِلُونَ عَنْهُ حَدِيثًا إِلَّا نَقَلُوهُ، وَلَكِنْ كَانَ الَّذِينَ فِي زَمَانِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يَحْتَاجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ مَا قَدْ شَارَكَهُ هُوَ فِي رِوَايَتِهِ، فَكَانُوا يَنْقُلُونَ عَنْهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ)).

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي ((تَهْذِيبِهِ)): ((رُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ عَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِائَةُ حَدِيثٍ وَاثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا، قَالَ: وَسَبَبُ قِلَّةِ رِوَايَتِهِ مَعَ تَقَدُّمِ صُحْبَتِهِ وَمُلَازَمِتِهِ لِلنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنَّهُ تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ انْتِشَارِ الْأَحَادِيثِ وَاعْتِنَاءِ التَّابِعِينَ بِسَمَاعِهَا وَتَحْصِيلِهَا وَحِفْظِهَا)).

قَالَ السُّيُوطِيُّ: ((وَقَدْ ذَكَرَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي حَدِيثِ الْبَيْعَةِ السَّابِقِ -أَيْ: بَيْعَةِ السَّقِيفَةِ- أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أُنْزِلَ فِي الْأَنْصَارِ أَوْ قَدْ ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي شَأْنِهِمْ إِلَّا ذَكَرَهُ.

قَالَ: وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى كَثْرَةِ مَحْفُوظِهِ مِنَ السُّنَّةِ، وَسَعَةِ عِلْمِهِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ)).

((وَكَانَ الصِّدِّيقُ مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَتَوَارِيخِهِمْ لَا سِيَّمَا قُرَيْشٌ، أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ شَيْخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: ((كَانَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ مِنْ أَنْسَبِ الْعَرَبِ لِقُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا أَخَذْتُ النَّسَبَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ)).

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنْسَبِ الْعَرَبِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ مَعَ ذَلِكَ غَايَةً فِي عِلْمِ التَّأْوِيلِ -تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا-، وَقَدْ كَانَ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: ((هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي هَذَا الْعِلْمِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْبَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ )) )).

وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: ((مَنْ كَانَ يُفْتِي النَّاسَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟)).

فَقَالَ: ((أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؛ مَا أَعْلَمُ غَيْرَهُمَا)) )).

قَالَ السُّيُوطِيُّ: ((قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((وَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ وَأَخْطَبِهِمْ)).

قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: ((سَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: أَفْصَحُ خُطَبَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- )) )).

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا جَاءَ فِي قِصَّةِ سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: ((فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ الرَّاوِي: ((فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ، فَأَسْكَتَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: ((وَاللهِ! مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا إِنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي، خَشِيتُ أَلَّا يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ)).

قَالَ: ((ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَتَكَلَّمَ أَبْلَغَ النَّاسِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ عُمَرُ: ((وَقَدْ كُنْتُ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي، أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ كُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ، وَهُوَ كَانَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ)).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((عَلَى رِسْلِكَ)).

قَالَ: ((فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنِّي)).

قَالَ: ((وَاللهِ! مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي -أَيْ: زَوَّرَهَا فِي نَفْسِهِ- إِلَّا قَالَ فِي بَدَاهَتِهِ مِثْلَهَا وَأَفْضَلَ مِنْهَا حَتَّى سَكَتَ)).

قَالَ السُّيُوطِيُّ: ((وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ: حَدِيثُ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ حَيْثُ سَأَلَ عُمَرُ الرَّسُولَ ﷺ عَنْ ذَلِكَ الصُّلْحِ، وَقَالَ: ((عَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟)))).

لَمَّا اصْطَلَحَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ قُرَيْشٍ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ اعْتَرَضَ عُمَرُ، وَجَعَلَ يَقُولُ لِلرَّسُولِ-عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((عَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟!!)).

فَأَجَابَهُ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَقَالَ لَهُ: ((عَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟!!)).

فَأَجَابَهُ أَبُو بَكْرٍ كَمَا أَجَابَهُ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- سَوَاءً بِسَوَاءٍ)).

وَهَذِهِ الْقِصَّةُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ.

قَالَ عُمَرُ: ((فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قُلْتُ: ((أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟!!)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قُلْتُ: ((فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟!!)). أَيْ: لِمَاذَا لَمْ نُقَاتِلْهُمْ، وَنَصْطَلِحُ مَعَهُمْ؟

قَالَ: ((إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي)).

قُلْتُ: ((أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟)).

قَالَ: ((بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟)).

نَعَمْ، أَخْبَرْتُكَ سَنَأْتِي، وَلَكِنْ لَمْ أُخْبِرْكَ أَنَّا سَنَأْتِي هَذِهِ السَّنَةَ.

قَالَ: قُلْتُ: ((لا)).

قَالَ: ((فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ)).

قَالَ: ((فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ)). وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ..

وَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ الْمُوَافَقَةِ، وَعِظَمِ اتِّبَاعِ أَبِي بَكْرٍ!

فَقُلْتُ: ((يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلَيْسَ هَذَا نَبِيُّ اللهِ حَقًّا؟!!)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قُلْتُ: ((أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟!!)).

قَالَ: ((بَلَى)).

قُلْتُ: ((فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟!!)).

 قَالَ: ((أَيُّهَا الرَّجُلُ! إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَيْسَ يِعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ)) كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ. قَالَ: ((إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي)).

قَالَ: ((أَيُّهَا الرَّجُلُ! إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَيْسَ يِعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللهِ! إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ)).

قُلْتُ: ((أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ)).

قَالَ: ((بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟)).

قُلْتُ: ((لَا)).

قَالَ: ((فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ)).

قَالَ السُّيُوطِيُّ: ((وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أَسَدَّ الصَّحَابَةِ رَأْيًا، وَأَكْمَلَهُمْ عَقْلًا)).

((جُودُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَإِنْفَاقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ))

وَكَانَ أَجْوَدَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-..

قَالَ النَّوَوِيُّ: ((كَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَهْلَ مُشَاوَرَتِهِمْ، وَمُحَبَّبًا فِيهِمْ، وَأَعْلَمَ لِمَعَالِمِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ آثَرَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَدَخَلَ فِيهِ أَكْمَلَ دُخُولٍ)).

((وَلَمَّا عَادَتْهُ قُرَيْشٌ وَأَرَادَ الْهِجْرَةَ إِلَى الْحَبَشَةِ حَتَّى بَلَغَ (بَرْكَ الْغَمَادِ) لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَّةِ -وَهُوَ سَيِّدُ (الْقَارَةِ)-، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ: ((أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟)).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ أَعْبُدُ رَبِّي)).

فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ: ((مِثْلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ وَلَا يَخْرُجُ؛ فَإِنَّكَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ)).

فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ وَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَّةِ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَقَالَ: ((إِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ وَلَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ؟!!)).

فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَّةِ، وَأَمَّنُوا أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

وَكَانَ عِنْدَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَنْفَقَهَا كُلَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ)).

فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: ((هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ)). رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَأَحْمَدُ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) قَالَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَفَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللهِ)).

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟)).

قُلْتُ: ((مِثْلَهُ)).

قَالَ: ((وَأَتَى أَبُوبَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟)).

قَالَ: ((أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ)).

قُلْتُ: ((لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

((الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ))

((وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَعَفَّ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَقَدْ تَرَكَ هُوَ وَعُثْمَانُ شُرْبَ الْخَمْرِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)).

وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَتْ: ((لَقَدْ حَرَّمَ أَبُو بَكْرٍ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)) )).

((الصِّدِّيقُ لَمْ يَعْبُدِ الْأَوْثَانَ وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي قَبُولِ الْإِسْلَامِ))

وَلَمْ يَكُنِ الصِّدِّيقُ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي قَبُولِ الْإِسْلَامِ.

فِي ((سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ)) أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ)).

وَتَقَدَّمَ: ((إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ)).

((تَعْظِيمُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلنَّبِيِّ ﷺ وَسُنَّتِهِ))

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَلِسُنَّتِهِ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ: ((لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا وَعَمِلْتُ بِهِ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ)).

قَالَ ابْنُ بَطَّةَ فِي ((الْإِبَانَةِ)) مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الْأَثَرِ: ((هَذَا -يَا إِخْوَانِي- الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، يَتَخَوَّفُ عَلَى نَفْسِهِ الزَّيْغَ إِنْ هُوَ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ نَبِيِّهِ ﷺ، فَمَاذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ زَمَانٍ أَضْحَى أَهْلُهُ يَسْتَهْزِئُونَ بِنَبِيِّهِمْ وَبِأَوَامِرِهِ، وَيَتَبَاهَوْنَ بِمُخَالَفَتِهِ وَيَسْخَرُونَ بِسُنَّتِهِ)).

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ! لَوْلَا أَبَا بَكْرٍ اسْتُخْلِفَ مَا عُبِدَ اللهُ فِي الْأَرْضِ))، يُكَرِّرُ ذَلِكَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَهْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟

فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَجَّهَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي سَبْعِ مِائِةٍ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِـ(ذِي طُوَى) أَوْ بِـ(ذِي خَشَبٍ) قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ! رُدَّ هَؤُلَاءِ، تُوَجِّهُ هَؤُلَاءِ إِلَى الرُّومِ وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ؟!!

فَقَالَ: ((وَاللهِ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ! لَوْ جَرَّتِ الْكِلَابُ فِي أَرْجُلِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَا رَدَدْتُ جَيْشًا وَجَّهَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَلَا حَلَلْتُ لِوَاءً أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ ))، هَذِهِ سُنَّةٌ بَعَثَهَا النَّبِيُّ ﷺ وَعَقَدَ لِوَاءَهَا.

قَالَ: فَوَجَّهَ أُسَامَة، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِقَبِيلٍ -أَيْ: بِقَبِيلَةٍ- يُرِيدُونَ الِارْتِدَادَ إِلَّا قَالُوا: لَوْلَا أَنَّ لِهَؤُلَاءِ قُوَّةً مَا خَرَجَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَلَكِنْ نَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوُا الرُّومَ.

قَالَ: فَلَقَوُا الرُّومَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، فَثَبَتَ أُولَئِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ فَخَطَبَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ ثُمَّ قَالَ: ((وَاللهِ! لَئِنْ تَخْطِفُنِي الطَّيْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَبْدَأَ بِشَيْءٍ قَبْلَ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَبَعَثُهُ)).

ثَبَتَ الْأَبْعَدُونَ بِاتِّبَاعِ هَذِهِ السُّنَّةِ، وَارْتَدَّ الْأَقْرَبُونَ، فَقَاتَلَهُمُ الصِّدِّيقُ وَمَنْ مَعَهُ، فَرَدَّ النَّاس إِلَى الْإِسْلَامِ.

وَكَانَ يَهَابُ أَنْ يَخُوضَ فِي دِينِ اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَكَانَ يَقُولُ: ((أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِنْ قُلْتُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ بِرَأْيِي أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ)).

قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: ((لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْيَبَ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

((حَزْمُ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ))

وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ حَزْمًا فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَقَدْ وَصَفَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِأَنَّهُ أَرْحَمُ الْأُمَّةِ بِالْأُمَّةِ، ((أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ)).

فَهُوَ أَرْحَمُ الْأُمَّةِ بِالْأُمَّةِ، وَأَرْأَفُ الْأُمَّةِ بِالْأُمَّةِ، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتِ الْفِتَنُ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ؛ نَهَضَ الصِّدِّيقُ لِقِتَالِهِمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَغَيْرُهُ أَنْ يَفْتُرَ عَنْ قِتَالِهِمْ، فَقَالَ: ((وَاللهِ! لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَنَاقًا كَانُوا يُؤُدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا)).

فَقَالَ عُمَرُ: ((كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَمَنْ قَالَهَا عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَدَمَهُ إِلَّا بِحَقِّهَا)) ))؛ يَعْنِي هُمْ قَالُوهَا، وَلَكِنْ تَرَكُوا أَدَاءَ الزَّكَاةِ.

فَقَالَ: ((لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ)).

فَالرَّحْمَةُ وَالْحَزْمُ فِي الْفِتَنِ مَعَ أَهْلِ الْفِتْنِ اسْتِئْصَالُهَا، فَالَّذِي هُوَ أَرْحَمُ الْأُمَّةِ بِالْأُمَّةِ حَزَمَ فِي أَمْرِ الْفِتَنِ، وَلِذَلِكَ نَبِيُّنَا الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- لَمَّا ذَكَرَ الْخَوَارِجَ مَعَ بَيَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْعِبَادَةِ، قَالَ: ((لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ))؛ أَيْ: قَتْلَ اسْتِئْصَالٍ، لَا أُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا.

فَأَمْرُ الْفِتَنِ يُحْزَمُ فِيهَا وَلَا يُتَسَاهَلُ فِيهَا، وَتُحْذَرُ وَتُحَاذَرُ، لِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ -وَحَلَّقَ بَيْنِ أُصْبَعَيْهِ-)).

فَقَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ زَيْنَبُ: ((أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟!!)).

قَالَ: ((نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)).

أَيْنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَيْنَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ؟!! 

وَلَكِنَّ الْفِتَنَ تُحْذَرُ وَتُحَاذَرُ وَيُحَذَّرُ النَّاسُ مِنْهُا -وَإِنْ كَانُوا فِي سَلَامَةٍ-.

((الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَشْجَعُ الصَّحَابَةِ))

وَكَانَ الصِّدِّيقُ أَشْجَعَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: ((أَخْبِرُونِي مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ؟)).

قَالُوا: ((أَنْتَ)).

قَالَ: ((أَمَا إِنِّي ما بَارَزْتُ أَحَدًا إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَخْبِرُونِي بِأَشْجَعِ النَّاسِ؟)).

قَالُوا: ((لَا نَعْلَمُ، فَمَنْ؟)).

قَالَ: ((أَبُو بَكْرٍ، إِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَجَعَلْنَا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ عَرِيشًا، فَقُلْنَا: مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِئَلَّا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟)).

قَالَ: ((فَوَاللهِ! مَا دَنَى مِنَّا أَحَدًا إِلَّا أَبُو بَكْرٍ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا هَوَى إِلَيْهِ، فَهُوَ أَشْجَعُ النَّاسِ، قَالَ عَلِيٌّ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ فهذا يَجْبَأُهُ وَهَذَا يُتَلْتِلُهُ وَهُمْ يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي جَعَلْتَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟!!)).

قَالَ: فَوَاللهِ! مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ يَضْرِبُ هَذَا وَيَجْبَأُ هَذَا وَيُتَلْتِلُ هَذَا وَيَقُولُ: ((وَيْلَكُمْ {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ}))، ثُمَّ رَفَعَ عَنْ بُرْدَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ -يَعْنِي: عَلِيٌّ-، وَبَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللهَ! أَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ أَبُو بَكْرٍ؟

فَسَكَتَ الْقَوْمُ.

فَقَالَ: أَلَا تُجِيبُونِي؟!! فَوَاللهِ! لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ سَاعَةٍ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ)).

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: ((سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ )).

قال: ((رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ وَقَالَ:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}  [غافر: 28])).

((خَشْيَةُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَبُكَاؤُهُ وَوَرَعُهُ))

وَكَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَظِيمَ الْخَشْيَةِ، عَظِيمَ الْوَرَعِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: ((مَرِضَ النَّبِيُّ ﷺ، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ، فَقَالَ: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)).

فَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ)).

قَالَ: ((مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)).

فَعَادَتْ.

فَقَالَ: ((مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ؛ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ)).

فَأَتَاهُ الرَّسُولُ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ )).

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ)).

وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَأَمَّا وَرَعُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَشِدَّةُ تَحَرِّيهِ الْحَلَالَ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟)).

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((وَمَا هُوَ؟)).

قَالَ: ((كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ)).

قَالَ: ((فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)) عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: ((لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا اسْتَقَاءَ مِنْ طَعَامٍ أَكَلَهُ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ)).

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يُقَدِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: ((لَمَّا اسْتُعِزَّ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ -اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ وَأَقْعَدَهُ-، قَالَ وَأَنَا عِنْدَهُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، دَعَاهُ بِلَالٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: ((مُرُوا مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ)).

فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَمْعَةَ، فَإِذَا عُمَرُ فِي النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا، فَقُلْتُ: ((يَا عُمَرُ! قُمْ فَصَلِّ بِالنَّاسِ)).

فَتَقَدَّمَ عُمَرُ فَكَبَّرَ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ صَوْتَهُ، وَكَانَ رَجُلًا مُجْهِرًا، فَقَالَ: ((أَيْنَ أَبُو بَكْرٍ؟ يَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ! يَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ!)).

فَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى عُمَرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَمْعَةَ، فَلَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: ((صَلِّ بِالنَّاسِ))، فَصَلَّى عُمَرُ بِالنَّاسِ، فَجَهَرَ بِصَوْتِهِ، وَكَانَ جَهِيرَ الصَّوْتِ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ صَوْتَهُ، فَقَالَ: ((أَلَيْسَ هَذَا صَوْتُ عُمَرَ؟)).

قَالُوا: ((بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((يَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ، لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ)).

فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ: ((بِئْسَ مَا صَنَعْتَ، كُنْتُ أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنِي)).

قَالَ: ((لَا وَاللهِ! مَا أَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَحَدًا)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((لَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ صَوْتَ عُمَرَ خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى أَطْلَعَ رَأْسَهُ مِنْ حُجْرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: ((لَا لَا لَا؛ لِيُصَلِّ لِلنَّاسِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ)).

يَقُولُ ذَلِكَ مُغْضَبًا)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

فَالصِّدِّيقُ لَا يَعْدِلُهُ أَحَدٌ، وَمَعَ ذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْأَعْصَمِيِّ قَالَ: ((كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا مُدِحَ -وَالْمَدْحُ قَاصِرٌ عَنْهُ- قَالَ: ((اللهم أَنْتَ أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسِي، وَأَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمُ، اللهم اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ)).

((مَكَانَةُ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْإِسْلَامِ وَحُقُوقُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ))

وَأَمَّا مَكَانَتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تِجَاهَ هَذَا الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ:

الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ -أَيُّهَا الْأَفَاضِلُ- أَنْ يَعْتَقِدَ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّ أَفْضَلَ الْبَشَرِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ هُوَ الصِّدِّيقُ.. صِدِّيقُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِّيَّةِ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عُمَرَ صَعَدَ الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا فَهُوَ مُفْتَرٍ؛ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُفْتَرِينِ)).

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَا تَوَاتَرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ)).

وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ عُظَمَاءُ الْمِلَّةِ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ثُمَّ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )).

وَلَمَّا سَأَلَ الرَّشِيدُ الْإِمَامَ مَالِكًا -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ مَنْزِلَةِ الشَّيْخَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((مَنْزِلَتُهُمَا مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ كَمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ)).

وَأَدِلَّةُ هَذَا الْإِجْمَاعِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَتَقَدَّمَ الْكَثِيرُ، وَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَاخْتُصَّ بِأُمُورٍ لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ.

فِي ((الْبُخَارِيِّ)) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَنَفِيَّةَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: ((قُلْتُ لِأَبِي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟)).

قَالَ: ((أَبُو بَكْرٍ)).

قُلْتُ: ((ثُمَّ مَنْ؟)).

قَالَ: ((ثُمَّ عُمَرُ)).

قَالَ: ((وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ)).

فَقُلْتُ: ((ثُمَّ أَنْتَ يَا أَبَتِي)).

قَالَ: ((مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).

قَالَ الذَّهَبِيُّ: ((وَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ))،  هَذَا وَاللهِ الْعَظِيمِ! -يَقُولُ الذَّهَبِيُّ: هَذَا وَاللهِ الْعَظِيمِ! قَالَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَهُ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، فَلَعَنَ اللهُ الرَّافِضَةَ مَا أَجْهَلُهُمْ!))

وَعِنْدَ ((الْبُخَارِيِّ)) بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ((كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ)).

يَعْنِي خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ أَبُو بَكْرٍ، خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ، خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ عُمَرَ؛ عُثْمَانُ، وَالرَّسُولُ ﷺ يَسْمَعُهُمْ وَهُوَ سَاكِتٌ.

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَفَضَائِلُ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: ((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا))، قَوْلُهُ: ((لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا سُدَّتْ إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ))، وَقَوْلُهُ: ((إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ)).

وَهَذَا فِيهِ ثَلَاثُ خَصَائِصُ لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا أَحَدٌ:

الْأُولَى: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ مِثْلُ مَا لِأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ((لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ..)). وَهَذَا تَخْصِيصٌ لَهُ دُونَ سَائِرِهِمْ.

الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ((لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا)): نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنَ الْبَشَرِ اسْتَحَقَّ الْخُلَّةَ -لَوْ أَمْكَنَتْ- إِلَّا هُوَ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ لَكَانَ أَحَقَّ بِهَا لَوْ تَقَعُ.

وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ مُدَّةَ مَرَضِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ.

وَكَذَلِكَ تَأْمِيرُهُ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِيُقِيمَ السُّنَّةَ، وَيَمْحَقَ آثَارَ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((ادْعِ أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا)).

وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ يُسَاوِيهِ)).

وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((اقْتُدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه.

وَالِاقْتِدَاءُ يَقْتَضِي مَعْرِفَةَ السِّيرَةِ، وَمَعْرِفَةُ السِّيرَةِ سَبِيلُ الْمَحَبَّةِ، لِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ-: ((كَانَ السَّلَفُ يُعَلِّمُونَ أَوْلَادَهُمْ حُبَّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا يُعَلَّمُونَ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ)).

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: ((هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ)).

((مَرَضُ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَاسْتِخْلَافُهُ وَوَفَاتُهُ))

وَأَمَّا مَرَضُهُ وَوَفَاتُهُ وَاسْتِخْلَافُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ((أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: ((أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَالْحَارِثَ بْنَ كِلْدَةَ كَانَا يَأْكُلَانِ خَزِيرَةً أُهْدِيَتْ لِأَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ الْحَارِثُ لِأَبِي بَكْرٍ: ارْفَعْ يَدَكَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، وَاللهِ! إِنَّ فِيهَا لَسُمُّ سَنَةٍ، وَأَنَا وَأَنْتَ نَمُوتُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.

فَرَفَعَ يَدَهُ، فَلَمْ يَزَالَا عَلِيلَيْنِ حَتَّى مَاتَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عِنْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ)).

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: ((مَاذَا نَتَوَقَّعُ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، وَقَدْ سُمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَسُمَّ أَبُو بَكْرٍ!!)).

وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ أَوَّلُ بَدْءِ مَرَضِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ اغْتَسَلَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَكَانَ يَوْمًا بَارِدًا، فَحُمَّى خَمْسَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَتُوِفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةُ ثَلَاثِ عَشْرَةَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً)) )).

وَفِي أَثْنَاءِ مَرَضِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَهِدَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ إِلَى الْفَارُوقِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَقَرَّ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ.

وَهَذَا فِيهِ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْحُكْمِ مَشْرُوعٌ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، خِلَافًا لِمَا يَدَّعِيهِ أَهْلُ الْفِتَنِ حَيْثُ يُبْطِلُونَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ، وَيَذُمُّونَ ذَلِكَ، وَسَبَبُ ذَمِّهِمْ أَنَّ الْعَهْدَ مِنَ الْحَاكِمِ مَنْ بَعْدَهُ يَقْطَعُ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ الْوُصُولِ لِلْحُكْمِ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بالِانْتِخَابَاتِ وَغَيْرِهَا، فَيَذُمُّونَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ، وَقَدْ فَعَلَهُ الصِّدِّيقُ، وَأَقَرَّهُ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ آمَنُ الطُّرُقِ، وَأَسْلَمُ الطُّرْقِ، تُنَجِّي الْمُسْلِمِينَ مِنْ فِتَنٍ كَثِيرَةٍ.

وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ طَرِيقَةُ عُمَرَ، حَيْثُ جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، سِتَّةً وَاخْتَارُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ، هَذِهِ الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ الْمَشْرُوعَةُ.

وَأَمَّا طُرُقٌ أُخْرَى لَا تُشْرَعُ.. إِلَّا إِذَا تَغَلَّبَ بِالسَّيْفِ وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ، فَذَاكَ أَمْرٌ آخَرُ.

((أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((لَمَّا ثَقُلَ أَبُو بَكْرٍ تَمَثَّلْتُ بِهَذَا الْبَيْتِ -يَعْنِي: لَمَّا حَانَتْ سَاعَةُ الِاحْتِضَارِ، وَجَعَلَتِ الرُّوحُ تَخْرُجُ- تَمَثَّلْتُ بِهَذَا الْبَيْتِ:

لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى    =    إِذَا حَشَرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ)).

مَا تُغْنِي الْأَمْوَالُ وَالدُّنْيَا عَنِ الْإِنْسَانِ!!

لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى    =    إِذَا حَشَرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ

فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ اتِّبَاعِهِ وَتَمَسُّكِهِ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ: ((لَيْسَ كَذَلِكَ يَا بُنِيَّةُ! وَلَكِنْ قُولِي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}، ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ فَاغْسِلُوهُمَا وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّ الْحَيَّ أَحْوَجُ إِلَى الْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ)).

وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ: فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوِفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟)).

قُلْتُ: ((يَوْمَ الِاثْنَيْنِ)).

قَالَ: ((أَرْجُو فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّيْلِ)).

قَالَتْ: ((فَتُوِفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ)).

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: ((أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتَهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَيُعِينُهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ)).

وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: ((أَنَّ عُمَرَ صَلَّى عَلَى أَبِي بَكْرٍ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا)).

وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: ((أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوْصَى عَائِشَةَ أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَنْبِ الرَّسُولِ ﷺ، فَلَمَّا تُوِفِّيَ حُفِرَ لَهُ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ عِنْدَ كَتِفِ الرَّسُولِ ﷺ، وَأُلْصِقَ اللَّحْمُ بِقَبْرِ الرَّسُولِ ﷺ )).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ((نَزَلَ فِي حُفْرَةِ أَبِي بَكْرٍ؛ عُمَرُ وَطَلْحَةُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ)).

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: ((لَمَّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ؛ ارْتُجَّتْ مَكَّةُ، فَقَالَ أَبُو قُحَافَةَ -وَالِدُ أَبُو بَكْرٍ-: ((مَا هَذَا؟)).

قَالُوا: ((مَاتَ ابْنُكَ)).

قَالَ: ((رِزْءٌ جَلِيلٌ، مَنْ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ؟)).

قَالُوا: ((عُمَرُ)).

قَالَ: ((صَاحِبُهُ)).

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي ((تَارِيخِ الْخُلَفَاءِ)): ((أَنَّ أَبَا قُحَافَةَ رَدَّ مِيرَاثَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ عَلَى وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمْ يَعِشْ أَبُو قُحَافَةَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَمَاتَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعِ عَشْرَةَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً)).

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ((وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ)) )).

هَذِهِ -أَيُّهَا الْأَفَاضِلُ- بَعْضُ السِّيرَةِ، مُقْتَطَفَاتٌ يَسِيرَةٌ جِدًّا، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ الْكُتَّابَ مَهْمَا كَتَبُوا وَالْخُطَبَاءَ مَهْمَا تَكَلَّمُوا لَا يَأْتُونَ بِعُشْرِ مِعْشَارِ هَذِهِ السِّيرَةِ الْعَظِيمَةِ الْعَطِرَةِ لِهَذَا الرَّجُلِ، الَّذِي لَمْ تُنْجِبِ الدُّنْيَا مِثْلَهُ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقِصَّتُهُ عَجَبٌ تُحَرِّكُ الْقُلُوبَ وَتُحْيِيهَا، وَتُقَوِّمُ الْمَسِيرَةَ، بِهِ يُقْتَدَى، وَإِلَى سِيرَتِهِ يُنْتَهَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَنَسْأَلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَجْمَعَنَا بِهِ وَبِنَبِيِّنَا ﷺ فِي جَنَاتِهِ.. جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَيُلْحِقَنَا بِهِ وَلَا يُخَلِّفَنَا عَنْهُ، فَإِنَّنَا نُحِبُّهُ وَنُحِبُّ رَسُولَنَا ﷺ، وَنُحِبُّ صَحَابَتَهُ.

وَنَسْأَلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَلَّا يَحْرِمَنَا مُصَاحَبَتَهُمْ فِي جَنَّتِهِ، وَيُلْحِقَنَا بِهِمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ بِمَنَّهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا، وَأَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الزَّلَلِ، وَأَنْ يُعِينَنَا عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَنْ يَحْفَظَنَا مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

كَمَا نَسْأَلُهُ -سُبْحَانَهُ- أَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُوَفِّقَ وُلَاةَ أَمْرِنَا لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى, وَأَنْ يُقَيِّدَ لَهُمْ بِطَانَةً صَالِحَةً، وَأَنْ يَزِيدَهُمْ فَضْلًا وَخَيْرًا، وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَيُجَنِّبَهُمْ كُلَّ شَرٍّ.

سُبْحَانَ رَبِّنَا رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك