الْعِلْمُ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ


 الْعِلْمُ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ

*بَيَانُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ وَالْوَاجِبُ الْكِفَائِيُّ:

*الْفَرْضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ, بِحَيْثُ يُذَمُّ تَارِكُهُ, وَمَعَ الذَّمِّ الْعِقَابُ, وَيُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَمَعَ الْمَدْحِ الثَّوَابُ.

وَالْوَاجِبُ -وَهُوَ الْفَرْضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ- يَنْقَسِمُ عَلَى: «وَاجِبٍ عَيْنِيٍّ, وَوَاجِبٍ عَلَى الْكِفَايَةِ».

*الْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ هُوَ: مَا يَنْظُرُ فِيهِ الشَّارِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَاعِلِ; كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ تَلْزَمُهُ بِعَيْنِهِ طَاعَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56].

فَالْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ: هُوَ مَا تَوَجَّهَ فِيهِ الطَّلَبُ اللَّازِمُ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ, أَيْ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ, فَلَا يَكْفِي فِيهِ قِيَامُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ, وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُكَلَّفِ مِنْهُ إِلَّا بِأَدَائِهِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي هَذَا الْوَاجِبِ, لَا يَتَحَقَّقُ, إِلَّا إِذَا فَعَلَهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ, وَمِنْ ثَمَّ يَأْثَمُ تَارِكُهُ وَيَلْحَقُهُ الْعِقَابُ, وَلَا يُغْنِي عَنْهُ قِيَامُ غَيْرِهِ بِهِ، وَمِثَالُهُ: الصَّلَاةُ, وَالصِّيَامُ, وَالْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ, وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.

*وَالْوَاجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُكَلَّفِينَ, لَا مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ حُصُولُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ.

فَإِذَا فَعَلَهُ الْبَعْضُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَعْضِ يُقُومُ مَقَامَ فِعْلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ, فَكَانَ التَّارِكُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَاعِلًا, وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ الْقَادِرِينَ.

وَقَدْ يَؤُولُ وَاجِبُ الْكِفَايَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَيْنِيًّا, فَلَوْ كَانَتِ الْبَلَدُ مُضَطَرَّةً إِلَى قَاضِيَيْنِ, وَكَانَ هُنَاكَ عَشْرَةٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ؛ فَإِنَّ تَوَلِّيهِ وَاجِبٌ كِفَائيٌّ عَلَى الْعَشْرَةِ.

وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ اثْنَيْنِ, فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاجِبًا عَيْنِيًّا عَلَيْهِمَا.

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِ «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ», بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ ذَكَرَهَا: « قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَلْخِيصِ ذَلِكَ وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمِيعَ فَرْضُهُ مِنْ ذَلِكَ مَالا يَسَعُ الإِنْسَانَ جَهْلُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرَائِضِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ، نَحْوَ الشَّهَادَةِ بِاللِّسَانِ وَالإِقْرَارِ بِالْقَلْبِ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلا شِبْهَ لَهُ وَلا مِثْلَ لَهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ كُلُّ شَيْءٍ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ.

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُمَا عِنْدَهُ سَوَاءٌ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ، هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ لَيْسَ لأَوَلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلا لآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ، هُوَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.

وَالشَّهَادَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْمُجَازَاةِ بِالأَعْمَالِ، وَالْخُلِودَ فِي الآخِرَةِ لأَهْلِ السَّعَادَةِ بِالإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَلأَهْلِ الشَّقَاوَةِ بِالْكُفْرِ وَالْجُحُودِ فِي السَّعِيرِ حَقٌّ.

وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ وَمَا فِيهِ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَلْزَمُ الإِيمَانُ بِجَمِيعِهِ، وَاسْتِعْمَالُ مُحْكَمِهِ وَأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَرِيضَةٌ وَيَلْزَمُهُ مِنْ عِلْمِهَا عِلْمُ مَا لا تَتِمُّ إِلا بِهِ مِنْ طَهَارَتِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا وَأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ، وَيَلْزَمُهُ عِلْمُ مَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَمَا لا يَتِمُّ إِلا بِهِ.

وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى الْحَجِّ لَزِمَهُ فَرْضًا أَنْ يَعْرِفَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَتَى تَجِبُ وَفِي كَمْ تَجِبُ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّ الْحَجَّ عَلَيْهِ فُرِضَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي دَهْرِهِ إِنِ اسْتَطَاعَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ، إِلَى أَشْيَاءَ يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ جُمَلِهَا وَلا يُعْذَرُ بِجَهْلِهَا نَحْوَ تَحْرِيمِ الزِّنَا وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالأَنْجَاسِ كُلِّهَا وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا وَالْغَصْبِ وَالرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ، وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَبِغَيْرِ طِيبٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إِلا إِذَا كَانَ شَيْئًا لا يُتَشَاحُّ فِيهِ وَلا يُرْغَبُ فِي مِثْلِهِ.

وَتَحْرِيمِ الظُّلْمِ كُلِّهِ وَهُوَ كُلُّ مَا مَنَعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالأَخَوَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا كُلِّهِ مِمَّا قَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَأُجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَيْهِ.

ثُمَّ سَائِرَ الْعِلْمِ، وَطَلَبَهُ وَالتَّفَقُّهَ فِيهِ وَتَعْلِيمَ النَّاسِ إِيَّاهُ وَفَتْوَاهُمْ بِهِ فِي مُصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالْحُكْمُ بِهِ بَيْنَهُمْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ يَلْزَمُ الْجَمِيعَ فَرْضُهُ فَإِذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ بِمَوْضِعِهِ لا خِلافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمْ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]، فَأُلْزِمَ النَّفِيرُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضَ دُونَ الْكَلِّ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ فَيُعَلِّمُونَ غَيْرَهُمْ، وَالطَّائِفَةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ».

*عُلُومُ الدُّنْيَا كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ:

وَمِنْ فُرُوضُ الْكِفَايَةِ: كُلُّ عِلْمٍ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي قِوَامِ أَمُورِ الدُّنْيَا؛ كَالطِّبِّ: إِذْ هُوَ ضَرُورِيٌّ فِي حَاجَةِ بَقَاءِ الْأَبْدَانِ عَلَى الصِّحَّةِ, وَالْحِسَابِ: فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا.

فَهَذِهِ الْعُلُومُ لَوْ خَلَا الْبَلَدُ عَمَّنْ يَقُومُ بِهَا حَرِجَ أَهْلُ الْبَلَدِ, وَإِذَا قَامَ بِهَا وَاحِدٌ كَفَى وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ. 

 

 

المصدر: التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَمِ: التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
  هَلْ عَرَفْنَا النَّبِيَّ ﷺ حَقًّا وَاتَّبَعْنَاهُ صِدْقًا؟!!
  الْوَفَاءُ بِعَهْدِ اللهِ وَمِيثَاقِهِ
  مِنْ أَهَمِّ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ
  جُمْلَةٌ مِنْ مَظَاهِرِ تَعْظِيمِ اللهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ
  الْأَمَانَةُ فِي الْعَمَلِ
  حُكْمُ الْعَوْدَةِ فِي الْهِبَةِ أَوِ التَّعْيِيرِ بِهَا
  مِنْ فَضَائِلِ شَهْرِ شَعْبَانَ
  التَّرْبِيَةُ الرُّوحِيَّةُ الْقَلْبِيَّةُ لِلْأَطْفَالِ
  آدَابُ السَّلَامِ
  الِاجْتِهَادُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ فِي رَمَضَانَ
  رِقَابَةُ الضَّمِيرِ وَرِعَايَةُ السِّرِّ فِي زَحْمَةِ الْحَيَاةِ وَصِرَاعَاتِهَا!!
  عَقِيدَتُنَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  مِنْ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: بِنَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَسْجِدِ وَالْمُؤَاخَاةِ
  • شارك