((حَالُ الْمُسْلِمِ فِي شَهْرِ الْحَصَادِ))
*الِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ:
عِبَادَ اللهِ! الَّذِي يُرِيدُ النَّجَاةَ، يُرِيدُ أَنْ يَنْجُوَ مِنَ النَّارِ، وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْهَا؛ عَلَيْهِ أَنْ يَلْحَظَ مُعْتَقَدَ الرَّسُولِ ﷺ بِعَيْنِ بَصِيرَتِهِ وَبِعَيْنِ الرِّعَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَلَقَهُ اللهُ.
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ بِتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ مِمَّا يَعْلَقُ بِهِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ الشِّرْكُ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ الْقَذِرَةِ بِالحَمْئَةِ الْمَسْنُونَةِ؛ مِنْ تِلْكَ الشَّحْنَاءِ بِالْبَغْضَاءِ، بِالْغِلِّ، بِالْحَسَدِ.
وَيَا لله! هَلْ تَجِدُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَقِيَّ الْفِطْرَةِ سَوِيَّ الطَّوِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْطَوِيَ بَاطِنُهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا القَذَرِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟!!
«وَلَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ, لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا مُعْتَبَرًا فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ بِتِلْكَ الْمَادَّةِ الْقَذِرَةِ مِنَ الشَّحْنَاءِ, مِنَ الحِقْدِ, مِنَ الْغِلِّ, مِنَ الْحَسَدِ, مِنَ الْبَغْضَاءِ, تَنْطَوِي عَلَيْهَا نَفْسٌ مُشَوَّهَةٌ حَتَّى يَتَشَوَّهَ الظَّاهِرُ تَبَعًا؟!!
كَيْفَ يَصْلُحُ الْقَلْبُ؟
يَصْلُحُ الْقَلْبُ بِالْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْحِقْدِ، وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.. هَذَا صَلَاحُ الْقَلْبِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ: «إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ»، «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً»: قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْضَغُ -صَغِيرَةٌ هِيَ-، «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
هُنَا جَزَاءٌ قَدْ رُتِّبَ عَلَى شَرْطِهِ؛ فَلَا صَلَاحَ إِلَّا بِصَلَاحٍ، لَا صَلَاحَ لِلْجَسَدِ، لَا صَلَاحَ لِلْحَيَاةِ إِلَّا بِصَلَاحِ الْقَلْبِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ-، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْجَسَدُ.. وَفَسَدَتِ الْحَيَاةُ.
كَيْفَ صَلَاحُ الْقَلْبِ -إِذَنْ-؟
بِخُلُوصِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْحِقْدِ وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.
فِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه»: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ؟
فقال ﷺ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ -كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ هَذَا أَفْضَلُ النَّاسِ-)).
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَدُوقُ اللِّسَانِ عَرَفْنَاهُ, فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حَسَدَ» .
فَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- سَلَامَةُ الصَّدْرِ وَمَنْ كَانَ عَنِ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ مُنَزَّهًا, وَمِنْ ذَلِكَ مُبَرَّاً.
*عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَطْهِيرِ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ:
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ؛ إِلَّا كَلَامًا ظَهَرَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ؛ فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يُتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ؛ فَلَا يَتَكَلَّمُ.
عِبَادَ اللهِ! لَمَّا كَانَتِ التَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى التَّحْلِيَةِ؛ فَلْنُرَكِّزْ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا؛ فَتَخْلِيَةٌ، وَأَمَّا الْآخَرُ؛ فَتَحْلِيَةٌ.
*فَأَمَّا التَّخْلِيَةُ: تَطْهِيرُ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ:
فَقَدْ رَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْغِيبَةِ وَالْفُحْشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ وَالْكَذِبِ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اغْتَابَ أَخَاهُ؛ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ لَحْمَهُ مَيْتًا، وَهُوَ أَمْرٌ تَكْرَهُهُ الطِّبَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ النُّفُوسُ؛ وَلَكِنْ هَكَذَا هُوَ فِي قُبْحِهِ، هَكَذَا هُوَ فِي شَنَاعَتِهِ.
عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ».
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا مِثْلُ إِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا: اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ».
فَأَقلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا هِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا، وَأَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا الَّذِي أَقَلُّ دَرَجَةٍ مِنْهُ كَأَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا؛ أَكْبَرُ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا: عِرْضُ الْمُسْلِمِ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَمَّا عُرِجَ بِي؛ مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟».
قَالَ: «هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ».
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُحَذِّرُ مِنْ أَكْلِ لُحُومِ النَّاسِ، وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي أَعْرَاضِهِمْ، فَتَخْلِيَةُ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَرِّبَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَأَنْ يُمْسِكَ لِسَانَهُ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ؛ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ؛ فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ.
وَلَيْسَتِ الْغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؛ هَذَا بُهْتَانٌ، وَأَمَّا الْغِيبَةُ؛ فَأَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ..
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَ أَلْسِنَتَنَا مِنَ الغِيبَةِ وَالبُهْتَانِ، وَأَعْيُنَنَا وَسَمْعَنَا مِنَ الخِيَانَةِ، وَجَوَارِحَنَا مِنَ الظُّلْمِ.
فَنُطَهِّرُ اللِّسَانَ مِنْ آفَاتِهِ، هَذِهِ التَّخْلِيَةُ، وَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ.
أَلَا تَرَى إِنَّكَ إِنْ تَلَوْتَ الْقُرْآنَ، وَذَكَرْتَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَسَبَّحْتَهُ؛ وَهَذِهِ تَحْلِيَةٌ تَأْتِي بِهَا بِاللِّسَانِ، وَلَمْ تُخَلِّ اللِّسَانَ مِنْ آفَاتِهِ، بَدَّدَ عَلَيْكَ اللِّسَانُ بِآفَاتِهِ مَا حَصَّلْتَهُ مِنْ حَسَنَاتٍ؟!!
فَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ.
رَسُولُ اللهِ ﷺ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ؛ يُرْسِي قَوَاعِدَهَا، وَيُرْسِي أُصُولَهَا، وَيَدْعُو إِلَيْهَا، وَأَقَامَ عَلَيْهَا بُنْيَانًا تَبَدَّى فِي الْجِيلِ الْمِثَالِيِّ الْأَوَّلِ -فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ، فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الْمُفَضَّلِ، ثُمَّ مَا زَالَتِ الْأُمُورُ تَنْقُصُ بَعْدُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ)).
فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْحِفَاظِ عَلَى مَنْطِقِهِ، وَأَنْ يُرَاقِبَ مُرَاقَبَةً تَامَّةً -كَمَا لَوْ كَانَ يُرَاقِبُ عَدُوًّا لَدُودًا يَسْعَى فِي هَلَاكِهِ، أَنْ يُرَاقِبَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ- لِسَانَهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَلِمَةٌ خَرَجَتْ مِنْهُ فَأَوْرَدَتْهُ الْمَهَالِكَ؛ ((وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ».
((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ يَكْتُبُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)).
عِبَادَ اللهِ! أَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ -يَرْحَمُكُمُ اللهُ- !!
كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ!!
لَا تَتَكَلَّمُوا إِلَّا فِيمَا تُحْسِنُونَ!!
((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَدِّدَ أَلْسِنَتَنَا، وَأَنْ يُطَهِّرَهَا مِنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُهُ، وَمِنْ كُلِّ مَا يَسُوءُ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: شَعْبَانُ وَحَصَادُ الْعَامِ