«الرد على الملحدين»
«دليل العناية على وجود الله عز وجل»
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ،
وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ،
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فقد مر في سياق الرد على الملحدين بعض المقدمات
التي هي مقدمات ونتائج في حين، وكذلك مر بفضل الله تبارك وتعالى استعراضُ «دليلِ الحدوثِ»،
أو «دليلُ الإمكان»، أو هو «دليلُ الخلق»، أو هو «دليلُ الاختراع»، أو هو «دليلُ الإبداع»،
إلى غير ذلك من هذه الأسماء التي هي لمسمى واحد.
ومر بفضل الله تبارك وتعالى ذكرُ دليلِ الآيات،
وما تكلم به شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذا، وعند العلماء رحمهم الله «دليل العناية»،
هو أن الله تبارك وتعالى خلق هذا الخلق، وجعل له من أَسْبَاب استمرار وُجُوده ما جعل
فِي هذه الحياة، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله حاجة العالم إِلَى الرسالة والوحي فِي
مواطن كثيرة من «مجموع الفتاوى»، منها:
قوله:
وَالرِّسَالَةُ ضَرُورِيَّةٌ لِلْعِبَادِ لَا
بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا، وَحَاجَتُهُمْ إِلَيْهِا فَوْقَ حَاجَتِهِمْ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ،
وَالرِّسَالَةُ رُوحُ الْعَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ؛ فَأَيُّ صَلَاحٍ لِلْعَالَمِ
إِذَا عَدِمَ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ وَالنُّورَ؟!!
وَالدُّنْيَا مُظْلِمَةٌ مَلْعُونَةٌ إلَّا مَا
طَلَعَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مَا لَمْ تُشْرِقْ فِي
قَلْبِهِ شَمْسُ الرِّسَالَةِ وَيَنَالُهُ مِنْ حَيَاتِهَا وَروحِهَا فَهُوَ فِي ظُلْمَةٍ؛
وَهُوَ مِنْ الْأَمْوَاتِ؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ
لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا»، فَهَذَا وَصْفُ الْمُؤْمِنِ؛ كَانَ مَيِّتًا فِي ظُلْمَةِ
الْجَهْلِ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِرُوحِ الرِّسَالَةِ وَنُورِ الْإِيمَانِ، وَجَعَلَ
لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ؛ فَمَيِّتُ الْقَلْبِ
فِي الظُّلُمَاتِ.
وقال رحمه الله تعالى ـ وكلامه كله داخل فِي
هذا الدليل، وهو «دليل العناية»؛ أن الله تبارك وتعالى أرسل للناس الرسل، وأنزل عليهم
الكتب من أجل أن يعرفوا الغاية التي لأجلها خلقوا ـ، قَالَ رحمه الله:
إن اللَّهَ سمى رِسَالَتَهُ رُوحًا، وَالرُّوحُ
إِذَا عدِمَ فُقِدَتْ الْحَيَاةُ؛ قَالَ الله تعالى: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ
رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن
جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا»، فَذَكَرَ هُنَا أَصْلَيْنِ،
وَهُمَا: «الرُّوحُ وَالنُّورُ»، فَالرُّوحُ: الْحَيَاةُ، وَالنُّورُ: النُّورُ.
وقال رحمه الله تعالى:
إن الله يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ لِلْوَحْيِ الَّذِي
أَنْزَلَهُ حَيَاةً لِلْقُلُوبِ وَنُورًا لَهَا بِالْمَاءِ الَّذِي يُنزلُهُ مِنْ السَّمَاءِ
حَيَاةً لِلْأَرْضِ، وَبِالنَّارِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا النُّورُ، وَهَذَا كَمَا
فِي قَوْله تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ
ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقّ
وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فيذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ
فيمْكُثُ فِي الْأَرْض كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ».
فَشَبَّهَ الْعِلْم بِالْمَاءِ الْمُنَزَّلِ
مِنْ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ بِهِ حَيَاةَ الْقُلُوبِ، كَمَا أَنَّ بِالْمَاءِ حَيَاةَ
الْأَبْدَانِ، وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَوْدِيَةِ؛ لِأَنَّهُا مَحَلٌّ للْعِلْم،
كَمَا أَنَّ الْأَوْدِيَةَ مَحَلٌّ للْمَاءِ، فَقَلْبٌ يَسَعُ عِلْمًا كَثِيرًا، وَوَادٍ
يَسَعُ مَاءً كَثِيرًا، وَقَلْبٌ يَسَعُ عِلْمًا قَلِيلًا، وَوَادٍ يَسَعُ مَاءً قَلِيلًا.
وَأَخْبَرَ تعالى أَنَّهُ يَعْلُو عَلَى السَّيْلِ
مِنْ الزَّبَدِ بِسَبَب مُخَالَطَةِ الْمَاءِ، وَأَنَّهُ يَذْهَبُ جُفَاءً - أَيْ:
يُرْمَى بِهِ وَيُخْفَى -، وَاَلَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ يَمْكُثُ فِي الْأَرْض وَيَسْتَقِرُّ،
وَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ تُخَالِطُهَا الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ، ثُمَّ تَذْهَبُ جُفَاءً،
وَيَسْتَقِرُّ فِيهَا الْإِيمَانُ وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَالنَّاسَ.
وَقَالَ تعالى: «وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ»، فَهَذَا
الْمَثَلُ الْآخَرُ؛ وَهُوَ النَّارِيُّ، فَالْأَوَّلُ لِلْحَيَاةِ، وَالثَّانِي لِلضِّيَاءِ.
وقال رحمه الله تعالى:
إن لهذين الْمَثَلَيْنِ نظيرًا، وهما الْمَثَلَانِ
الْمَذْكُورَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْله تعالى: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ
فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
(18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
بِالْكَافِرِينَ (19»).
وذكر شيخ الإسلام – رحمه الله – وصف المؤمن، ثم قال:
وَأَمَّا الْكَافِرُ؛ فَفِي ظُلُمَاتِ الْكُفْر
وَالشِّرْكِ غَيْرُ حَيٍّ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ حَيَاةً بَهِيمِيَّةً، فَهُوَ
عَادِمُ الْحَيَاةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي سَبَبُها الْإِيمَانِ،
وَبِهَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الرُّسُلَ وَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ
فِي تَعْرِيفِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ، وَتَكْمِيلِ مَا يُصْلِحُهُمْ
فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَبُعِثُوا جَمِيعًا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَتَعْرِيفِ
الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَيْهِ، وَبَيَانِ حَالِهِمْ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ.
وذكر – رحمه الله – الأصول التي دل عليها فقال:
فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ
الصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْقَدْرِ، وَذِكْرِ أَيَّامِ اللَّهِ فِي أَوْلِيَائِهِ
وَأَعْدَائِهِ، وَهِيَ الْقِصَصُ الَّتِي قَصَّهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَالْأَمْثَالُ
الَّتِي ضَرَبَهَا لَهُمْ.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي يَتَضَمَّنُ تَفْصِيلَ
الشَّرَائِعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ، وَبَيَانِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ
وَمَا يَكْرَهُهُ.
وَالْأَصْلُ الثَّالِثُ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ مَدَارُ
الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَالسَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ، فالسعادة والفلاح مَوْقُوفَةٌ
عَلَيْهَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ؛ فَإِنَّ
الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي إِلَى تَفَاصِيلِهَا وَمَعْرِفَةِ حَقَائِقِهَا؛ وَإِنْ كَانَ
قَدْ يُدْرِكُ وَجْهَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ كَالْمَرِيضِ
الَّذِي يُدْرِكُ وَجْهَ الْحَاجَةِ إِلَى الطِّبِّ وَمَنْ يُدَاوِيه، وَلَا يَهْتَدِي
إِلَى تَفَاصِيلِ الْمَرَضِ وَتَنْزِيلِ الدَّوَاءِ عَلَيْهِ.
وقد قَالَ السفاريني فِي «لوامع الأنوار»:
اعْلَمْ أَنَّ حَاجَةَ الْخَلْقِ إِلَى إِرْسَالِ
الرُّسُلِ وَبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَرُورِيَّةٌ،
لَا يَنْتَظِمُ لَهُمْ حَالٌ، وَلَا يَصْلُحُ لَهُمْ دِينٌ وَلَا بَالٌ إِلَّا بِذَلِكَ،
فَهُمْ أَشَدُّ احْتِيَاجًا إِلَى ذَلِكَ مِنْ إِرْسَالِ الْمَطَرِ وَالْهَوَاءِ؛ بَلْ
وَمِنَ النَّفَسِ الَّذِي لَابُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، كَمَا فِي «مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ»
لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.اه
وكلام ابن القيم رحمه الله الَّذِي أشار إِلَيْهِ
السفاريني رحمه الله هو فِي «مفتاح دار السعادة»، وهو :
حَاجَة النَّاس إِلَى الشَّرِيعَة ضَرُورِيَّة
فَوق حَاجتهم إِلَى كل شَيْء، وَلَا نِسْبَةَ لحاجتهم إِلَى علم الطِّبّ إِلَيْهِا؛
أَلَا تَرَى أَن أَكثر الْعَالم يعيشون بِغَيْر طَبِيب؟ وَلَا يكون الطَّبِيب إِلَّا
فِي بعض المدن الجامعة، وَأما أهل البدو كلُّهم، وَأهل الكُفُورِ كلُّهم، وَعَامةُ
بني آدم؛ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى طَبِيب، وهم أصح أبدانًا وَأقوى طبيعةً مِمَّن هُوَ
متقيد بالطبيب، وَلَعَلَّ أعمارهم مُتَقَارِبَة، وَقد فطر الله بني آدم على تنَاول
مَا يَنْفَعهُمْ وَاجْتنَابِ مَا يضرهم، وَجعل لكل قوم عَادَةً وَعُرْفًا فِي اسْتِخْرَاج
مَا يَهْجُمُ عَلَيْهِم من الأدواء، حَتَّى إن كثيرًا من أصُول الطِّبّ إِنَّمَا أُخِذَتْ
منْ عوائد النَّاس وعُرْفِهِم وتجاربهم، وَأما الشَّرِيعَة؛ فمبناها على تَعْرِيف مواقعِ
رِضَى اللهِ وَسَخَطِه فِي حركات الْعباد الاختيارية، فمبناها على الْوَحْي الْمَحْض.
وَالْحَاجة إِلَى الشريعة أشد من الحاجة إِلَى
التنفس؛ فضلًا عَنْ الطَّعَام وَالشرَاب؛ لِأَن غَايَة مَا يُقَدَّرُ فِي عدم التنفس
وَالطَّعَام وَالشرَاب؛ موتُ الْبدن وتَعَطُّلُ الرُّوحِ عَنْهُ، وَأما مَا يُقَدَّرُ
عَنْد عدم الشَّرِيعَة؛ ففساد الرّوح وَالْقلب جملَةً، وهلاكُ الْأَبدِ.
وشتان بَين هَذَا وهلاك الْبدن بِالْمَوْتِ،
فَلَيْسَ النَّاس قطّ إِلَى شَيْء أحْوجَ مِنْهُم إِلَى معرفَة مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول
صلى الله عليه وآله وسلم، وَالْقِيَام بِهِ، والدعوة إِلَيْهِ، وَالصَّبْر عَلَيْهِ،
وَجِهَادِ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ حَتَّى يرجعَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ للْعَالَمِ صَلَاحٌ
بِدُونِ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَلَا سَبِيل إِلَى الْوُصُول إِلَى السَّعَادَة والفوز
الْأَكْبَر إِلَّا بالعبور على هَذَا الْجِسْر.
فهذا الَّذِي ذكره علماؤنا - رحمهم الله تعالى
- هو أعظم عَنْاية بالجنس البشري فِي هذه الْأَرْض؛ أن الله تبارك وتعالى لِأَنَّهُ
لم يخلقهم عبثًا؛ أرسل إِلَيْهِم الرسل، وأنزل عليهم الكتبَ من أجل أن يُبَيِّنُوا
لهم مواقعَ مرضاةِ اللهِ ومساخطِهِ، من أجل أن يقوموا بوظيفتهم فِي هذه الحياة، وهذا
أعظم مظاهر العناية بالكائن الإنساني فِي هذا الوجود، إلا أن الْعلماء - رحمهم الله
تعالى - لما تعرضوا لذكر دليل العناية جعلوه شيئًا يشمل كل مَنْ وما فِي الْأَرْض مِنْ
مخلوقٍ خلقه الله تبارك وتعالى، فقالوا - كما فِي كتاب «الله جل جلاله» -:
كل نعمة وراءها مُنْعِمٌ.
وَصْفُ دواءٍ لمريضٍ نعمةٌ وراءَها طبيب.
تأمينُ طعامٍ لجائعٍ نعمةٌ وراءها مُطْعِمٌ.
رعايةُ الطفلِ حتى يَكْبُرَ وَيَسْتَغْنِيَ نعمةٌ.
وهكذا نجد أن المعطَيَاتِ الْمُصْطَنَعَةَ للإنسان
كلَّها وراءها مباشرةً مَنْ أَعْطَى وَاعْتَنَى.
أترى هذه المعطياتِ الكثيرةَ التي ليست من صنع
الإنسان للإنسان؛ أليس وراءها يَدٌ؟!!
إن إنكار ذَلِكَ تعطيلٌ للعقلِ أَيُّ تعطيلٍ!!
ولما كَانَت هذه الظاهرةُ - ظاهرةُ العنايةِ
والنعمةِ على الإنسان - من أكثر الظواهر تفصيلًا فِي القرآن، لِمَا يترتب عليها من
إظهار فضل الله وكرمه ورحمته وعطائه، وبالتالي يستخرج بذَلِكَ شكر العاقل لله المنعمِ
جَلَّ وَعَلَا، أو إقامةِ الحجة على الإنسانِ وكفرِه وظلمِهِ وجحودِهِ؛ وبالتالي استحقاقه
كلَّ عقاب؛ لما كَانَ ذَلِكَ كذَلِكَ؛ فقد ذكر الله رب العالمين فِي كثير من الآيات
فِي القرآن المجيد بعضَ مظاهرِ العنايةِ بالإنسان كدليلٍ على وُجُوده جل وعلا.
قال جَلَّ وَعَلَا: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18»)، وقال جَلَّ وَعَلَا:
«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
(34»).
الملاحَظُ أن آية من الآيتين خُتِمَتْ بقوله
تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»، بينما خُتِمَت الأخرى بوصف الإنسان؛ «إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ».
فإذا ما نظرتَ فِي سياق الآيتين وخِتَامَهما؛
اطَّلَعْتَ على مَعَانٍ، منها: أن هذه النعم التي لا تُعَدُّ ليست مصادفةً؛ بل هي من
خلق الله جَلَّ وَعَلَا، وعفوُ الله ورحمتُه هما اللذان يَسَعَانِ الإنسانَ المؤمنَ
إِذَا لم يَقُمْ لله بحق المعرفة أو بواجب الشكر قيامًا كاملًا؛ «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ». وأيضًا ترى أن جهل الإنسان الَّذِي ينتج عَنْه الْكُفْر، وترى أن كبره الَّذِي
ينتج عَنْه الظلم؛ هو الَّذِي يجعل الإنسان لا يرى بداهةً نِعَمَ اللهِ عليه، ويجعله
لا يَنْسُبُهَا إِلَى الله بإخلاص وتجرد؛ بل ينسبها إِلَى أي شيء مهما كَانَ تافهًا
وباطلًا؛ «إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ».
وقال ربنا جَلَّ وَعَلَا: «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45»).
وقد أجمل الله تعالى ماهيةَ عَنْايتِهِ بالإنسان
ونِعَمَه عليه فِي آيات.
منها: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض
جَمِيعًا»، وقال تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»، وقال تعالى:
«وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ».
وفي هذا الإجمال تتبين أن أول مظهر من مظاهر
نعمة الله على الإنسان: خلقته على ما هو عليه من معان ظاهرة وباطنة.
وثاني هذه المظاهر: أن الْأَرْض بما فِيها والسماواتِ
بما فِيها مسخرةٌ للإنسان، وأن هذا الأنعام كلَّها سخرها الله رب العالمين للإنسان،
ومكنه الله تبارك وتعالى منها.
فهذا الإنعام كله بِجُزْئَيْهِ على الإنسان من
الله جَلَّ وَعَلَا، وأَسْبَغَ كما قَالَ تعالى: «جميعًا منه»، ولا يمكن أن يكون إلا
ذَاكَ؛ لأن مناسبة الكون للإنسان، ولأن إمكانه من تسخيره لا يكون إلا بمسخِّر.
وبعد هذا الإجمال يذكر الله تبارك وتعالى بعض
تفاصيل هذين المظهرين من مظاهر نعمه على الإنسان فِي القران؛ «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70»).
وقال تعالى: «الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ
(2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4»).
وقال تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ
فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4»).
فلم يُنْعَمْ على مخلوق من المخلوقات كما أُنْعِمَ
على الإنسان من حيث ما أُعْطِيَ من مُعْطَيَاتٍ خُلُقِيةٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ، وكذَلِكَ
ما أَنْعَمَ اللهُ تبارك وتعالى عليه من اعتدالِ خَلْقه؛ «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ
ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً».
كفى بالعقل للإنسان نعمةً، وبسبب مما أُعْطِيَ
استطاع أن يُسَخِّرَ هذا الكونَ بما فِيه، أي بِسَبَب نعمة الله تبارك وتعالى عليه
بالعقل.
ثم يعدد اللهُ نِعَمَهُ الكونيةَ على الإنسان،
وما أكثرَ الآياتِ فِي ذَلِكَ، ويكفي أن نعرف أن سورةً طويلة هي سورة الأنعام كلُّها
تقريبًا تتحدث عَنْ هذا الأمر، وكذَلِكَ سورة النمل، وكذَلِكَ سورة النِّعَم، وهي سورة
النحل، فتأمل فِي قول ربك: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْس ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ».
وقال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُوم
لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ».
الطريق الوحيد الَّذِي يسلكه الإنسان لكي يتعرف
على الطريق الصحيح فِي ظلمات البر والبحر؛ هو أن يتبع النجم، وقد كَانَت المسألة قديمًا
أوضحَ منها الآن؛ لكثرة ما كَانَ يستفيد الإنسان من الاهتداء بالنجم، ولَكِن فِي الحاضر
وإِلَى الأبد سيبقى اهتداءُ الإنسان بالنجم شيئًا ضروريًا، يهتدي بها قاطعُ الصحراءِ
فِي سَيْرِهِ، والجنديُّ فِي معركته هجومًا أو انسحابًا، والإنسانُ حيث كَانَ.
إن السفينة فِي البحر إذ تَسْلُكُ طريقَهَا معتمدةً
على الآلات وعلى خطوط الطول والعرض؛ هي حتى فِي هذه معتمدةٌ على النُّجُوم، إذ لو لا
نَجْمُ القُطْبِ ما عُرِفَ طُولٌ ولا عرضٌ، ولو لا النُّجُوم الأخرى ما عُرِفَ نَجْمُ
القُطْب، وبدون نجوم الكون؛ كم كَانَ يتعذب الإنسان؟!!
وكم كَانَ يضل؟!!
وكم كَانَ تَتَقَلَّصُ دائرةُ عَمَلِه؟!!
قال جَلَّ وَعَلَا: «وَأَلْقَى فِي الْأَرْض
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16»).
وقال جَلَّ وَعَلَا: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ
بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْس وَالْقَمَرَ
دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34»).
وقال تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ
حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ
وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ
سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33»).
فبَيَّنَ ربُّنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هذه
الآيات وفي غيرها في كثيرٍ من الآيات فِي القرآن المجيد عَنْايَتَهُ بهذا الإنسان،
بهذا الخلق فِي هذه الْأَرْض فِي هذه الحياة، وكيف أن الله تبارك وتعالى جعل ذَلِكَ
مُمَهِّدًا لحياتِه ولِأَدَاءِ وظيفته فِي هذه الْأَرْض على النحو الَّذِي طلبه الله
رب العالمين منه.
فدليل العناية يدل على وُجُود الخَالِق جَلَّ
وَعَلَا، وعلى أن الله تبارك وتعالى هو الَّذِي خلق هذا الخلق، وجعل هذه العناية مصروفةً
لهذا الخلق فِي هذه الْأَرْض فِي هذه الحياة؛ من أجل أن يمارس وظيفتَه فِيها. على أن
هُنَالِكَ فِي هذا العصر الْحَدِيث أمور أخرى، لَمَّا تأمل فِيها الْعلماءُ فِي مجالاتهم
المختلفة؛ وصلوا إِلَى النتيجة ذاتها التي دلت عليها الآيات فِي ما مر ذكره.
في كتاب «العقيدة فِي الله» بيان لبعض هذا الدليل
الْعَظِيم وهو دليل العناية.
فالعلماء يبينون عجائب صنع الله في خلقه، وقد
كان العلماء ولا يزالون يبينون عجائب صنع الله في خلقه، ويَعِظُونَ أنفسَهم بذلك، كما
يعظون غيرهم.
وتأمل في هذه النماذج؛ لتعرف أن الله رب العالمين
قد أحسن إلى هذا الإنسان أعظمَ إحسان؛ إلا أن الإنسان ظلوم كفار كما ذكر ذلك عنه الذي
سواه وبرأه.
هذه الأجسام الحية أجسام الأحياء؛ مم تتكون؟
وكيف تتكون؟
قال بعض المشتغلين بهذا العلم:
"معظم الحيوانات والنباتات تتكون من عدد
هائل من تلك الوحدات الدقيقة الحجم التي تسمى ب(الخلايا)، كما يتكون المبنى من مجموعة
من الأحجار المرصوصة ".
وخلايا أجسامِنا وأجسامِ غيرِنا من الحيوانات
دائمةُ الانقسام، وذَلِكَ الانقسام يكون لنمو الجسم، أو لتعويض ما يفقد أو يموت من
الخلايا لأسباب عديدة، وكلّ خلية من هذه الخلايا تتكون أساسًا من مادة عجيبة يطلق عليها
اسم «الْبُرُوتُوبْلَازْمْ».
وتوجد بداخل كل خليةٍ محتوياتٌ عديدةٌ ذاتُ وظائفَ
محددةٍ، ومِنْ هذه المحتوياتِ أجسامٌ دقيقةٌ تحمل عواملَ وراثيةً، هي التي يطلق عليها
اسم «الْكُرُومُوسُومَات».
وعدد هذه «الْكُرُومُوسُومَات» ثابتٌ فِي خلايا
كلّ نوع من أنواع الحيوانات والنباتات المختلفة، فعددها فِي خلايا القط - مثلًا - يختلف
عَنْ عددها فِي خلايا الكلب أو الفيل، أو في نبات الجزر أو نبات الفول.
وفي كل خليّة من الخلايا التي يتكون منها جسم
الإنسان يوجد ستة وأربعون من هذه (الْكُرُومُوسُومَات)، وعندما تنقسم الخلية إِلَى
خليتين داخل أجسامنا؛ فإنّ كلّ خلية جديدة لا بدّ أن تحتوي على العدد نفسه من (الْكُرُومُوسُومَات)،
وهي ستة وأربعون، إذ لو اختل هذا العدد لما أصبح الإنسان إنسانًا.
والخلايا - كما مر - دائمةُ الانقسام، يحدث هذا
فِي جميع ساعات اليوم؛ حتى فِي أثناء نومنا، ونحن حتى الآن لا ندرك حقيقة ما يحدث في
هذه العملية المذهلة «عمليةِ انقسام الخلايا»، وإنما يكتفي الْعِلْمُ بوصف الخطوات
العملية التي يمكن ملاحظتها تحت عدسات المجهر العادي، أو عَنْ طريق المجهر الإلكتروني،
الَّذِي يكبر الأشياء تكبيرًا أكثرَ بكثيرٍ من تكبير المجهر العادي ".
جميع الخلايا الناتجة عَنْ عمليات الانقسام فِي
جسم الإنسان لا بدّ أن تحتوي على ستة وأربعين (كروموسومًا) فِيما عدا نوعين من الخلايا،
هما: الخلايا التناسلية، أي الحيوان المنوي فِي الذكر والبويضة فِي الأنثى، وعندما
تنقسم خلايا الأنسجة لتكوين هذه الخلايا التناسلية، فإنها تُنْتِجُ خلايا لا تحتوي
على ستة وأربعين (كروموسومًا)، بل تحتوي على نصف هذا العدد، أي يصبح فِي كل خليةٍ تناسليةٍ
ذكريةٍ أو أنثويةٍ ثلاثةٌ وعِشرون كروموسومًا فقط ".
ويحدث هذا لحكمة بالغة ولهدف عظيم، إذ إنّ الخلية
الذكرية - الحيوان المنوي - لا بدّ أن تندمج مع الخلية الأنثوية – وهي البويضة -؛ لتكوين أول خلية فِي
جسم الجنين، وهي التي يطلق عليها اسم (الخلية الملقحة)، حيث ينضم الثلاثة والعشرون
كروموسومًا التي فِي الخلية الذكرية إِلَى الثلاثة والعشرين كروموسومًا التي فِي الخلية
الأنثوية؛ ليعود عدد (الْكُرُومُوسُومَات) فِي الخلية الجديدة إِلَى العدد الأصلي،
وهو ستة وأربعون كروموسومًا.
هذه الخلية الملقحة التي أصبحت تحتوي على ستة
وأربعين من حاملات الصفات توالي انقسامها، فتصبح خليتين، ثم أربعَ خلايا، ثم ثمانيَ
خلايا وهكذا، حتى يتم تكوين الجنين الَّذِي يخرج من رحم أمه، ويستمر نموه عَنْ طريق
انقسام الخلايا حتى يصبح إنسانًا كامل النمو، فِي كلّ خلية من خلاياه ستة وأربعون كروموسومًا،
كما هو الحال فِي خلايا جسد أبيه وأمه وأجداده، وجميعِ أفراد الجنس البشري.
اختزال عدد حاملات الصفات (الكروموسومات) إِلَى
النصف عنْد تكوين الخلايا التناسلية بالذات؛ لكي تندمج فيعودَ العددُ الأصلي لحاملات
الصفات فِي الخلايا.
هذا لا يمكن مطلقًا أن يكون نتيجةَ مصادفةٍ عمياءَ؛
بل لا بدّ أن يكون نتيجةَ تقديرٍ دقيقٍ من الله جل وعلا الذي هو عليم بكل شيء.
وهي فِي الوقت نفسه لا يمكن أن تخضع للتجربة
واحتمال الخطأ، إذ لو حدث خطأٌ مرةً واحدةً عَنْد بدءِ الخلق، كما يقولون: "إن
ذلك إنما وقع بالتجربة والخطأ، حتى استقام الأمر على ما هو عليه"!!
معلوم أن ذلك الخطأ الذي زعموا لو وقع مرة واحدة
عند بدء الخلق؛ لَقَضَى على الكائن الحي قبل تكوين الجيل الثاني، أي إنّ هذا الترتيب
لا بد أن يكون قد تم منذ تكوين أول جنين ظهر فِي الوجود.
فيقال للملحد: ألا يكفي هذا وحده دليلًا على
وُجُود الخالق العليم الخبير القدير السميع البصير؟!!
ما الَّذِي يجعل هذه الخلايا التناسلية خاصةً
تكون على النصف فِي حاملات الوراثة - فِي حاملات الصفات -، حتى إِذَا ما انْدَمَجَ
الحيوانُ الْمَنَوِيُّ مع الْبُوَيْضَةِ الأنثويةِ؛ عاد العدد إِلَى أصله كما كَانَ
فِي جسد الأب وفي جسد الأم وفي الجنس البشري.
فلأن ذَلِكَ يحدث - أي هذا الاندماج -، لأنه
يحدث جعل الله رب العالمين العدد على النصف فِي الخلايا التناسلية، حتى إِذَا ما تم
الاندماج؛ عاد العدد إِلَى أصله، وأما سائر الخلايا الجسدية فِي الجنس البشري؛ فإنها
على الأصل الَّذِي مر ذكره، وهو ستة وأربعون.
فمن الَّذِي فعل ذَلِكَ؟!
وهل يمكن أن يقع ذَلِكَ على هذا النحو الدقيق
مصادَفَةً أو مِنْ غير صانع؟!
هذا نوع - كما مر - يخالف سائر الخلايا الجسدية،
وهُنَاكَ نوع آخر فِي الجسد الإنساني، وهو «الخلايا العصبية»، وهي تخالف بقية الخلايا
فِي كونها لا تنقسم أصلًا، وأما السر فِي عدم انقسامها؛ فهو أنه لا يمكن أن يكون عَنْ
طريق التجربة واحتمال الخطأ والصواب أن الخلايا الوحيدة التي لا تنقسم هي الخلايا العصبية
التي يتكون منها المخ وباقي الجهاز العصبي، لو انقسمت كما يحدث لِبَاقي الخلايا لَحَدَثَتْ
كارثةٌ مُرَوِّعَةٌ.
إنّ خلايا المخ فِي هذه الحال لا يمكنها الاحتفاظ
بشخصية الإنسان، وسوف تتلاشى جميعُ معالِمِ الذاكرةِ فِي خلال ساعات قليلة.
فالخلايا العصبية لا تتكاثر، وإنما هي باقية
على أصلها.
عدد الخلايا في المخ عَنْد ولادة الإنسان أو
أي حيوان آخر لا تزيد بعد ذلك خليةً واحدةً إلى الوفاة، بينما نجد أنّ الكراتِ الدَّمَوِيَّةَ
الحمراءَ التي تَسْبَحُ فِي الدم، وما هي إلا خلايا تموت، ويحلّ محلها خلايا جديدةٌ
كلَّ نحوِ مائةِ يومٍ، وتتكون الخلايا الحمراء أو الكرات الحمراء فِي نخاع العظام،
ثم تنطلق لكي تسبح فِي تيار الدم؛ لتحل محل الخلايا التي استهلكت، فهي دائمة التجدد،
ليس لها ثبات.
وأما السر فِي تفاوت قوة عضلات الجسم - لأنه
مما يلاحظ: أن العضلات فِي الجسم الإنساني متفاوتة من حيث القوة -؛ أقوى عضلاتٍ فِي
جسم الإنسان أو الحيواناتِ الثَّدْيِيَّةِ: عضلاتُ الرَّحِمِ عَنْد الأنثى، فعضلات
الرحم عند الأنثى في الإنسان وفي الحيوانات الثديية هي أقوى عضلات الجسم الإنساني؛
لأنها تدفع الجنين لِيَخْرُجَ من بطن أمه.
لو لم تكن هذه العضلات بهذه القوة منذ بدء خلق
الإنسان أو غيرِه من الحيوانات الثديية؛ لَمَا خَرَجَ إِلَى الوجود أولُ جنينٍ مِنْ
بطنِ أمه.
وتَقَلُّصَاتُها تكون عَنْيفةً جدًا، وتكون مؤلمةً
جدًا؛ لِذَلِكَ لما جاء الرجل من اليمن يحمل أمه على رقبته ويطوف بها حول البيت، ثم
ذهب إِلَى ابن عمر رضي الله عَنْهُمْا فقال: أترى أني قد وَفَّيْتُها حقها؟ قَالَ:
ولا بطلقة واحدة - وهو ما يكون من انقباض عضلات الرحم عَنْد الولادة -.
فهذه هي الطلقة التي تعاني منها المرأة عَنْد
الوضع؛ قَالَ: "ولا بطلقة واحدة".
هذا الَّذِي صنعتَ؛ وقد أتى بأمه من اليمن إِلَى
مكة، ثم هو يطوف بها حول البيت وقد صار لها بعيرًا مذلَّلًا؛ كل هذا ليس بمعادِلٍ لطلقة
واحدة عَنْد ولادته.
فهذه العضلات هي أقوى عضلات الجسد الانساني.
تلي عضلاتِ الرحِمِ فِي القوةِ عضلاتُ القلبِ
والْفَكَّيْنِ، فعضلاتُ القلب لا بد أن تكون قوية لِتَصْمُدَ للعملِ ليلًا ونهارًا
لدفع الدم إِلَى الأوعية الدموية لمدة قد تطول لأكثر من مائة عام بلا توقف، وكذَلِكَ
الحال فِي عضلات الفكين التي ينبغي أن تظلّ قادرة على دفع الأسنان لينطبق بعضها على
بعض؛ لكي تَمْضُغَ أطنانًا من الطعام طوال حياة الإنسان، فلذلك كانت من أقوى العضلات
في الجسد الإنساني.
وقد قرر الْعِلْم الْحَدِيث وُجُود صفة مهمة
تشترك فِيها جميع الكائنات الحية من أدناها إِلَى أرقاها، هذه الصفة هي «مقاوَمَةُ
عَوَامِلِ الفَنَاءِ»، إذ إنّ خالق جميع هذه الكائنات يريد لها البقاء؛ حتى يَقْضِيَ
عليها بالفناء.
«فيروس الْإِنْفِلْوَنْزَا» يتشكل من آنٍ لآخر
بأشكال مختلفة؛ لتصعب مقاومته والقضاء عليه، وهذا معروف فاش فِي معارف الناس الطبية
فِي هذا العصر؛ أن هذا الفيروس يتكون حينًا بعد حينٍ فِيه أمورٌ تجعله عَصِيًَّا على
ما وصل إِلَيْهِ الإنسان من أَسْبَابِ مقاومته، فعندما يستعملون بعض المضاداتِ له؛
فإنها لا تُجْدِي فَتِيلًا، فما تزال التجارب شيئًا فشيئًا حتى يُتَوَصَّلَ إِلَى شيء،
فيكون هو قد غَيَّرَ من كِيمْيَائِيَّتِهِ بقَدَرِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وكذَلِكَ
الحشرات مع توالي الأجيال تكتسب مناعةً ضدّ المبيدات الكيمياوية؛ لكي تقاوم عوامل الفناء
وانقراض الجنس؛ بل فِي الإنسان نفسه لوحظ كثرةُ الإنجاب فِي فترات الحروب، كما لوحظ
أنّ أي سَيِّدَة – أَيَّ امرأة - تواظب على تناول الوسائل
التي تَحُدُّ من الحمل، ثم تسهو عَنْ تناول تلك الوسيلة بعض الأيام؛ فتجد أن النتيجة
فِي معظم الأحيان تكون إنجابَ عدةِ تَوَائِمَ؛ لتعويض النقص فِي الذرية الَّذِي حدث
فِي أثناء فترة الامتناع.
إذا اسْتَأْصَلَ الإنسانُ إحدى الْكُلْيَتَيْنِ
لِسَبَبٍ من الأَسْبَاب؛ فإنّ الكُلْيَةَ الباقية
يزداد حجمها وتؤدي عمل الكليتين؛ حتى إنَّهُ يمكن أن يحيا بِثُمُنِ كُلْيِةٍ.
إذا اسْتُأْصِلَتْ كُلْيِةُ، وكذَلِكَ إِذَا
تعطل فِي الأخرى سبعة أثمانها؛ فإنه يمكن بهذا الثُّمُنِ الباقي أن يظل مؤديًا لوظيفته
من غير ما احتياجٍ إِلَى أن يغسل دمه بالوسائل الْحَدِيثة.
الله وحده هو الَّذِي زَوَّدَ هذه المخلوقاتِ
بهذه القدرة العجيبة على التوازن؛ حتى لا تَنْقِرَضَ وتَتَعَرَّضَ للفناء، كما زَوَّدَ
العديدَ مِنَ الحيواناتِ بوسائلَ للدفاعِ عَنْ أنفسها، لا يختلف فِي ذَلِكَ الإنسان
عَنْ العقربِ أو الثعبانِ أو غيرهِ من هذه الحيوانات؛ فَلِكُلٍّ وسائلُ دفاعِهِ التي
جعلها الله تبارك وتعالى له مهما كَانَ ضعيفًا.
لا يمكن أن يكون هذا المبدأُ أو القانونُ الَّذِي
يَسُودُ جميعَ الكائناتِ الحيةِ مِنْ صُنْعِ مصادفةٍ عمياءَ تَتَخَبَّطُ فِي الظلام،
إذ إنّ المصادفة لا يمكن أن تَتَّخِذَ مَظْهَرَ قانونٍ عامٍ تَخْضَعُ له جميعُ الكائنات.
وقد مر أن هُنَالِكَ وحدةً للنظام فِي هذا الكون،
وهي دليل على وحدانية الخَالِق الْعَظِيم سبحانه.
في كتاب «وجود الله بالدليل العقلي والنقلي»:
لو أخذنا ورقة نبات رقيقة وفحصناها تحت المجهر؛
لوجدناها تتألف من ملايين الخلايا التي تنتظم مع بعضها البعضِ فِي طبقاتٍ وصفوفٍ بشكل
رائعٍ يَأْخُذُ الألبابَ، ويَنِمُّ عَنْ وُجُود خالقٍ مُبْدِعٍ لهذا التصميمِ الْعَظِيم.
لو كَبَّرْنَا هذه الخلايا تحت المجهر باستخدام عدسات قوية؛ فإننا سنشاهد التركيب العجيب
لكلٍّ منها، لكلِّ خليةٍ على حِدَةٍ، سنشاهد النواةَ - وهي المركز الحيوي فِي الخلية
– وحولَها مادةٌ يقال لها: «السَّيْتُوبْلَازْمْ»
الَّذِي يَحُدُّه غشاءٌ رقيقٌ متماسكٌ يحافظ عليه، ستقف مذهولًا عَنْدما تدرك الحركة
الدائبة الموجودة داخل خلايا النبات، والتي لا يُنْبِئُ عَنْها ظاهرُ الورقةِ الخارجيُّ
الساكنُ.
يعني: أنت عَنْدما تنظر إِلَى ورقة النبات؛ تجدها
ساكنةً وفيها حركةٌ داخليةٌ مَوَّارَةٌ على مستوى ما لا يحصيه إلا الله من الخلايا
التي تتكون منها الورقة، فهي فِي حركة دائبة؛ ولَكِنَّ العينَ المجردة تراها ساكنة؛
لِأَنَّهُا لا تستطيع أن ترى هذه الخلايا الدقيقة، سترى الْبُرُوتُوبْلَازْم يَتَهَادَى
تَهَادِي السفنِ على ساحلِ بحرٍ خِضَمٍّ؛ فما هي القدرة أو القوة
التي تدفع الْبُرُوتُوبْلَازْم إِلَى الحركة
التي تُعْرَفُ فِي علم الأحياء ب«ظاهرةِ تَدَفُّقِ الْحَشْوَةِ» أو «تَدَفُّقِ الْبُرُوتُوبْلَازْم»؟!
ما هي القوة التي جعلت هذه المادة فِي هذه الحركة
الدائبة؟!
فرغمَ صغر حجم الخلية النباتية التي لا ترى إلا
بالمجهر؛ إلا أَنَّهُا تشكل جهازًا مُعَقَّدًا يقوم بالعديد من الوظائف الحيوية الدقيقة
التي تفوق فِي دقتِها أقصى ما وصل إِلَيْهِ الإنسانُ من دقةٍ فِي صناعةِ الساعاتِ الصغيرةِ
وما دونها حجمًا من المخترعات؛ فهل تُصَدِّقُ أن ساعةَ يدِك قد تشكلت بمحض الصدفة؟!
وهل يمكن لهذه الساعة أن توجِدَ نفسها بنفسها
كما يَدَّعِي الماديون؟! المادة لا تَعْقِلُ ولا تدرك ولا تبصر؛ فهي إذًا عاجزةٌ كل
العجز عَنْ الخلق والإبداع، وكذَلِكَ الحال بالنسبة لهذا الكون بما يحتويه من مجرات
ونجوم وكواكب ومخلوقات ونباتات ومواد، فالذي خلقها هو الَّذِي أحسن كل شيء خلقه، وهو
لا يمكن أن يكون إلا اللهَ عز وجل.
إذا فَحَصْنَا الْأَمِيبَا فِي قطرة ماء مأخوذة
من مستنقع، لو فحصناها تحت المجهر؛ فإننا سَنُذْهَلُ لدى مراقبة العمليات الحيوية التي
ينجزها هذا الحيوان البدائي المتناهي فِي الصغر، والذي يتكون من خلية واحدة؛ ولَكِنها
خلية عجيبة، عجيبة لِأَنَّهُا تُحِسُّ وتدرك، فتتحركُ باتجاهِ فَرِيسَتِهَا فَتَلْتَهِمُهَا،
ثم تَهْضِمُهَا، ثم تطرح الفضلاتِ الناجمةَ عَنْ هضمها، كما أَنَّهُا تتنفس وتتكاثر
وتقوم بأعمال حيوية كثيرة أخرى، وهي ذَلِكَ الحيوان البدائي الَّذِي يتألف من بعض الْبُرُوتِينَاتِ
التي تتألف بدَوْرِها من بعض الأحماض الأمينية البسيطة.
هل بإمكان الصدفة أن توجِدَ هذا الحيوان المجهري
الدقيق من بعض الأحماض الأمينية؛ أم هل خَلَقَ الْأَمِيبَا نفسَه بنفسه بعد أن جمع
ذرات خليته من هنا وهُنَاكَ، ثم رتبها بهذه الطريقة البديعة الخَلَّابَةِ؛ لتقوم بالهضم
والتنفس والإحساس والتكاثر وغير ذَلِكَ؟!
وهل للأميبا عقلٌ يُسَيِّرُهُ؛ أم أن قوةً إلهيةً
أوجدته، ثم قَدَّرَتْ له حركاتِه وسَكَنَاتِهِ وكافةَ نَشَاطَاتِهِ الحيويةِ المذهلة؟!
وهل بإمكان الْعلماء أن يُرَكِّبُوا أحماضًا
أمينية يسيرة كتلك التي يتركب منها الأميبا، ثم يجعلوها تقوم بكل هذه الوظائف الحيوية؟!
لن يكون هذا أبدًا بدون روح، والروح من أمر ربي
فقط.
فالأحماض الأمينية موجودة؛ فهل يستطيعون أن يُكَوِّنُوا
لنا هذه الخليةَ الحيةَ التي تحس وتتكاثر وتأكل وتُخْرِجُ، إِلَى غير ذَلِكَ من الوظائف
الحيوية؟!
إن ذَلِكَ يحتاج إِلَى الروحِ، والروحُ من أمر
ربي فقط.
قال بعض علماء الأحياء - وهو أستاذ كَانَ فِي
جامعة «فْرَانْكْفُورْتْ» بألمانيا -:
لقد توصَّلْتُ من خلال أبحاثي فِي علم الأحياء
إِلَى الإيمان بالله، وإِلَى الاقتناع بوجوده، وتأكد لي أَنَّهُ هو المسير لكل ما فِي
هذا الكون.
قال: وباعتقادي فإن الإيمان بالله يقوم على المنطق
والاقتناع؛ ولَكِن لكي يصل الإنسان إِلَى هذه الْحَقيقة؛ لا بد له من بعض المنطق، ثم
يتجه إِلَى الله بالتأمل والبحث والتفكير والاستدلال. انتهى كلامه
وقد مر أن وُجُود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
لا يحتاج فِي الْحَقيقة إِلَى منطق واستدلال؛ لِأَنَّ وُجُوده جعله الله رب العالمين
فطرةً فَطَرَ الناسَ عليها؛ ولَكِن كما فِي هذه المجتمعات الملحدة، كما فِي هذه المجتمعات
الكافرة المشركة يحدث التواءٌ للفطرة، يحدث غبش، فحينئذ لا تستطيع أن ترى الله رب العالمين
ولا أن توقن بوجوده، فتحتاج إِلَى أمثال هذا الَّذِي يَقُوله هذا العالم الطبيعي؛ بل
إن الله تبارك وتعالى دلنا على ما وصل هو إِلَيْهِ بطريقة هي أعمق من ذَلِكَ وأجل؛
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ».
«سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا».
«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ».
فبين لنا ربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى ضرورة النظر
فِي آيات السماوات والأرض وما بينهما؛ من أجل أن نصل إِلَى هذا الأمر الكبير الَّذِي
فَطَرَ الناسَ عليه، إِذَا ما حادت الفطرة عَنْ مسلكها الَّذِي فُطِرَتْ عليه؛ فبالنظر
والتأمل يصل الإنسان إِلَى هذا الأمر الكبير.
مستشارٌ هندسيٌّ كَانَ مُصَمِّمًَا للعقل الإلكتروني
بالجمعية الْعِلْمية لدراسة الْمِلَاحَةِ الجويةِ بمدينةِ «لَانْجِلِيفِيلْدْ» بأمريكا،
قَالَ:
من أَسْبَاب إيماني بالله: ما أقوم به من أعمال
هندسية، فبعد اشتغالي سنين عديدةً فِي عمل تصميمات لأجهزة كهربائية معقدة وعقولٍ آلية
وحواسيب؛ ازداد تقريري لكل تصميم أو إبداع أشاهده، ثم وجدت أَنَّهُ مما لا يتفق مع
العقل والمنطق: أن يكون التصميم البديع المذهل للعالم من حولنا، والذي يتألف من مليارات
التصميمات المعقدة؛ قد وجد من غير إبداعِ إلهٍ عظيمٍ، إلهٍ لا حدود لحكمته، ولا نهاية
لتدبيره.
حقيقةً أن هذه الطريقة من الاستدلال على وُجُود
الله قديمةٌ وقديمةٌ جدًا؛ إلا أن العلوم الْحَدِيثة قد صَقَلَتْهَا وجَعَلَتْهَا أكثرَ
بيانًا، وأسطعَ نورًا، وأقوى حجةً وإقناعًا منها فِي أي وقتٍ مَضَى.
إن كل ذرة من ذرات هذا الكون الْعَظِيم أكثر
تعقيدًا من ذَلِكَ العقل الإلكتروني الَّذِي صَنَعْتُهُ بيدي – هذا كلامه -، فإن احتاج هذا الحاسوب
إِلَى مهندسٍ وإِلَى مُصَمِّمٍ، ومِنْ ثَمَّ إِلَى مُنَفِّذٍ لإنجازه؛ فإن الجسد المليء
بالأجهزةِ والأعضاءِ الحيويةِ التي يُنْجِزُ كلَّ منها من المهام الْفِسْيُولُوجِيَّةِ
ما يَعْجِزُ عَنْه عشراتُ الآلاتِ والأجهزةِ الإلكترونية؛ هذا الجسد بحاجة إِلَى خالقٍ
حكيمٍ وعالِمٍ عليمٍ لتصويرِه وبَرْئِهِ وإيجاده، وإذا قمنا بمقارنة أعقد وأضخم العقول
الإلكترونية بالعقل البشري؛ فإن عظمةَ اللهِ وإبداعَه فِي خلقه ستتجلى لنا ساطعةً نَيِّرَةً.
فهذا كلامهم!!
أُولَئِكَ الَّذِينَ أحدثوا فِي هذا الكون ما
أحدثوه من هذه الاكتشافات والمخترعات، فأدى هذا الأمر من الكشف عَنْ بعض أسرار الله
تبارك وتعالى فِي المادة التي خلقها لنا؛ أدى هذا الأمر الْعَظِيمُ إِلَى إِلْحَادِ
أقوامٍ بالله رب العالمين، وإِلَى جحد وُجُودِه، فكأنما أُنْعِمَ عليهم بنعمةٍ لم يُقَدِّرُوا
مَنْ أَنْعَمَ بها، ولم يَقْدُرُوهُ قَدْرَه، ولم يَعْرِفُوا له نعمتَه عليهم، فكان
أنْ جحدوا بنعمةِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فكانت النعمةُ سبيلًا إِلَى جحد وُجُوده،
فأنكروا وُجُود الله رب العالمين وألحدوا.
وقد يظن أقوام أن هذا الْإِلْحَاد إنما هو عَنْد
أُولَئِكَ الَّذِينَ وصلوا إِلَى ما وصلوا إِلَيْهِ من هذا التقدم المذهل، فأدى بهم
ذَلِكَ إِلَى إنكار وُجُود الخَالِق الْعَظِيم، ولَكِن تَعْجَبُ العَجَبَ كلَّه مَنْ
أنْ تَعْلَمَ يقينًا وتعرف أشخاصًا بأعيانهم قد ألحدوا فِي بعض القرى فِي مصر!!
هُنَالِكَ من ألحد وأنكر وُجُود الله تبارك وتعالى!!
وهم مبثوثون فِي النجوع وفي القرى!!
ليسوا بأُولَئِكَ الَّذِينَ وصلوا إِلَى ما وصلوا
إِلَيْهِ من تقدمٍ مذهِلٍ فِي التقنية، وإنما هم قوم ما زالوا يَحْيَوْنَ حياةً بُدَائِيَّةً
بالنسبة إِلَى ما وصل إِلَيْهِ أُولَئِكَ الْمُلْحِدُونَ!!
فهذا أمر يحتاج إِلَى بذل المجهود من أجل حماية
إيمان المؤمن، وتقويةِ هذا الإيمان من جانبٍ، واستنقاذِ مَنْ يَمُنَُ اللهُ تبارك وتعالى
عليه بالحياة فِي ظل الإيمان الْعَظِيم من جانب آخر.
وأما مَنْ كُتِبَ عليه الشقاوةُ؛ فإنك لو بذلتَ
له مِلْىءَ الْأَرْضِ حُجَجًَا مَا استقام على الْحَقّ قلبُه وفؤادُ،ه والله يهدي من
يشاء ويضل من يشاء، وهو على كل شيء قدير.
هل تَأَمَّلَ أَحَدُنا فِي الْأَرْض التي نعيش
عليها؟!
ذَلِكَ الكوكب الْمُعَلَّقُ فِي الفضاءِ الشاسع،
وكيف أضحى ملائمًا لسكن الناس وعيش الحيوان ونمو النبات؟! بينما ملايينُ الملايينِ
من الكواكبِ الأخرى ميتةٌ لا حياةَ فِيها.
لو كَانَت الْأَرْض صغيرة أو بحجم القمر مثلًا؛
فإنها ستعجز عَنْ الاحتفاظ بغلافها الجوي الَّذِي يحميها من الأشعة الكونية القاتلة،
ويمنع تَسَرُّبَ الأكسجينِ إِلَى الفضاء الخارجي، فتصبح الحياة على سطحها مستحيلة،
كما لن تتمكن الْأَرْض من الحفاظ على مياه بحارها ومحيطاتها، وبالتالي فإن دورة الماء
فِيها ستنعدم، وستنعدم الأمطار وكلُّ أنواع الحياة، وبنقصان ماء الْأَرْض سترتفع درجة
حرارتها؛ لتصبح غير ملائمة للحياة أَيْضًا.
لو كَانَ قُطْرُ الْأَرْض - لا أصغرَ -؛ بل كَانَ
ضعف قطرها الحالي؛ لتضاعفت مساحة سطحها إِلَى أربعة أضعاف سطحها الحالي، وبالتالي ستزداد
قوة جاذبيتها للأجرام السَّمَاوِيَّة العابرة بالقرب منها، كما سَتَقِلُّ سَمَاكَةُ
غُلَافِهَا الجويِّ - وهو السقف المحفوظ -، مما سيؤدي إِلَى مهاجمتها بالقذائف الكونيةِ
والْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ المختلفةِ مِنْ ساعةٍ إِلَى أخرى مما سيؤدي إِلَى القضاء
على كل أنواع الحياة على سطحها، كما سيزداد الضغط الجوي من كيلو جرام واحد على السَّنْتِيمِتْر
الْمُرَبَّعِ الواحدِ إِلَى كِيلُوَيْنِ، فتزيد بذَلِكَ مساحةُ المناطقِ الباردةِ والقطبيةِ
زيادةً كبيرةً، وستتقلص مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، ويعاني الناس نقصًا كبيرًا،
مما سيجعل الناس يتجمعون فِي مناطق سكنية محدودة تَفْصِلُهُم عَنْ بعضِهم مساحاتٌ شاسعةٌ
من الأراضي الْجَرْذَاءِ الْقَاحِلَةِ، وسيكون هُنَاكَ فاقةٌ كبيرة فِي الماء وفي المنتجات
الزراعية والحيوانية، بحيث لا تفي بحاجة سكان الْأَرْض.
لو كَانَ حجم الْأَرْض بحجم الشَّمْس مثلًا؛
فإن جاذبيتها للأجسام الكونية ستزداد مائة وخمسين ضعفًا، وبذَلِكَ سَتَرْتَطِنُ كلَّ
بضعِ دقائقَ بِجِرْمٍ سماويٍّ مُجَاوِرٍ؛ لِيَنْجُمَ عَنْ ذَلِكَ انفجاراتٌ نوويةٌ
هائلةٌ على سطحها تَحْرِقُ الأخضر واليابس، وتقضي على كافة أنواع الحياة، كما سيزداد
الضغط الجوي إِلَى مائة وخمسين ضعفًا على السنتيمتر المربع الواحد من سطحها مما سيؤدي
إِلَى ازدياد وزن الأجسام والكائنات التي تَدِبُّ على سطحها مائةً وخمسين ضعفًا، كما
سيتضاءل حجم المخلوقات كافة، حتى يصبح الإنسان بحجم السِّنْجَابِ أو ما شَابَهَهُ.
فكونها على ما هي عليه لحكمةٍ بالغةٍ، وهذه وحدَها
نعمةٌ عظيمةٌ من نعم اللهِ الكثيرةِ التي أفاض علينا بها.
فليس كونُ الْأَرْض على ما هي عليه من حيث الكتلة
ومن حيث الحجم؛ ليس ذَلِكَ عشوائيًا، وإنما هو على نحو مضبوطٍ قَدَّرَهُ العليمُ الحكيمُ،
وجعل ذَلِكَ من مقومات وُجُود هذه الْأَرْض وقيام الحياة عليها، إِلَى غير ذَلِكَ مما
دلنا عليه الباحثون فِي هذه الأمور، وليسوا هم بمسلمين حتى يَقُول قائل: "إن هذه
الأمور موجَّهَةٌ، أتى بها المسلمون" ، كما يفعل كثير من البسطاء المساكين الَّذِينَ
يأتون ببعض النظريات، ثم يَلْوُونَ أعناقَ الآيات من أجل أن يَقُولوا: "هذا عَنْدنا
فِي كتاب ربنا"!! ثم يتبين بعدُ زيفُ ما ذهبوا إِلَيْهِ من تلك النظريات، ويقعون
حينئذ فِي مأزق خطير، ولَكِن هذا الَّذِي قرره أُولَئِكَ بالحسابات الدقيقة والآلات
المضبوطة على أحدث ما وصل إِلَيْهِ الْعِلْم من الوسائل والبحث؛ هذا كله وصل إِلَيْهِ
أقوام لا يؤمنون بالله تبارك وتعالى فِي الجملة، وإن آمنوا بالله تبارك وتعالى فهم
ليسوا بمسلمين.
الأرض بحجمها وبُعْدِها عَنْ الشَّمْس، وسرعةِ
دَوَرَانِها حولها وحول نفسها، وسَمَاكَةِ غُلَافِها الجويِّ، وحجمِ مِيَاهِهَا بالنسبة
لِحَجمِ قَارَّاتها، وتركيبِ غلافِها الجوي، وتركيبِ تُرْبَتِهَا وسَمَاكَتِهَا؛ كلُّها
لا يمكن أن تتجمع معًا بمحض الصدفة لتكون هذا الكوكبَ الجميلَ الذاخرَ بالحياة، الغنيَّ
بالمواردِ والَكِنوزِ وبأسبابِ المعيشة اللازمة لحياة الإنسان الَّذِي اختاره الله
تبارك وتعالى ليكون خليفةً فِي الْأَرْض، لو توفرت كل العوامل التي سبق ذكرها، وَانْعَدَمَ
ماءُ الْأَرْض منها؛ ستصبح الْأَرْض كوكبًا ميِّتًا مهجورًا كباقي كواكبِ المجموعة
الشَّمْسية؛ «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ».
قال تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ
مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30»).
الله وحده لا شريك له سبحانه هو الَّذِي جعل
لنا من أنفسنا ومن كل ذرةٍ من ذراتِ هذا الوجودِ آيةً عظيمةً تَشْهَدُ بوجودِه وعظيمِ
قدرته، وبإبداعه فِي خلقه جَلَّ وَعَلَا.
بهذا التأملِ وهذا الاستدلالِ العقلي السليمِ؛
ستجد التوافق الكبير بين ما وصل إِلَيْهِ علماء العصر فِي كل مجالات العلوم، وما ورد
فِي القرآن الكريم من آيات بينات، ومعجزاتٍ ساطعات تنطق كلُّها بوجود الله رب العالمين،
وتسبح بحمده وعظمته وقدرته وحكمته وحسن تدبيره جَلَّ وَعَلَا.
ولا تحسبَنَّ هذا الَّذِي نأتي لك به إنما هو
بدعةٌ من البدع، أو هو مُحْدَثٌ من المُحدَثَاتِ؛ فَهَاكَ ما ذكره الإمام العلامة ابن
القيم رحمه الله تعالى فِي «شفاء العليل»، وانظر؛ هل تجد جديدًا؟! بينما مر ذكره وما
يذكره أو ما ذكره رحمه الله تبارك وتعالى منذ قرون فِيما يتعلق بهذا الأمر الَّذِي
نحن بصدده.
قَالَ - رحمه الله - وهو يتأمل فِي هذا الخلق
العجيب الَّذِي جعله الله رب العالمين آية للعالمين، وهو النحل، فالعلامة ابن القيم
رحمه الله تعالى بَحَثَ كما فِي «شفاء العليل»، وكذَلِكَ بَحَثَ كما فِي «مفتاح دار
السعادة»، بَحَثَ أمورًا تجعلك تعتقد أَنَّهُ كَانَ عالمًا بالطب، وعالمًا بالهندسة،
وعالمًا بالحشرات، وعالمًا بالنبات، وعالمًا بأمور كثيرة -رحمه الله رحمة واسعة-.
تأمل في قوله:
أمر النحل فِي هدايتها من أعجب العجب، وذَلِكَ
أن لها أميرًا ومدبِّرًا، وهو الْيَعْسُوبُ – يريدُ مَلِكَةَ النحلِ -، وهو أكبر
جسمًا من جميع النحل، وأحسن لونًا وشكلًا.
سآتيك بكلامه كما ذكره، وبكلام العلماء الْمُحْدَثِينَ
فيما يتعلق بهذا الأمر الذي تَعَرَّضَ له خاصةً، وهو النحل، وتأمَّلْ؛ هل تجد كبيرَ
فَرْقٍ بين كلامِه وكلامهم؟
قال – رحمه الله -:
ملكة النحل تَلِدُ فِي إقبال الربيع، وأكثر أولادها
يَكُنَّ إناثًا، وإذا وقع فِيها ذَكَرٌ؛ لم تَدَعْهُ النحلُ بينها، بل إما أن تطرده،
وإما أن تقتله إلا طائفةً يسيرةً، وذلك أن ذُكُورَ النحلِ لا تَعْمَلُ شيئًا ولا تَكْسِبُ،
تَأْكُلُ فقط.
النحل تُقَسَّمُ فِرَقًا فِرَقًا، فمنها فرقةٌ
تَلْزَمُ الملكة ولا تفارقها، ومنها فِرْقَةٌ تُهَيِّئُ الشمعَ وتَصْنَعُه، والشمعُ
هو ثِفْلُ النحلِ أو ثِفْلُ العسلِ، وفيه حلاوةٌ كحلاوةِ التينِ.
وللنحلِ فِيه عَنْايةٌ شديدةٌ فوقَ عَنْايَتِها
بالعسلِ فَيُنَظِّفُهُ النحلُ – يعني الشمعةَ - ويُصَفِّيهِ ويُخَلِّصُه مما يخالطه، وفِرْقَةٌ
من النحل تَبْنِي البيوت، وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها، وفِرْقَةٌ تَكْنُسُ
الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجِيَفِ والزِّبْلِ، وإذا رأت بينها نحلةً مَهِينَةً
بَطَّالةً؛ قَطَّعَتْها وقَتَلَتْهَا؛ حتى لا تُفْسِدَ عليهن بقيةَ العُمَّالِ بِكَسَلِها،
وتُعْدِيهِنَّ ببطالتها ومَهَانَتِها، وأولُ ما يُبْنَى فِي الخلية: مَقْعَدُ الملكِ
وبيتُه، فيُبْنَى له بيتٌ مُرَبَّعٌ يُشْبِهُ السريرَ والتَّخْتَ، فيجلس عليه، ويستدير
حوله طائفةٌ من النحل تشبه الأمراءَ، والخدمُ والخواصُّ لا يُفَارِقْنَهُ، ويَجْعَلُ
النحلُ بين يَدَيِ الملِكِ شيئًا يشبه الْحَوْضَ، يَصُبُّ فِيه من العسلِ أَصْفَى ما
يَقْدِرُ عليه، ويَمْلَأُ منه الحوضَ، ويكون ذَلِكَ طعامًا للملك وخواصِّهِ، ثم يَأْخُذْنَ
فِي ابْتِنَاءِ البيوت على خطوطٍ متساويةٍ كَأنَّها سِكَكٌ ومَحَالٌّ، وتَبْنِي بُيُوتَهَا
مُسَدَّسَةً متساويةَ الأضلاعِ، كَأنَّها قَرَأَتْ كتابَ إِقْلِيدِس حتى عَرَفَتْ أَوْفَقَ
الأشكالِ لِبُيُوتها؛ لأن المطلوب مِنْ بناء الدُّور: هو الوَثَاقَةُ والسَّعَةُ، والشكلُ
الْمُسَدَّسُ دون سائرِ الأشكالِ إِذَا انْضَمَّتْ بعضُ أشكالِهِ إِلَى بعضٍ؛ صار شكلًا
مستديرًا كاستدارةِ الرَّحَى ،ولا يبقى فِيه فُرُوجٌ ولا خَلَلٌ، ويَشُدُّ بعضُه بعضًا
حتى يصير طبقًا واحدًا محكَمًا لا يَدْخُلُ بين بيوتِهِ رؤوسُ الْإِبَرِ، فتبارك الَّذِي
ألهمها أن تَبْنِيَ بيوتَها هذا البناءَ الْمُحْكَمَ الَّذِي يَعْجِزُ البشرُ عَنْ
صُنْعِ مِثْلِه، فَعَلِمَتْ أَنَّهُا محتاجةٌ إِلَى أنْ تَبْنِيَ بيوتَهَا من أشكالٍ
موصوفةٍ بصِفَتَيْنِ:
إحداهما: ألَّا تكونَ زَوَايَاها ضيقةً؛ حتى
لا يَبْقَى الموضعُ الضيقُ معطَّلًا.
والثانية: أن تكون تلك البيوتُ مُشَكَّلَةً بأشكالٍ
إِذَا انضم بعضُها إِلَى بعضٍ، وامتلأت العَرَصَةُ منها؛ فلا يبقى منها ضائعًا.
ثم إنَّهَا عَلِمَتْ أنَّ الشكلَ الموصوفَ بهاتين
الصفتين هو الشكل الْمُسَدَّسُ فقط؛ فإن المثلثاتِ والمربعاتِ وإنْ كُنَّ مما يمكن
امتلاءُ العَرَصَةِ منها؛ إلا أنَّ زواياها ضيقةٌ.
وأما سائر الأشكال -وإن كَانَت زواياها واسعةً-؛
إلا أَنَّهُا لا تمتلئ العَرَصَةُ منها؛ بل يبقى فِيما بينها فروج خالية ضائعة.
وأما الشكل المسدس؛ فهو موصوفٌ بهاتين الصفتين،
فهداها سبحانه إلى بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مَسْطَرَةٍ ولا آلةٍ ولا مثالٍ
يُحْتَذَى عليه، وأَصْنَعُ بني آدم لا يَقْدِرُ على بناءِ البيتِ الْمُسَدَّسِ إلا
بالآلات الكبيرة، فتبارك الَّذِي هداها أن تَسْلُكَ سُبُلَ مراعِيها على قوتها، وتَأْتِيها
ذُلُلًا، لا تَسْتَعْصِي عليها ولا تَضِلُّ عَنْها، وأن تَجْتَنِيَ أَطْيَبَ ما فِي
المراعى وأَلْطَفَهُ، وأن تعود إِلَى بيوتها الخاليةِ فَتَصُبَّ فِيها شرابًا مختلفًا
ألوانُه، فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ،
فإذا فَرَغَتْ من بناء البيوت خَرَجَتْ خِمَاصًَا تَسِيحُ سهلًا وجَبَلًا، فأَكَلَتْ
من الْحَلَاوَاتِ المرتفعةِ على رؤوسِ الأزهارِ وورقِ الأشجارِ، فترجع بِطَانًا، وجعل
سبحانه فِي أفواهها حرارةً منضِجَةً تُنْضِجُ ما جَنَتْهُ، فتُعِيدُه حلاوةً ونضجًا،
ثم تَمُجُّهُ فِي البيوتِ، حتى إِذَا امتلأتْ خَتَمَتْهَا وَسَدَّتْ رؤوسَها بالشمعِ
الْمُصَفَّى، فإذا امتلأت تلك البيوتُ عمِدت إِلَى مكانٍ آخَرَ إِنْ صَادَفَتْهُ فَاتَّخَذَتْ
فِيه بيوتًا، فإذا امتلأت تلك البيوت – وهي عيون ذلك الشمع – على الطريقة السُّدَاسية التي مر ذكرها،
فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن صادفته، فاتخذت فيه بيوتًا، وفَعَلَتْ
كما فَعَلَتْ فِي البيوتِ الأولى، فإذا بَرَدَ الهواءُ، وأَخْلَفَ الْمَرْعَى، وحيل
بينها وبين الكسب؛ لَزِمَتْ بُيُوتَهَا، واغْتَذَتْ بما ادَّخَرَتْهُ من العسل، وهي
فِي أيام الكَسْبِ والسعيِ تَخْرُجُ بُكْرَةً، وتَسِيحُ فِي الْمَرَاتِعِ، وتستعمل
كلُّ فرقة منها بما يَخُصُّها مِن العملِ، فإذا أمست رَجَعَتْ إِلَى بيوتها، وأما الملكة
– هو يقول رحمه الله: "وأما الملك"
-؛ فلا يُكْثِرُ الخروجَ من الخلية إلا نادرًا إِذَا اشتهى التَّنَزُّهَ، فَيَخْرُجُ
ومعه أمراءُ النحلِ والخدمُ، فيطوف فِي الْمُرُوجِ والرياضِ والبساتينِ ساعةً من النهار،
ثم يعود إِلَى مكانه.
ومن عجيب أمره: أَنَّهُ ربما لحقه أذىً من النحل
أو من صاحب الخلية أو من خدمه، فَيَغْضَبُ ويُخْرُجُ من الخلية ويتباعد عَنْها، ويَتْبَعُهُ
جميع النحل وتبقى الخلية خالية - وهذا يحدث فعلًا -، فإذا رأى صاحبُ الخلية ذَلِكَ،
وخاف أن يأخذ النحلَ – يعني الملكَ - ويذهبَ بها إِلَى مكان
آَخَرَ؛ احتال صاحب الخلية لاسترجاع الملك وطلب رضاه، فيتعرف موضعه الَّذِي صار إِلَيْهِ
بالنحل، فيعرفه باجتماع النحل إِلَيْهِ؛ فإن النحل لا تفارقه وتجتمع عليه حتى تصير
على الملك عَنْقودًا، وهو إِذَا خرج غَضَبًَا جَلَسَ على مكانٍ مرتفعٍ من الشجرة، وطافت
به النحل وانضمت إِلَيْهِ حتى يصير كالكرة، فيأخذ صاحب النحل رُمْحًَا أو قصبةً طويلةً،
ويَشُدُّ على رأسِه حُزْمَةً من النبات الطيبِ الرائحة العَطِرِ النظيفِ، ويُدْنِيهِ
إِلَى محل الملك، ويكون معه إما مِزْهَرٌ أو يَرَاعٌ أو شيء من آلاتِ الطَّرَبِ، فيحركُه
وقد أدنى إِلَيْهِ ذَلِكَ الحشيشَ، فلا يزال كذَلِكَ إِلَى أن يرضى الملك، فإذا رضي
وزال غضبُه؛ طَفَرَ ووَقَع على الضِّغْثِ، وتَبِعَهُ خَدَمُهُ وسائرُ النحلِ، فيحمله
صاحبُه إِلَى الخليةِ، فَيَنْزِلُ ويَدْخُلُها هو وجنودُه، ولا يَقَعُ النحلُ على جيفةٍ
ولا حيوانٍ ولا طعامٍ.
ومن عجيب أمر النحل: أَنَّهُا تقتل الملوك الظلمةَ
الْمُفْسِدَةَ، ولا تدين لطاعتها، والنحلُ الصغارُ المجتمعةُ الخلقِ هي العَسَّالَةُ،
وهي تحاول مقاتلةَ الطِّوالِ القليلةِ النفع، وإخراجَها ونفيَها عَنْ الخلايا، وإذا
فعلت ذَلِكَ جاد العسل، وتجتهد أن تقتل ما تريد قتلَه خارج الخليةِ صيانةً للخلية عَنْ
جِيفَتِه.
ومن النحل صِنْفٌ قليلُ النفعِ كبيرُ الجسمِ،
وبينها وبين العَسَّالة حربٌ، فهي تقصدها وتغتالها، وتفتح عليها بيوتها، وتقصد هلاكها،
والعسالة شديدة التيقظ والتحفظ منها، فإذا هجمت عليها فِي بيوتها حَاوَلَتْها وأَلْجَأَتْها
إِلَى أبواب البيوت، فَتَتَلَطَّخُ بالعسل، فلا تقدر على الطيران، ولا يُفْلِتُ منها
إلا كُلُّ طويلِ العُمُرِ، فإذا انقضت الحرب وبَرَدَ القتالُ؛ عادت إِلَى القتلى فحَمَلَتْهَا
وأَلْقَتْهَا خارجَ الخلية.
وفي النحل كرامٌ عمَّالٌ لها سعي وهمة واجتهاد،
وفيها لئام كُسَالَى قليلةُ النفعِ مؤْثِرَةٌ للبطالة، فالكرام دائمًا تطردها وتنفيها
عَنْ الخلية، ولا تساكنها خشية أن تُعْدِيَ كِرَامَها وتفسدَها.
والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه، ولِذَلِكَ لا
تُلْقِي زِبْلَها إلا حين تطير، وتكره النتن والروائح الخبيثة، وأبكارها وفراخها أحرس
وأشد اجتهادًا من الكبار، وأقل لَسْعًَا، وأجودُ عسلًا، ولَسْعُها إِذَا لَسَعَتْ أقلُّ
ضررًا من لَسْعِ الكبار.
ولما كَانَت النحل من أنفع الحيوان وأبركه؛ فقد
خُصَّتْ من وحي الرب تعالى وهدايته بما لم يَشْرَكْهَا فِيه غيرُها، وكان الخارجُ من
بطونها مادةَ الشفاء من الأسقام، وكان النورَ الَّذِي يُضِيء فِي الظلام بمنزلةِ الهداةِ
من الأنام، فلما كان ذلك بالنسبة للنحل؛ كَانَ أكثرَ الحيوان حائزًا للعداوة، وكان
أكثر الحيوان له أعداءً، وكان أعداؤه من أقل الحيوان منفعةً وبركةً، وهذه سنة الله
فِي خلقه، وهو العزيز الحكيم.
هذا ما ذكره العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى
- فِي «شفاء العليل».
وأما الْعِلْم المعاصر؛ فإنه نظر أَيْضًا فِي
حياة النحل، وخَصَّها بكثيرٍ من النظر والبحث، فقد تقدم الْعِلْم اليوم كثيرًا، وبِتَقَدُّمِهِ
تَعَرَّفْنَا على كثير من عجائب الخلق وأسرار الكون.
لقد أَكَّدَ لنا الْعلماءُ ما عرفناه من قَبْلُ
مِنْ أن عالَمَ النحلِ ينقسم إِلَى ثلاثة أقسام، هي: النحلة الملكة، والنحلة الذَّكَر،
والنحلة الشَّغَّالَةُ.
أما ملكة النحل؛ فهي أم الخلية كلِّها، وجميعُ
النحل فِي الخلية أبناؤها، ويكفي أن تعلم أن الملكة تضع فِي كل يومٍ تّطْلُعُ فِيه
الشَّمْسُ ما بين خمسمائةٍ وألفِ بَيْضَة «1500» إِلَى أَلْفَيْ بيضة «2000»؛ بل يزيد
العدد إِلَى (3500) خمسمائة وثلاثة آلاف بيضة في كل يوم، ويستمر هذا على امتداد موسم
التكاثر الَّذِي يبدأ من إقبال الربيع، وينتهي بانتهاء الصيف.
وما هذا العدد الهائل من البَيْضِ إلا لمواجهة
النقص المستمر الَّذِي يصيب خلية النحل، فالنحلة عمرها قصير، فعمر النحلة يتراوح بين
خمسةِ أسابيعَ وسبعةِ أسابيعَ، ولِذَلِكَ فإنّ الخلية تحتاج إِلَى أجيال جديدة تُرْفِدُ
الخليةَ بأعدادٍ كبيرةٍ تواجه النقص الَّذِي يَلْحَقُ بها، كي تستمرَّ الخليةُ فِي
القيام بالواجبات التي يَحْتَاجُ إِلَيْهِا عالَمُ النحلِ، وحتى تستطيعَ الدفاعَ عَنْ
نفسها فِي مواجهةِ الأعداءِ والأخطارِ، ولولا ذَلِكَ لانقرضت الخلية وبادت.
من بديع صنع الله فِي ملكة النحل: أَنَّهُا تَضَعُ
بَيْضَهَا فِي البيوت التي تَبْنِيهَا الشَّغَّالَةُ بمقاساتٍ مختلفة، فالشغالة تبني
البيوت الشمعية بمقاساتٍ مختلفة، المقاسُ الكبيرُ يُعِدُّه النحلُ لملكة المستقبل،
البيضةُ التي تَضَعُها الملكةُ فِي ذَلِكَ البيت ذي المقاس الكبير تكون ملكة؛ لأن الشغالة
تُغَذِّيها بغذاءٍ خاصٍّ بالْمَلِكَات، هو «الغذاءُ الْمَلِكِيُّ»، فتكون هذه البيضةُ
مَلِكَةً بعد حين.
البيضة التي تضعها الملكة فِي البيت الأصغرِ
حجمًا ومقاسُه رُبُعُ بُوصَة تصبح نحلةً ذكرًا، أما البيضة التي تضعها فِي البيت الصغير
ومقاسُه خمس البوصة فيُنْتِجُ نحلةً شَغَّالَةً.
بقي أن نعلم أن الملكة تضع مع بيضةِ النحلةِ
الشغالةِ ثلاثةً إِلَى أربعةِ حيواناتٍ مَنَوِيَّةٍ لِإِخْصَابِهَا، فتكون نحلةً شغالة،
بينما تضع فِي بيت النحلة الذكر بيضةً غير مُخَصَّبَةٍ.
من عجيب صنع الله فِي النحلة الملكة: أَنَّهُا
لا تُلَقَّحُ إلا فِي الهواء فِي أثناء طَيَرَانِها، ولِذَلِكَ سِرٌّ عجيب، فالنحلة
الذكر لا يُمْكِنُهَا تلقيحُ الملكة وهي رابِضَةٌ على الْأَرْض، وإنما يكون ذلك إذا
كانت طائرةً في الفضاء، وعند ذَلِكَ تمتلئ أكياسٌ موجودةٌ فِي النحلةِ الذَّكَرِ بالهواء،
فَتَنْتَفِخُ فِي أثناء الطيران، ويؤدي انتفاخها إِلَى الضغط على عضو التذكير، فيخرج
من مَكْمَنِه.
ومن عجائب صنع الله فِي الملكة العذراء: قدرتها
على دعوة الذكر لتلقيحها، وذَلِكَ بأصوات تصدرها تدعو بها الذكور إِلَيْهِا، وتخرج
من خليتها حائمةً حولًها مُصْدِرَةً تلك الأصواتَ، وتستقبل الذكورُ هذه الدعوةَ لا
فِي الخلية وحدَها، بل فِي جميع الخلايا المجاورة، وتنطلق أسراب الذكور خلف الملكة،
وهي تُغِذُّ الطيران منطلقةً فِي الفضاء الرَّحْب، ويفوز بتلقيحها أقوى الذكورِ وأشدُّها
وأسرُعها، ولَكِنه يفقد حياته بعد ذَلِكَ.
قد يَسْأَلُ سائلٌ عَنْ كيفية سماع الذكور لدعوة
الملكة.
الجواب: أن الله زَوَّدَ كلَّ نحلةٍ بِقَرْنَي
استشعار، هذان القرنان يتألفان من حلقات يتصل بعضها ببعض، عليها عدد كبير من الثقوب،
ويبلغ عدد الحلقات فِي الذكر اثنتا عشرة حلقة، فِي حينِ أن عددها فِي الشغالة أو الملكة
إحدى عشرة حلقة.
ويبلغ عدد ثقوب الحواس الكائنة على قرن الاستشعار
عَنْد الذكر (2800) ثمانمائةٍ وألفي ثقبٍ، وفي الشغالة يبلغ (2400) أربع مائة وألفي
ثقب، وفي الملكة يبلغ (1600) ستمائة وألف ثقب.
والحقيقة أن قرني الاستشعار فِي النحلة بمنزلة
هوائي الإذاعة، يستخدمه لالتقاط الأصوات الصادرة من الملكة، ولغير ذَلِكَ من الأصوات،
كما تستخدمه فِي الشم والسمع واللمس.
وإذا فقدت النحلة الشغالة أو الذكر أو الملكة
قرني الاستشعار؛ فإنها لا تستطيع أن تقوم بدورها، ففيه يتركز معظم حواسها: السمع والشم
واللمس كما سبق.
وتكوين النحلة الذكر يتناسب مع المهمة التي خلق
من أجلها، فهو كبير قوي، يأكل كثيرًا، ولا يعمل شيئًا، فلا يجمع الرحيق، ولا يصنعه،
ولا يبني، ولا يحرس، حتى طعامُه، تضعه النحلة الشغالة فِي فَمِه، كل ما يستطيع القيام
به هو تلقيح الملكة، ولذا فإن النحلة الشغالة بعد انتهاء مهمته تمتنع عَنْ إمداده بالغذاء،
وأكثر من هذا تهاجم الشغالةُ الذكورَ فتقتُلُها أو تطردُها، فعند الرجوع من عملية تلقيح
الملكة تعود الذكور، فإذا ما عادت تَلَقَّتْهَا الشغالةُ عَنْد باب الخلية، فَيَحْدُثُ
ما يُعْرَفُ بِمَذْبَحَةِ الذكورِ، فتقتلها؛ لِأَنَّهُ لا فائدة منها.
ويبقي أن نعلم أن عدد الذكور من النحل قليلٌ
بالنسبة لتَعداد النحل، فلا يتجاوز عددُها فِي الخلية الواحدة المائتين.
أما النحلة الشغالة؛ فإنها تكون مُمَثِّلَةً
للعدد الأكبر فِي الخلية، كما أَنَّهُا العنصرُ الفَعَّالُ فِيها، وهي التي تقوم بالأعمال
المختلفة والمهمات الصعبة؛ تجني الرحيق، تجمع غبار الطلع، تصنع العسل، تمدّ الملكة
بغذائها الخاص، تبني الأقراص التي يحفظ فِيها العسل، وتُرَبِّي فِيها الأجيالَ الجديدةَ
من النحل، وتَحْرُسُ الخليةَ، وتقوم بتنظيفها والمحافظة عليها؛ بل تقوم بتهويتها وتدفئتها.
فسبحان من خلق هذا كله على هذا النحو البديع
في هذه الحشرة، وجعلها على الإتقان كله.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.