النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي السُّنَّةِ


 ((النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي السُّنَّةِ))

*فِي السُّنَّةِ: الْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالتَّرْشِيدِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالْمَنْعُ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلْ وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ وَتَصَدَّقْ، مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَالِ فِي الْأُمُورِ النَّافِعَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَتَجَنُّبِ الْأُمُورِ الضَّارَّةِ.

وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْعِبَادِ، بِهِ تَقُومُ أَحْوَالُهُمُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ.

وَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ -اسْتِخْرَاجًا وَاسْتِعْمَالًا، وَتَدْبِيرًا وَتَصْرِيفًا- إِلَى أَحْسَنِ الطُّرُقِ وَأَنْفَعِهَا، وَأَحْسَنِهَا عَاقِبَةً: حَالًا وَمَآلًا.

أَرْشَدَ فِيهِ إِلَى السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ وَالنَّافِعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ جَمِيلًا، وَلَا كَسَلَ مَعَهُ وَلَا فُتُورَ، وَلَا انْهِمَاكَ فِي تَحْصِيلِهِ انْهِمَاكًا يُخِلُّ بِحَالَةِ الْإِنْسَانِ.

وَأَنْ يَتَجَنَّبَ مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالرَّدِيئَةِ، ثُمَّ إِذَا تَحَصَّلَ سَعَى الْإِنْسَانُ فِي حِفْظِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَالْأُمُورِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، هُوَ وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَوْلَادٍ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَقْتِيرٍ وَلَا تَبْذِيرٍ.

وَكَذَلِكَ إِذَا أَخْرَجَهُ لِلْغَيْرِ فَيُخْرِجُهُ فِي الطُّرُقِ الَّتِي تَنْفَعُهُ، وَيَبْقَى لَهُ ثَوَابُهَا وَخَيْرُهَا، كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ وَنَحْوِهِمْ، وَكَالْإِهْدَاءِ وَالدَّعَوَاتِ الَّتِي جَرَى الْعُرْفُ بِهَا.

وَكُلُّ ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ الْإِسْرَافِ، وَقَصْدِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، كَمَا قَيَّدَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ آتِيًا بِكُلِّ الْمَذْكُورِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللُّبْسِ وَالتَّصَدُّقِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [ الفرقان: 67].

فَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ فِي تَدْبِيرِ الْمَالِ: أَنْ يَكُونَ قَوَامًا بَيْنَ رُتْبَتَيِ الْبُخْلِ وَالتَّبْذِيرِ، وَبِذَلِكَ تَقُومُ الْأُمُورُ وَتَتِمُّ، وَمَا سِوَى هَذَا، فَإِثْمٌ وَضَرَرٌ، وَنَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْحَالِ.

فَلَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، وَأَنْ يَلْبَسَ وَيَتَصَدَّقَ مَا دَامَ قَدْ حَصَّلَهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَمَا دَامَ فِي إِنْفَاقِهِ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَلِبَاسِهِ وَصَدَقَتِهِ؛ يَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَتَبْذِيرٍ، وَمِنْ غَيْرِ عُجْبٍ وَلَا مَخِيلَةٍ كَمَا أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكَمَا بَيَّنَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ مَا خُرُوجٍ عَنْ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِغُلُوٍّ، وَمِنْ دُونِ وُقُوعٍ دُونَ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِجَفَاءٍ، بَلْ يَكُونُ الْمَرْءُ عَلَى الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ الْأَغَرُّ.

*وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَبَوَّبَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بَابًا فَقَالَ: ((بَابٌ: السَّرَفُ فِي الْمَالِ))، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

«السَّرَفُ فِي الْمَالِ»: هُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ؛ بِأَنْ يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ أَنْ يَزِيدَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى قَدْرِهِ.

قَالَ ﷺ: «يَكْرَهُ لَكُمْ.. -وَذَكَرَ-: إِضَاعَةُ الْمَالِ»: هُوَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ تَعْرِيضُهُ لِلتَّلَفِ، أَوْ تَعْطِيلُهُ وَتَرْكُ الْقِيَامِ عَلَيْهِ، أَوْ إِعْطَاءُ الدَّيْنِ دُونَ إِشْهَادٍ لِغَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهِ.

وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ إِفْسَادٌ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَهُ تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَلِأَنَّ فِي حِفْظِهِ مَالَهُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ، وَمَصْلَحَةَ دِينِهِ.

وَمَصْلَحَةُ دُنْيَاهُ صَلَاحٌ لِأَمْرِ دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَرَّغُ حِينَئِذٍ لِأَمْرِ الدِّينِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: النَّهْيُ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي الْمَالِ قُوَّةُ الْفَرْدِ وَالْأُمَّةِ، وَفِي هَذَا الْمَالِ بِنَاءُ اقْتِصَادِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ.

*الْعَطَاءُ وَالثَّوَابُ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى النَّفَقَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ:

عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (({وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، قَالَ: فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، ولَا تَقْتِيرٍ)). هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ».

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ}؛ أَيْ: يُعْطِيهِ خَلَفًا مِنَ الْمُنْفَقِ.

«الْإِسْرَافُ»: التَّبْذِيرُ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالْإِنْفَاقُ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ.

«التَّقْتِيرُ»: التَّضْيِيقُ فِي الرِّزْقِ، وَالْعَيْشِ، وَالنَّفَقَةِ.

قَوْلُهُ: «فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، ولا تَقْتِيرٍ»؛ أَيْ: مَا كَانَ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: «أَيْ: مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَأَبَاحَهُ لَكُمْ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْبَدَلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ».

«فَهُوَ يُخْلِفُهُ»؛ أَيْ: يُعْطِيهِ خَلَفَهُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

لَيْسُوا بِمُبَذِّرِينَ فِي إِنْفَاقِهِمْ فَيُنْفِقُونَ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَيْسُوا بَبُخَلَاءَ عَلَى أَهْلِيهِمْ فَيُقَصِّرُونَ فِي حُقُوقِهِمْ، بَلْ يَكْفُونَهُمْ بِالْعَدْلِ فِي الْخَيْرِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، لَا هَذَا وَلَا هَذَا.

وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ نَفَقَةٍ عَظِيمَةٍ فَلَا يُعَدُّ إِسْرَافًا.

وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: «مَا جَاوَزْتَ بِهِ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ سَرَفٌ».

وَالسَّرَفُ: النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تعَالَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى فَلَا يُعَدُّ سَرَفًا.

قَوْلُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]: خَيْرُ مَنْ يُعْطِي وَيَرْزُقُ، فَأَنْفِقُوا فِي الْوُجُوهِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا تَخْشَوْا مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ -عِبَادَ اللهِ-: الْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالْمَنْعُ مِنَ التَّبْذِيرِ.

وَفِيهِ: بَيَانُ أَنَّ الْعَطَاءَ وَالثَّوَابَ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى النَّفَقَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْلَالِ مِنْهُ، فَلَا يَبْسُطُ يَدَهُ كُلَّ الْبَسْطِ، وَلَا يَجْعَلُ يَدَهُ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَغِي بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، وَهُوَ حَدُّ الْإِنْفَاقِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهُ، وَالَّذِي يُثِيبُ عَلَيْهِ.

*وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى حُرْمَةِ التَّبْذِيرِ وَذَمِّ الْمُبَذِّرِينَ، فَعَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ عَنِ الْمُبَذِّرِينَ، قَالَ: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي غَيْرِ حَقٍّ» . هَذَا الْأَثَرُ أَثَرٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)).

وَ«عَبْدُ اللَّهِ»: هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

«التَّبْذِيرُ»: هُوَ النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، وفِي غَيْرِ الْحَقِّ، وَفِي نَشْرِ الْفَسَادِ.

«الْمُبَذِّرُ»: الْمُسْرِفُ فِي النَّفَقَةِ.

وَ«تَبْذِيرُ الْمَالِ»: تَبْدِيدُهُ إِسْرَافًا، وَإِفْسَادًا.

وَقِيلَ: إِنَّ التَّبْذِيرَ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي الْمَعَاصِي.

وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ فِي إِنْفَاقِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ مَا يَقْتَاتُهُ.

وَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْجَوَادِ وَالْمُسْرِفِ:

فَالْجَوَادُ: حَكِيمٌ يَضَعُ الْعَطَاءَ مَوَاضِعَهُ.

وَالْمُسْرِفُ: كَثِيرًا مَا لَا يُصَادِفُ عَطَاؤُهُ مَوْضِعَهُ.

الْجَوَادُ: مَنْ يَتَوَخَّى بِمَالِهِ أَدَاءَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الْمُرُوءَةِ مِنْ قِرَى ضَيْفٍ، أَوْ مُكَافَأَةِ مُهْدٍ، أَوْ مَا يَقِي بِهِ عِرْضَهُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، طَيِّبَةً بِذَلِكَ نَفْسُهُ رَاضِيَةً مُؤَمِّلَةً لِلْخَلَفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَالْمُبَذِّرُ: يُنْفِقُ بِحُكْمِ هَوَاهُ عَلى مُقْتَضَى شَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، وَلَا يُرِيدُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ وَإِنْ وَصَلَ مَالُهُ إِلَى ذِي حَقٍّ، وَلَكِنَّهُ لَا يُرِيدُ وَلَا يَنْوِي أَدَاءَ الْحَقِّ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ.

الْإِسْرَافُ: صَرفُ الشَّيْءِ فِيمَا يَنْبَغِي زَائِدًا عَلَى مَا يَنْبَغِي.

وَالتَّبْذِيرُ: صَرفُ الشَّيْءِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي.

وَالْمُسْرِفُ فِي الْحَقِّ فِي الْمَوَاضِعِ الصَّحِيحَةِ مَهْمَا كَثُرَ إِنْفَاقُهُ؛ فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ.

وَالْمُنْفِقُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ هَذَا هُوَ الْمُبَذِّرُ، وَهُوَ الْمُنْفِقُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِنْفَاقُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَكَذَلِكَ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ.

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ.

 وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: {الْمُبَذِّرِينَ} [الإسراء: 27]، قَالَ: ((الْمُبَذِّرِينَ فِي غَيْرِ حَقٍّ)) . أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ»، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَهَذَا الْأَثَرُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالْفَهْمُ لِلْقُرْآنِ وَاحِدٌ، وَمَنْهَجُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ مَنْهَجُ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَأْخُذَانِ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، يَقْتَبِسَانِ مِنْهَا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وُجُوبُ الِاعْتِدَالِ فِي الْإِنْفَاقِ، بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْإِسْرَافِ الَّذِي هُوَ التَّبْذِيرُ، وَالتَّقْتِيرِ الَّذِي هُوَ التَّضْيِيقُ فِي الْإِنْفَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ أَثْنَى اللهُ عَلَيْهِمْ فِي آخِرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.

وَمِثْلُهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وَهِيَ مِنْ وَصَايَا الرَّحْمَنِ فِي سُورَةِ «سُبْحَانَ».

وَفِي الْحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ مِنَ التَّبْذِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَنَشْرِ الْفَسَادِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْفَقَ الْمَالُ إِلَّا فِي طَاعَةِ اللهِ، أَوْ فِي مُبَاحٍ بِاعْتِدَالٍ.

المصدر:التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا مَوْضُوعَا الْمِيَاهِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي رَمَضَانَ أُنْمُوذَجًا

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  فَضْلُ الصِّدْقِ وَذَمُّ الْكَذِبِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
  ذِكْرُ اللهِ وَدُعَاؤُهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ
  الْحُبُّ الْفِطْرِيُّ لِلْأَوْطَانِ
  الْجِهَادُ تَضْحِيَةُ أَفْرَادٍ لِحِمَايَةِ دِينٍ وَأُمَّةٍ
  مَظَاهِرُ الِابْتِلَاءِ
  أَصْنَافُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُقُوقُهُمْ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: عِظَمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهَا
  مِنْ أَسْمَى الْخِصَالِ الشَّهَامَةُ وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّضْحِيَةِ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي
  رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ تُعَلِّمُ الطَّاعَاتِ وَتُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ
  ثَمَرَاتُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ
  حَثُّ دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ
  كُبْرَى مُقَدَّسَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ الْيَوْمَ!
  التَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى
  الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
  • شارك