((وَسَطِيَّةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ))
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِهِدَايَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُطْلَقًا، بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ، وَذَكَرَ مِنَّةَ اللهِ عَلَيْهَا، فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} عَدْلًا خِيَارًا، وَمَا عَدَا الْوَسَطَ فَأَطْرَافٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخَطَرِ، فَجَعَلَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ:
وَسَطًا فِي الْأَنْبِيَاءِ بَيْنَ مَنْ غَلَا فِيهِمْ -كَالنَّصَارَى-، وَبَيْنَ مَنْ جَفَاهُمْ -كَالْيَهُودِ-؛ بِأَنْ آمَنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِذَلِكَ.
وَوَسَطًا فِي الشَّرِيعَةِ؛ لَا تَشْدِيدَاتِ الْيَهُودِ وَآصَارَهُمْ، وَلَا تَهَاوُنَ النَّصَارَى.
وَفِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَالْمَطَاعِمِ؛ لَا كَالْيَهُودِ الَّذِينَ لَا تَصِحُّ لَهُمْ صَلَاةٌ إِلَّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَلَا يُطَهِّرُهُمُ الْمَاءُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ؛ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا كَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا؛ بَلْ أَبَاحُوا مَا دَبَّ وَدَرَجَ.
بَلْ طَهَارَةُ هَذِهِ الْأُمِّةِ أَكْمَلُ طَهَارَةٍ وَأَتَمُّهَا، وَأَبَاحَ اللهُ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ؛ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ، وَالْمَنَاكِحِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الدِّينِ أَكْمَلُهُ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ أَجَلُّهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُهَا.
وَوَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ مَا لَمْ يَهَبْهُ لِأُمَّةٍ سِوَاهَا؛ فَلِذَلِكَ كَانُوا {أُمَّةً وَسَطًا} كَامِلِينَ مُعْتَدِلِينَ؛ لِيَكُونُوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بِسَبَبِ عَدَالَتِهِمْ، وَحُكْمِهِمْ بِالْقِسْطِ، يَحْكُمُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ؛ فَمَا شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالرَّدِّ فَهُوَ مَرْدُودٌ.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ وَيَصْرِفُ عَيْنَيْهِ فِي الْآنَاءِ؛ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا يَجُولُ بِضَمِيرِهِ، وَمَا يَعْتَمِلُ فِي قَلْبِهِ، وَهُوَ يَتَلَدَّدُ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي بَنَاهُ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ وَأَبُوهُ إِسْمَاعِيلُ، يُرِيدُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْأَصْلِ.. إِلَى الْفِطْرَةِ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَزِيزُ -عَزَّ فَحَكَمَ-؛ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ بِالتَّحَوُّلِ؛ فَتَحَوَّلُوا؛ طَاعَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْلَهُ: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ثُمَّ جَاءَتِ الْآيَةُ: { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.
مَا الَّذِي أَتَى بِهَذَا هَاهُنَا؟
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
النَّبِيُّ ﷺ يَحْكِي لَنَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا حَشَرَ اللهُ النَّاسَ سَأَلَ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: هَلْ بَلَّغْتَ؟
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
فَيَسْأَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْمَ نُوحٍ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟
فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ)).
وَمَا أَتَانَا مِنْ جِنْسِ مَا يُقَالُ لَهُ أَحَدٌ، وَمَا أَتَانَا مِنَ ابْتِدَاءِ مَا يُقَالُ لَهُ أَحَدٌ.
هَكَذَا بِجُحُودٍ بِإِنْكَارٍ: ((مَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ)).
((فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لِنُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟
فَيَقُولُ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ})).
يَعْنِي: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، وَسَطَ زَمَانٍ بَيْنَ طُفُولَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَاكْتِهَالِهَا؛ إِذْ بَلَغَتْ ذُرْوَةَ نُضْجِهَا، وَوَسَطَ مَكَانٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بَعَثَ النَّبِيَّ ﷺ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ مَرْكَزُ الْكَوْنِ لَا مَرْكَزُ الْأَرْضِ هَنْدَسِيًّا؛ بِإِثْبَاتٍ مُنْضَبِطٍ لَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا ضَعْفَ يَشُوبُهُ.
فَوَسَطُ زَمَانٍ..
وَوَسَطُ مَكَانٍ..
وَوَسَطُ اعْتِقَادٍ؛ بِلَا مُغَالَاةٍ فِي ((إِثْبَاتٍ بِتَجْسِيمٍ))، وَلَا مُغَالَاةٍ فِي ((نَفْيٍ بِتَأْوِيلٍ وَتَعْطِيلٍ)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَسْأَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أُمَّةَ نُوحٍ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟
يَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، وَمَا جَاءَنَا مِنْ أَحَدٍ!
فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟
فَيَقُولُ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ.
قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((فَتَشْهَدُونَ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ))؛ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِين {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.
فِي هَذَا السِّيَاقِ -سِيَاقِ التَّحْوِيلِ- يَدُلُّنَا رَبُّنَا الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ عَنْ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةٌ جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خِيَارًا فِي خِيَارٍ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ وَهُوَ الْخِيَارُ؛ إِذْ هُوَ أَخْيَرُ مَا يَكُونُ.
وَإِذَنْ؛ فَهُمْ خِيَارُ الْأُمَمِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ.
كَمَا تَقُولُ: قُرَيْشٌ أَوْسَطُ النَّاسِ.
وَكَمَا تَقُولُ: الْعَصْرُ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى.
وَكَمَا تَقُولُ: بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا.
فَالْأَوْسَطُ: الْخِيَارُ الْعَدْلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
فَهَذِهِ أُمَّةٌ هِيَ خِيَارُ الْخَلْقِ.
وَهَذِهِ أُمَّةٌ هِيَ أَعْدَلُ الْخَلْقِ.
وَهَذِهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--؛ إِذْ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ؛ فَأَثْنَى النَّاسُ عَلَيْهَا خَيْرًا؛ فَقَالَ: ((وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ)).
ثُمَّ مُرَّ بِجِنَازَةٍ؛ فَأَثْنَى النَّاسُ عَلَيْهَا شَرًّا؛ فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ)).
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -إِذِ الْكَلَامُ وَاحِدٌ، وَالْمَخْرَجُ وَاحِدٌ، وَالْحَدَثَانِ مُخْتَلِفَانِ مُتَبَايِنَانِ؛ مَدْحٌ وَقَدْحٌ، وَثَنَاءٌ بِخَيْرٍ وَثَنَاءٌ بِشَرٍّ، وَالْكَلَامُ وَاحِدٌ فِي الْمُنْتَهَى؛ ((وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ))-.
قَالَ: مَا وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَمَّا الْأُولَى؛ فَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا؛ فَوَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ؛ فَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا؛ فَوَجَبَتْ لَهَا النَّارُ؛ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ)).
النَّبِيُّ ﷺ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّنَا كَمَا دَلَّنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أُمَّةُ الشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ وَا أَسَفَاهُ إِنَّ الشَّهَادَةَ وَالشَّاهِدَ لِكَيْ يَكُونَا مَقْبُولَيْنِ لَابُدَّ مِنْ تَوَفُّرِ شُرُوطٍ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَذْهَبُ هَكَذَا إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَوْ عِنْدَ جَارِحٍ مُعَدِّلٍ مِنْ عُلَمَائِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مَقْبُولَ الرِّوَايَةِ مَقْبُولَ الْأَثَرِ؛ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِ شُرُوطٍ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ.
نَعَمْ، لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي الشَّهَادَةِ وَالشَّاهِدِ.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ فِي الشَّاهِدِ فِي أُمَّةِ الشَّهَادَةِ لَا فِي شَهَادَتِهَا فَشَهَادَتُهَا عَلَى الْأُمَمِ شَهَادَةٌ بِأَمْرِ اللهِ وَأَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَلَكِنِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ فِي الْأُمَّةِ فِي شُهُودِهَا؛ لِكَيْ يَكُونُوا مَقْبُولِينَ عُدُولًا أَمْرَانِ، وَالْأُمَّةُ كُلُّهَا شَاهِدَةٌ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا ظَاهِرًا أَحَدًا؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِ هَذَا الْأَمْرِ فِي أَفْرَادِهَا.
مَا هُوَ؟
هُمَا أَمْرَانِ كَبِيرَانِ:
لَابُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةٍ تُثْبِتُ تَمَامَ الْعَقْلِ لَا سَفَهَهُ، وَلَا خَوَرَهُ وَلَا ضَعْفَهُ، وَلَا شَتَاتَهُ؛ فَهِيَ مُقَوِّمَاتٌ عَقْلِيَّةٌ بَعَدَالَةٍ تَلْحَقُ بِالْأَهْلِيَّةِ، وَهَذِهِ تُثْبِتُ الْمُقَوِّمَاتِ الْأَخْلَاقِيَّةَ.
فَهُمَا أَمْرَانِ: مُقَوِّمَاتٌ عَقْلِيَّةٌ، وَمُقَوِّمَاتٌ أَخْلَاقِيَّةٌ.
وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ الَّتِي هِيَ أُمَّةُ الشُّهُودِ.. أُمَّةُ الشَّهَادَةِ.
فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّنَا سَنَكُونُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.
وَمَا عِلْمُنَا بِبَلَاغِ نُوحٍ قَوْمَهُ؟!!
وَمَا عِلْمُنَا بِأَنَّ نُوحًا ظَلَّ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْتِزَامِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، وَجَعْلِ الْأَصْنَامِ دَبْرَ الْأَقْدَامِ وَالْآذَانِ، مَنْ أَدْرَانَا بِذَلِكَ؟!!
أَدْرَانَا بِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ.
فَالشَّهَادَةُ هِيَ الشَّهَادَةُ.
وَأَمَّا الشُّهُودُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا حَائِزِينَ لِأَمْرَيْنِ كَبِيرَيْنِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الشَّاهِدَ الَّذِي اخْتَلَّتْ أَهْلِيَّتُهُ -أَهْلِيَّةُ شَهَادَتِهِ-، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ الَّذِي أَصَابَتْهُ اللُّوثَةُ، وَالَّذِي أَدْرَكَهُ الْجُنُونُ، وَالَّذِي وَقَعَ فِي خَلَلِ السَّفَهِ، وَالَّذِي أَتَاهُ مَا أَتَاهُ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي تُخِلُّ بِإِدْرَاكِهِ وَتُفْسِدُ عَلَيْهِ تَصَوُّرَهُ.
هَذَا الْأَمْرُ الْكَبِيرُ يَكُونُ حِينَئِذٍ مُخْتَلًّا فِيمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا.
وَإِذَنْ؛ فَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْجَلِيلَةِ عَلَى الْأُمَمِ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي؛ فَهُوَ الْمَنْحَى الْأَخْلَاقِيُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ.
الْعَدَالَةُ بِالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ مَا يَشِينُ، بِالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ مَا يَطْعَنُ فِي هَذَا الْأَدِيمِ الطَّاهِرِ فِي هَذَا الْقَلْبِ الصَّافِي الَّذِي فَطَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ؛ فَلَوَّثَتْهُ مُلَوِّثَاتُ الْمُجْتَمَعِ، وَتَصَوُّرَاتٌ يَتَقَمَّمُهَا الْمَرْءُ مِنْ زِبَالَاتِ أَفْكَارِ وَفَلْسَفَاتِ الْأُمَمِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْعَوْدَةِ؛ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْأُمَّةُ حَائِزَةً لِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ.
وَنَحْنُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ نُعْطِيَ شَيْئًا وَلَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ نَتَحَصَّلَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا إِذَا مَا عَلَوْنَا فَوْقَ الْأَحْدَاثِ.. فَوْقَ الْمَوَاقِفِ.. فَوْقَ الدُّنْيَا بِمُوَاضَاعَاتِهَا؛ فَكُنَّا فَوْقَ الْقِمَّةِ السَّامِقَةِ تَفَرُّدًا بِالشُّمُوخِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الذِّهْنُ صَافِيًا، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ مُدْرِكًا.
وَأَمَّا عِنْدَ التَّلَوُّثِ فِي هَذَا الْمُجْتَمَعِ بِأَفْكَارِهِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْءُ مَا هُوَ فَاقِدُهُ؟!! وَفَاقِدُ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ!!
لَقَدْ أَتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِشَارَةِ بِهَذَا التَّوَازُنِ بِهَذَا الْوَسَطِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَائِمًا فِي كَوْنِهِ مُحَقَّقًا فِي بَعْضِ خَلْقِهِ زَمَانًا وَمَكَانًا، وَاعْتِقَادًا وَسُلُوكًا، وَأَخْلَاقًا وَمُعَامَلَةً، وَبُرْهَانًا لِلْعَالَمِ جَمِيعِهِ عَلَى أَنَّ دِينَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الضَّابِطُ لِلْحَيَاةِ الصَّحِيحَةِ، وَهُوَ الْهَادِي لِلْحَيَاةِ الْمُهْتَدِيَةِ النَّظِيفَةِ.
وَهُوَ الْحَاكِمُ لِأَمْرِ الْوُجُودِ حَتَّى لَا تَنْحَرِفَ الْقَافِلَةُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ لِيَكُونَ بُرْهَانًا قَائِمًا فِي أَرْضِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُطَبَّقًا بِعَمَلٍ عَلَى خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.
فَهَذِهِ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ تُحَقِّقُ نِسْبَةَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الْإِمْكَانِ الْحَضَارِيِّ بِتَمَلُّكِ الْقُوَّةِ وَالْإِرَادَةِ الْحَضَارِيَّةِ بِتَصْرِيفِ الْقُوَّةِ عَلَى الْمُسْتَوَى الشَّخْصِيِّ، وَعَلَى الْمُسْتَوَى الْجَمَاعِيِّ الْأُمَمِيِّ حَيْثُ تَكُونُ الْأُمَّةُ وَسَطِيَّةً بِحَقٍّ فِي دُنْيَا اللهِ.
المصدر:تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ