«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس الثلاثون»
«الـــرِّضَــــــــا»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«نَعِيمُ الدُّنْيَا فِي رِضَا القَلْبِ عَن اللهِ تَعَالَى وَأَقْدْارِهِ»
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدَيْهِمَا عَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُم، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ».
إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُم؛ لِأَنَّهُ خَلَقَهُم لِيُمَحِّصَهُم، وَأَنْشَأَهُم وَبَرَاهُم لِيَخْتَبِرَهُم، فَمُحْسِنٌ وُمُسِيءٌ، وَبَرٌّ وَفَاجِرٌ، وَمُؤمِنٌ وَكَافِرٌ، وَمُقْبِلٌ عَلَيْهِ وَمُدْبِرٌ عَنْهُ، فَمَا خَلَقَهُم فِي الحَيَاةِ لِيُنَعِّمَهُم، وَمَا فِي الحَيَاةِ مِن النَّعِيمِ فَإِنَّهُ مِن جِنْسِ نَعِيمِ الآخِرَةِ، فَآلَ النَّعِيمُ كُلُّهُ إِلَى نَعِيمِ الآخِرَةِ، فَنَعِيمُ الدُّنْيَا فِي سُكُونِ القَلْبِ إِلَى اللهِ، وَرِضَا الفُؤادِ عَن اللهِ، وَانْطِرَاحِ العَبْدِ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ، فَمَهْمَا وَجَدَ مِن لَذَّةٍ وَرِضًا؛ فَذَلِكَ لَيْسَ مِن الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَإنَّمَا هُوَ مِن نَعِيمِ الآخِرَةِ.
«اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جُهْدَكَ، وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكَ»
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: «اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جُهْدَكَ، وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكِ، فَتَكُونَ مَحْجُوبًا بِلَذَّتِهِ وَرُؤْيَتِهِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تُطَالِعُ.
إِيَّاكُم وَاسْتِحْلَاءِ الطَّاعَاتِ؛ فَإِنَّهَا سُمُومٌ قَاتِلَاتٌ.
اسْتَعْمِلِ الرِّضَا جُهْدَكَ، وَلَا تَدَعِ الرِّضَا يَسْتَعْمِلُكَ، أَيْ: لَا يَكُونُ عَمَلُكَ لِأَجْلِ حُصُولِ حَلَاوَةِ الرِّضَا؛ بِحَيْثُ تَكُونُ هِيَ الْبَاعِثَةَ لَكَ عَلَيْهِ، بَلِ اجْعَلْهُ آلَةً لَكَ وَسَبَبًا مُوصِلًا إِلَى قَصْدِكَ وَمَطْلُوبِكَ، فَتَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ، لَا أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَكَ.
«الرِّضَا بِاللهِ تَعَالَى وَعَنْهُ، وَثَمَرَاتُهُ»
الرِّضَا بِاللهِ تَعَالَى رَبًّا فَرْضٌ؛ بَلْ هُوَ مِنْ آكَدِ الْفُرُوضِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبًّا؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُ إِسْلَامٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا حَالٌ .
وَأَمَّا الرِّضَا بِقَضَائِهِ؛ فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ وَاجِبٌ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
ففرق بين الرضا به والرضا بقضائه، فأما الرضا به ربًّا؛ فواجب وفرض، ومن لم يرض بالله ربًّا؛ فليس إلى الإسلام بسبب، وأما الرضا بقضائه؛ فإنه مستحب وليس بواجب؛ رحمة من الله بخلقه، وقال بعض أهل العلم: بل الرضا بقضائه واجب، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّدْبِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ». فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ أَفْضَلُ وَأَعْلَى مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ .
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ الرِّضَا عَنْهُ، وَيَسْتَلْزِمُهُ؛ فَإِنَّ الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ: هُوَ رِضَا الْعَبْدِ بِمَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَيَنْهَاهُ عَنْهُ، وَيَقْسِمُهُ لَهُ وَيُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ، وَيُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ، فَمَتَى لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَضِيَ بِهِ رَبًّا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِهِ رَبًّا مِنْ بَعْضِهَا، فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَسْتَلْزِمُ الرِّضَا عَنْهُ، وَيَتَضَمَّنُهُ بِلَا رَيْبٍ.
وَأَيْضًا: فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا مُتَعَلِّقٌ بِذَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَهُوَ الرِّضَا بِهِ خَالِقًا وَمُدَبِّرًا، وَآمِرًا وَنَاهِيًا، وَمَالِكًا، وَمُعْطِيًا وَمَانِعًا، وَحَكَمًا، وَوَكِيلًا وَوَلِيًّا، وَنَاصِرًا وَمُعِينًا، وَكَافِيًا وَحَسِيبًا وَرَقِيبًا، وَمُبْتَلِيًا وَمُعَافِيًا، وَقَابِضًا وَبَاسِطًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ .
وَأَمَّا الرِّضَا عَنْهُ؛ فَهُوَ رِضَا الْعَبْدِ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهِ، وَيُعْطِيهِ إِيَّاهُ؛ وَلِهَذَا إِنَّمَا جَاءَ فِي الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ فَهَذَا بِرِضَاهَا عَنْهُ لِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ كَرَامَتِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾.
وَالرِّضَا بِهِ أَصْلُ الرِّضَا عَنْهُ، وَالرِّضَا عَنْهُ ثَمَرَةُ الرِّضَا بِهِ .
فَاللهم ارْزُقْنَا الرِّضَا بِكَ وَعَنْكَ، وَارْضَ عَنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الرِّضَا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالرِّضَا عَنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ.
والنَّبِيُّ ﷺ عَلَّقَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ بِمَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ ﷺ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ رَسُولًا»، فَجَعَلَ الرِّضَا بِهِ قَرِينَ الرِّضَا بِدِينِهِ وَنَبِيِّهِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُصُولُ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا يَقُومُ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا.
فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَهُ وَعِبَادَتَهُ، وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَخَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَالصَّبْرَ لَهُ وَبِهِ، وَالشُّكْرَ عَلَى نَعْمَائِهِ؛ بَلْ يَتَضَمَّنُ رُؤْيَةَ كُلِّ مَا مِنْهُ نِعْمَةً وَإِحْسَانًا؛ وَإِنْ سَاءَ عَبْدَهُ، فَالرِّضَا بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالرِّضَا بِمُحَمَّدٍ رَسُولًا يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَالرِّضَا بِالْإِسْلَامِ دِينًا يَتَضَمَّنُ الْتِزَامَ عُبُودِيَّتِهِ، وَطَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ، فَجَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الدِّينَ كُلَّهُ.
وَأَيْضًا: فَالرِّضَا بِهِ رَبًّا يَتَضَمَّنُ اتِّخَاذَهُ مَعْبُودًا دُونَ مَا سِوَاهُ، وَاتِّخَاذَهُ وَلِيًّا وَمَعْبُودًا، وَإِبْطَالَ عِبَادَةِ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾، وَقَالَ: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾، وَقَالَ: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾، فَهَذَا هُوَ عَيْنُ الرِّضَا بِهِ رَبًّا.
جَعَلَ حَقِيقَةَ الرِّضَا بِهِ رَبًّا: أَنْ يَسْخَطَ عِبَادَةَ مَا دُونَهُ، فَمَتَى سَخِطَ الْعَبْدُ عِبَادَةَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنَ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ، حُبًّا وَخَوْفًا، وَرَجَاءً وَتَعْظِيمًا، وَإِجْلَالًا؛ فَقَدْ تَحَقَّقَ بِالرِّضَا بِهِ رَبًّا، الَّذِي هُوَ قُطْبُ رَحَى الْإِسْلَامِ .
وَإِنَّمَا كَانَ قُطْبَ رَحَى الدِّينِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ إِنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْعِبَادَةِ، وَسُخْطِ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْقُطْبُ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَحًى تَدُورُ عَلَيْهِ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْقُطْبُ؛ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّحَى الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهِ، فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ مِنْ دَائِرَةِ الشِّرْكِ إِلَى دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ، فَتَدُورُ رَحَى إِسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ عَلَى قُطْبِهَا الثَّابِتِ اللَّازِمِ .
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَعَلَ حُصُولَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الرِّضَا مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِ الْمَرْضِيِّ بِهِ رَبًّا سُبْحَانَهُ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَجْمَعُ قَوَاعِدَ الْعُبُودِيَّةِ، وَيُنَّظِّمُ فُرُوعَهَا وَشُعَبَهَا.
وَلَمَّا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ: مَيْلَ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ؛ كَانَ ذَلِكَ الْمَيْلُ حَامِلًا عَلَى طَاعَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَيْلُ أَقْوَى؛ كَانَتِ الطَّاعَةُ أَتَمَّ، وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرَ، وَهَذَا الْمَيْلُ يُلَازِمُ الْإِيمَانَ؛ بَلْ هُوَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَلُبُّهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ أَعْلَى مِنْ أَمْرٍ يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ، وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالتَّعْظِيمِ، وَأَحَقَّ الْأَشْيَاءِ بِالطَّاعَةِ؟!
وَبِهَذَا يَجِدُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ».
فَعَلَّقَ ذَوْقَ الْإِيمَانِ بِالرِّضَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَعَلَّقَ وُجُودَ حَلَاوَتِهِ بِمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْعَبْدِ هُوَ وَرَسُولُهُ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُبُّ التَّامُّ، وَالْإِخْلَاصُ -الَّذِي هُوَ ثَمَرَتُهُ- أَعْلَى مِنْ مُجَرَّدِ الرِّضَا بِرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ؛ كَانَتْ ثَمَرَتُهُ أَعْلَى، وَهُوَ وَجْدُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ، وَثَمَرَةُ الرِّضَا: ذَوْقُ طَعْمِ الْإِيمَانِ، فَهَذَا وَجْدٌ لِحَلَاوَةٍ، وَذَاكَ ذَوْقُ طَعْمٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَهُوَ المَسْئُولُ وَحْدَهُ أَنْ يَرْزُقَنَا الرِّضَا بِهِ وَعَنْهُ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الرِّضَا بِرَسُولِهِ ﷺ نَبِيًّا وَرُسُولًا، وَبَالإِسْلَامِ دِينًا، وَأَنْ يُحْيِيَنَا مُؤمِنِينَ، وَأَنْ يَتَوَفَّانَا مُؤمِنِينَ، وَأَنْ يُلْحِقَنَا بِالصَّالِحِينَ.
«أَسْبَابُ رِضَا القَلْبِ وَشَرْحِ الصَّدْرِ»
إنَّ مِن أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: التَّوْحِيد، وَعَلَى حَسَبِ كَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ انْشِرَاحُ صَدْرِ صَاحِبِهِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [الزمر: 22]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: 125].
فَالْهُدَى وَالتَّوْحِيدُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ، وَالشِّرْكُ وَالضَّلَالُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصَّدْرِ وَانْحِرَاجِهِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: النُّورُ الَّذِي يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ وَيُوَسِّعُهُ، وَيُفْرِحُ الْقَلْبَ، فَإِذَا فُقِدَ هَذَا النُّورُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ؛ ضَاقَ وَأصابه الحَرَجُ، وَصَارَ فِي أَضْيَقِ سِجْنٍ وَأَصْعَبِهِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: الْعِلْمُ، فَإِنَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ وَيُوَسِّعُهُ؛ حَتَّى يَكُونَ أَوْسَعَ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْجَهْلُ يُورِثُ الصدر الضِّيقَ وَالْحَصْرَ وَالْحَبْسَ، فَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُ الْعَبْدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَاتَّسَعَ، وَلَيْسَ هَذَا لِكُلِّ عِلْمٍ، بَلْ لِلْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، فَأَهْلُ العلم النَّافع أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ قُلُوبًا، وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا، وَأَطْيَبُهُمْ عَيْشًا، وَأَنْعَمُهُم مَعِيشَةً، وَأَقَرُّهُم عَيْنًا .
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: الْإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَحَبَّتُهُ بِكُلِّ الْقَلْبِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالتَّنَعُّمُ بِعِبَادَتِهِ، فَلَا شَيْءَ أَشْرَحُ لِصَدْرِ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ أَحْيَانًا: «إِنْ كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ؛ فَإِنِّي إِذًا فِي عَيْشٍ طَيِّبٍ».
وَلِلْمَحَبَّةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَطِيبِ النَّفْسِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ، لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ أحسَّ بِهِ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ أَقْوَى وَأَشَدَّ؛ كَانَ الصَّدْرُ أَفْسَحَ وَأَشْرَحَ، وَلَا يَضِيقُ إِلَّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَطَّالِينَ الْفَارِغِينَ مِنْ هَذَا الشَّأْنِ، فَرُؤْيَتُهُمْ قَذَى عَيْنِهِ، وَمُخَالَطَتُهُمْ حُمَّى رُوحِهِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصَّدْرِ: الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَمَحَبَّةُ سِوَاهُ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ؛ عذَّبه الله به لا محالة، وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ ذَلِكَ الَّذي أحبّه مع الله، فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ، وَلَا أَكْسَفُ بَالًا، وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا، وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا.
فَهُمَا مَحَبَّتَانِ:
مَحَبَّةٌ هِيَ جَنَّةُ الدُّنْيَا، وَسُرُورُ النَّفْسِ، وَلَذَّةُ الْقَلْبِ، وَنَعِيمُ الرُّوحِ وَغِذَاؤُهَا وَدَوَاؤُهَا؛ بَلْ حَيَاتُهَا وَقُرَّةُ عَيْنِهَا، وَهِيَ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِكُلِّ الْقَلْبِ، وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةِ، وَالْمَحَبَّةُ كُلُّهَا إِلَيْهِ.
وَمَحَبَّةٌ هِيَ عَذَابُ الرُّوحِ، وَغَمُّ النَّفْسِ، وَسِجْنُ الْقَلْبِ، وَضِيقُ الصَّدْرِ، وَهِيَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالنَّكَدِ وَالْعَنَاءِ، وَهِيَ مَحَبَّةُ مَا سِوَى الله سُبْحَانَهُ.
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ، فَلِلذِّكْرِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ، وَلِلْغَفْلَةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي ضِيقِهِ وَحَبْسِهِ وَعَذَابِهِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنَّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا، وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ همًّا وَغَمًّا.
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ضَارِبًا المَثَلَ لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَا فِي «الصَّحِيحِين»: «كَمَثَلِ رَجُلَيُنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ». فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدِّقِ، وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ، وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ، وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ.
وَمِن َأَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: إِخْرَاجُ دَغَلِ الْقَلْبِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تُوجِبُ ضِيقَهُ وَعَذَابَهُ، وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُصُولِ الْبُرْءِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى الْأَسْبَابَ الَّتِي تَشْرَحُ صَدْرَهُ، وَلَمْ يُخْرِجْ تِلْكَ الْأَوْصَافَ الْمَذْمُومَةَ مِنْ قَلْبِهِ؛ لَمْ يَحْظَ مِنَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِطَائِلٍ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَادَّتَانِ تَعْتَوِرَانِ عَلَى قَلْبِهِ، وَهُوَ لِلْمَادَّةِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا.
وَمِن أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: تَرْكُ فُضُولِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْفُضُولَ تَسْتَحِيلُ آلَامًا وَغُمُومًا، وَتستحيل هُمُومًا فِي الْقَلْبِ تَحْصُرُهُ، وَتَحْبِسُهُ، وَتُضَيِّقُهُ، وَيَتَعَذَّبُ بِهَا؛ بَلْ غَالِبُ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهَا؛ فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: مَا أَضْيَقَ صَدْرَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِّ آفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ بِسَهْمٍ! وَمَا أَنْكَدَ عَيْشَهُ! وَمَا أَسْوَأَ حَالَهُ! وَمَا أَشَدَّ حَصَرِ قَلْبِهِ! وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: مَا أَنْعَمَ عَيْشَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ بِسَهْمٍ، وَكَانَتْ هِمَّتُهُ دَائِرَةً عَلَيْهَا، حَائِمَةً حَوْلَهَا، فَلِهَذَا نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ [الِانْفِطَارِ 13]، وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الِانْفِطَارِ 14]، وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
«مِنْ كِتَابِ: زَادُ المَعَادِ فِي هَدْيِ خَيْرِ العِبَادِ لابنِ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-».
فَاللهم يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، وَيَا ذَا القُوَّةِ المَتِين؛ فَهِّمْنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ، اللهم فَهِّمْنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ، وَارْزُقْنَا العِلْمَ النَّافِعَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ، اللهم ارْزُقْنَا العِلْمَ النَّافِعَ وَالعَمَلَ الصَّالِحَ، وَأَحْينَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤمِنِينَ، وَأَحْيِينَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤمِنِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ.
اللهم جَنِّبْنَا مُضِلَّاتِ الفِتَنِ؛ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَارْزُقْنَا الإِخْلَاصَ وَالصِّدْقَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اللهم عَافِنَا مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَسُوءٍ، وَأَحْسِنْ عَاقَبِتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَحْسِنْ لَنَا الخِتَامَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ
وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ
**********************
صفحة تفريغات خطب الجمعة كاملة للعلَّامة رسلان -حفظهُ اللهُ-.
موقع تفريغات العلامة رسلان -حفظهُ اللهُ-.
www.rslantext.com
موقع تفريغ خطب علماء أهلِ السُّنة.
www.khotabtext.com