((رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ أَبٍ وَأُمٍّ))
تَأْلِيف
فَضِيلَة الشَّيْخ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ صَلَاحِ بْنِ مُحَمَّد غَانِم -رَحِمَهُ اللهُ-.
((رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ أَبٍ وَأُمٍّ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِلَى آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَإِخْوَانِنَا وَأَخَوَاتِنَا، وَأَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا! أُقَدِّمُ هَذِهِ النَّصِيحَةَ الْغَالِيَةَ، وَالْفَائِدَةَ الثَّمِينَةَ، وَالْوَصِيَّةَ الْهَامَّةَ؛ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا فِي شَرْحِ الصُّدُورِ، وَإِنَارَةِ الْعُقُولِ، وَجَلْبِ الْمَأْمُولِ، وَسَبَبًا فِي بِرِّ الْبَارِّينَ، وَإِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ، وَنَشْأَةِ جِيلٍ يَحْمِلُ مَشَاعِلَ الْهُدَى وَالنُّورِ إِلَى النَّاسِ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ أَجْمَعِينَ، وَالْخَيْرِ وَالْبِرِّ إِلَى شَتَّى بِقَاعِ الْأَرْضِ فِي الْعَالَمِينَ، فَيُنِيرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمُ الظُّلُمَاتِ، وَيَقْضِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى أَيْدِيهِمُ الْحَاجَاتِ، وَتُرْفَعُ بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمُ الْمِحَنُ وَالْبَلِيَّاتُ.
أَيُّهَا الْآبَاءُ الْفُضَلَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْفُضْلَيَاتُ؛ عَضُّوا عَلَى هَذِهِ النَّصِيحَةِ بِالنَّوَاجِذِ، وَبُثُّوهَا فِي الْمَحَافِلِ وَالْمَجَالِسِ؛ فَـ((الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ))، وَالْمُصْلِحُ فِي زَمَانِ الْإِفْسَادِ إِصْلَاحُهُ يَعُودُ عَلَيْهِ فِي أَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَزَمَانِهِ، وَمَآلِهِ؛ فَإِلَيْكُمْ جَمِيعًا أَقُولُ:
أَبْنَاؤُنَا هُمْ ثَمَرَةُ أَفْئِدَتِنَا، وَفِلْذَةُ أَكْبَادِنَا، وَنِتَاجُ أَعْمَالِنَا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْمَلَهُمْ بِرِعَايَتِنَا، وَأَنْ نَكْفُلَهُمْ بِعِنَايَتِنَا، فَقِيَامُنَا فِي قِيَامِهِمْ، وَسَعَادَتُنَا فِي سَعَادَتِهِمْ؛ فَهُمْ أَثْمَنُ وَأَغْلَى مَا نَمْلِكُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بَعْدَ عِبَادَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ.
وَاعْلَمُوا -أَيُّهَا الْآبَاءُ الْفُضَلَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ الْفُضْلَيَاتُ- أَنَّ الْوَلَدَ أَمَانَةٌ فِي عُنُقِ أَبِيهِ، وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ عَلَيْهِ، وَالْوَلَدُ رَعِيَّةٌ، وَأَبُوهُ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، وَمُسْتَخْلَفٌ عَلَى رِعَايَتِهِ؛ فَلْيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا أَمِينًا عَلَى وَلَدِهِ لَا خَائِنًا، مُحَافِظًا عَلَيْهِ لَا مُضَيِّعًا، مُتَعَاهِدًا عَلَى رِعَايَتِهِ لَا مُفَرِّطًا.
وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ جَدَلًا وَلَا نِقَاشًا: أَنَّ الْوَلَدَ نِتَاجُ الْبِيئَةِ الَّتِي تَرَبَّى فِيهَا، وَالْأُسْرَةِ الَّتِي عَاشَ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، فَيَخْرُجُ إِلَى الْحَيَاةِ مُتَأَثِّرًا بِهَا سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا، طَاعَةً أَوْ عِصْيَانًا، بِرًّا وَوَفَاءً أَوْ جُحُودًا وَنُكْرَانًا؛ فَلَا تَظْلِمُوا أَبْنَاءَكُمْ بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى تَقْصِيرِكُمْ وَإِسَاءَتِكُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَيْهِمْ بِإِعَانَتِهِمْ وَمُعَايَنَتِهِمْ بِإِحْسَانِكُمْ وَطَاعَتِكُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58].
فَالْوَلَدُ يَتَأَثَّرُ بِالْأُسْرَةِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا، يَتَأَثَّرُ بِأَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَأَحْوَالِهَا؛ فَيَخْرُجُ نَمُوذَجًا مُمَاثِلًا لِهَذَا الْبَيْتِ الَّذِي تَرَبَّى وَتَرَعْرَعَ فِيهِ.
وَاعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْوَلَدَ بِنَاءٌ، وَكُلُّ بِنَاءٍ لَهُ أَسَاسٌ وَأَعْمِدَةٌ، وَسَقْفٌ وَجُدْرَانٌ، وَجِهَازٌ وَأَرْكَانٌ، فَأَسَاسُ وَلَدِكَ إِيمَانُهُ وَعَقِيدَتُهُ وَيَقِينُهُ، وَأَعْمِدَتُهُ فَرَائِضُ دِينِهِ، وَسَقْفُهُ الْحُدُودُ وَالنَّوَاهِي وَالْمَحَارِمُ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنِ التَّجَرُّءِ عَلَيْهَا، وَجُدْرَانُهُ قِيَمُهُ وَمَبَادِئُهُ، وَأَرْكَانُهُ آدَابُهُ وَأَخْلَاقُهُ؛ فَهَلْ أَسَّسْتَ عَقِيدَةَ وَلَدِكَ؟!!
وَهَلْ أَقَمْتَهُ عَلَى الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْهِ؟!!
وَهَلْ حُلْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ؟!!
وَهَلْ أَقَمْتَهُ عَلَى قِيَمٍ وَمَبَادِئَ وَمُثُلٍ، أَمْ تَرَكْتَهُ هَكَذَا؟!!
وَهَلْ نَظَرْتَ فِي آدَابِهِ وَأَخْلَاقِهِ، أَمْ تَرَكْتَهُ هَمَلًا بِلَا آدَابٍ وَلَا أَخْلَاقٍ؟!!
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ أَنْ يُؤَسِّسَا أَبْنَاءَهُمَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَاعْتِقَادِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، وَإِعْلَانِهِ وَبَثِّهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَاقِّهِ وَآلَامِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر: 1-3].
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ بِنَاءَ الْوَلَدِ جَسَدٌ ظَاهِرٌ، وَرُوحٌ بَاطِنَةٌ؛ فَلَا يَشْغَلَنَّكُمْ بِنَاءُ الْأَجْسَادِ عَنْ تَهْذِيبِ الْأَرْوَاحِ، وَلَا يَشْغَلَنَّكُمْ تَعَاهُدُ الْأَبْدَانِ فِي مُقَابِلِ تَضْيِيعِ الْأَدْيَانِ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ طَرِيقُ الْحِرْمَانِ وَالْخُسْرَانِ، فَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ بِإِيمَانِهِ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ بِبَدَنِهِ وَجُثْمَانِهِ، وَخَيْرٌ مِنْهُمَا مَنْ جَمَعَ قُوَّةَ الْبَدَنِ إِلَى قُوَّةِ الدِّينِ بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْوَلَدَ دَائِمًا وَأَبَدًا ابْنُ بِيئَتِهِ، مِنْهَا يَكْتَسِبُ لُغَتَهُ وَآدَابَهُ، وَأَخْلَاقَهُ وَمَبَادِئَهُ، فَعَلَى قَدْرِ لُغَةِ وَآدَابِ وَأَخْلَاقِ وَالِدَيْهِ تَكُونُ لُغَتُهُ وَآدَابُهُ وَأَخْلَاقُهُ؛ فَالْأَبْنَاءُ يَنْزِلُونَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا، فَيَصِيرُ الْعَرَبِيُّ عَرَبِيًّا، وَالْأُورُوبِّيُّ أُورُوبِّيًّا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لُغَةُ أُسْرَتِهِ وَآدَابُهَا وَأَخْلَاقُهَا؛ فَلَا تَلُومُوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي لُغَتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَلَكِنْ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ؛ فَقَدِيمًا قَالُوا: ((مَنْ شَابَهَ أَبَاهَ فَمَا ظَلَمَ))، وَإِذَا كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ بِالدُّفِّ ضَارِبًا فَشِيمَةُ أَهْلِ الْبَيْتِ كُلِّهِمُ الرَّقْصُ!!
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إِلَى حُضْنٍ يَحْتَضِنُهُ، وَقَلْبٍ يَمِيلُ الْوَلَدُ إِلَيْهِ وَيَعْشَقُهُ، وَإِلَى نَفْسٍ فَاضِلَةٍ زَكِيَّةٍ نَقِيَّةٍ تَمْلِكُهُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْوَلَدُ ذَلِكَ فِي أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ؛ سَعَى إِلَى تَحْصِيلِهِ فِي الْمَحَاضِنِ مِنْ حَوْلِهِ؛ فَيَحْتَضِنُهُ أَصْحَابُ السُّوءِ، فَيَحْتَضِنُهُ الصَّاحِبُ السَّاحِبُ، أَوِ الشَّارِعُ الْفَاسِدُ، أَوْ مَوَاقِعُ التَّوَاصُلِ بِمَا فِيهَا مِنْ مَفَاسِدَ، أَوِ الْأَوْهَامُ وَالْخَيَالَاتُ فِي مَجَالِسِ الْفَاسِقِينَ وَالْفَاسِقَاتِ؛ حَيْثُ يَجِدُ الْوَلَدُ فِيهِمْ بُغْيَتَهُ، وَيَسْتَشْعِرُ فِيهِمْ قِيمَتَهُ؛ فَتَرَى فِي وَلَدِكَ الْعُقُوقَ بَدِيلًا عَنِ الْبِرِّ، وَالْإِسَاءَةَ وَالنُّفُورَ مَحَلَّ الطَّاعَةِ وَالسُّرُورِ.
فَاحْتَضِنُوا -أَيُّهَا الْآبَاءُ- أَبْنَاءَكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، وَهُدُوءِ النَّفْسِ فِيمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ مُخَالَفَاتٍ، وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ مِنْ مُؤَاخَذَاتٍ بِمَزِيدٍ مِنَ الصَّبْرِ وَالرِّعَايَةِ، وَإِظْهَارِ الْكَثِيرِ مِنَ الْوُدِّ وَالْحُبِّ وَالْبَشَاشَةِ.
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْوَالِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَامِلَ الْوَلَدَ بِعَقْلِيَّتِهِ؛ فَبَيْنَ عَقْلِ وَلَدِكَ وَعَقْلِكَ عُلُومٌ لَمْ يُحَصِّلْهَا، وَتَجَارِبُ لَمْ يُعَايِنْهَا، وَأَحْدَاثٌ لَمْ يُوَاقِعْهَا؛ فَتَرَفَّقْ بِهِ فِي النُّصْحِ وَالتَّوْجِيهِ وَالْجِدَالِ وَالْمُنَاقَشَةِ، وَانْزِلْ إِلَيْهِ وَلَا تَطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْكَ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ يَخْفِضُ ظَهْرَهُ وَيَحْنِي رَأْسَهُ لِيَكُونَ مَطِيَّةً لِحَفِيدِهِ وَوَلَدِهِ؛ حُنُوًّا وَحُبًّا وَعَطْفًا وَإِحْسَانًا وَبِرًّا وَاطْمِئْنَانًا، فَأَظْهِرُوا لَهُمْ -عِبَادَ اللهِ- عَطْفَكُمْ وَبِرَّكُمْ وَحُبَّكُمْ وَحُنُوَّكُمْ، وَلَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ.
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْجَسَدَ لَهُ غِذَاؤُهُ، وَأَنَّ الرُّوحَ لَهَا غِذَاؤُهَا، وَالْكَثِيرُ مِنَ الْآبَاءِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- شَغَلَهُمْ غِذَاءُ الْأَبْدَانِ عَنْ غِذَاءِ الْأَرْوَاحِ، فَكَبُرَتْ أَبْدَانُ أَبْنَائِهِمْ، وَصَغُرَتْ عُقُولُهُمْ، وَضَعُفَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَخَفَّتْ أَدْيَانُهُمْ؛ فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْآبَاءُ- فِي غِذَاءِ أَرْوَاحِ أَبْنَائِكُمْ، فَهُوَ مَصْدَرُ عِزِّهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَبِرِّهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، فَمَا تَرَاهُ مِنْ عُقُوقِ الْعَاقِّينَ، وَمَعْصِيَةِ الْعَاصِينَ، وَانْفِلَاتِ الْمُنْفَلِتِينَ إِلَّا لِتَقْصِيرِ الْآبَاءِ فِي هَذَا الرُّكْنِ الرَّكِينِ وَالْأَصْلِ الْعَظِيمِ، فَمَا قَامَتْ فِي الْعَالَمِينَ أُمَّةٌ إِلَّا عَلَى قَدَمِ الْعِلْمِ وَسَاقِهِ، فَالْعِلْمُ غِذَاءُ الرُّوحِ، وَهُوَ حُلْوٌ مَنْظَرُهُ، جَمِيلٌ مَذَاقُهُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَأَخْتِمُ رِسَالَتِي هَذِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُوجَزَةِ؛ أَقُولُ: الْأَبْنَاءُ زَرْعٌ وَالْآبَاءُ زَارِعُونَ، وَالْأَبْنَاءُ نِتَاجٌ وَالْآبَاءُ صَانِعُونَ، فَمَنْ جَدَّ وَجَدَ، وَمَنْ زَرَعَ حَصَدَ، وَلَيْسَ مَنْ قَامَ وَاجْتَهَدَ كَمَنْ نَامَ وَرَقَدَ؛ فَانْظُرُوا -أَيُّهَا الْآبَاءُ- فِي أُصُولِ زِرَاعَتِكُمْ، وَقَوَاعِدِ صِنَاعَتِكُمْ، فَأَدْرِكُوا مَا فَاتَكُمْ، وَحَصِّلُوا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالنِّيَّةِ الصَّادِقَةِ، وَالْعَزِيمَةِ الرَّاشِدَةِ مَا حَصَّلَهُ مَنْ سَبَقَكُمْ، فَالْأُمَّةُ الْيَوْمَ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى سَوَاعِدِ أَبْنَائِكُمْ، وَقُوَّةِ شَبَابِكُمْ؛ فَهُمْ حُرَّاسُ الْعَقِيدَةِ، وَحُمَاةُ الشَّرِيعَةِ، وَهُمْ سَوَاعِدُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، فَقُوَّةُ بِلَادِكُمْ فِي قُوَّةِ أَبْنَائِكُمْ، وَضَعْفُهَا فِي ضَعْفِهِمْ، وَالْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ هُنَا لَيْسَتْ بِقُوَّةِ الْأَبْدَانِ، وَلَا بِقُوَّةِ الْمَنْصِبِ وَالْجَاهِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِنَّمَا الْقُوَّةُ هَاهُنَا فِي قُوَّةِ الْعَقِيدَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْأَدْيَانِ، وَأَنْتُمْ -أَيُّهَا الْآبَاءُ- فِي الْمُنْتَهَى.. أَنْتُمُ الْمَسْؤُولُونَ عَنْهُمْ، الْمُرَبُّونَ لَهُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُمْ فَلَكُمْ وَلَنَا وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَعَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ وَعَلَيْنَا تَدُورُ الدَّوَائِرُ، وَتَنْزِلُ النَّوَازِلُ، وَتَشْتَدُّ الْمِحَنُ، وَتَظْهَرُ الْبَلَايَا وَالْفِتَنُ.
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ-، وَخُذُوا بِأَسْبَابِ الْعَافِيَةِ وَالْوِقَايَةِ، وَادْفَعُوا بِهَا أَسْبَابَ الْفِتَنِ وَالْبَلَايَا؛ فَإِنَّ الْعَالَمَ عَلَى أَتُّونِ فِتْنَةٍ وَفِي انْتِظَارِ بَلِيَّةٍ وَمِحْنَةٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَأْسِيسِ جِيلٍ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، لَا تُدْفَعُ تِلْكَ الْفِتَنُ، وَلَا نُعَافَى مِنْ تِلْكَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ إِلَّا بِتَأْسِيسِ جِيلٍ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ؛ فَيَرْفَعُ اللهُ بِهِ الْبَلِيَّةَ، وَيَدْفَعُ اللهُ بِهِ الرَّزِيَّةَ، وَيَجْعَلُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ سُبُلَ الْوِقَايَةِ وَالْخَيْرِيَّةِ.
فَاللهم هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا نَبِيِّ الْأَمِّيِّينَ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْمُتَّقِينَ الْمُطَهَّرِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.