تفريغ مقطع : شُبْهَةٌ وَجَوَابُهَا حَوْلَ الطَّعْنِ فِي أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-

((شُبْهَةٌ وَجَوَابُهَا حَوْلَ الطَّعْنِ فِي أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-))

((مَقْطَعٌ مِنْ مُحَاضَرَةِ الِاثْنَيْن 27 مِنْ ذِي الْحِجَّةِ 1438هـ / 18-9-2017م))

وَمَوْضِعٌ آخَرُ: وَمَا قَالَ فِيهِ الْأَفَّاكُ الْحَدَّادِيُّ: طَعْنُ رَسْلَان فِي نَبِيِّ للهِ أَيُّوبَ!!

قَالَ - قَطَعَ اللهُ لِسَانَهُ-: ((قَالَ رَسْلَانُ: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ أَيُّوبَ نَبِيُّ اللهِ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً؛ فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ سِوَى رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ، وَكَانَ مَا كَانَ مِنْ عِظَمِ الْبَلَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَبِيِّهِ أَيُّوبَ حَتَّى طُرِحَ هُنَالِكَ عَلَى مَزْبَلَةٍ عِنْدَ قَوْمِهِ)).

أَيْنَ الطَّعْنُ عِنْدَ الْمُغَفِّلِينَ، عِنْدَ الْبَهَّاتِينَ الْأَفَّاكِينَ فِي قَوْلِ رَسْلَانَ: ((حَتَّى طُرِحَ هُنَالِكَ عَلَى مَزْبَلَةٍ عِنْدَ قَوْمِهِ))؟!! وَكَأَنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ مِنْ كِيسِهِ أَوْ أَنْشَأَهُ إِنْشَاءً!!

أَمَّا ابْتِلَاءُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ نَبِيَّ اللهِ أَيُّوبَ ﷺ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ ذَاتَ يَوْمٍ: تَعْلَمُ واللهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ.

فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟

قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَى أَيُّوبَ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ.

فَقَالَ أَيُّوبُ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولانِ، غَيْرَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ بِالرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ، فَيَذْكُرَانِ اللهَ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللهُ إِلَّا فِي حَقٍّ.

قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ أَمْسَكَتْهُ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، وَأُوحِيَ إِلَى أَيُّوبَ أَنْ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ، فَاسْتَبْطَأَتْهُ، فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، وَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَهُوَ أَحْسَنُ مَا كَانَ.

فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللهِ هَذَا الْمُبْتَلَى، واللهِ - عَلَى ذَلِكَ - مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا.

فَقَالَ: إِنِّي أَنَا هُوَ، وَكَانَ لَهُ أَنْدرَانِ -أَيْ: بَيْدَرَانِ-: أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ أَي: الْفِضَّةَ - حَتَّى فَاضَ)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)): ((رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ)) وَذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَخْرِيجِهِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.

قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي ((التَّارِيخِ)): ((سَأَلَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إِبْلِيسُ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى جَسَدِهِ -أَيْ: عَلَى جَسَدِ أَيُّوبَ- فَسَلَّطَهُ عَلَى جَسَدِهِ خَلَا لِسَانَهُ وَقَلْبَهُ وَعَقْلَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ سُلْطَانًا؛ فَجَاءَهُ -أَيْ: جَاءَهُ إِبْلِيسُ- وَهُوَ سَاجِدٌ، فَنَفَخَ فِي مَنْخِرِهِ نَفْخَةً أَشْعَلَ مِنْهَا جَسَدَهُ أَوْ: اشْتَعَلَ مِنْهَا جَسَدُهُ، وَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْرِهِ أَنْ أَنْتَنَ جَسَدُهُ؛ فَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ إِلَى كُنَاسَةٍ خَارِجَ الْقَرْيَةِ، لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ إِلَّا زَوْجَتُهُ)).

قَالَ الطَّبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ((بَقِيَ أَيُّوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى كُنَاسَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا اخْتَلَفَ فِيهَا الرُّوَاةُ)).

فَقَرَّرَ ابْنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((التَّارِيخِ)) وَفِي ((التَّفْسِيرِ)) أَيْضًا أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى كُنَاسَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى كُنَاسَةٍ خَارِجَ الْقَرْيَةِ، لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ إِلَّا زَوْجَتُهُ.

فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء: 83-84].

وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص: 41-44].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرُهُمْ: كَانَ أَيُّوبُ رَجُلًا كَثِيرَ الْمَالِ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِهِ وَأَنْوَاعِهِ، مِنَ الْأَنْعَامِ، وَالْعَبِيدِ، وَالْمَوَاشِي، وَالْأَرَاضِي الْمُتَّسِعَةِ بِـ(الْبَثَنِيَّةِ) -وَهِيَ نَاحِيَةٌ مِنْ نَوَاحِي دِمْشَقَ كَمَا قَالَ يَاقُوتُ مِنَ الشَّامِ كُلُّهَا بِمَا فِيهَا - وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهَا كَلَّهَا كَانَتْ لَهُ.

وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَأَهْلُونَ كَثِيرٌ، فَسُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ جَمِيعِهِ، وَابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عُضْوٌ سَلِيمٌ سِوَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، يَذْكُرُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِمَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، ذَاكِرٌ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَصَبَاحِهِ وَمَسَائِهِ.

وَطَالَ مَرَضُهُ، حَتَّى عَافَهُ الْجَلِيسُ، وَأَوْحَشَ مِنْهُ الْأَنِيسُ، وَأُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ، وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ خَارِجَهَا، وَانْقَطَعَ عَنْهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَحْنُو عَلَيْهِ سِوَى زَوْجَتِهِ، كَانَتْ تَرْعَى لَهُ حَقَّهُ، وَتَعْرِفُ قَدِيمَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهَا، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهَا؛ فَكَانَتْ تَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ، فَتُصْلِحُ مِنْ شَأْنِهِ، وَتُعِينُهُ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَتَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِ.

وَضَعُفَ حَالُهَا، وَقَلَّ مَالُهَا، حَتَّى كَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ؛ لِتُطْعِمَهُ وَتَقُومَ بِأَوْدِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا- وَهِيَ صَابِرَةٌ مَعَهُ عَلَى مَا حَلَّ بِهِمَا مِنْ فِرَاقِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الْمُصِيبَةِ بِالزَّوْجِ، وَضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ، وَخِدْمَةِ النَّاسِ بَعْدَ السَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْخِدْمَةِ وَالْحُرْمَةِ، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ!)).

وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ فِي ((التَّفْسِيرِ)) نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى.

((أُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ خَارِجَهَا)) هَذَا كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ، نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مُقَرِّرًا لَا مُعْتَرِضًا.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَمْ يَزِدْ هَذَا كُلُّهُ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَّا صَبْرًا وَاحْتِسَابًا، وَحَمْدًا وَشُكْرًا، حَتَّى إِنَّ الْمَثَلَ لَيُضْرَبُ بِصَبْرِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَيُضْرَبُ الْمَثَلُ أَيْضًا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَايَا.

قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوَّلَ مَنْ أَصَابَهُ الْجُدَرِيُّ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ بَلْوَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ؛ فَزَعَمَ وَهْبٌ أَنَّهُ ابْتُلِيَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ، وَقَاَل أَنَسٌ: ابْتُلِيَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَخْتَلِفُ الدَّوَّابُّ فِي جَسَدِهِ، حَتَّى فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ، وَأَعْظَمَ لَهُ الْأَجْرَ، وَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ حُمَيْدٌ: مَكَثَ فِي بَلْوَاهُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَةَ سَنَة، وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسَاقَطَ لَحْمُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَظْمُ وَالْعَصَبُ؛ فَكَانَتْ امْرَأَتُهُ تَأْتِيهُ بِالرَّمَادِ تَفْرُشُهُ تَحْتَهُ)).

وَارْجِعْ فِي ذَلِكَ إِلَى ((تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ)).

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (( {مَسَّنِيَ}: يَعْنِي أَصَابَنِيَ {الشَّيْطَانُ}: هُوَ شَيْطَانُ الْجِنِّ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ آذَاهُ، وَلَكِنْ هَلْ هُوَ إِيذَاءٌ نَفْسِيٌّ بِأَنْ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْوَسَاوَسَ الَّتِي أَنْهَكَتْ بَدَنَهُ؟ أَوْ أَنَّهُ إِيذَاءٌ حِسِّيٌّ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الشَّيْطَانَ نَفَثَ فِي جَسَدِهِ حَتَّى أَصْبَحَ جَسَدُهُ كُلُّهُ جُدُرِيًّا -يَعْنِي حُبُوبًا ضَارَّةً-؟

قَالَ: فَاللهُ أَعْلَمُ، يُحْتَمَلُ هَذَا وَهَذَا.

وَقَوْلُهُ: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}: النُّصْبُ: يَعْنِي الضَّرَرَ، وَالْعَذَابُ: يَعْنِي الْأَلَمَ)).

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((تَفْسِيرِهِ)): ((وَاذْكُرْ فِي هَذَا الْكِتَابِ ذِي الذِّكْرِ عَبْدَنَا أَيُّوبَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَأَثْنِ عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ، حِينَ أَصَابَهُ الضُّرُّ، فَصَبَرَ عَلَى ضُرِّهِ، فَلَمْ يَشْتَكِ لِغَيْرِ رَبِّهِ، وَلَا لَجَأَ إِلَّا إِلَيْهِ!

نَادَى رَبَّهُ دَاعِيًا، وَإِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ شَاكِيًا: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} يَعْنِي: بِأَمْرٍ مُشْقٍّ مُتْعِبٍ مُعَذِّبٍ، وَكَانَ سُلِّطَ عَلَى جَسَدِهِ -أَيْ سُلِّطَ الشَّيْطَانُ عَلَى جَسَدِ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَنَفَخَ فِيهِ حَتَّى تَقَرَّحَ، ثُمَّ تَقَيَّحَ يَعْنِي: بَضَّ بِالْقَيْحِ وَهُوَ الصِّدِيدُ- حَتَّى تَقَرَّحَ، ثُمَّ تَقَيَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ وَاشْتَدَّ بِهِ الْأَمْرُ، وَكَذَلِكَ هَلَكَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)} [ص: 41-44].  

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَذْكُرُ تَعَالَى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا كَانَ ابْتَلَاهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الضُّرِّ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ جَسَدِهِ مَغْرِزُ إِبْرَةٍ سَلِيمًا سِوَى قَلْبِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ حَالِ الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَرَضِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ زَوْجَتَهُ حَفِظَتْ وُدَّهُ لِإِيمَانِهَا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فَكَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأُجْرَةِ وَتُطْعِمُهُ وَتَخْدُمُهُ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَة.

وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي مَالٍ جَزِيلٍ وَأَوْلَادٍ وِسَعَةٍ طَائِلَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، فَسُلِبَ جَمِيعَ ذَلِكَ، حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ أُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ مِنْ مَزَابِلِ الْبَلْدَةِ هَذِهِ الْمُدَّةَ بِكَامِلِهَا، وَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ سِوَى زَوْجَتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَإِنَّهَا كَانَتْ لَا تُفَارِقُهُ صَبَاحًا وَلَا مَسَاءً إِلَّا بِسَبَبِ خِدْمَةِ النَّاسِ ثُمَّ تَعُودُ إِلَيْهِ قَرِيبًا)).

وَهَكَذَا تَجِدُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هُمُ الَّذِينَ ذَكَرُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يُسْنِدُوهُ؛ يَعْنِي لَمْ يَقُولُوا: حَدَّثَنَا فُلَانٌ وَحَدَّثَنَا فُلَانٌ، وَإِنَّمَا عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَسَالِيبِهِمْ كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ عَنْهُمْ رَحِمَهُمُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً.

فَحَتَّى لَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا لَا يُقْبَلُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ يَكُونُ طَاعِنًا فِي الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ مِنْ سَلَفِنَا -عَلَيْهُمُ الرَّحْمَةُ- قَدْ قَرَّرُوا فِيمَا كَتَبُوهُ وَسَطَرُوهُ هَذَا الَّذِي قَالَ: إِنَّهُ طَعْنٌ فِي نَبِيِّ اللهِ أَيُّوبَ، وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ حِينَئِذٍ لَا يُثَرَّبُ عَلَيْهِ، وَهَلْ لَمْ يَكُنْ ((تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ)) وَ((تَفْسِيرُ ابْنِ جَرِيرٍ)) وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ كُتُبِ عُلَمَائِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، هَلْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْكُتُبُ تَحْتَ أَعْيُنِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مُنْذُ كُتِبَتْ تِلْكَ الْكُتُبُ وَسُطِرَتْ وَرُقِمَتْ فِي طُرُوسِهَا إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ وَاحِدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِلَى أَنَّ هَذَا يُعَدُّ طَعْنًا فِي نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى أَتَى هَؤُلَاءِ السِّفْلَةُ، فَقَرَّرُوا أَنَّ هَذَا طَعْنٌ، لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِأَنَّ مَنْ يُبْغِضُونَهُ بُغْضًا لَا يُوصَفُ؛ لِأَنَّهُ يَدْمَغُهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي يَفْلَقُ مِنْهُمُ الْهَامَ، وَيَنْزِلُ مِنْهُمْ سَاحِقًا الرُّؤُوسَ، وَيَفْضَحُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ عُوَارَهُمْ، وَيُظْهِرُ خَبِيئَهُمْ، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ مَنْ يُبْغِضُونَهُ بِكَلَامِ سَلَفِهِ وَلَزِمَ غَرْزَهُمْ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَلَامِهِمْ، حَتَّى لَوْ كَانُوا مُخْطِئِينَ، فَلَا يُثَرَّبُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يُرْمَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْفِرْيَةِ الْقَبِيحَةِ إِلَّا هُوَ؟!

فَيُقَالَ: إِنَّهُ يَطْعَنُ فِي نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-! مَعَ أَنَّ الطَّعْنَ فِي نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ رِدَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَكِنْ أَيْنَ التُّقَى الَّذِي يَحْجُبُ أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ السِّفْلِةِ عَنِ التَّوَرُّطِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الِاتِّهَامَاتِ؟ لَا شَيْءَ يَظْهَرُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ التَّقَحُّمُ وَالتَّهَجُّمُ وَالتَّشَبُّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَوْا، فَإِذَا حَمَلْتُ عَلَيْهِمْ - وَهُمْ يَرْمُونَنِي بِالْعَظَائِمِ - فَحِينَئِذٍ يَضِجُّونَ ضَجِيجَ النِّسَاءِ، وَيَبْكُونَ بُكَاءَ الْأَطْفَالِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَ الْقَائِلِ الْقَدِيمِ:

وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ   ***   لَمْ يَحْتَمِلْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ

فَإِذَا كَانُوا كَذَلِكَ، وَبِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّعَةِ، وَالتَّسَفُّلِ وَعَدَمِ الرِّعَايَةِ لِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْمِلَّةِ؛ فَلِمَاذَا يَتَهَجَّمُ هَؤُلَاءِ عَلَى الْكَلَامِ فِي دِينِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا؟!

وَكَبِيرُ عِصَابَتِهِمْ يُزَيِّنُ لَهُمُ السُّوءَ، وَمَعْلُومٌ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمُنَحَطَّةِ.

أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا إِذَا كَانُوا كَاذِبِينَ فِيمَا يَرْمُونَنَا بِهِ مِنَ الْعَظَائِمِ أَنْ يُرِيَ اللهُ - رَبُّ الْعَالَمِينَ - الْعَالَمِينَ فِيهِمْ آيَةً، وَأَنْ يَشُلَّ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ، وَأَنْ يَكُفَّ فُجُورَهُمْ وَإِفْكَهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ.

وَسَيَأْتِي -إِنْ شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا يَتَعَلَّقُ بِمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِدَاودَ، وَبِالنَّبِيِّ الَّذِي قَرَصَتْهُ النَّمْلَةُ، وَالْكُلُّ -إِنْ شَاءَ اللهُ- مِثْلُ هَذَا، لَا يَعْدُوهُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْفُجُورُ فِي الْخُصُومَةِ الَّذِي لَا يَحْجُزُ إِنْسَانًا يَدَّعِي أَنَّهُ يَنْتَسِبُ إِلَى الْعِلْمِ عَنْ رَمْيِ مُسْلِمٍ بَرِيءٍ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعَظَائِمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْعَوِي.

فَاللهُ تَعَالَى الْمَسْئُولُ أَنْ يُنَجِّيَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الْعِصَابَةِ، فَإِنَّ الْحَدَّادِيَّةَ شَرُّ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ جَمِيعِهِ فِرْقَةٌ كَهَذِهِ الْفِرْقَةِ -أَعْنِي الْحَدَّادِيَّةَ- فَإِنَّهَا تُدَمِّرُ الْعِلْمَ تَدْمِيرًا، وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الظَّاهِرِيَّةِ اللُّغُوِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي رَأَيْتُمْ بَعْضَهُ، وَسَيْأَتِي -إِنْ شَاءَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا يَدْمَغُهُمْ وَيَفْلَقُ هَامَهُمْ، وَيَكْشِفُ اللهُ بِهِ سَتْرَهُمْ، وَيَفْضَحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ أُمُورَهُمْ.

فَنَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُوَفِّقَنَا لِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَنْ يَحْفَظَنَا قَائِمِينَ وَقَاعِدِينَ وَرَاقِدِينَ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


دَفْعُ الْبُهْتَانِ حَوْلَ قَوْلِ الْأَفَّاكِينَ فِي ادِّعَاءِ تَكْفِيرِ أَبْنَاءِ الْمُسِلِمِينَ
ما الذي يريده الإخوان؟ أيريدون إعادة الحاكم الفاشل ؟!
((1))...((هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))
نصيحةٌ للموظفِ الذي يقبلُ الهدية... شبهة الراتب لا يكفي
قوموا وانهضوا معشر المسلمين من سباتكم
الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ الْمَلَاحِدَةِ: أَنَّ الْكَوْنَ أَوْجَدَ نَفْسَهُ- الشَّيْخُ الْعَلَّامَة: مُحَمَّد بْنُ صَالِح الْعُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللهُ-
كيفَ نُؤمِنُ بالقَضاءِ والقَدرِ إيمانًا صَحِيحًا؟
متى يبدأ القيام فى رمضان ومتى ينتهى ؟
بعض تخاريف خوارج العصر
ولكننا من جهلنا قل ذكرنا
الواحدُ منكم يحمل المكتبة الشاملة في يده، فماذا تعلمتم؟!! ، وبماذا عمِلتُم مما عَلِمتُم؟!!
لا نُرَقِّع دينَنا بثقافةِ غيرِنا
شبهة تعدد زوجات النبي محمد صلى الله عليه وسلم والرد عليها
وما على المرء باس لو شتمه جميعُ الناس، وصِينت الديانة.
الشيخ رسلان يقسم على إخوانه جميعا في كل مكان أن لا يقبلوا يديه
  • شارك