((النِّفَاقُ... عَلَامَاتُهُ، وَخُطُورَتُهُ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((النِّفَاقُ دَاءٌ خَطِيرٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ))
فَإِنَّ النِّفَاقَ دَاءٌ عُضَالٌ؛ يَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَخْفَى عَلَى النَّاسِ, وَكَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ؛ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُصْلِحٌ, وَهُوَ مُفْسِدٌ مُنَافِقٌ!
وَالْمُنَافِقُونَ مَا زَالَ الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ مِنْهُمْ فِي مِحْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ.
وَمَا يَزَالُ تَطْرُقُ الْإِسْلَامَ مِنْ شُبَهِهِمْ سَرِيَّةٌ بَعْدَ سَرِيَّةٍ, وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُصْلِحُونَ {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].
فَالنِّفَاقُ دَاءٌ خَطِيرٌ؛ إِذَا تَعَرَّضَ أَحَدٌ لِعَدْوَاهُ كَانَ أَشَدَّ فَتْكًا بِهِ مِنَ الطَّاعُونِ.
وَالنِّفَاقُ مَرَضٌ عُضَالٌ لَا يَنْجُو مِنْ وَبَائِهِ إِلَّا مَنْ أَدْرَكَتْهُ رَحْمَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
الْمُنَافِقُونَ أَلَدُّ أَعْدَاءِ اللهِ، مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
أَمَّا الْأَحْيَاءُ مِنْهُمْ فَهُمْ طُغَاةٌ مُفْسِدُونَ؛ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ؛ فَأُشْرِبُوا حُبَّهُ، وَحُبَّ مَسَالِكِهِ وَأَهْدَافِهِ.
لَوْ تَدَاعَى الْمُصْلِحُونَ الْمُخْلِصُونَ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى اللهِ إِلَى عَقْدِ مُؤْتَمَرٍ يَتَدَارَسُونَ فِيهِ خَطَرَ ظَاهِرَةٍ هِيَ أَشَدُّ مِنْ سِوَاهَا مِمَّا يَعْرِضُ لِلْإِسْلَامِ وَمِمَّا يُعَانَدُ بِهِ أَهْلُهُ.
لَوْ أَنَّهُمْ تَدَاعَوْا إِلَى عَقْدِ ذَلِكَ الْمُؤْتَمَرِ بِدَرْسِ أَخْطَرِ ظَاهِرَةٍ مُنِيَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي تَارِيخِهِمْ؛ لَمَا وَجَدُوا ظَاهِرَةً أَشَدَّ خُبْثًا وَأَسْوَأَ أَثَرًا مِنَ النِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِينَ؛ هُمْ أَلَدُّ أَعْدَاءِ اللهِ, وَهُمْ أَشَدُّ خَطَرٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
فِي زَمَانِنَا هَذَا رَاجَتْ تِجَارَةُ الْمُنَافِقِينَ, وَازْدَهَرَتْ بِضَاعَتُهُمْ, وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُمْ, وَأَشَادُوا مَسَاجِدَ الضِّرَارِ هَا هُنَا وَهُنَاكَ؛ وَذَرَفُوا دُمُوعَ التَّمَاسِيحِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ, وَتَظَاهَرُوا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
لَمْ يَنْجَحِ الْمُنَافِقُونَ فِي تَحْقِيقِ أَهْدَافِهِمْ وَخُطَطِهِمْ فِي مُجْتَمَعٍ مِنَ الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَّا بِسَبَبِ تَفَشِّي الْجَهْلِ، وَفِقْدَانِ الْوَعْيِ عِنْدَ مُعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا عَادُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْغَثِّ وَالثَّمِينِ, وَلَا بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ.
وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ أَنْ يَهْتِكَ أَسْتَارَ الْمُنَافِقِينَ, وَأَنْ يَكْشِفَ أَسْرَارَهُمْ, وَأَنْ يَفْضَحَ أَسَالِيبَهُمْ وَأَوْكَارَهُمْ.
وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ أَنْ يُبَصِّرَ الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِ دِينِهِمْ وَمَشَاكِلِ عَصْرِهِمْ, وَيُفَنِّدَ لَهُمْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَخْلَاقِهِمْ, وَالَّذِي هُوَ أُسْوَةٌ فِي ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ؛ يُطَبِّقُهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُجَنِّبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُسْلِمِينَ الشِّقَاقَ وَالنِّفَاقَ, وَأَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى دِينِهِ رَدَّا جَمِيلًا؛ إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
((النِّفَاقُ لُغَةً وَشَرْعًا))
لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى النِّفَاقِ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ صِلَةً وَثِيقَةً بَيْنَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَمَا نُقِلَ مِنْهُ الْمَعْنَى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ.
النِّفَاقُ فِي اللُّغَةِ مِنَ (النَّفَقِ): وَهُوَ سَرَبٌ فِي الْأَرْضِ مُشْتَقٌّ يُؤَدِّي إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ .
فِي ((التَّهْذِيبِ)) هُوَ: سَرَبٌ فِي الْأَرْضِ لَهُ مَخْلَصٌ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ.
هَذَا هُوَ النَّفَقُ فِي اللُّغَةِ.
«وَ(النُّفَقَةُ) وَ(النَّافِقَاءُ): جُحْرُ الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ.
وَقِيلَ: وَ(النُّفَقَةُ) وَ(النَّافِقَاءُ): مَوْضِعٌ يُرَقِّقُهُ الْيَرْبُوعُ مِنْ جُحْرِهِ؛ فَإِذَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ الْقَاصِعَاءِ ضَرَبَ النَّافِقَاءَ بِرَأْسِهِ فَخَرَجَ.
وَ(نَفِقَ) الْيَرْبُوعُ، وَ(نَفَقَ) وَ(انْتَفَقَ) وَ(نَفَّقَ): خَرَجَ مِنْهُ» .
فَلَهُ مَدْخَلٌ وَمَخْرَجٌ، وَمَخْرَجُهُ خَفِيٌّ غَامِضٌ، وَالْمَسَارِبُ تَحْتَ الْأَرْضِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ, وَهِيَ مُلْتَوِيَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ فِي مَنَاهِجِهَا وَفِي حَقِيقَتِهَا.
«قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : ((سُمِّيَ الْمُنَافِقُ مُنَافِقًا؛ لِلنَّفَقِ وَهُوَ السَّرَبُ فِي الْأَرْضِ)).
وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ مُنَافِقًا؛ لِأَنَّهُ نَافَقَ كَالْيَرْبُوعِ, وَهُوَ دُخُولُهُ فِي نَافِقَائِهِ, وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْمُنَافِقِ فِي الدِّينِ.
وَالنِّفَاقُ بِالْكَسْرِ فِعْلُ الْمُنَافِقِ.
وَالنِّفَاقُ: الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ -يَعْنِي: مِنْ وَجْهٍ آخَرَ-؛ مُشْتَقٌّ مِنْ نَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ.
وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفًا، يُقَالُ: نَافَقَ يُنَافِقُ مُنَافَقَةً وَنِفَاقًا؛ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّافِقَاءِ, لَا مِنَ النَّفَقِ وَهُوَ السَّرَبُ»؛ لِأَنَّ السَّرَبِ رُبَّمَا كَانَ مُبَاشِرًا, وَكَانَ مَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ ظَاهِرًا مَكْشُوفًا, وَلَكِنْ مِنَ النَّافِقَاءِ يَسْتَتِرُ فِيهِ الْمُنَافِقُ كَمَا يَسْتَتِرُ الْيَرْبُوعُ أَوِ الضَّبُّ فِي جُحْرِهِ؛ فَسُمِّيَ النِّفَاقُ نِفَاقًا؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ يَسْتُرُ كُفْرَهُ؛ فَلَا يُبْدِيهِ وَلَا يُظْهِرُهُ.
شَبَّهَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ أَسَالِيبَ الْمُنَافِقِينَ بِجُحْرِ الضَّبِّ, وَأَرْجَعُوا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي نُقِلَتْ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ إِلَى الْأَصْلِ اللُّغَوِيِّ.
فَتَمَامًا كَمَا أَنَّ الضَّبَّ - وَهُوَ حَيَوَانٌ جَبَلِيٌّ مُعَقَّدُ الذَّنَبِ- وَكَمَا أَنَّ الْيَرْبُوعَ يَسْتُرُ نَفْسَهُ فِي جُحْرِهِ بِطَرِيقَةٍ خَفِيَّةٍ, وَبِمَسَارِبَ لَا تُلْحَظُ وَيَظَلُّ مُتَتَبِّعُهُ حَائِرًا فِي أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي دَاخِلِهِ وَفِي بَاطِنِهِ عَلَى نَحْوٍ مُعَقَّدٍ مِنَ الْمَسَالِبِ الَّتِي لَا تُلْحَظُ كَمَا أَنَّ الْيَرْبُوعَ كَذَلِكَ فِي نَافِقَائِهِ.
وَهُوَ يُعِدُّ لِكُلِّ أَمْرٍ مَخْرَجًا كَمَا يَفْعَلُ فِي مَسْأَلَةِ تَرْقِيقِ الْحُفَرِ لِجُحْرِهِ؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا تُوبِعَ ضَرَبَ الْأَرْضَ بِرَأْسِهِ لَا يَتَكَلَّفُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا؛ فَإِذَا هُوَ خَارِجٌ, وَإِذَا هُوَ مُنْفَلِتٌ مِنْ كُلِّ أُحْبُولَةٍ وَعِقَالٍ, وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَتْبَعُهُ بِحَالٍ.
فَإِنَّ الْمُنَافِقَينَ يَلْبِسُونَ لِكُلِّ حَالٍ لَبُوسَهَا, وَهُمْ يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَانًا كَالْيَرْبُوعِ الَّذِي يَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ يَجِدُ لِنَفْسِهِ مَخْرَجًا فِي كُلِّ حِينٍ وَحَانٍ.
الْمُنَافِقُ كَالضَّبِّ؛ أَلِفَ الْمُرَاوَغَةَ وَالْخِدَاعَ, وَتَمَرَّسَ عَلَى ذَلِكَ تَمَرُّسًا.
فَالضَّبُّ يَدْخُلُ جُحْرَهُ مِنْ بَابٍ وَاضِحٍ ثُمَّ يَهْرُبُ إِذَا شَعَرَ بِالْخَطَرِ مِنْ بَابٍ خَفِيٍّ آخَرَ تَتَعَذَّرُ رُؤْيَتُهُ, وَتَتَعَذَّرُ –تَتَبعًا- مُلَاحَقَتُهُ؛ بِسَبَبِ خَفَاءِ مَخْرَجِهِ.
الْمُنَافِقُ كَذَلِكَ يَدْخُلُ الْإِسْلَامَ مِنْ بَابٍ ظَاهِرٍ فَيَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ, وَيُصَلِّي مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ مِنْ بَابٍ آخَرَ مِنَ الصَّعْبِ مُشَاهَدَتُهُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ : ((أَمْرٌ خَفِيٌّ عَلَى النَّاسِ, وَكَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ؛ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُصْلِحٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ)).
فَالنِّفَاقُ فِي الشَّرْعِ كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ((الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَسِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ، وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ)) .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((النِّفَاقُ: هُوَ إِظْهَارُ الْخَيْرِ وَإِسْرَارُ الشَّرِّ)).
«النِّفَاقُ دَاءٌ عُضَالٌ بَاطِنٌ يَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ» .
فَيَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا بِالنِّفَاقِ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ!
وَهَذَا أَمْرٌ خَطِيرٌ يَتَوَجَّبُ بِسَبَبِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِنْسَانُ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.
الْمُنَافِقُ يَدْخُلُ الْإِسْلَامَ مِنْ بَابٍ ظَاهِرٍ يَنْطِقُ الشَّهَادَتَيْنِ يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ، يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ مِنْ بَابٍ آخَرَ مِنَ الصَّعْبِ مُشَاهَدَتُهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَوْ شَاهَدُوهُ عِنْدَ نَقْضِهِ، وَعِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ لَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الرِّدَّةِ -هَذَا كَانَ قَدِيمًا-.
الْآنَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ وَيَخْرُجُونَ الْإِسْلَامَ وَلَا أَحَدَ يَسْأَلُ أَحَدًا!
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ!
((أَنْوَاعُ النِّفَاقِ))
«النِّفَاقُ: إِظْهَارُ الْخَيْرِ, وَإِسْرَارُ الشَّرِّ؛ وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
اعْتِقَادِيٌّ: وَهُوَ الَّذِي يَخْلُدُ صَاحِبُهُ فِي النَّارِ.
وَعَمَلِيٌّ: وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ» .
فَالنِّفَاقُ اعْتِقَادِيٌّ وَعَمَلِيٌّ.
اعْتِقَادِيٌّ يُخَلَّدُ صَاحِبُهُ بِسَبَبِهِ فِي النَّارِ؛ إِذْ هُوَ كُفْرٌ.
وَأَمَّا النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ.
قَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- الْكُفْرَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ، وَمِنَ الْأَقْسَامِ:
كُفْرُ النِّفَاقِ: وَهُوَ الْكُفْرُ الِاعْتِقَادِيُّ؛ يَعْنِي يَعْتَقِدُ فِي بَاطِنِهِ الْكُفْرَ؛ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ ظَاهِرًا.
فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الِاعْتِقَادِيُّ، وَهُوَ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا.
فَالنِّفَاقُ كَالْكُفْرِ؛ نِفَاقٌ دُونَ نِفَاقٍ؛ كَمَا أَنَّ الْكُفْرَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ؛ وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يُقَالُ كُفْرٌ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ, وَكُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ, وَنِفَاقٌ أَكْبَرُ, وَنِفَاقٌ أَصْغَرُ.
النِّفَاقُ الِاعْتِقَادِيُّ كُفْرٌ.
وَالنِّفَاقُ فِي اللُّغَةِ مُخَالَفَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ؛ كَمَا مَرَّ مَعْنَى ذَلِكَ كَثِيرًا؛ فَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ فَهُوَ نِفَاقُ الْكُفْرِ؛ مُخَالَفَةُ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ.
إِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ يَعْنِي إِنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيَعْتَقِدُ ضِدَّ ذَلِكَ بَاطِنًا؛ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِلَّا فَهُوَ نِفَاقُ الْعَمَلِ؛ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ؛ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ.
النِّفَاقُ الِاعْتِقَادِيُّ فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ أَنْ يُنَافِقَ فِي الِاعْتِقَادِ، هُوَ نِفَاقُ الْكُفْرِ الَّذِي يَخْلُدُ صَاحِبُهُ فِي النَّارِ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
*مَصِيرُ وَعِقَابُ الْمُنَافِقِينَ نِفَاقًا اعْتِقَادِيًّا:
هَذَا النَّوْعُ مِنَ النِّفَاقِ الَّذِي هُوَ نِفَاقٌ اعْتِقَادِيٌّ -النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ- كَانَ عَلَيْهِ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ, وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ طُغْمَتِهِ.
ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ الْكَافِرِينَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
وَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ قَبْلَ الْكَافِرِينَ: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : ((أَيْ كَمَا أَشْرَكُوهُمْ فِي الْكُفْرِ، كَذَلِكَ يُشَارِكُ اللهُ بَيْنَهُمْ فِي الْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَبَدًا, وَجَمَعَ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ، وَالْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ، وَشَرَابِ الْحَمِيمِ وَالْغِسْلِينَ لَا الزُّلَالِ)).
وَنَفَى -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ صِفَةَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].
وَمَصِيرُ الْمُنَافِقِينَ بَيَّنَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ الدَّرْكُ الْأَسْفَلُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمُ الْغَلِيظِ.
{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].
فَالنَّارُ دَرَكَاتٌ كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ دَرَجَاتٌ.
الْمُنَافِقُونَ فِي أَسْفَلِ هَذِهِ الدَّرَكَاتِ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَشَدُّ مِنْ كُفْرِ الْمُشْرِكِينَ؛ فَهُمْ تَحْتَ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ.
أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ أَلَّا يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ مَاتَ أَبَدًا, وَأَلَّا يَسْتَغْفِرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].
فَصَرَّحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِرِدَّتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ؛ {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}؛ الْفِسْقَ الْأَكْبَرَ الَّذِي يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ.
فَنَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى أَيٍّ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَاتَ, وَنَهَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ أَنْ يَبْرَأَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ, وَأَلَّا يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إِذَا مَاتَ, وَأَلَّا يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ؛ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ أَوْ يَدْعُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ, [وَمَاتُوا وَهُمْ عَلَى هَذَا] , وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ عُرِفَ نِفَاقُهُ -إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّ مَنْ عُرِفَ نِفَاقُهُ لَا يُشَيَّعُ مِنْ قِبَلِ الْمُسْلِمِ, وَلَا يَقُومُ الْمُسْلِمُ عَلَى قَبْرِهِ وَلَا يُسْتَغْفَرُ لَهُ-, وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ )).
هَذَا كَلَامُ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-.
((نَمَاذِجُ عَصْرِيَّةٌ لِلنِّفَاقِ الِاعْتِقَادِيِّ!!))
فِي زَمَانِنَا هَذَا خَلْقٌ كَثِيرٌ يَقْتَفُونَ آثَارَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ, وَهُمْ عَلَى نَهْجِهِ فِي سُلُوكِهِمْ, وَفِي أَقْوَالِهِمْ, وَفِي عَقَائِدِهِمْ.
وَمِنْ أَبْرَزِ هَذِهِ النَّمَاذِجِ الْبَاطِنِيُّونَ -الْبَاطِنِيَّةُ الرَّوَافِضُ- الَّذِينَ يُبْطِنُونَ شَيْئًا, وَيُظْهِرُونَ شَيْئًا آخَرَ .
وَمِنْهُمْ غُلَاةُ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْحُلُولِ وَالْوَحْدَةِ, وَحْدَةِ الْوُجُودِ, يُؤْمِنُونَ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ .
الرَّوَافِضُ يَقُولُونَ: إِنَّ هُنَالِكَ قُرْآنًا آخَرَ سَيُظْهِرُهُ مَهْدِيُّهُمْ, وَأَنَّ النُّسْخَةَ الصَّحِيحَةَ مِنَ الْقُرْآنِ أَخَذَهَا الْمَهْدِيُّ مَعَهُ فِي السِّرْدَابِ.
وَيَشْتُمُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَيَخُصُّونَ بِمَزِيدِ الشَّتْمِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ, وَأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ!!
هَؤُلَاءِ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ, وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أُلُوهِيَّةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُونَ: إِنَّ فِيهِ جُزْءًا إِلَهِيًّا, وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ بِتَنَاسُخِ الْأَرْوَاحِ, وَيَقُولُونَ بِتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ وَاسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ, وَفِيهِمْ ضَلَالٌ كَبِيرٌ.
كُفْرُ هَذِهِ الْفِرَقِ ظَاهِرٌ, وَلَكِنَّ الْمُشْكِلَةَ أَنَّهُ يَأْتِيكَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ مُسْلِمٌ!! وَيُنْكِرُ كُلَّ غُلُوٍّ أَوْ تَطَرُّفٍ، وَيَتَبَرَّأُ مِنْ مُعْتَقَدَاتِ طَائِفَتِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ هَذَا الْكَلَامَ.
وَتَجِدُ أَنَّ أَعْمَالَهُ تُخَالِفُ أَقْوَالَهُ, وَأَنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُ بَاطِنَهُ, وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِالتَّقِيَّةِ.
فَهَؤُلَاءِ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ, وَيُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ.
وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الرَّوَافِضِ -بَلْ كُلُّهُمْ- يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِشَيْءٍ كَمَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالتَّقِيَّةِ وَالْكَذِبِ؛ فَدِينُهُمْ مَبْنَاهُ عَلَى الْكَذِبِ؛ يُظْهِرُونَ شَيْئًا, وَيُبْطِنُونَ سِوَاهُ.
فَهَؤُلَاءِ يَتَّهِمُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ بِكُلِّ مُوبِقَةٍ, وَأَهْلُ السُّنَّةِ عِنْدَهُمْ أَنْجَسُ أَهْلِ الْأَرْضِ!!
أَهْلُ السُّنَّةِ عِنْدَ الرَّوَافِضِ أَنْجَسُ أَهْلُ الْأَرْضِ, وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ، وَفِي أَقْوَالِهِمْ أَيْضًا.
فَهَؤُلَاءِ عَلَامَةٌ عَلَى النِّفَاقِ فِي هَذَا الْعَصْرِ؛ يُظْهِرُونَ شَيْئًا وَيُبْطِنُونَ غَيْرَهُ, وَيَأْخُذُونَ بِالتَّقِيَّةِ, وَيَتَّهِمُونَ كِتَابَ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالنَّقْصِ, وَيَتَّهِمُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْكُفْرِ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَنَا وَالْفُحْشِ!!
وَإِذَا جَلَسْتَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ نَاظَرْتَهُ يَقُولُ: أَنَا عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؛ يُبْطِنُ كُفْرَهُ, وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ لَكَ؛ فَإِذَا جَلَسَ مَعَ شَيَاطِينِهِ أَبْدَى كُفْرَهُ غَيْرَ مُحْتَشِمٍ.
هُنَالِكَ أَيْضًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُنَظَّمَاتِ الْكُفْرِيَّةِ الَّتِي تُنَادِي بِتَحْكِيمِ الشَّرَائِعِ الْبَاطِلَةِ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ كَالشُّيُوعِيَّةِ، وَالرَّأْسِمَالِيَّةِ، وَالْقَوْمِيَّةِ، وَالْعَلْمَانِيَّةِ، وَالدِّيمُقْرَاطِيَّةِ, وَمَا أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ!
وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ قَادَتِهِمْ، وَمُنَظِّرِيهِمْ.
يَعْنِي: هَلْ هُنَالِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيِّ مَكَانٍ فِي الْأَرْضِ يَشُكُّ فِي كُفْرِ (لِينِين)، وَ(مَارْكِس)، وَ(أَنْجِيلْز)، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَأَضْرَابِهِمْ؟!
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَخْدُوعِينَ رُبَّمَا دَخَلَ فِي تِلْكَ الْأَحْزَابِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَلَا بُدَّ عِنْدَ تَنْزِيلِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُعَيَّنِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- مِنْ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ، وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَخْدُوعِينَ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ.
فَالْمَلَأُ هُمُ الْأَعْوَانُ الَّذِينَ يَسْتَبِدُّ بِهِمْ وَيَبْطِشُ بِأَيْدِيهِمْ؛ يُبِيحُونَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ؛ وَيَأْتُونَ كُلَّ مُوبِقَةٍ, وَيُدَمِّرُونَ الْإِسْلَامَ عَلَى أَهْلِهِ فِي جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ, وَيُحَارِبُونَ دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَيَنْتَسِبُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا.
فِي أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَوْلَهُ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14].
فَالْمُنَافِقُونَ مُنْبَثُّونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ يُحَارِبُونَ دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِطُرُقِهِمُ الْخَفِيَّةُ.
وَالْمُسْلِمُونَ مَخْدُوعُونَ!! حَتَّى إِنَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ مَنْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِالْعِلْمِ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْبَنَانِ يُدَافِعُ عَنِ الرَّوَافِضِ, وَيُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَهُمْ بَيْنَ صُفُوفِ أَهْلِ السُّنَّةِ!!
وَيَقُولُ بِالتَّقْرِيبِ، وَيَدْعُونَ إِلَى التَّقْرِيبِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ!!
وَالْحَقُّ أَنَّ التَّقْرِيبَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ الشِّيعَةُ لَا يُرِيدُونَ التَّقْرِيبَ؛ لِأَنَّ التَّقْرِيبَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا يَقْتَرِبُ قَلِيلًا, وَهَذَا يَقْتَرِبُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا؛ وَهَذَا كَثِيرًا؛ فَهَذَا وَهَذَا يَقَعُ مِنْهُ الْفِعْلُ نَفْسُهُ.
الشِّيعَةُ يُرِيدُونَ تَقْرِيبَ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ فَقَطْ.
النِّفَاقُ الِاعْتِقَادِيُّ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ.
((جُمْلَةٌ مِنْ أَمْثِلَةِ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ))
النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.
قَدْ يَجْتَمِعُ فِي قَلْبِ الْمُسْلِمِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ, وَمَنْ كَانَ نِفَاقُهُ عَمَلِيًّا لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ؛ فَإِنْ شَاءَ اللهُ غَفَرَ لَهُ, وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ, وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ عَذَابًا يَتَنَاسَبُ مَعَ عِظَمِ ذَنْبِهِ.
مِنْ أَمْثِلَةِ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ: الرِّيَاءُ:
الرِّيَاءُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ بِإِيرَائِهِمْ؛ وَمِنْهُ اشْتُقَّ الرِّيَاءُ لِلْحَاجَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا هَذَا الْفَاعِلُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ.
«حَقِيقَتُهُ لُغَةً: أَنْ يُرِيَ غَيْرَهُ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ؛ -لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُخْلِصًا مَا بَالَى إِطْلَاقًا بِأَنْ يَرَاهُ أَوْ لَا يَرَاهُ غَيْرُهُ؛ هُوَ يَعْمَلُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَوَاءٌ رَأَوْهُ أَمْ لَمْ يَرَوْهُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَقْصِدُ الْإِرَاءَةَ، وَأَنْ يُرِيَ غَيْرَهُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْخَيْرِ؛ فَهَذَا لَا يُرِيدُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِفِعْلِهِ-.
وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ: فَأَنْ يَفْعَلَ الطَّاعَةَ, وَيَتْرُكَ الْمَعْصِيَةَ مَعَ مُلَاحَظَةِ غَيْرِ اللهِ.
هَذَا هُوَ الرِّيَاءُ أَنْ تَفْعَلَ الطَّاعَةَ أَوْ تَتْرُكَ الْمَعْصِيَةَ مَعَ مُلَاحَظَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى.
أَوْ أَنْ تُخْبِرَ بِالطَّاعَةِ أَوْ تُخْبِرَ بِالْكَفِّ عَنِ الْمَعْصِيَةِ؛ ابْتِغَاءَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّاسِ.
أَوْ تُحِبَّ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَى طَاعَاتِكَ لِمَقْصِدٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ» .
دَرَجَةُ أَنَّ هُنَالِكَ مَنْ يُرَائِي وَهُوَ وَحْدَهُ؛ يَعْنِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ؛ وَلَوْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَحْدَهُ؛ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ, وَلَكِنْ يَقُولُ: وَمَنْ أَدْرَانِي؛ لَعَلَّ نَاظِرًا يَنْظُرُ إِلَيَّ!
فَهَذَا كَأَنَّمَا يُرَائِي الرِّيَاءَ نَفْسَهُ؛ وَهُوَ دَاءٌ إِذَا اسْتَحْكَمَ فِي الْقَلْبِ كَالنِّفَاقِ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ, وَهُوَ لَا يَشْعُرُ؛ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُنَافِقًا نِفَاقًا كَبِيرًا عَظِيمًا, وَهُوَ لَا يَدْرِي, وَيَظُنُّ نَفْسَهُ مِنْ كِبَارِ الْمُخْلِصِينَ.
اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا, وَارْحَمْنَا؛ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ نَاسًا قَالُوا لَهُ: ((إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سَلَاطِينِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ بِخِلَافِ مَا نَتَكَلَّمُ بِهِ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ؟)).
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((كُنَّا نَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )). هَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) .
لَا يُخْبِرُونَهُمْ بِأَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ، وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ, وَإِنَّمَا يُخْبِرُونَهُمْ بِمَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ وَتُحِبُّهُ قُلُوبُهُمْ؛ فُيُلَبِّسُونَ عَلَيْهِمْ أَمْرَ الْعَامَّةِ، وَيَقَعُ خَلَلٌ كَبِيرٌ.
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ : عَنِ ابْنِ لَبِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ)).
قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟
قَالَ: ((الرِّيَاءُ؛ يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِأَصْحَابِ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جَازَى النَّاسَ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ فِي الدُّنْيَا؛ فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟!)). وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)), وَالْبَغَوِيُّ فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ)).
يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ كَانُوا يُرَاؤُونَ بِأَعْمَالِهِمْ يَعْنِي: يُظْهِرُونَهَا؛ لِيَرَاهَا غَيْرُهُمْ فَيَحْمَدُونَهُمْ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهُمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا؛ فَاطْلُبُوا أَجْرَكُمْ مِنْهُمْ.
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَهُمْ، هَذَا مُنْتَهَى الْعَدْلِ؛ لَمْ يَظْلِمْهُمْ شَيْئًا.
أَنْتُمْ لَمْ تَعْمَلُوا لِي؛ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِهَؤُلَاءِ؛ اذْهَبُوا إِلَيْهِمْ؛ فَاطْلُبُوا أَجْرَكُمْ مِنْهُمْ.
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُعَامِلُ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ, وَيُثِيبُهُمْ عَلَى قَدْرِ تِلْكَ النِّيَّاتِ؛ فَإِذَا كَانُوا مُحْسِنِينَ آتَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِحْسَانَ وَمَا يُحِبُّونَ, وَإِذَا أَسَاءُوا عَدَلَ فِيهِمْ, وَلَمْ يَظْلِمْهُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ)) . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)), وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ فِي ((صَحِيحِهِ -فِي صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ-))؛ فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
((مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فيِ الدُّنْيَا)): يَعْنِي: مَنْ كَانَ مُنَافِقًا؛ يَلْقَى هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ؛ ((مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ)).
وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ, وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ)) .
قَالَ النَّوَوِيُّ: ((سَمَّعَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ ((مَنْ سَمَّعَ)) مَعْنَاهُ: أَظْهَرَ عَمَلَهُ لِلنَّاسِ رِيَاءً.
((سَمَّعَ اللهُ بِهِ)): فَضَحَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَمَعْنَى: ((مَنْ رَائَى رَاءَ اللهُ بِهِ)): مَنْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ؛ لِيَعْظُمَ عِنْدَهُمْ, -وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ-.
((رَاءَ اللهُ بِهِ))؛ أَيْ: أَظْهَرَ سَرِيرَتَهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ:
أَنَّ الرِّيَاءَ: هُوَ الْعَمَلُ لِرُؤْيَةِ النَّاسِ.
وَالسُّمْعَةُ: الْعَمَلُ لِأَجْلِ إِسْمَاعِهِمْ؛ يَعْنِي: قَدْ يَعْمَلُ الْإِنْسَانُ؛ لِيَسْمَعَ النَّاسُ بِهِ وَعَنْهُ؛ وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ وَهُمْ فِي أَقْطَارِ مُتَبَاعِدَةٍ, وَلَكِنَّهُ يَعْمَلُ لِكَيْ يَسْمَعَ النَّاسُ بِهِ؛ فَهَذَا تَسْمِيعٌ: ((مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ)).
وَقَدْ يَعْمَلُ الْإِنْسَانُ لِيَرَاهُ النَّاسُ؛ فَهَذَا مُرَاءٍ.
فَالرِّيَاءُ يَتَعَلَّقُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ.
وَالتَّسْمِيعُ يَتَعَلَّقُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ؛ سُمْعَةً ((مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ)).
وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُ يُخْفِي عَمَلَهُ لِلَّهِ؛ ثُمَّ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ.
يَعْنِي: الْعَمَلُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَالِصًا، ثُمَّ يَأْتِي عَلَيْهِ وَقْتٌ فَيُحَدِّثُ النَّاسَ؛ فَيَقُولُ: لَقَدْ صَنَعْتُ وَصَنَعتُ فِي يَوْمِ كَذَا فِي مَوْقِفِ كَذَا؛ فَهَذَا أَيْضًا دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ.
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ!
الْمُسْلِمُ لَهُ وَجْهٌ وَاحِدٌ حَيْثُمَا كَانَ, وَلَهُ لِسَانٌ وَاحِدٌ حَيْثُمَا نَطَقَ؛ لَا يُرْضِي إِلَّا رَبَّهُ, وَلَا يُرَاقِبُ إِلَّا إِلَهَهُ سُبْحَانَهُ.
الْإِسْلَامُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ؛ فَالنِّيَّةُ رَأْسُ الْأَمْرِ وَعَمُودُهُ؛ فَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْعَمَلُ كُلُّهُ.
الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ, وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَتَجَرَّدَ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَايَةَ التَّجَرُّدِ {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ, وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ تَعَالَى مُحَذِّرًا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264].
فَالَّذِي يَمُنُّ وَيُؤْذِي فِي الصَّدَقَةِ هُوَ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ, وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ وَهَذَا كَثِيرٌ وَاقِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
قَدْ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَقَدْ يَتَصَدَّقُ وَيَهَبُ وَيُعْطِي، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ سِرًّا، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.
وَلَكِنْ تَأْتِي عَلَيْهِ حَالَاتٌ وَأَحْوَالٌ وَأَعْصَارٌ وَأَدْهَارٌ؛ فَيُعْلِنُ؛ يَمُنُّ وَيُؤْذِي قَائِلًا: أَعْطَيْتُكَ وَفَعَلْتُ لَكَ؛ وَكُنْتَ فَأَصْبَحْتَ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِي... إِلَى آخِرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْخَلْقِ, بَلْ عِنْدَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ, بَلْ عِنْدَ عَامَّةِ الْخَلْقِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.
فَالْإِنْسَانُ قَدْ يُسْتَفَزُّ, وَقَدْ تُعَضُّ الْيَدُ الَّتِي امْتَدَّتْ بِالْخَيْرِ؛ فَلَا يَصْبِرُ الْمَادُّ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى مَانٍّ مُؤْذٍ، وَيَذْهَبُ يَقُولُ وَيَتَكَلَّمُ، وَهَذَا مِنْ أَخْطَرِ مَا يَكُونُ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ وَيَنْسَاهُ.
عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى الْخَيْرَ؛ وَعَلَيْهِ أَلَّا يَتَكَلَّمَ فِيهِ بِحَالٍ.
فَالْأَمْرُ جِدٌّ لَا هَزْلَ فِيهِ, وَالْحَيَاةُ يَنْبَغِي أَنْ يُلَاحِظَ فِيهَا الْعَبْدُ غَايَتَهَا.
وَغَايَةُ الْحَيَاةِ عِبَادَةُ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا خَلَقَنَا لِعِبَادَتِهِ.
وَعِبَادَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالْمُتَابَعَةِ؛ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِلَّهِ خَالِصًا, وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ.
مِنَ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ: الْكَذِبُ وَالْغَدْرُ وَإِخْلَافُ الْوَعْدِ:
قَالَ النَّبِيِّ ﷺ: ((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: فَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ)). وَهَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِهِ)) .
مِنَ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ: الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ، وَالْحَسَدُ:
مِنَ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ النَّمِيمَةُ.
وَالنَّمَّامُ هُوَ الَّذِي يَنْقُلُ كَلَامَ الْغَيْرِ إِلَى الْمَقُولِ فِيهِ يَتَكَلَّمُ فِيكَ فُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا.
فَحَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ: إِفْشَاءُ السِّرِّ وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَنِمُّ بِهِ نَقْصًا وَعَيْبًا فِي الْمَحْكِيِّ عَنْهُ؛ فَإِذَا فَعَلَ كَانَ جَامِعًا بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ.
وَالنَّمِيمَةُ –عِبَادَ اللهِ- مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَذِبِ، وَالْحَسَدِ، وَالنِّفَاقِ.
وَمُلَاقَاةُ الِاثْنَيْنِ بِوَجْهَيْنِ نِفَاقٌ: ((وَمَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ لِسَانَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّارِ))؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ .
وَالْغِيبَةُ أَيْضًا مِنَ النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ.
وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَالْحَسَدُ كَمَا حَسَدَ إِبْلِيسُ آدَمَ عَلَى الْمَكَانَةِ الَّتِي أَحْرَزَهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَهُوَ دَاءُ الْأُمَمِ.
وَهَذَا الدَّاءُ يَكْثُرُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ؛ يَحْسُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا, وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ تَكَالَبَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ حَسَدًا.
وَأَكْثَرُ مَا يَصِلُ مِنَ الْأَذَى إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ, وَهَذَا مَعْلُومٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ.
النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ مِنْهُ -أَيْضًا- أُمُورٌ تَدْعُو إِلَيْهِ؛ وَتُحَرِّضُ عَلَيْهِ؛ كَالْغِنَاءِ؛ فَالْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ؛ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ.
الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ.
مَنْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الَّتِي هِيَ خِصَالُ النِّفَاقِ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا.
((احْذَرِ النِّفَاقَ يَا ضَعِيفُ!!))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْفَارُوقَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ يَوْمًا، وَخَرَجَ عَنِ السِّيَاقِ تَمَامًا، فَإِذَا بِهِ يَقُولُ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! أَلَمْ تَكُنْ تُسَمَّى عُمَيْرًا، سَمَّاكَ أَهْلُكَ عُمَيْرَا، فَدُعِيتَ بَعْدُ عُمَرُ؟!!
أَلَمْ تَكُنْ ذَلِيلًا فَرَفَعَكَ اللهُ؟!!
أَلَمْ تَكُنْ وَضِيعًا فَأَعَزَّكَ اللهُ؟!!
أَلَمْ تَكُنْ فَقِيرًا فَأَغْنَاكَ اللهُ؟!!
أَلَمْ تَكُنْ تَرْعَى الْأَغْنَامَ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَلَى قَرَارِيطَ لَا تُسْمِنُ، وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ؟!!
أَلَمْ تَكُنْ تَرْعَى الْأَغْنَامَ لِلْخَطَّابِ، وَكَانَ فَظًّا غَلِيظًا -يَعْنِي أَبَاهُ-؟!!
عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُرَاجِعُ نَفْسَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ!!
فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا هَذَا؟!!
هَذَا شَيْءٌ غَيْرُ مَعْهُودٍ، وَسِيَاقٌ مُضْطَرِبٌ مَا عَهِدْنَاهُ!!
قَالَ: إِنَّ نَفْسِي أَعْجَبَتْنِي.
نَفْسِي أَعْجَبَتْنِي لِلَحْظَةٍ تَخْطُرُ بِالْخَاطِرِ كَلَمْحَةِ الْبَرْقِ لَا تَرِيمُ، وَلَا تَبْقَى، بِخَاطِرٍ عَابِرٍ سَرْعَانَ مَا يَزُولُ، بِعَارِضٍ يَعْرِضُ بِهِ الشَّيْطَانُ أَمَامَ الْفَارُوقِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُوَلِّيَ مُدْبِرًا، وَلَهُ ضُرَاطٌ.
وَلَكِنَّ عُمَرَ الْفَارُوقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُؤَدِّبُ نَفْسَهُ بِأَدَبِ الدِّينِ، فَيَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ، يَذْهَبُ إِلَى صَاحِبِ السِّرِّ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، يَقُولُ لَهُ: ((يَا حُذَيْفَةُ! نَشَدْتُكَ اللهَ -يَعْنِي حَلَّفْتُكَ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى، بِذِي الْقُوَى وَالْقُدَرِ، بِذِي الْجَلَالِ- أَذَكَرَنِي النَّبِيُّ ﷺ فِيمَنْ ذَكَرَ؟!!
يَا عَبْدَ اللهِ! يَا ضَعِيفُ!! أَأَنْتَ أَقْوَى مِنْ عُمَرَ، يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ؟!!
أَتَّهَمْتَ نَفْسَكَ يَوْمًا بِالنِّفَاقِ؟ وَخِفْتَ عَلَى قَلْبِكَ مِنْهُ؟!!
أَأَتَّهَمْتَ نَفْسَكَ بِالرِّيَاءِ يَوْمًا، وَخَشِيتَ عَلَى قَلْبِكَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَمْأَتِهِ؟!!
أَأَتَّهَمْتَ نَفْسَكَ يَوْمًا بِأَنَّكَ تَعْمَلُ لِغَيْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَخَشِيتَ مِنْ مَغَبَّةِ ذَلِكَ وَعَاقِبَتِهِ؟!!
عُمَرُ فِي جَلَالَتِهِ، وَفِي عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَذْهَبُ إِلَى صَاحِبِ السِّرِّ حُذَيْفَةَ -وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَعْلَمَهُ بِأَسْمَاءِ الْمُنَافِقِينَ- يَقُولُ: نَشَدْتُكَ اللهَ يَا حُذَيْفَةُ! أَذَكَرَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ فِيمَنْ ذَكَرَ؟!!
يَعْنِي: أَأَنَا مُنَافِقٌ ذَكَرَنِي النَّبِيُّ ﷺ فِي الْمُنَافِقِينَ؟!!
فَيَقُولُ حُذَيْفَةُ: ((اللَّهُمَّ لَا، وَلَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَكَ أَبَدًا)). -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا- .
يَا ضَعِيفُ! اتَّقِ اللهَ فِي ضَعْفِ قَلْبِكَ!!
يَا ضَعِيفُ! اتَّقِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي مُنْفَكِّ عَزِيمَتِكَ!!
يَا ضَعِيفُ! اسْأَلِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُقَوِّيَ إِيمَانَكَ!!
يَا ضَعِيفُ! اسْأَلِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُثَبِّتَ أَرْكَانَكَ!!
يَا ضَعِيفُ! اسْأَلِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَأْخُذَ بِيَدَيْكَ هَادِيًا قَلْبَكَ إِلَى سَبِيلِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ!!
عِبَادَ اللهِ! فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَصِيبَةِ عَلَيْنَا أَنْ نُنَقِّيَ قُلُوبَنَا، رَاجِعِينَ إِلَى اللهِ مَوْلَانَا وَرَبِّنَا، دَائِمِي الْأَخْذِ بِالدُّعَاءِ، لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي كُلِّ حَينٍ وَحَالٍ أَنْ يَرْفَعَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ الْكَرْبَ عَنِ الْأُمَّةِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((عَلَامَاتُ النِّفَاقِ، وَصِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ))
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَخْلِيصِ الْقَلْبِ مِمَّا يَشُوبُهُ، وَفِي رَدِّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَرْبَابِهَا، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهِ وَفِي دَوَافِعِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي قَلْبِهِ وَفِي نِيَّتِهِ وَعَقْدِهِ، وَأَنْ يُحَرِّرَ الْإِخْلَاصَ فِي سَوَاءِ فُؤَادِهِ.
وَأَنْ يُنَقِّيَ الْقَلْبَ مِمَّا يَشُوبُهُ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ الْقَصْدَ، وَيُدَمِّرُ عَلَيْهِ نِيَّتَهُ مِنَ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَالسُّمْعَةِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ لَا يُفْلِحُونَ أَبَدًا، وَإِنَّمَا كَفَّ الْيَدَ عَنْهُمْ قَتْلًا؛ حَتَّى لَا يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
وَقَدْ وَضَّحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فِي ((بَرَاءَةَ))، وَهِيَ ((الْفَاضِحَةُ))؛ لِأَنَّهَا فَضَحَتِ الْمُنَافِقِينَ بِصِفَاتِهِمْ، وَعَرَّتْهُمْ مِنْ شَفِيفِ ثِيَابِهِمْ، حَتَّى بَدَوْا مَفْضُوحِينَ لِلْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا.
فَخَصَّهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بِآيَاتٍ مُتَكَاثِرَاتٍ.
فَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ فِي آيَاتٍ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ بَعْضِ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ؛ فَأَسْهَبَ النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ فِي وَصْفِهِمْ؛ لِالْتِوَائِهِمْ، وَلِغُمُوضِ حَالِهِمْ وَلِعِظَمِ شَرِّهِمْ، وَلِاخْتِلَاطِ مَسَالِكِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَالسُّوسِ الَّذِي يَنْخَرُ فِي جَسَدِ الْأُمَّةِ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ، فَأَمْرُهُ وَاضِحٌ، وَخَطَرُهُ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمُنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ غَيْرَ مَا يُضْمِرُ؛ فَهَذَا كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُتَعَامَلَ مَعَهُ، هُوَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يُصَلِّي مَعَهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى حَالِ كَسَلٍ وَفُتُورٍ؛ كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ؛ وَلَكِنَّهُ يُصَلِّي مَعَهُمْ.
وَرُبَّمَا شَهِدَ مَعَهُمُ الْغَزْوَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ ظَاهِرًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُشَارَكَاتِ فِي الْخَيْرِ الظَّاهِرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهَذَا يُنَافِقُ؛ يُدَمِّرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَفَّهُمْ، وَيُفَرِّقُ عَلَيْهِمْ شَمْلَهُمْ، وَيُبَدِّدُ مِنْهُمْ وَحْدَتَهُمْ، وَيَسْعَى فِي حَطِّ شَأْنِ الْإِسْلَامِ، وَهَيْهَاتَ!
شَرَعَ النَّصُّ الْقُرْآنِيُّ فِي بَيَانِ هَؤُلَاءِ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 8-9]، وَهَذَا الْعَطْفُ الْكَرِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَتَوَلَّى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ.
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9]، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ مَوْطِنَ الدَّاءِ فِيهِمْ {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ۗ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ (13)} [البقرة: 10-13].
بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِإِسْهَابٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعْضَ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ غَامِضٌ كَالْيَرْبُوعِ الَّذِي يَدْخُلُ جُحْرَهُ؛ فَلَا تَدْرِي مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ بِمَسَالِكَ مُمَوَّهَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ الْمَخْلَصُ الَّذِي يُخْلِصُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَصْدَهُ، وَيُوَحِّدُ سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَقْبَلُ هَذَا النِّفَاقَ وَلَا يَرْضَاهُ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُخْلِصِينَ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ صِفَاتِ الذَّمِّ؛ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِمُخَادَعَتِهِ، وَمُخَادَعَةِ عِبَادِهِ، وَوَصَفَ قُلُوبَهُمْ بِالْمَرَضِ، وَهُوَ مَرَضُ الشُّبُهَاتِ وَالشُّكُوكِ، وَوَصَفَهُمْ بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَبِالِاسْتِهْزَاءِ بِدِينِهِ وَبِعِبَادِهِ.
وَوَصَفَهُمْ بِالطُّغْيَانِ، وَاشْتِرَاءِ الضَّلَالِ بِالْهُدَى، وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ.
وَوَصَفَهُمْ بِالْحَيْرَةِ وَالْكَسَلِ عِنْدَ عِبَادَتِهِ، وَوَصَفَهُمْ بِالزِّنَا وَالْفَاحِشَةِ، وَقِلَّةِ ذِكْرِهِ.
وَوَصَفَهُمْ بِالتَّرَدُّدِ وَهُوَ التَّذَبْذُبُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ.
وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِاسْمِهِ تَعَالَى كَذِبًا وَبَاطِلًا، وَوَصَفَهُمْ بِغَايَةِ الْجُبْنِ، وَبِعَدَمِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَبِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَبِالْبُخْلِ، وَبِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلَا بِالرَّبِّ.
وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِنَصِيحَتِهِمْ إِلَّا الشَّرُّ مِنَ الْخَبَالِ وَالْإِسْرَاعِ بَيْنَهُمْ بِالشَّرِّ وَإِلْقَاءِ الْفِتْنَةِ.
وَوَصَفَهُمْ بِكَرَاهَتِهِمْ لِظُهُورِ أَمْرِ اللهِ، وَمَحْوِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ يَحْزَنُونَ بِمَا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّصْرِ، وَيَفْرَحُونَ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ، وَأَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ.
وَوَصَفَهُمْ بِكَرَاهَتِهِمُ الْإِنْفَاقَ فِي مَرْضَاةِ اللهِ وَسَبِيلِهِ، وَبِعَيْبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَمْيِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ.
فَيَلْمِزُونَ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَيَعِيبُونَ الْمُتَزَهِّدِينَ، وَيَرْمُونَ بِالرِّيَاءِ وَإِرَادَةِ الثَّنَاءِ فِي النَّاسِ مُكْثِرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ عَبِيدُ دُنْيَا، إِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ مُنِعُوا سَخِطُوا، وَبِأَنَّهُمْ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ﷺ، وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى مَا بَرَّأَهُ اللهُ مِنْهُ، وَيَعِيبُونَهُ بِمَا هُوَ مِنْ كَمَالِهِ وَفَضْلِهِ.
وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ إِرْضَاءَ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يَطْلُبُونَ إِرْضَاءَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِأَنَّهُمْ يَسْخَرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَفْرَحُونَ إِذَا تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَيَكْرَهُونَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ إِذَا تَخَلَّفُوا عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، وَيَكْرَهُونَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَتَحَيَّلُونَ عَلَى تَعْطِيلِ فَرَائِضِ اللهِ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ، وَيَرْضَوْنَ بِالتَّخَلُّفِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ.
وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ أَحْلَفُ النَّاسِ بِاللهِ؛ فَقَدِ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً تَقِيهِمْ مِنْ إِنْكَارِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِ؛ أَحْلَفُ النَّاسِ بِاللهِ كَاذِبًا، قَدِ اتَّخَذَ يَمِينَهُ جُنَّةً وَوِقَايَةً يَتَّقِي بِهَا إِنْكَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ.
وَوَصَفَهُمُ اللهُ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ -وَالرِّجْسُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَخْبَثُهُ وَأَقْذَرُهُ-، فَهُمْ أَخْبَثُ بَنِي آدَمَ وَأَقْذَرُهُمْ وَأَرْذَلُهُمْ.
وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ، وَبِأَنَّهُمْ مَضَرَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ يَقْصِدُونَ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمْ، وَيُؤْوُونَ مَنْ حَارَبَهُمْ وَحَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَنَّهُمْ يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ، وَيُضَاهُونَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ؛ لِيَتَوَصَّلُوا مِنْهَا إِلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَتَفْرِيقِ كَلِمَتِهِمْ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِينَ أَبَدًا.
وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَتَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَتَرَبَّصُوا بِالْمُسْلِمِينَ دَوَائِرَ السَّوءِ.
وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَارْتَابُوا فِي الدِّينِ فَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ، وَغَرَّتْهُمُ الْأَماَنِيُّ الْبَاطِلَةُ، وَغَرَّهُمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ.
وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَحْسَنُ النَّاسِ أَجْسَامًا، تُعْجِبُ الرَّائِيَ أَجْسَامُهُمْ، وَالسَّامِعَ مَنْطِقُهُمْ، فَإِذَا جَاوَزْتَ أَجْسَامَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ رَأَيْتَ خُشُبًا مُسَنَّدَةً، لَا إِيمَانَ وَلَا فِقْهَ، وَلَا عِلْمَ وَلَا صِدْقَ، بَلْ خُشُبٌ قَدْ كُسِيَتْ كُسْوَةً تَرُوقُ النَّاظِرَ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ.
وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِمُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ أَبَوْهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَيْهَا، إِمَّا لِأَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ مُغْنٍ عَنْهَا وَعَنِ الطَّاعَاتِ جُمْلَةً كَحَالِ كَثِيرٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، وَإِمَّا احْتِقَارًا وَازْدِرَاءً بِمَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ.
وَوَصَفَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِآيَاتِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَبِأَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ، وَبِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدَيَهُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي مَرْضَاتِهِ.
وَوَصَفَهُمْ بِنِسْيَانِ ذِكْرِهِ، وَبِأَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الْكُفَّارَ، وَيَدَعُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنَّ الشَّيْطَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ، فَلَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا قَلِيلًا.
وَبِأَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ، وَأَنَّهُمْ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَبِأَنَّهُمْ يَتَمَنَّوَنَ مَا يُعْنِتُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْبَغْضَاءَ تَبْدُو لَهُمْ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَعَلَى فَلَتَاتِ لِسَانِهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ.
فَهَذِهِ بَعْضُ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ بَيَّنَ نَبِيُّنَا ﷺ عِظَمَ الْإِخْلَاصِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَحَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ النِّفَاقِ وَمِنَ الرِّيَاءِ، وَمِنْ قَصْدِ الشُّهْرَةِ وَالسُّمْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُضَادُّ الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَتَقَبَّلُ إِلَّا مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُخْلِصِينَ.
وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ: فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُصْلِحُ عَمَلَهُمْ؛ وَلَا يُفْلِحُ الْمُنَافِقُونَ حَيْثُ أَتَوْا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَرْضَى أَحْوَالَهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ أَقْوَالَهُمْ {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4]؛ كَذَا أَمَرَ بِذَلِكَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
فَالنَّبِيُّ ﷺ يَدُلُّنَا عَلَى أَنْ نُغَيِّرَ أَنْفُسَنَا، وَأَنْ يَقِفَ الْوَاحِدُ مِنَّا عَلَى رَأْسِ طَرِيقِهِ؛ لِيَتَأَمَّلَ فِي مَاضِيهِ وَيَنْظُرَ فِي حَالِهِ وَحَاضِرِهِ، ثُمَّ لِيَسْتَشْرِفَ إِلَى مُسْتَقْبَلِهِ؛ لِيَتَدَارَكَ قَبْلَ أَنْ يَفُوتَ الْأَوَانُ؛ فَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ فِي حَقِّ الْأَفْرَادِ حَتَّى تَبْلُغَ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ.
وَالرَّسُولُ ﷺ جَعَلَنَا عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا؛ لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.
وَحَذَّرَنَا مِنْ خِصَالِ النِّفَاقِ، وَنَفَّرَنَا مِنَ الرِّيَاءِ، وَحَضَّنَا عَلَى اجْتِنَابِ السُّمْعَةِ.
وَبَيَّنَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَأَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.
فَمَهْمَا تَوَسَّلَ الْعَبْدُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ إِلَى رِضْوَانِهِ حَجَبَهُ عَنْهُ، وَقَطَعَهُ دُونَهُ؛ فَمَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.
وَالرَّسُولُ ﷺ يُحَذِّرُنَا مِنْ خِصَالٍ ذَكَرَ أَنَّهَا مِنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ الْتَوَى بَاطِنُهُمْ.
وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ مَا ذَكَرَ كَمَا بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِفَاتِهِمْ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) , مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).
فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ؛ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْخِصَالِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا؛ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ.
((إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))؛ وَكُلُّ مَا آتَاكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ شَيْءٍ وَأَقَامَكَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ؛ فَأَنْتَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَلَّا تَخُونَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا وُسِّدَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ؛ لِأَنَّهُ ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ.
فَكُلُّ قَائِمٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ نَفْسِهِ أَوْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ، وَمَا آتَاكَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ شَيْءٍ مِنْ نِعْمَةٍ فِي بَدَنِكَ؛ فَصَحَّحَهَا لَكَ أَوْ فِي مَالِكَ، فَأَنْعَمَ عَلَيْكَ بِهِ، أَوْ فِي أَهْلِكَ فَأَفْضَلَ بِهِ عَلَيْكَ، أَوْ فِي وَلَدِكَ فَرَزَقَكَ إِيَّاهُ؛ كُلُّ ذَلِكَ وَمَا فَوْقَهُ إِنَّمَا هُوَ مِمَّا أَنْتَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ.
فَيَجِبُ أَنْ تَمْضِيَ فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ، وَتَعْدِلَ فِيهِ بِالْحُكْمِ، وَتَقُومَ فِيهِ بِأَمْرِ اللهِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْأَبْعَدَ قَدْ خَانَ الْأَمَانَةَ؛ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ.
((إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))؛ وَذَلِكَ يَتَمَثَّلُ بِجَحْدِ مَا عَلَيْهِ، وَبِادِّعَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ خَائِنٌ خَانَ الْأَمَانَةَ؛ يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ وَيَجْحَدُ مَا عَلَيْهِ.
((إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ)): وَلَوْ كَانَ مُتَحَدِّثًا بِالْكَلِمَةِ؛ يُضْحِكُ بِهَا النَّاسَ؛ فَوَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ، أَيْ لِلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يَقْصِدُ أَنْ يُضْحِكَ بِهَا النَّاسَ كَمَا فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ .
((وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ)): فَلَا ذِمَّةَ لَهُ تَقُومُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْغَدْرُ عِنْدَ الْعَهْدِ، وَالنَّقْضُ لِلْوَعْدِ، وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ النِّفَاقُ بِخَصْلَتِهِ.
((وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))؛ لَا يَطْوِي أَمْرًا، وَإِنَّمَا يُذِيعُ الْأَكَاذِيبَ وَيَنْشُرُهَا بِخَصْلَةِ النِّفَاقِ الَّتِي اسْتَحْوَذَتْ عَلَى قَلْبِهِ.
((وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))؛ وَلَا كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْتِبُ وَيَنْتَظِرُ الْأَوْبَةَ كَمَا هُوَ فِي شَأْنِ كُلِّ كَرِيمِ النَّفْسِ؛ يَنْتَظِرُ الْأَوْبَةَ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْجَفْوَةَ إِنَّمَا هِيَ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ.
وَأَمَّا الْفُجُورُ فِي الْخُصُومَةِ؛ فَمِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ.
أَعَاذَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُمْ وَمِنْ خِصَالِهِمْ.
النِّفَاقُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ النُّفُوسِ الْمَرِيضَةِ وَالْقُلُوبِ السَّقِيمَةِ, لَا تَجِدُ الرَّجُلَ صَاحِبَ الْمُرُوءَةِ يُنَافِقُ أَبَدًا!
حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَتَدَيَّنْ مُتَعَبِّدًا بِتَرْكِ النِّفَاقِ, وَلَكِنَّهُ لَا يُنَافِقُ, وَإِنَّمَا يَكُونُ النِّفَاقُ فِي النُّفُوسِ الْمُتَدَنِّيَةِ النُّفُوسِ الْهَابِطَةِ الَّتِي انْطَوَتْ عَلَى الْخُبْثِ, وَانْطَوَتْ عَلَى الضَّعْفِ وَالْمَذَلَّةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَبْعَدَ الْأَشْرَافَ وَالسَّادَةَ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَصْلُحُونَ لِلنِّفَاقِ وَلَا يَصْلُحُ النِّفَاقُ لَهُمْ.
الْمُنَافِقُونَ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ عُشَّاقُ زَعَامَةٍ, وَعَبِيدُ مَصَالِحَ؛ لَا يُقَصِّرُونَ فِي امْتِطَاءِ كُلِّ مَرْكَبٍ يَضْمَنُ لَهُمُ السِّيَادَةَ وَالْقِيَادَةَ مِنْ أَجْلِ هَذَا؛ يُؤْمِنُونَ أَوَّلَ النَّهَارَ وَيَكْفُرُونَ آخِرَهُ, وَيُخَاطِبُونَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.
فَهَذَا مِنْ خِصَالِ وَعَلَامَاتِ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} فَهَذَا لَوْنٌ، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، فَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ.
فَهُمْ يُخَاطِبُونَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ كَالْيَرْبُوعِ فِي نَافِقَائِه لَهُ مَسَارِبُهُ وَعَلَى حَسَبِ الْحَالِ فِي اتِّبَاعِهِ يَكُونُ تَخَلُّصُهُ؛ فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا مَرَّةً وَمِنْ هَذَا مَرَّةً, وَمِنْ هَذَا مَرَّةً.
وَكُلُّ ذَلِكَ خَفِيٌّ غَيْرُ ظَاهِرٍ, خَفِيٌّ عَمَّنْ تَتَّبِعُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِمَنْ نَظَرَ إِلَى حَالِهِ وَمَآلِهِ.
الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ.
وَيُخَالِفُ سِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ؛ فَيُظْهِرُ الْعَلَانِيَةَ الْحَسَنَةَ, وَالظَّاهِرَ الْمَرْضِيَّ, وَقَدِ انْطَوَى عَلَى قَلْبِ ذِئْبٍ.
وَأَمَّا فِي ظَاهِرِهِ؛ فَيَلْبَسُ لِلنَّاسِ مُسُوحَ الْحِمْلَانِ.
وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ, فَالْمُنَافِقُونَ عَلَى جُثْمَانِ ذِئَابٍ يُخَالِفُ مَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ, وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ.
لَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ تَقْلِيدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى, وَأَشَارَ إِلَى زَمَنٍ يُقَلِّدُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَنَّ جُحْرَ الضَّبِّ لَا يَدْخُلُهُ عَاقِلٌ.
فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَتَبِعْتُمُوهُمْ)).
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ, آلْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟
قَالَ: ((فَمَنْ؟!!)) .
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَحَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ مُشَابَهَةِ هَؤُلَاءِ, وَأَخْبَرَ؛ وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيَأْتِي عَلَيْهِمْ يَوْمٌ يَتَّبِعُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَرَاءَهُمْ, وَهَذَا وَاقِعٌ.
فَتَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ قَائِمٌ -فِي زِيِّهِمْ، وَفِي كَلَامِهِمْ، وَفِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِمْ، وَفِي تَصَوُّرَاتِهِمْ, بَلْ وَفِي لُغَاتِهِمْ, وَفِي الْبِنَاءِ عَلَى قَوَاعِدِهِمْ فِي الْفِكْرِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمَادِّيَّةِ الَّتِي يَحْيَا بِهَا النَّاسُ!
فَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ, وَقَدْ كَانَ؛ وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، النَّاسُ يَتَّبِعُونَ هَؤُلَاءِ فِي كُلِّ شَيْءٍ- هَذَا مِنَ النِّفَاقِ الَّذِي تَمَكَّنَ مِنَ الْقُلُوبِ.
وَأَمَّا الْمُخْلِصُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِهَدْيِ نَبِيِّهِمْ ﷺ وَبِأُصُولِ دِينِهِمْ, وَلَا يَتَّبِعُونَ أَحَدًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ فَهُوَ قُدْوَتُهُمْ ﷺ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
*هَذِهِ أَمَارَاتُ النِّفَاقِ، فَاحْذَرُوهَا!!
إِنَّ زَرْعَ النِّفَاقِ يَنْبُتُ عَلَى سَاقِيَتَيْنِ: سَاقِيَةِ الْكَذِبِ، وَسَاقِيَةِ الرِّيَاءِ.
وَمَخْرَجُهُمَا مِنْ عَيْنَيْنِ: عَيْنِ ضَعْفِ الْبَصِيرَةِ، وَعَيْنِ ضَعْفِ الْعَزِيمَةِ.
فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ الْأَرْبَعُ اسْتَحْكَمَ نَبَاتُ النِّفَاقِ وَبُنْيَانُهُ، وَلَكِنَّهُ بِمَدَارِجِ السُّيُولِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ.
فَإِذَا سَالَ سَيْلُ الْحَقَائِقِ وَعَايَنُوا يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَكُشِفَ الْمَسْتُورُ، وَبُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، تَبَيَّنَ –حِينَئِذٍ- لِمَنْ كَانَتْ بِضَاعَتُهُ النِّفَاقَ أَنَّ حَوَاصِلَهُ الَّتِي حَصَّلَهَا كَانَتْ كَالسَّرَابِ: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
قُلُوبُهُمْ عَنِ الْخَيْرَاتِ لَاهِيَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ إِلَيْهَا سَاعِيَةٌ، وَالْفَاحِشَةُ فِي فِجَاجِهِمْ فَاشِيَةٌ، وَإِذَا سَمِعُوا الْحَقَّ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ قَاسِيَةً، وَإِذَا حَضَرُوا الْبَاطِلَ وَشَهِدُوا الزُّورَ انْفَتَحَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَتْ آذَانُهُمْ وَاعِيَةً.
فَهَذِهِ –وَاللَّهِ- أَمَارَاتُ النِّفَاقِ، فَاحْذَرْهَا أَيُّهَا الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بِكَ الْقَاضِيَةُ:
إِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَفُوا، وَإِذَا وَعَدُوا أَخْلَفُوا، وَإِنْ قَالُوا لَمْ يُنْصِفُوا، وَإِنْ دُعُوا إِلَى الطَّاعَةِ وَقَفُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ صَدَفُوا، وَإِذَا دَعَتْهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَانْصَرَفُوا.
فَذَرْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، فَلَا تَثِقْ بِعُهُودِهِمْ، وَلَا تَطْمَئِنَّ إِلَى وُعُودِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ فِيهَا كَاذِبُونَ، وَهُمْ لِمَا سِوَاهَا مُخَالِفُونَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75-77].
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَلَّمَ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِكَيْ يَتَوَقَّاهَا، وَلِكَيْ لَا يُلِمَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يُلِمَّ شَيْءٌ مِنْهَا بِهِ؛ أَنْ تَكُونَ فِيهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَكَمْ مِنْ مُحْسِنٍ لِلظَّنِّ بِنَفْسِهِ وَهُوَ أَسْوَأُ مِنَ السُّوءِ نَفْسِهِ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَلَّا يَغْتَرَّ!!
((خُطُورَةُ النِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى الْأُمَّةِ))
*خَطَرُ الْمُنَافِقِينَ نِفَاقًا أَكْبَرَ عَلَى مُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِينَ، وَدِينِهِمْ:
عِبَادَ اللهِ! لَمَّا مَنَّ اللهُ تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ، وَقَوَّى اللهُ تَعَالَى شَوْكَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ؛ كُبِتَ أَعْدَاءُ اللهِ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنَّ يَتَخَفَّوْا بِالنِّفَاقِ، وَأَنْ يَتَسَرْبَلُوا بِسِرْبَالِهِ، فَنَجَمَ النِّفَاقُ فِي الْمَدِينَةِ.
فَهَؤُلَاءِ عَلَى عَقَائِدِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَلَا تَتَّسِعُ صُدُورُهُمْ وَلَا تَنْشَرِحُ لِلْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَهُمْ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ يَخْشَوْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَامِلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِينَ الْمُشْرِكِينَ، فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ ظَاهِرًا وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ.
هَؤُلَاءِ أَخْطَرُ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ يُعَامِلُونَ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ، وَتُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، وَبَوَاطِنُهُمْ مَوْكُولَةٌ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَتُجْرَى عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، وَيَعْرِفُونَ أَسْرَارَهُمْ، وَيَسْعَوْنَ بِالْفَسَادِ بَيْنَهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَامِلِ الْهَدْمِ الَّتِي تَنْخَرُ فِي جَسَدِ الْإِسْلَامِ وَفِي جَسَدِ أَهْلِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعُوا ذَلِكَ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ.
هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ عِنْدَمَا جَنَحُوا إِلَى هَذَا النِّفَاقِ، كَانُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، وَلِخَطَرِهِمْ وَشِدَّةِ ضَرَرِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ تَحْتَ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ وَاضِحٌ، وَهُوَ مُجَاهِرٌ بِكُفْرِهِ وَعَدَاوَتِهِ.
وَأَمَّا هَذَا الْمُنَافِقُ فَهُوَ مُتَلَوِّنٌ كَالْحِرْبَاءِ، لَا تَسْتَطيِعُ أَنْ تَعْلَمَ لَهُ تَوَجُّهًا، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُدْرِكَ لَهُ هَدَفًا.
هُوَ أَكَّالٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَوَائِدِ، مَيَّالٌ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، مُوَالٍ لِكُلِّ قَوْمٍ!!
وَمَهْمَا عَلَتْ كِفَّةُ قَوْمٍ كَانَ مَعَهُمْ، وَمَتَى ظَهَرَ قَوْمٌ كَانَ إِلَيْهِمْ، يَبْحَثُ عَنْ صَالِحِهِ فِيمَا يَتَصَوَّرُهُ وَيَتَخَيَّلُهُ، وَهُوَ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ حَرْبٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِنُ الْكُفْرَ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ ظَاهِرًا.
*مِنْ أَسْلِحَةِ الْمُنَافِقِينَ لِهَدْمِ الْمُجْتَمَعَاتِ: الْإِشَاعَاتُ وَالْأَرَاجِيفُ:
لَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَهْلَ الشَّرِّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60]؛ أَيْ: مَرَضُ شَكٍّ أَوْ شَهْوَةٍ.
{وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}: أَيْ الْمُخَوِّفُونَ الْمُرْهِبُونَ الْأَعْدَاءَ، الْمُتَحَدِّثُونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَعْمُولَ الَّذِي يَنْتَهُونَ عَنْهُ؛ لِيَعُمَّ ذَلِكَ كُلَّ مَا تُوحِي بِهِ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِمْ، وَتُوَسْوِسُ بِهِ، وَتَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ مِنَ التَّعْرِيضِ بِسَبِّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَالْإِرْجَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَتَوْهِينِ قُوَاهُمْ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْمُؤْمِنَاتِ بِالسُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الصَّادِرَةِ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ.
{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ}: أَيْ لَنَأْمُرَنَّكَ بِعُقُوبَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَلَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلَا امْتِنَاعٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا}: أَيْ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِي الْمَدِينَةِ إِلَّا قَلِيلًا، بِأَنْ تَقْتُلَهُمْ أَوْ تَنْفِيَهُمْ.
وَهَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِنَفْيِ أَهْلِ الشَّرِّ، الَّذِينَ يُتَضَرَّرُ بِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْسَمُ لِلشَّرِّ وَأَبْعَدُ مِنْهُ، وَيَكُونُونَ {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 61]: أَيْ مُبْعَدِينَ حَيْثُ وُجِدُوا، لَا يَحْصُلُ لَهُمْ أَمْنٌ، وَلَا يَقَرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، يَخْشَوْنَ أَنْ يُقْتَلُوا أَوْ يُحْبَسُوا أَوْ يُعَاقَبُوا.
إِنَّ الْأَرَاجِيفَ وَالشَّائِعَاتِ الَّتِي تَنْطَلِقُ مِنْ مَصَادِرَ شَتَّى وَمَنَافِذَ مُتَعَدِّدَةٍ إِنَّمَا تَسْتَهْدِفُ التَّآلُفَ وَالتَّكَاتُفَ، وَتَسْعَى إِلَى إِثَارَةِ النَّعْرَاتِ وَالْأَحْقَادِ، وَنَشْرِ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ، وَتُرْويجِ السَّلْبِيَّاتِ، وَتَضْخِيمِ الْأَخْطَاءِ.
الْإِشَاعَاتُ وَالْأَرَاجِيفُ سِلَاحٌ بِيَدِ الْمُغْرِضِينَ وَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ وَالْأَعْدَاءِ وَالْعُمَلَاءِ، يَسْلُكُهُ أَصْحَابُهُ؛ لِزَعْزَعَةِ الثَّوَابِتِ، وَهَزِّ الصُّفُوفِ، وَخَلْخَلَةِ تَمَاسُكِهَا.
وَالْمُرْجِفُونَ هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الشَّائِعَاتِ الْكَاذِبَةِ، أَوْ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِ قُوَّةِ الْأَعْدَاءِ وَقُدُرَاتِهِمْ، وَاسْتِحَالَةِ هَزِيمَتِهِمْ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ تَخْذِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَقَدْ لَعَنَهُمُ اللهُ حَيْثُمَا وُجِدُوا، وَتَوَعَّدَهُمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ، وَيَقْطَعَ دَابِرَهُمْ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ هَذَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْمُوَاجَهَاتِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَحَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السَّمَاعِ لَهُمْ وَتَصْدِيقِهِمْ، وَإِشَاعَةِ تَخْوِيفَاتِهِمْ وَأَرَاجِيفِهِمْ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60-61].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- كَاشِفًا حَقِيقَةَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَمُبَيِّنًا أَثَرَهُمْ فِي الْإِرْجَافِ وَالتَّخْوِيفِ، وَالتَّعْوِيقِ وَالتَّخْذِيلِ، وَنَشْرِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} ]الأحزاب: 18].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} ]التوبة: 47
فَبَيَّنَ أَنَّ وُجُودَهُمْ فِي صَفِّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا شَرًّا وَفَسَادًا، وَضَعْفًا وَهَوَانًا، وَفِتْنَةً وَفُرْقَةً، وَيَعْظُمُ الْبَلَاءُ حِينَ يَكُونُ فِي الْمُسْلِمِينَ جَهَلَةٌ سُذَّجٌ، يَسْمَعُونَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمَفْتُونِينَ، فَيَتَأَثَّرُونَ بِإِشَاعَاتِهِمْ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِتَخْوِيفَاتِهِمْ، وَيُصْبِحُونَ أَبْوَاقًا لَهُمْ، وَبَبَّغَاوَاتٍ يُرَدِّدونَ أَرَاجِيفَهُمْ، وَيَنْشُرُونَ فِتَنَهُمْ.
وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ سَعْيِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَبُولِ هَؤُلَاءِ السَّاذَجِينَ مِنَ الشَّرِّ وَالْبَلَاءِ، وَتَوْهِينِ عَزَائِمِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْعَابِهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَلَاءِ عَلَى أُمَّتِهِمْ، وَأَكْبَرِ الْمَدَدِ لِأَعْدَائِهِمْ.
إِنَّ الْإِشَاعَةَ مِنْ أَخْطَرِ الْأَسْلِحَةِ الْفَتَّاكَةِ وَالْمُدَمِّرَةِ لِلْأَشْخَاصِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَلَقَدْ لَجَأَ إِلَيْهَا الْأَعْدَاءُ كَوَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الْهَدْمِ وَالتَّدْمِيرِ لِلْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ.
فَكَمْ أَقْلَقَتِ الْإِشَاعَةُ مِنْ أَبْرِيَاءَ، وَحَطَّمَتْ مِنْ عُظَمَاءَ، وَقَطَّعَتْ مِنْ وَشَائِجَ، وَتَسَبَّبَتْ فِي جَرَائِمَ، وَفَكَّكَتْ مِنْ عَلَاقَاتٍ وَصَدَاقَاتٍ، وَكَمْ هَزَمَتْ مِنْ جُيُوشٍ!!
وَالْمِثَالُ عَلَى ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ ﷺ -أَعْنِي حَادِثَةَ الْإِفْكِ- وَهَذَا الْحَادِثُ يُعْتَبَرُ حَدَثَ الْأَحْدَاثِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَمْ يُمْكَرْ بِالْمُسْلِمِينَ مَكْرٌ أَشَدَّ مِنْ تِلْكَ الْوَقْعَةِ، وَهِيَ مُجَرَّدُ فِرْيَةٍ وَإِشَاعَةٍ مُخْتَلَقَةٍ، بيَّنَ اللهُ كَذِبَهَا فِي قُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَلَقَدْ مَكَثَ مُجْتَمَعُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِأَكْمَلِهِ شَهْرًا كَامِلًا وَهُوَ يَصْطَلِي نَارَ تِلْكَ الْفِرْيَةِ، وَيَتَعَذَّبُ ضَمِيرُهُ, وَتَعصِرُهُ الْإِشَاعَةُ الْهَوْجَاءُ وَالْفِريَةُ الصَّلْعَاءُ، حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ؛ لِيَضَعَ حَدًّا لِتِلْكَ الْمَأْسَاةِ الْمُفْظِعَةِ, وَلِيَكُونَ دَرْسًا تَرْبَوِيًّا رَائِعًا لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَلِكُلِّ مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور: 11].
*عِلَاجَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ لِإِشَاعَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَأَرَاجِيفِهِمُ الرَّدِيَّةِ:
تَعَامَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مَعَ الْإِشَاعَاتِ بِالرَّدِّ الْحَاسِمِ السَّرِيعِ الَّذِي يُبَيِّنُ الْحَقِيقَةَ بِكُلِّ وُضُوحٍ، وَمِنْ ذَلِكَ:
*أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَرْشَدَنَا إِلَى مَا يَجِبُ عَلَيْنَا تِجَاهَ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ الَّتِي تُخِلُّ بِالْأَمْنِ، وَتَجْلِبُ الْوَهَنَ، وَتُحَقِّقُ مُرَادَ الْأَعْدَاءِ فِي تَرْكِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِضَعَافِهِمْ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَتَيْئِيسِهِمْ، وَقَتْلِ رُوحِ الْمُقَاوَمَةِ فِي نُفُوسِهِمْ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
فَأَنْكَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ خَوْضَهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَإِذَاعَتَهُمْ لِأَخْبَارِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنُوا حَقِيقَتَهَا، وَيَتَأَمَّلُوا فِي آثَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ.
فَهُمْ بِحَسَبِ فِقْهِهِمْ بِالشَّرْعِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْوَاقِعِ أَقْدَرُ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَآلَاتِهَا، وَمَا يَنْبَغِي نَشْرُهُ وَإِعْلَانُهُ، وَمَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَنْهُ وَكِتْمَانُهُ.
وَالْإِنْسَانُ لَا يَخْسَرُ بِالسُّكُوتِ شَيْئًا، كَمَا يَخْسَرُ حِينَ يَخُوضُ فِيمَا لَا يُحْسِنُهُ أَوْ يَتَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» .
*وَتَعَامَلَ الْقُرْآنُ مَعَ الْإِشَاعَةِ بِتَنْمِيَةِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْوِيَةِ رَوَابِطِهِمْ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِوَضْعِ حَدٍّ فَاصِلٍ وَاضِحٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
*وَبِالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ، الَّذِينَ يَسْعَوْنَ دَوْمًا لِبَثِّ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي تُفَتِّتُ الصُّفُوفَ، وَتُفَرِّقُ الْمُؤْمِنِينَ وَتُبْعِدُهُمْ عَنْ هَدَفِهِمْ، وَتَفُتُّ فِي أَعْضَادِهِمْ وَعَزَائِمِهِمْ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لأنفال: 49].
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
*التَّفْجِيرُ وَالتَّخْرِيبُ وَإِشَاعَةُ الْفَوْضَى مِنْ أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ!!
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمُنَافِقَ: ((إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)) ؛ فَجَّرَ الْأَبْرَاجَ، وَنَسَفَ الْأَكْشَاكَ، وَقَطَعَ السَّبِيلَ، وَأَرَاقَ الدِّمَاءَ، وَقَطَعَ الرِّقَابَ، وَأَزْهَقَ الْأَرْوَاحَ، وَخَرَّبَ الْمُمْتَلَكَاتِ، وَعَدَى عَلَى الْأَبْشَارِ وَعَلَى الْأَعْرَاضِ، وَأَشَاعَ الْفَوْضَى فِي الْبِلَادِ، وَنَشَرَ فِيهَا الْفَسَادَ؛ ((إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)) !!
*ضَرُورَةُ مَعْرِفَةِ صِفَاتِ وَخَطَرِ الْمُنَافِقِينَ:
الْمُنَافِقُونَ؛ بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا صِفَاتِهِمْ، وَعَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ مُتَّقِيًا للهِ تَعَالَى حَقًّا أَنْ يَعْلَمَ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا يَعْلَمُ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا وَيَتَّصِفَ بِهَا، وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُجَانِبَهَا وَأَنْ يَحْذَرَهَا، وَأَنْ يَحْذَرَ أَهْلَهَا، وَأَمَّا إِذَا مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَلَا يَلُومَنَّ امْرُؤُ إِلَّا نَفْسَهُ.
وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَا يَزَالُونَ بِالدَّعَايَةِ الْخَبِيثَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ جُهَّالِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ خَاصَّةً؛ حَتَّى يَحْرِفُوهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَرُبَّمَا لَبَّسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ إِلَى سَوَاءِ الْكُفْرِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
((خَوْفُ السَّلَفِ مِنَ النِّفَاقِ))
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا حَذَّرَ مِنَ النِّفَاقِ، وَحَذَّرَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ قَبْلُ مِنَ النِّفَاقِ خَافَ الْأَصْحَابُ؛ كَانُوا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ خَوْفًا عَظِيمًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((يَا حُذَيْفَةُ, نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ؛ هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ مِنْهُمْ؛ يَعْنِي: مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَعْلَمَكَ بِأَسْمَائِهِمْ؟)).
قَالَ حُذَيْفَةُ: ((لَا؛ وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا)) .
لِأَنَّهُ لَوْ فُتِحَ الْبَابُ سَيَأْتِي هَذَا وَهَذَا وَهَذَا, وَيَسْأَلُونَ حُذَيْفَةَ؛ فَحِينَئِذٍ سَيُفْشِي سِرَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَعُمَرُ فِي مَنْصِبِهِ، وَفِي عَظِيمِ قَدْرِهِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَفِي الْبُشْرَيَاتِ الَّتِي أَخْبَرَهُ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا.
وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ لِحُذَيْفَةَ نَافَقُوا نِفَاقًا أَكْبَرَ؛ يَعْنِي: كَانُوا خَارِجِينَ مِنَ الْمِلَّةِ, وَلَكِنْ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ وَلَا أَحْكَامُ الْكَافِرِينَ؛ مُرَاعَاةً لِظَاهِرِهِمْ, وَلَكِنْ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِمْ بَاطِنًا.
فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ خَافَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا مِنْهُمْ وَفِيهِمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: ((أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ؛ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ)). هَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((مَا أَمِنَ النِّفَاقُ إِلَّا مُنَافِقٌ, وَمَا خَافَ النِّفَاقَ إِلَّا مُؤْمِنٌ)) .
وَلَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ)).
قِيلَ: وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟
قَالَ: ((أَنْ يُرَى الْبَدَنُ خَاشِعًا, وَأَمَّا الْقَلْبُ فَلَيْسَ بِخَاشِعٍ)) .
((أَنْ يُرَى الْبَدَنُ خَاشِعًا)): يَعْنِي يَقِفُ الْإِنْسَانُ مُتَبَتِّلًا خَاشِعًا، وَأَمَّا قَلْبُهُ؛ فَيَهِيمُ فِي أَوْدِيَةِ الْهَوَى، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَلَيْسَ بِخَاشِعٍ!!
فَهَذَا خُشُوعُ النِّفَاقِ: هُوَ خُشُوعُ الْقَالَبِ مَعَ عَدَمِ خُشُوعِ الْقَلْبِ.
كَالرَّجُلِ الَّذِي قَامَ يُصَلِّي وَحَوْلَهُ النَّاسُ؛ وَكَانَ يُصَلِّي فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ قَائِظٍ؛ فَأَطَالَ الصَّلَاةَ جِدًّا, وَالنَّاسُ مِنَ الْحَرِّ لَا يَعُونَ, وَهَذَا يُطِيلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالْقِرَاءَةَ.
فَلَمَّا لَحَظُوهُ؛ تَكَلَّمُوا عَنْهُ, وَهُوَ يَسْمَعُهُمْ؛ إِذْ يُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُمْ أَوْ بِحَضْرَتِهِمْ؛ فَقَالُوا: لِلَّهِ مَا أَطْوَلَ قِيَامَهُ!
وَمَا أَعْظَمَ قِرَاءَتَهُ!
وَمَا أَطْوَلَ سُجُودَهُ!
فَسَمِعَ هَذَا الثَّنَاءَ مِنْهُمْ؛ فَالْتَفَتَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ: فَكَيْفِ إِذَا عَلِمْتُمْ أَنِّي صَائِمٌ؟!!
هَذَا الْأَمْرُ مِنْ أَكْبَرِ الْأُمُورِ وَمِنْ أَعْظَمِهَا؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ: ((كَانُوا يُعَلِّمُونَنَا النِّيَّةَ كَمَا يُعَلِّمُونَنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ)).
وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: ((مَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشَقَّ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ نِيَّتِي)) .
مُعَالَجَةُ النِّيَّةِ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ.
الْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يَصُومَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْحَرِّ, وَيُعَانِي مِنَ الْعَطَشِ وَمِنَ الْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَلَا يُرَاعِي نِيَّتَهُ.
الْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ لَيْلًا طَوِيلًا؛ لِكَيْ يَتَسَامَعَ النَّاسُ بِصَلَاتِهِ؛ فَيَنْصَبُ وَيَتْعَبُ وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ أَقْوَامٍ يَقُومُونَ, وَعَنْ أَقْوَامٍ يَصُومُونَ: ((كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ! وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا التَّعَبُ وَالنَّصَبُ)) .
هَذَا يُصَلِّي لِمَنْ؟! وَيَصُومُ لِمَنْ؟!
الْأَمْرُ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ وَمَا سَبَقَ مَنْ سَبَقَ إِلَّا بِنِيَّتِهِ أَخْلَصَهَا لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَآتَاهُ اللهُ الْخَيْرَ.
وَالرَّجُلُ يَحْفَظُ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ , إِذَا كَانَ صَحِيحَ النِّيَّةِ آتَاهُ اللهُ الْعِلْمَ -الْعِلْمَ الصَّحِيحَ- لَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ كَثِيرًا مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ بِعِلْمٍ فِي الْحَقِيقَةِ.
كَثِيرٌ جِدًّا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ يَعْرِفُونَ فِي فَنِّ الْمَنْطِقِ، وَفِي الْفَلْسَفَةِ، وَفِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَفِي الْجَدَلِ، وَفِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْعُلُومِ يَعْرِفُونَ الْكَثِيرَ وَالْكَثِيرَ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا بِعِلْمٍ عِنْدَ التَّحْقِيقِ.
«فَالرَّجُلُ إِنَّمَا يَحْفَظُ الْعِلْمَ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ»؛ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- .
الْإِنْسَانُ يَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مُوَاقَعَةِ مَا يَخْدِشُ حَدَقَةَ عَيْنِ تَوْحِيدِهِ, وَأَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ, وَأَنْ يُحَرِّرَ نِيَّتَهُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ.
وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَيْضًا أَنَّهُ رُبَّمَا يُوَسْوِسُ فَيَدَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ؛ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الرِّيَاءِ؛ هَذَا رِيَاءٌ.
فَتَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ.
وَأَمَّا الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ فَشِرْكٌ.
فَاحْذَرْ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا تَعْلَمُ: الْفَضِيلَةُ وَسَطٌ بَيْنَ رَذِيلَتَيْنِ.
الشَّجَاعَةُ وَسَطٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ.
الْكَرَمُ وَسَطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْبُخْلِ.
فَدَائِمًا تَجِدُ الْفَضِيلَةَ وَسَطًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ بَيْنَ نَقِيضَيْنِ.
فَإِذَا تَوَسَّطْتَ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَفْلَحْتَ وَأَنْجَحْتَ.
إِذَا وَسْوَسْتَ سَتَتْرُكُ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا وَلَنْ تَعْمَلَ شَيْئًا؛ يَعْنِي: يَأْتِي الشَّيْطَانُ الْعَبْدَ؛ فَيُوَسْوِسُ لَهُ, وَيَقُولُ: سَتَعْمَلُ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَاكَ النَّاسُ؛ فَدَعْهُ.
إِذَا تَرَكْتَ الْعَمَلَ لِأَجْلِ النَّاسِ؛ أَنْتَ لَحَظْتَ النَّاسَ فِي أَصْلُ الْعَمَلِ هَذَا هُوَ الرِّيَاءُ.
وَإِنَّمَا تُرَاغِمُ الشَّيْطَانَ وَتُرْغِمُهُ, وَتَجْعَلُ أَنْفَهُ فِي التُّرَابِ وَتَعْمَلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ, وَتَجْتَهِدُ فِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
فَالْإِنْسَانُ لَا يُوَسْوِسُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنْ لَا يُغْفِلُهُ؛ فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأَبْوَابِ فِي الْعِلْمِ, بَلْ هُوَ الْبَابُ الرَّئِيسُ, الْبَابُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَا يُدْخَلُ إِلَى دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْإِخْلَاصُ.
وَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا إِلَّا إِذَا نَحَّى النِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ خَالِصًا.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ مُخْلِصًا وَهُوَ يُهْمِلُ مَعْرِفَةَ هَذَا الْبَابِ؛ فَقَدْ يَكُونُ مُمْتَلِئًا بِالنِّفَاقِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ.
قَدْ يَكُونُ الْإِنسَانُ مُمْتَلِئًا بِالنِّفَاقِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ!!
هَذِهِ أُمُورٌ مُهِمَّةٌ يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَتِهَا.
كَانَ بَعْضُهُمْ إِذَا جَلَسَ لِيَقْرَأَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَمَرَّ بِهِ الرَّجُلُ وَنَظَرَهُ, ثُمَّ عَادَ ذَلِكَ الرَّجُلُ كَانَ يُخْفِي هُوَ مُصْحَفَهُ بِثِيَابِهِ، يَقُولُ: لَا يَرَانِي هَذَا مَرَّتَيْنِ أَنْظُرُ فِي كِتَابِ اللهِ.
يُخْفِي عَمَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ.
يَتَعَلَّمُ الْإِخْلَاصَ وَيَتَعَلَّمُ كَيْفَ يَخْرُجُ مِنَ الرِّيَاءِ.
أَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ!! فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى, وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَلِذَلِكَ كَانَ بَعْضُهُمْ يَصُومُ؛ يَقُولُونَ: يَصُومُ أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ يَعْنِي مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الصِّيَامِ أَوْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا, وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ؛ دُكَّانُهُ فِي سُوقٍ؛ فَيَأْخُذُ الطَّعَامَ فِي الصَّبَاحِ كَأَنَّهُ سَيُفْطِرُ بِهِ, وَقَدْ عَقَدَ الصِّيَامَ؛ فَإِذَا مَا خَرَجَ بِالطَّعَامِ تَصَدَّقَ بِهِ, وَيَعُودُ مَعَ الْمَغْرِبِ يُقَدِّمُونَ لَهُ عَشَاءَهُ, وَهُوَ يُفْطِرُ عَلَيْهِ وَلَا يُخْبِرُ بِذَلِكَ أَحَدًا, لَا تَعْلَمُ بِذَلِكَ امْرَأَتُهُ وَلَا وَلَدُهُ .
كَانَ بَعْضُهُمْ رُبَّمَا بَكَى مِنْ خَوْفِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَرَأْسُهُ عَلَى الْوِسَادَةِ إِلَى رَأْسِ امْرَأَتِهِ؛ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ وِسَادَتُهُ؛ لَا تَدْرِي بِذَلِكَ امْرَأَتُهُ مِنْ إِسْرَارِ بُكَائِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ لَا تَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ حَلِيلَتُهُ, وَرَأْسُهَا إِلَى رَأْسِهِ عَلَى وِسَادَةٍ وَاحِدَةٍ.
الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْأَعْمَالِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَالسُّمْعَةِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
فَنَحْنُ لَا نَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ؛ لِأَنَّنَا حَقَّقْنَاهُ, وَإِنَّمَا دَائِمًا يَحْرِصُ الْعَبْدُ عَلَى تَذْكِيرِ نَفْسِهِ بِمَا يُقَصِّرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ, وَتَذْكِيرِ نَفْسِهِ بِخَطَرِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الشَّرِّ.
فَمِنْ هَذَا الْبَابِ نَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ؛ لَا أَنَّنَا بِمَبْعَدَةٍ عَنْهَا؛ نَعْلَمُهَا وَلَكِنْ لِأَنَّنَا نَتَوَرَّطُ فِيهَا.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَنَا وَإِيَّاكُمْ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ.
فَهَذَا تَذْكِيرٌ لِنَفْسِي أَوَّلًا, وَلِإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي وَإِيَّاهُمُ الْإِخْلَاصَ, وَأَنْ يُجَنِّبَنِي وَإِيَّاهُمُ النِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ, وَأَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاهُمْ مِنَ الْخَالِصِينَ الْمُخْلَصِينَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ, وَأَنْ يُحْسِنَ لِي وَلَهُمُ الْخِتَامَ أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:النِّفَاقُ... عَلَامَاتُهُ، وَخُطُورَتُهُ