((اصْدُقُوا! فَالْكَلِمَةُ أَمَانَةٌ))
قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا! خَافُوا عِقَابَ اللهِ إِذَا عَصَيْتُمُوهُ، وَقُولُوا قَوْلًا صَوَابًا قَاصِدًا إِلَى الْحَقِّ وَالسَّدَادِ؛ يَتَقَبَّلِ اللهُ حَسَنَاتِكُمْ، وَيَمْحُ ذُنُوبَكُمْ.
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ظَفِرَ بِالْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].
مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ حَقًّا يَقِينًا: عَدَمُ الْعَدْلِ بِالْقَوْلِ فِي حُكْمٍ، أَوْ شَهَادَةٍ، أَوْ رِوَايَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا فَاصْدُقُوا فِيهِ، وَقُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْمَشْهُودُ لَهُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ مَحَابَاتَهُ بِقَوْلٍ مَائِلٍ عَنِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ ذَا قَرَابَةٍ.
وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
مَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ مِنْ كَلَامٍ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، وَمَا يَعْمَلُ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا عِنْدَهُ مَلَكٌ حَافِظٌ يَكْتُبُ قَوْلَهُ، مُعَدٌّ مُهَيَّأٌ لِذَلِكَ، حَاضِرٌ عِنْدَهُ لَا يُفَارِقُهُ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَدَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيمَةِ الْكَلِمَةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ ذَلِكَ الْجُزءُ مِنْ حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ, الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ جِبْرِيلُ لِلنَّبيِّ ﷺ جَزَاءَ الرَّجُلِ يَكذِبُ الْكِذبَةَ فَتَطِيرُ كُلَّ مَطَارٍ، وَتَسِيرُ كُلَّ مَسَارٍ, وَيَظُنُّ الْمِسكِينُ أَنَّهُ بِمَنأًى مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَأَنَّ الْكَلِمَةَ لَا قِيمَةَ لهَا وَلَا وَزْنَ, وَهِيَ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ!!
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟))
قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا, فَقَالَ: ((هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟))
قُلْنَا: لَا.
قَالَ: ((لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ -وَالْكَلُّوبُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُنْشَلُ بِهَا اللَّحْمُ وَيُعَلَّقُ- يُدْخِلُهُ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ.. )).
ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الْمَرَائِي، وَجَاءَ التَّأوِيلُ.
قَالَ ﷺ: ((قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ! فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ. قَالَا: نَعَمْ؛ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكِذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ, فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
((رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يُدْخِلُهُ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ)).
هَذَا جَزَاءُ الْكَذَّابِ، يُحَدِّثُ بِالْكِذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ, فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ يَعنِى: هَذَا هُوَ عَذَابُهُ فِي الْبَرزَخِ.
فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْعَذَابِ -هُدِيتَ- كَيْفَ تَنَاوَلَ مِنَ الْكَذَّابِ آلَةَ كَذِبِهِ وَمَوْضِعَ إِفْكِهِ؟!! وَكَيْفَ يُشَقُّ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ, ثُمَّ يُثَنَّى بِالْآخَرِ، فَيَلْتَئِمُ الْأَوَّلُ, فَيُعَادُ عَلَيْهِ بِالشَّقِّ كَمَا صُنِعَ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ!!
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : ((فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ, وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ, وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ, وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ, ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ, فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ, ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ في الْمَرَّةَ الْأُولَى..)).
وَفِي تَأوِيلِهَا: ((أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ, فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكِذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ)).
هَذَا جَزَاءُ مَنْ كَذَبَ الْكِذْبَةَ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، هَذَا جَزَاءُ مَا أَتَى, وَكِفَاءُ مَا صَنَعَ, فَمَنْ لَا يَقْدُرُ الْكَلِمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْرَهَا؟!! وَمَنْ لَا يَعْرِفُ لِلْكَلِمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنَهَا؟!!
لَقَدْ مَيَّزَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْإِنْسَانَ بِالْبَيَانِ، وَمَنَحَهُ نِعْمَةَ الْإِبَانَةِ، فَغَدَا بِفَضْلِ رَبِّهِ مُفْصِحًا مُبِينًا.
وَبِالْبَيَانِ خَرَجَ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ إِلَى حَدِّ الْإِنْسَانِ النَّاطِقِ الْمُبِينِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 1-4].
وَلَمَّا كَانَتِ (الْكَلِمَةُ) حَجَرَ الزَّاوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْبَيَانِ، كَانَ حَظُّهَا مِنَ الْفَضِيلَةِ إِنْ حَسُنَتْ فَسَمَتْ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهَا مِنَ الرَّذِيلَةِ إِنْ سَاءَتْ فَتَرَدَّتْ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ -تَعَالَى- مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ -تَعَالَى- لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
المصدر: الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ