«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس الحادي والعشرون»
«الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«مَثَلُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالكَلِمَةِ الخَبِيثَةِ فِي كِتَابِ اللهِ»
فَقَدْ ضَرَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- المَثَلَ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ لِلْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالكَلِمَةِ الخَبِيثَةِ، فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ؛ كَالشَّجَرِةِ الطَّيِّبَةِ: أَصْلُهَا ثَابِتٌ, وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ؛ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَالكَلِمَةُ الخَبِيثَةُ؛ كَالشَّجِرَةِ الخَبِيثَةِ: اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ, مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء﴾ ]إبراهيم: 24-27[.
قَالَ العَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَة﴾، وَهِيَ شَهَادَةُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَفُرُوعُهَا ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ وَهِيَ النَّخْلَةُ، ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ فِي الأَرْضِ ﴿وَفَرْعُهَا﴾ مُنْتَشِرٌ ﴿فِي السَّمَاءِ﴾، وَهِيَ كَثِيرَةُ النَّفْعِ دَائِمًا، ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا﴾ أَيْ: ثَمَرَتَهَا، ﴿كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾.
فكَذَلِكَ شَجَرَةُ الإيمانِ، أَصْلُهَا ثابتٌ في قَلْبِ المُؤْمِنِ، عِلْمًا واعْتِقادًا، وفَرْعُهَا مِنَ الكَلِمِ الطَّيِّبِ، والعَمَلِ الصالِحِ، والأخلَاقِ المَرْضِيَّةِ، والآدَابِ الحسنةِ في السماءِ دائمًا، يَصْعَدُ إلى اللهِ مِنْهُ مِنَ الأعمالِ والأقوالِ التي تُخْرِجُهَا شَجَرَةُ الإيمانِ؛ ما يَنْتَفِعُ به المؤمنُ، وَيَنْتَفِعُ به غَيْرُهُ.
﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ لعلَّهُمْ يتَذَكَّرُونَ ما أَمَرَهُمْ به, ونَهَاهُمْ عنه؛ فَإِنَّ في ضَرْبِ الأمثالِ تَقْرِيبًا للمَعَانِي المَعْقُولَةِ مِنَ الأَمْثَالِ المَحْسُوسَةِ، ويَتَبَيَّنُ المَعْنَى الذي أرادَهُ اللهُ غايَةَ البيانِ، ويَتَّضِحُ غَايَةَ الوُضُوحِ، وهذا مِنْ رحمتِهِ وحُسْنِ تَعْلِيمِهِ، فَلِلهِ أَتَمُّ الحَمْدِ وأَكْمَلُهُ وأَعَمُّهُ، فهذه صِفَةُ كَلِمَةِ التوحيدِ، وصِفَةُ ثَبَاتِهَا في قَلْبِ المُؤْمِنِ.
ثم ذَكَرَ ضِدَّهَا؛ وهي كلمةُ الكُفْرِ وفُرُوعُهَا، فقال: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ خَبِيثَةِ المَأْكَلِ والمَطْعَمِ, وهي: شجرةُ الحَنْظَلِ ونَحْوُهَا، ﴿اجْتُثَّتْ﴾: هذهِ الشجرةُ، ﴿مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ أي: مِنْ ثُبُوتٍ، فَلَا عُرُوقَ تُمْسِكُهَا، ولا ثمَرةَ صَالَحَةَ تُنْتِجُهَا؛ بَلْ إنْ وُجِدَ فيها ثَمَرَةٌ؛ فَهِيَ ثمَرةٌ خبيثةٌ، كذلك كَلِمَةُ الكُفْرِ والمَعَاصِي، ليس لها ثُبُوتٌ نافِعٌ في القَلْبِ، ولا تُثْمِرُ إلا كُلَّ قَوْلٍ خَبِيثٍ, وعَمَلٍ خَبِيثٍ، يَسْتَضِرُّ به صَاحِبُهُ، ولا يَنْتَفِعُ، ولا يَصْعَدُ إلى الله مِنْهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، ولا يَنْفَعُ نَفْسَهُ، ولا يَنْتَفِعُ بهِ غَيْرُهُ.
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾
يُخْبِرُ تعالى أنَّهُ يُثبِّتُ عِبَادَهُ المؤمنينَ، أيْ: الذين قامُوا بِمَا عليهم مِنَ الإِيمَانِ القَلْبِيِّ التَّامِّ، الذي يَسْتَلْزِمُ أعمالَ الجَوَارِحِ ويُثْمِرُهَا، فَيُثَبِّتُهُمُ اللهُ في الحياةِ الدنيا عندَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ؛ بالهِدَايَةِ إلى اليَقِينِ، وعِنْدَ عُرُوضِ الشهواتِ بالإرَادَةِ الجَازِمَةِ على تَقْدِيمِ ما يُحِبُّهُ اللهُ على هَوَى النَّفْسِ ومُرَادِهَا.
وفِي الآخِرَةِ عِنْدَ المَوْتِ بالثَّبَاتِ على الدِّينِ الإسلاميِّ, والخَاتِمَةِ الحَسَنَةِ، وفي القَبْرِ عِنْدَ سُؤَالِ المَلَكَيْنِ بالجوَابِ الصحيحِ، إذا قِيلَ للمَيِّتِ: مَنْ رَبُّكَ؟ وما دِينُكَ؟ ومَنْ نَبِيُّكَ؟ هَدَاهُمْ للجَوَابِ الصحيحِ؛ بِأَنْ يَقُولَ المُؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، ودِينِي الإسلامُ، ونَبِيِّي محمدٌ -عليهِ الصلاةُ وأَزْكَى السلامِ-.
﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾: عن الصَّوَابِ في الدنيا والآخِرَةِ، ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾]النحل:33].
«مَعْنَى الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ –لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ-»
دينُ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ الذي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وأَنْزَلَ به كُتُبَهُ، ومَا تَضَمَّنَتْهُ «لا إله إلا اللهُ» فَهْمًا لِمَعْنَاها، وعَمَلًا بِمُقْتَضَاهَا، وتَحْقِيقًا لِشُرُوطِها، ومُجَانَبَةً لِنَوَاقِضِهَا، وتَحْقِيقًا لَهَا في الحَيَاةِ. وإِنَّمَا وقَعَتِ المَعْرَكَةُ في قَبُولِهَا وَرَدِّهَا، وفي خِلَافِ المشركينَ حَوْلَها.
وأَمَّا أنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ «لا إلهَ إلَّا اللهُ»؛ إنما هي إثباتُ وُجُودِ الصَّانِعِ الحكِيمِ المُدَبِّرِ الكريمِ....إلى آخِرِ ما يقولون، ثم يَصْرِفُ العبادةَ لغيرِ الله -جلَّ وعلا-، فليس هذا بِدِينِ مُحمَّدٍ ولا هو بِدِينِ المُرْسَلِينَ، ولا هو بمَوْطِنِ النِّزَاعِ بَيْنَ النبيِّ وقومِهِ، بلْ بَيْنَ الأنبياءِ وأَقْوَامِهِمْ.
فكُلُّهُمْ جَاءُوا لِكَيْ يَكُونَ الدُّعَاءُ كُلُّهُ للهِ، والِاسْتِغَاثَةُ باللهِ، والتَّوَكُّلُ على اللهِ، والمَحَبَّةُ للهِ، إلى غَيْرِ ذلك مِنْ تلك العِبَادَاتِ.
كُلُّهم يقولُ: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾.
وهذا مَعْنَى الكلمةِ الطَّيِّبَةِ؛ ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ﴾: هذا هو النَّفْيُ، ﴿وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾، نَفْيٌ وإثباتٌ، فلا بُدَّ مِنَ الكُفْرِ بِكُلِّ ما يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ، والنَّاسُ يقولونَ: إِنَّنا إذا اسْتَغَثْنَا بالمخلوقين؛ فإنَّنا لا نَعْبُدُهُمْ مِنْ دُونِ رَبِّ العالمين.
فَيُقَالُ: ما الفَرْقُ بَيْنَ هذه الاستغاثةِ على هذا النَّحْوِ، واسْتِغَاثَةِ المُتَقَدِّمِينَ؟!!
يقولون: نحن لا نَذْبَحُ لهم، وليس الذَّبْحُ بِعِبَادَةٍ لهم.
وهذا تَدْلِيسٌ في تَدْلِيسٍ؛ لأنهمْ يَأْتُونَ بِبَهِيمَةِ الأنعامِ التي لا تُذْبَحُ إلا للهِ، ولا تُنْذَرُ إلَّا لله، ولا تُقَدَّمُ قُرْبانًا وطَاعَةً إلا لله، يَشْتَرُونَها بِنِيَّةِ أَنَّها لِفُلَانٍ أو فُلَانَةٍ، وتُرَبَّى سَائِبَةً لا تُمَسُّ، إذْ هي مِنْ سَوَائِمِ فُلَانٍ أو فلانةٍ، وتُسَاقُ إلى مَنْحَرِهَا على اسْمِ فُلَانٍ وفُلَانَةٍ.
ثُمَّ يَقَعُ التَّدْلِيسُ باللِّسَانِ لَفْظًا، فَيَقُولُ قائِلُهم: ما ذَبَحْتُهَا لِأَجْلِهِ، وإنما ذَبَحْتُ باسْمِ اللهِ واللهُ أَكْبَرُ، وهذا كُلُّهُ زُورٌ وضَلَالٌ، ومعلومٌ أنَّ الأسماءِ لا تُغَيِّرُ مِنْ حقيقةِ المُسَمَّى شيئًا.
فلَوْ أنَّ إنسانًا سَمَّى الخَمْرَ ماءً؛ ما أَخْرَجَ ذلك الخَمْرَ عن حَقِيقَتِهَا، وما صَارَتْ بالتَّسْمِيَةِ ماءًا، وإنما هي خَمْرٌ على حَقِيقَتِهَا، إنْ شَرِبَهَا حُدَّ، وإِنْ قَالَ بِحِلِّهَا كَفَر، إلى غَيْرِ ذلك مِنَ الأَحْكَامِ؛ وإِنْ سَمَّاها بِغَيْرِ اسْمِهَا.
وقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْرَ الكلمةِ الطَّيِّبَةِ، وقَدْرَ الكلمةِ الخبيثَةِ، فقال ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ». رواه البخاري.
وقال ﷺ فيما رواه عنه أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا إلى النَّارِ أَبْعَدَ مما بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ». متفقٌ عليه.
قال النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «معني «يَتَبَيَّنٌ» أيْ: يُفَكِّرُ أنها خَيْرٌ أَمْ لَا».
وقال الحافظُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قولُه «مَا يَتَبَيَّنُ فيها» أي: لا يَتَطَلَّبُ مَعْنَاهَا، أي: لا يُثْبِتُهَا بِفِكْرِه، ولا يَتَأَمَّلُها حَتَّى يَتَثَبَّتَ فيها، بلْ يقولُها إلا إنْ ظَهَرَتِ المصلحةُ في القولِ».
وعن بلالِ بنِ الحَارِثِ المُزَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ تعالى، مَا كَانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ له بها رِضْوَانَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، ما كان يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ له بها سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ».
أخرجه مالِكٌ في «المُوَطَّأِ»، والترمذِيُّ، وقال: «حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ»، وأحمدُ، وابنُ مَاجَه، وصححهُ الألبانيُّ.
وفي هذه الأحاديثِ؛ بَيَانٌ شَافٍ بِشَأْنِ الكلمةِ، وأينَ تَبْلُغُ بِصَاحِبِهَا مِنْ دَرَجَاتِ الرِّضْوَانِ في الجِنَانِ إنْ كانتْ طَيِّبَةً، وكيفَ تَهْوِي بِقَائِلِهَا دَرَكَاتٍ فِي الشَّقَاءِ والنارِ إنْ كانت خَبِيثَةً.
وقد أَخْبَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابِهِ الكريمِ أنَّ أَلْفَاظَ العِبَادِ مُحْصَاةٌ عليهم، لا يَنِدُّ مِنْهَا عَنِ الإِحْصَاءِ لَفْظٌ، فقَالَ –عز وجل-: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ]قّ:18[، أي: ما يَلْفِظُ العبدُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا ولَدَيْهِ مَلَكٌ يَرْقُبُهُ، ﴿عَتِيدٌ﴾ أي: حَاضِرٌ مَعَهُ, لا يَغِيبُ عنه.
قال ابنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-:
«﴿مَا يَلْفِظُ﴾ أي: ابْنُ آدَمَ ﴿مِنْ قَوْلٍ﴾ أي: ما يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ، ﴿إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ أي: إِلَّا ولَهَا مَنْ يَرْقُبُهَا، مُعِدٌّ لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا، لا يَتْرُكُ كلمةً ولا حَرَكَةً، كمَا قَالَ –جل وعلا-: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار:10-12].
وعن أبي هريرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عن النَّبِيِّ ﷺ قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». متفقٌ عليه.
وهذا الحَدِيثُ صَرِيحٌ في أنَّهُ, يَنْبَغِي أنْ لا يَتَكَلَّمَ؛ إِلَّا إِذَا كان الكلامُ خَيْرًا، وهو الذي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، ومَتَى شَكَّ في ظُهُورِ المَصْلَحَةِ؛ فلا يَتَكَلَّمُ.
واللِّسَانُ مِنْ نِعَمِ اللهِ العظيمةِ، ولَطَائِفِ صُنْعِهِ الغَرِيبَةِ؛ فإنَّهُ صَغِيرٌ جِرْمُهُ، عَظِيمٌ طَاعَتُهُ وجُرْمُهُ؛ إذ لا يَسْتَبِينُ الكُفْرُ والإيمانُ إِلَّا بِشَهَادَةِ اللسانِ، وَهُمَا غايَةُ الطاعةِ والعِصْيَانِ.
والكَلَامُ تَرْجُمَانٌ يُعَبِّرُ عَنْ مُسْتَوْدَعَاتِ الضَّمَائِرِ، وَيُخْبِرُ بِمَكْنُونَاتِ السَّرَائِرِ، لَا يُمْكِنُ اسْتِرْجَاعُ بَوَادِرِهِ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى رَدِّ شَوَارِدِهِ, فَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ زَلَلِـهِ؛ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُ أَوْ بِالْإِقْلَالِ مِنْهُ، فلا يَتَكَلَّمُ إلا فِيمَا يَرْجُو فيه الرِّبْحَ والزِّيَادَةَ في دِينِهِ، فإذا أرادَ أنْ يَتَكَلَّمَ بالكلمةِ؛ نَظَرَ، هل فيها رِبْحٌ وفَائِدَةٌ أوْ لَا؟
ومِنَ العَجَبِ؛ أنَّ الإنسانَ يَهُونُ عليه التَّحَفُّظُ والِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الحَرَامِ, والظُّلْمِ, والزِّنَا, والسَّرِقَةِ, وشُرْبِ الخَمْرِ, ومِنَ النَّظَرِ المُحَرَّمِ، وغَيْرِ ذلك, ويَصْعُبُ عليه التَّحَفُّظُ مِنْ حركَةِ لسانِهِ؛ حَتَّى يُرَى الرَّجُلُ يُشَارُ إليه بالدِّينِ, والزُّهْدِ, والعِبَادَةِ, وهو يتَكَلَّمُ بالكلمةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ؛ لا يُلْقِي لها بالًا, يَنْزِلُ بالكَلِمَةِ الوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ.
وكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عنِ الفَوَاحِشِ والظُّلْمِ, ولِسَانُهُ يَفْرِي في أعراضِ الأحياءِ والأمْوَاتِ, ولا يُبَالِي ما يَقُولُ؟!! فإنَّ أَيْسَرَ حَرَكَاتِ الجَوَارِحِ حركةُ اللسانِ, وهي أَضَرُّهَا على العبدِ.
وقد قال –جل وعلا-: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾ [المؤمنون: 1-3].
ومِنْ هُنَا؛ كان حَرِيًّا بالمُسْلِمِ أنْ يَضْبِطَ لسانَه, ويُسَائِلَ نفسَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَحَدَّثَ؛ عن جَدْوَى الحَدِيثِ, وفائِدَتِهِ, ولَمَّا كانتْ آفاتُ اللسانِ كثيرةً, ولَهَا في القَلْبِ حَلَاوَةً, ولها بَوَاعِثُ مِنَ الطَّبْعِ؛ فلا نَجَاةَ مِنْ خَطَرِهَا إلا بِالصَّمْتِ.
واسْتِقَامَةُ القَلْبِ مُرْتَبِطَةٌ باسْتِقَامَةِ اللِّسَانِ، وفي الحديثِ الذي أخرجه أحمدُ بسَنَدٍ حَسَنٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال: «لَا يَسْتَقِيمُ إيمانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ».
وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال: «إذا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ؛ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللسانَ –أَيْ: تَذِلُّ له وتَخْضَعُ-، فتَقُولُ: اِتَّقِ اللهَ فِينَا, فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا».
وعن أبي موسى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ؛ أَيُّ المسلمينَ أَفْضَلُ؟
قال: «مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ ويَدِهِ». أخرجه البخاري ومسلم.
وعن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قلتُ: يا رَسُولَ اللهِ؛ ما النَّجَاةُ؟
قال: «أَمْسِكْ عليكَ لِسَانَكَ, ولْيَسَعْكَ بيتُك, وابْكِ على خَطِيئَتِكَ»
أخرجه الترمذيُّ, وأبو داودَ, وهو صحيحٌ لِغَيْرِهِ.
وعن سَهْلِ بْنِ سعدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي ما بَيْنَ لَحْيَيْهِ, ومَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ؛ أَضْمَنْ له الجنةَ». رواه البخاري.
ورَوَى الطبرانيُّ عن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قال: يا رسولَ اللهِ؛ أَكُلَّ مَا نَتَكَلَّمُ به يُكْتَبُ علينا؟
قال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؛ وهل يَكُبُّ الناسَ على مَنَاخِرِهِمْ في النارِ إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟! إنَّكَ لنْ تَزَالَ سَالِمًا مَا سَكَتَّ, فإذا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ لك أو عليك».
وعن أنسِ بْنِ مالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: «أَلَا هل عَسَى رَجُلٌ منكمْ أنْ يَتَكلمَ بالكلمةِ؛ يُضْحِكُ بها القَوْمَ، فَيَسْقُطُ بها أَبْعَدَ مِنَ السماءِ، أَلَا عَسَى رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ بالكلمةِ؛ يُضْحِكُ بها أصحابَهُ، فَيَسْخَطُ اللهُ بها عليه، لا يَرْضَى عنه، حَتَّى يُدْخِلَهُ النارَ»، وهذا حديثٌ حَسَنٌ.
اِعْلَمْ -عَلَّمَنِي اللهُ وإياكَ- أنَّ لِسَانَكَ أَدَاةٌ مُصْلَتَةٌ، يَتَغَالَبُ عَلَيْهِ عَقْلُكَ وغَضَبُكَ وهَوَاكَ، فَكُلُّ غَالِبٍ عليه؛ مُسْتَمْتِعٌ به، وصَارِفُهُ في مَحَبَّتِهِ، فإذا غَلَبَ على لسانِك عقلُكَ فهو لَكَ، وإنْ غَلَبَ عليه شَيْءٌ مِنْ أَشْبَاهِ ما سَمَّيْتُ لكَ؛ فهو لِعَدُوِّكَ، فإذا اسْتَطَعْتَ أنْ تَحْتَفِظَ به وتَصُونَهُ، فلا يَكُونَ إلا لكَ، ولا يَسْتَوْلِي عليهِ أوْ يُشَارِكَكَ فيه عَدُوُّكَ؛ فَافْعَلْ».
قال المَاوَرْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «واعْلَمْ أنَّ لِلْكَلَامِ شُرُوطًا لا يَسْلَمُ المتكلِّمُ مِنَ الزَّلَلِ إلا بها، ولا يَعْرَى مِنَ النَّقْصِ إلا بَعْدَ أنْ يَسْتَوْفِيَها، وهي أربعةُ شروطٍ:
فالشَّرْطُ الأَوَّلُ: أنْ يكونَ الكلامُ لِدَاعٍ يَدْعُو إليه، إمَّا في اجْتِلَابِ نَفْعٍ، أو في دَفْعِ ضَرَرٍ.
والشرطُ الثاني: أنْ يَأْتِيَ به في مَوْضِعِهِ، ويَتَوَخَّى به إِصَابَةَ فُرْصَتِهِ.
والشَّرْطُ الثالثُ: أنْ يَقْتَصِرَ منه على قَدْرِ الحَاجَةِ.
والشَّرْطُ الرابِعُ: أنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الذِي يَتَكَلَّمُ به».
وقالوا: «خَيْرُ الأَلْسُنِ: المَخْزُونُ, وخَيْرُ الكلامِ: المَوْزُونُ, فَحَدِّثْ إِنْ حَدَّثْتَ بِأَفْضَلَ مِنَ الصَّمْتِ, وَزَيِّنْ حَدِيثَكَ بالوَقَارِ وحُسْنِ السَّمْتِ».
إنَّ الطَّيْشَ في الكلامِ يُتَرْجِمُ عن خِفَّةِ الأحْلَامِ، وما دَخَلَ الرِّفْقُ في شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وما زَانَ المُتَكَلِّمَ إلا الرَّزَانَةُ.
قال ابنُ حِبَّانَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الواجبُ على العاقِلِ؛ أنْ يَلْزَمَ الصَّمْتَ إلى أنْ يَلْزَمَهُ الكلامُ، فمَا أَكْثَرَ مَنْ نَدِمَ إذا نَطَقَ، وأَقَلَّ مَنْ يَنْدَمُ إذا سَكَتَ، وأَطْوَلُ الناسِ شَقَاءً، وأَعْظَمُهُمْ بَلَاءً؛ مَنِ ابْتُلِيَ بلِسَانٍ مُطْلَقٍ، وفُؤَادٍ مُطْبَقٍ».
واللِّسَانُ فيه عَشْرُ خِصَالٍ يَجِبُ على العاقِلِ أنْ يَعْرِفَهَا، ويَضَعَ كُلَّ خَصْلَةٍ منها في مَوْضِعِهَا:
- هو أَدَاةٌ يُظْهَرُ بها البَيَانُ.
- وشاهدٌ يُخْبِرُ عن الضَّمِيرِ.
- وناطِقٌ يُرَدُّ به الجَوَابُ.
- وحاكِمٌ يُفْصَلُ به الخِطَابُ.
- وشافِعٌ تُدْرَكُ به الحَاجَاتُ.
- ووَاصِفٌ تُعْرَفُ به الأشياءُ.
- وحَاصِدٌ يُذْهِبُ الضَّغِينَةَ.
- ونَازِعٌ يَجْذِبُ المَوَدَّةَ.
- ومُسَلٍّ يُذَكِّي القلوبَ ويُزَكِّيهَا.
- ومُعَزٍّ تُرَدُّ به الأحزانُ.
ولَقَدْ أَحْسَنَ الذي قال:
إِنْ كَانَ يُعْجِبُكَ السُّكُوتُ فَإِنَّهُ *** قَدْ كَانَ يُعْجِبُ قَبْلَكَ الأَخْيَارَا
وَلَئِنْ نَدِمْتَ عَلَى سُكُوتِي مَرَّةً *** فَلَقَدْ نَدِمْتَ عَلَى الْكَلامِ مِرَارَا
إِنَّ السُّكُوتَ سَلامَةٌ وَلَرُبَّمَا *** زَرَعَ الْكَلامُ عَدَاوَةً وَضِرَارَا
وَإِذَا تَقَرَّبَ خَاسِرٌ مِنْ خَاسِرٍ *** زَادَ بِذَاكَ خُسَارَةً وَتَبَارَا
وقال -رَحِمَهُ اللهُ-:
«الواجبُ على العاقِلِ: أَنْ يُنْصِفَ أُذُنَيْهِ مِنْ فِيهِ٬ ويَعْلَمَ أنه إِنَّما جُعِلَتْ له أُذُنَانِ وفَمٌ واحدٌ؛ لِيَسْمَعَ أَكْثَرَ مما يقولُ؛ لأنه إذا قَاَل رُبَّما نَدِمَ٬ وإنْ لمْ يَقُلْ لمْ يَنْدَمْ٬ وهو علَى رَدِّ ما لَمْ يَقُلْ أَقْدَرُ منه على رَدِّ ما قَال٬ والكَلِمَةُ إذا تَكَلَّمَ بها مَلَكَتْهُ٬ وإنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بها مَلَكَها٬ والعَجَبُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بالكلمةِ إذا هيَ رُفِعَتْ؛ رُبَّمَا ضَرَّتْهُ٬ وإنْ لمْ تُرْفَعْ لَمْ تَضُرَّهُ٬ العَجَبُ منه كَيْفَ لا يَصْمُتُ؟!! ورُبَّ كلمةٍ سَلَبَتْ نعمةً».
وقال النووي -رَحِمَهُ اللهُ-: «اِعْلَمْ أنه ينبغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لسانَهُ عن جميعِ الكلامِ؛ إِلَّا كَلَامًا تَظْهَرُ المصلحةُ فيه، ومَتَى اسْتَوَى الكَلَامُ وتَرْكُهُ في المَصْلَحَةِ؛ فالسُّنَّةُ الإمساكُ عنه؛ لأنه قد يَنْجَرُّ الكلامُ المُبَاحُ إلى حَرَامٍ أو مَكْرُوهٍ؛ بَلْ هذا كثيرٌ؛ بَلْ هذا غَالِبٌ في العَادَةِ، والسلامةُ لا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ».
وقال ابنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «يَقُولُ الشيطانُ لِأَبْنَائِهِ: قُومُوا على ثَغْرِ اللِّسَانِ في ابْنِ آدَمَ؛ فإنه الثَّغْرُ الأَعْظَمُ، وهو قُبَالَةُ المَلِكِ؛ فَأَجْرُوا عليهِ مِنَ الكلامِ ما يَضُرُّهُ ولا يَنْفَعُهُ، وامْنَعُوهُ أنْ يَجْرِيَ عليه شيءٌ مما يَنْفَعُهُ؛ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تعالى، واستغفارِهِ، وتِلَاوَةِ كتابِهِ، ونَصِيحَةِ عِبَادِهِ، والتَّكَلُّمِ بالعِلْمِ النافِعِ، ويكونُ لكمْ في هذا الثَّغْرِ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ، لا تُبَالُوا بِأَيِّهِمَا ظَفَرْتُمْ:
أحدُهُمَا: التَّكَلُّمُ بالباطِلِ؛ فَإِنَّ المُتَكَلِّمَ بالباطِلِ أَخٌ مِنْ إخوانِكُمْ، ومِنْ أَكْبَرِ جُنْدِكُمْ وأَعْوَانِكُمْ.
يقولُ إِبْلِيسُ لِأَبْنَائِهِ:
والثاني: السُّكُوتُ عنِ الحقِّ؛ فإنَّ السَّاكِتَ عنِ الحقِّ أَخٌ لَكُمْ أَخْرَسُ، كما أنَّ الأوَّلَ أَخٌ نَاطِقٌ، ورُبَّمَا كان الأَخُ الثانِي أَنْفَعَ أَخَوَيْكُمْ لَكُمْ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ النَّاصِحِ: (المُتَكَلِّمُ بالباطِلِ شيطانٌ ناطِقٌ، والسَّاكِتُ عَنِ الحَقِّ شيطانٌ أَخْرَسُ)؟.
يقولُ إبليسُ لأبنائِهِ:
فالرِّبَاطَ الرِّبَاطَ على هذا الثَّغْرِ –يَعْنِي: على ثَغْرِ اللِّسَانِ مِنَ الإنسانِ- أنْ يتكَلَّمَ بحَقٍّ، أو يُمْسِكَ عنْ باطلٍ، وزَيِّنُوا لِابْنِ آدَمَ التَّكَلُّمَ بالباطِلِ بِكُلِّ طريقٍ، وخَوِّفُوهُ مِنَ التَّكَلُّمِ بالحَقِّ بِكُلِّ طَرِيقٍ.
واعْلَمُوا يا بَنِيَّ أنَّ ثَغْرَ اللِّسَانِ هو الذي أُهْلِكُ منه بَنِي آدَمَ، وأَكُبُّهُمْ منه على مَنَاخِرِهِمْ في النَّارِ؛ فَكَمْ لِي مِنْ قَتِيلٍ وأَسِيرٍ وجَرِيحٍ أَخَذْتُهُ مِنْ هذا الثَّغْرِ.
وأُوصِيكُمْ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظُوهَا –يُوصِي إبليسُ بَنِيهِ-؛ فيقُولُ: لِيَنْطِقْ أحدُكُم على لسانِ أَخِيهِ مِنَ الإِنْسِ بالكلمةِ، ويكونُ الآخَرُ على لِسَانِ السَّامِعِ؛ فَيَنْطِقُ باسْتِحْسَانِهَا، وتَعْظِيمِهَا، والتَّعَجُّبِ منها، ويَطْلُبُ مِنْ أخيهِ إِعَادتَها، وكُونُوا أعوانًا على الإنسِ بِكُلِّ طَرِيقٍ, وادْخُلُوا عليهمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، واقْعُدُوا لهم كُلَّ مَرْصَدٍ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَسَمِيَ الذي أَقْسَمْتُ به لِرَبِّهِمْ حَيْثُ قُلْتُ: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)﴾ [الأعراف:17،16].
أَوَ مَا تَرَوْنِي قَدْ قَعَدْتُ لِابْنِ آدَمَ بِطُرُقِه كُلِّهَا، فَلَا يَفُوتُنِي مِنْ طريقٍ إلا قَعَدْتُ له بطَرِيقٍ غيرِهِ، حَتَّى أُصِيبَ منه حَاجَتِي أَوْ بَعْضَها».
وقد قال عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَغْرِسُ الكلامِ القَلْبُ، ومَسْتَوْدَعُهُ الفِكْرُ، ومُقَوِّيهِ القَلْبُ، ومُبْدِؤُهُ اللِّسَانُ، وجِسْمُهُ الحُرُوفُ، ورُوحُهُ المَعْنَى, وحِلْيَتُهُ الإِعْرَابُ».
قالوا: «ولْيَحْذَرْ مِنْ فاحِشِ الكلامِ؛ ولو على وَجْهِ الحِكَايَةِ، وفي حَالِ القَبْضِ والغَضَبِ؛ لأنه إلى الزَّلَلِ أَقْرَبُ، وأَحْسَنُ ضَابِطٍ أنْ يُقَالَ: لا يَتَكَلَّمُ إلا بِمَا تَمَسُّ الحاجةُ إليه، ورُبَّ كلامٍ جَوَابُهُ السُّكُوتُ».
كما قِيلَ: ما كُلُّ قَوْلٍ له جَوَابٌ *** جَوَابُ ما يُكْرَهُ السُّكُوتُ
أَقْلِلْ كَلَامَكَ واسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهِ *** إنَّ البَلَاءَ بِبَعْضِهِ مَقْرُونُ
وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَفِظْ مِنْ عِيِّهِ ***حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ مَسْجُونُ
وَكِّلْ فُؤَادَكَ باللِّسَانِ وَقُلْ لَهُ *** إنَّ الكَلَامَ عَلَيْكُمَا مَوْزُونُ
فَزِنَاهُ وَلْيَكُ مُحْكَمًا ذَا قِلَّةٍ *** إِنَّ البَلَاغَةَ فِي القَلِيلِ تَكُونُ
عن مَالِكٍ بنِ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللهُ- قال: «كُلُّ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِفَضْلِهِ –أيْ: بزِيَادَتِهِ- إلَّا الكلامَ؛ فإنَّ فَضْلَهُ يَضُرُّ».
وعنْ أبي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «لَا خَيْرَ في الحَيَاةِ إِلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ؛ مُنْصِتٍ وَاعٍ، أوْ مُتَكَلِّمٍ عَالِمٍ».
وقال أبو حاتِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الواجِبُ على العَاقِلِ؛ أنْ لَا يُغَالِبَ الناسَ على كَلَامِهِم، ولا يَعْتَرِضَ عليهِمْ فيه؛ لأنَّ الكَلَامَ وإنْ كان في وَقْتِهِ حَظْوَةً جَلِيلَةً؛ فإنَّ الصَّمْتَ في وَقْتِهِ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ، ومَنْ جَهِلَ بالصَّمْتِ، وَعِيَ بالمَنْطِقِ؛ فَإِنَّ الإنسانَ إنما هو صُورَةٌ مُمَثلَةٌ أَوْ ضَالَّةٌ مُهْمَلَةٌ لَوْ لَا اللسانُ، واللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- رَفَعَ درَجَةَ اللِّسَانِ على سائِرِ الجوارِحِ، فليس منها شَيْءٌ أَعْظَمَ أَجْرًا منه إذا أَطَاعَ، ولا أَعْظَمَ ذَنْبًا مِنْهُ إذَا جَنَى».
فإنْ كان يَجْنِي اللَّوْمَ مَا أَنْتَ قَائِلٌ *** وَلَمْ يَكُ مِنْهُ النَّفْعُ فَالصَّمْتُ أَيْسَرُ
فَلَا تُبْدِ قَوْلًا مِنْ لِسَانِكَ لَمْ يَرْضَ *** مَوَاقِعَهُ مِنْ قَبْلِ ذَاكَ التَّفَكُّرُ
فعَلَيْنَا أَنْ نَحْفَظَ أَلْسِنَتَنا؛ لِنَحْفَظَ طَاقَةَ عُقُولِنَا، وصَفَاءَ أَذْهَانِنَا؛ ولِنَفْرُغَ لذِكْرِ ربِّنَا، وعبادة إلهِنا؛ ولِكَيْ يَنْقَطِعَ ذلك السَّيْلُ الهَادِرِ الجَارِفُ، مما يُمَزِّقُ العَلَاقَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةَ، ويُنْشِئُ العَدَاوَاتِ الأَثِيمَةَ في صُفُوفِ المُسْلِمِينَ؛ مِنَ الغِيبَةِ والنميمةِ، والكَذِبِ، وَالبُهتانِ، والرِّيبَةِ، ومَا أَشْبَهَ.
رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قالَ خَيْرًا فَسَلِمَ، أَوْ صَمَتَ فَغَنِمَ.
واللهُ المستَعَانُ، وعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وهُوَ حَسْبُنَا ونِعْمَ الوَكِيلُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلَهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ