((الْعَالَمُ كُلُّهُ -الْيَوْمَ- فِي حَاجَةٍ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ أَكْثَرَ مِنَ احْتِيَاجِهِمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنَّفَسَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَقَدَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنَّفَسَ مَاتَ جَسَدُهُ، وَإِذَا فَقَدَ الْوَحْيَ وَالنُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مَاتَ قَلْبُهُ وَمَاتَتْ رُوحُهُ، وَمَوْتُ الْجَسَدِ لَيْسَ شَيْئًا بِإِزَاءِ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ.
بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ جَسَدُهُ رُبَّمَا انْعَتَقَتْ رُوحُهُ مِنْ أَسْرِ الْجَسَدِ إِلَى طَلَاقَةٍ تَكُونُ هُنَالِكَ بِسَعَادَةِ الْقُلُوبِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا فَقَدَ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ فَذَلِكَ هَلَاكُ الْأَبَدِ، وَذَلِكَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
النَّاسُ يَحْتَاجُونَ الْوَحْيَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَاتِهِمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنَّفَسَ، عَلَى شِدَّةِ الْإِنْسَانِ فِي احْتِيَاجِهِ إِلَى النَّفَسِ وَعَلَى شِدَّةِ احْتِيَاجِ الْإِنْسَانِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَكِنَّ حَاجَتَهُ إِلَى الْوَحْيِ، وَحَاجَتَهُ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ سَعَادَةٍ وَفَلَاحٍ، وَكُلَّ هَنَاءٍ وَصَلَاحٍ؛ إِنَّمَا سَبَبُهُ طَاعَةُ الرَّسُولِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ شَقَاءٍ وَبَوَارٍ، وَخَرَابٍ وَدَمَارٍ؛ فَإِنَّمَا سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ.
وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَطَاعُوا النَّبِيَّ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَسَارُوا خَلْفَهُ، وَاتَّبَعُوا نَهْجَهُ، وَالْتَزَمُوا شَرْعَهُ.. مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا شَرٌّ قَطُّ، وَلَكِنَّ الشَّرَّ يُوجَدُ فِي الْحَيَاةِ عَلَى قَدْرِ الْمُخَالَفَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَالشَّرُّ يَنْتَفِي عَلَى قَدْرِ طَاعَتِهِ، وَالصَّلَاحُ وَالْفَلَاحُ وَالْهَنَاءُ وَالِاسْتِقْرَارُ.. كُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَدْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النِّسَاء: 59].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَلِكَ}؛ يَعْنِي: مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي وَطَاعَةِ نَبِيِّي ﷺ، وَرَدِّ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّنَازُعُ إِلَى كِتَابِي وَسُنَّةِ نَبِيِّي ﷺ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَبَدًا إِلَّا إِذَا كَانَ جَزَاءً لِشَرْطٍ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وَجَاءَ هَاهُنَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ: {تُؤْمِنُونَ}.
لَمْ يَقُلْ: ((إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ))؛ وَإِنَّمَا قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- هَاهُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِيَّةِ الْحَدَثِ وَتَجَدُّدِهِ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
{ذَلِكَ}: الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَدَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَجَاءَكُمْ بِهِ نَبِيِّي وَرَسُولِي ﷺ.. {ذَلِكَ خَيْرٌ}: ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}؛ يَعْنِي: وَأَحْسَنُ مَآلًا لَكُمْ وَعَاقِبَةً لَكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ.
فَدَلَّ الْأَمْرُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ -يَعْنِي: عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ ﷺ- وَهِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُطَاعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُعْصَى نَبِيُّهُ ﷺ.
وَلَا يُمْكِنُ أَبَدًا أَنْ يَتَصَوَّرَ عَقْلٌ، وَلَا أَنْ يَتَخَيَّلَ خَيَالٌ.. أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ طَائِعًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ مُحَادٌّ لِنَبِيِّهِ مُشَاقٌّ لَهُ، هُوَ فِي شِقٍّ وَنَبِيُّهُ فِي شِقٍّ، وَهُوَ فِي حَدٍّ وَنَبِيُّهُ فِي حَدٍّ!! وَإِنَّمَا يُطَاعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ الْأَمِينِ ﷺ.
{ذَلِكَ خَيْرٌ}: سَعَادَةٌ لَكُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وَسَعَادَةً لَكُمْ فِي دَارِ الْقَرَارِ.
فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ -كَمَا رَأَيْتَ- بِظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَأْوِيلٍ وَلَا شَرْحٍ وَلَا تَفْسِيرٍ؛ عَلَى أَنَّ مَرْجِعَ السَّعَادَةِ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَعَلَى أَنَّ انْعِقَادَ أَمْرِ السَّعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَاعَةِ الْمَأْمُونِ ﷺ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْحَيَاةِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ ﷺ، أَوْ بِسَبَبِ ارْتِكَابِ وَرُكُوبِ نَهْيِهِ.
وَمَا مِنْ شَرٍّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَلَا فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى إِلَّا وَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَانْتِظَامُ أُمُورِ الْعَالَمِ، وَانْتِظَامُ أُمُورِ الْحَيَاةِ، وَسَيْرُ الْكَوْنِ عَلَى الْمُقْتَضَى الْأَمْثَلِ، وَعَلَى السَّنَنِ الْأَسْنَى.. إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَدْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَمَا مِنْ مَكَانٍ فِي الْأَرْضِ غَلَبَتْ فِيهِ طَاعَةُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا وَتَحَصَّلَ سَاكِنُوهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْهَنَاءِ عَلَى قَدْرِ طَاعَتِهِمْ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَمَا عَمَّتِ الشُّرُورُ فِي مَكَانٍ، وَلَا غَلَبَتْ نَوَازِعُ الشَّرِّ فِي مَوْضِعٍ.. إِلَّا لِكَثْرَةِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
بَلْ إِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَتَحَصَّلُ عَلَى اسْتِقْرَارِ قَلْبِهِ، وَاطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ، وَصَلَاحِ بَالِهِ، وَاسْتِقَامَةِ خَطْوِهِ.. إِنَّمَا يَتَحَصَّلُ عَلَى ذَلِكَ وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَنْهَى بِنَهْيِهِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يُبَلِّغُ الْوَحْيَ عَنْ رَبِّهِ، فَعَادَ صَلَاحُ الْعَالَمِ إِلَى هَذَا النُّورِ الْمُشْرِقِ الْمُبِينِ.
وَمَا مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْحَيَاةِ -وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا فِي ظَاهِرِهِ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالنَّهَلِ مِنْ نَبْعِهِ الصَّافِي الْمَعِينِ- فِيهِ صَلَاحٌ إِلَّا وَمَرَدُّهُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى وَحْيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَلَوْلَا الْوَحْيُ لَكَانَ النَّاسُ أَحَطَّ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَأَسْفَلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، لَوْلَا الْوَحْيُ، وَلَوْلَا الرِّسَالَةُ، وَلَوْلَا النُّبُوَّةُ.. مَا كَانَ عِرْضٌ وَلَا شَرَفٌ، وَلَا كَانَ حِفَاظٌ وَلَا كَرَامَةٌ، وَلَا كَانَ مَالٌ يُقْتَنَى، وَلَا كَانَتْ دَارٌ تُسْكَنُ؛ وَإِنَّمَا لَعَمَّتْ -حِينَئِذٍ- شِرْعَةُ الْقُوَّةِ؛ يَتَغَلَّبُ الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ مِنْ غَيْرِ رَادِعٍ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ حَدِّهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَهِي الْإِنْسَانُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْبَغِي أَلَّا يَتَجَاوَزَهُ، كُلُّ ذَلِكَ.. وَلَوْ كَانَ فِي دَسَاتِيرَ وَضْعِيَّةٍ وَقَوَانِينَ بَشَرِيَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ مَرَدُّهُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى وَحْيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَإِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ.
مَا عَرَفَ النَّاسُ الْكَرَامَةَ، وَلَا عَشِقَ النَّاسُ الْفَضَائِلَ، وَلَا اسْتَدَلَّ النَّاسُ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَلَا حَادَ النَّاسُ عَنِ الشُّرُورِ وَالتَّسَفُّلِ وَالرَّذَالَةِ وَالْوَضَاعَةِ وَالتَّدَنِّي.. إِلَّا بِسَبَبِ الْوَحْيِ، وَبِسَبَبِ النُّبُوَّةِ، وَبِسَبَبِ الرِّسَالَةِ، يَأْتِي بِذَلِكَ كُلِّهِ أُولَئِكَ الْمُطَهَّرُونَ الْمُصْطَفَوْنَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ وَرُسُلِهِ الْمُكْرَمِينَ، وَخِتَامُهُمْ وَتَاجُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.
سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ، وَشَقَاءُ الدَّارَيْنِ فِي مُجَانَبَةِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ، وَعَلَى قَدْرِ الثَّبَاتِ عَلَى شِرْعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ مُفْرَدًا، وَاسْتِقْرَارُ الْمُجْتَمَعِ مَجْمُوعًا، وَاسْتِقْرَارُ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ.
وَعَلَى قَدْرِ الْبُعْدِ عَنْ دِينِ الرَّبِّ، عَنْ دِينِ الْإِلَهِ الْحَقِّ، عَنْ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.. يَحْدُثُ مَا يَحْدُثُ مِنَ انْتِهَاكٍ لِلْأَعْرَاضِ، وَسَفْكٍ لِلدِّمَاءِ، وَمِنْ نَهْبٍ لِلْأَمْوَالِ، وَمِنَ اعْتِدَاءٍ عَلَى الدِّيَارِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ؛ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الْبُعْدُ عَنِ الْوَحْيِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الرِّسَالَةِ، وَالْبُعْدُ عَنِ النُّبُوَّةِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الوَحْيَ هُوَ رُوحُ العَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ، وَإِذَا خَلَا العَالَمُ مِنَ الرُّوحِ وَالنُّورِ وَالحَيَاةِ أَقَامَ اللَّهُ -تَعَالَى- السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ القُرْآنَ يُرْفَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ آيَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ.
وَحِينَئِذٍ -عِنْدَمَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ وَمَادَّةِ هَذَا الوُجُودِ الحَقِّ- فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقِيمُ السَّاعَةَ.
المصدر: عَالَمِيَّةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَمَا يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَهَا