((دَفْعُ البُهْتَانِ حَوْلَ عِبَارَةِ ((يُوَاطِئُ الهَوَى الهَوَى))
الحمدُ للهِ وَحْدَهُ، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ:
أمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ كُنْتُ قُلْتُ فِي خُطْبَةٍ أَوْ دَرْسٍ عَنْ تَحْوِيلِ الْقِبْلةِ: ((وَأَمَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيُرِيدُ لِخَلِيلِهِ وصَفِيِّهِ ﷺ بَادِيَ الرَّأْيِ وفي بدايةِ الأمرِ ما لا يريدُهُ النبيُّ ﷺ بِهَوَى قَلْبِهِ، فما يَكُونُ مِنَ النبيِّ ﷺ إِلَّا أَنْ يكونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جاء مِنْ عندِ اللهِ رَبِّ العالمينَ، ويَمْكُثُ الرسولُ ﷺ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا يُعْطِي الكعبةَ المشَرَّفَةَ ظَهْرَهُ، ويُقَلِّبُ وجهَهُ في السماءِ، ولا يُحَرِّكُ لسانَهُ بكلمةٍ واحدةٍ، واللهُ مُطَّلِعٌ على ما في قَلْبِهِ، عليمٌ بِحَبَّةِ فُؤَادِهِ، ثُمَّ يُوَجِّهُهُ اللهُ ربُّ العالمينَ إلى حيث يُرِيدُ، فَيُوَاطِئُ الهَوَى الهَوَى، ويَأْتِي الأمرُ على حَسَبِ ما يَوَدُّ ويَتَمَنَّى ويَرْغَبُ ﷺ )).
هذا ما قُلْتُهُ.
فَأَيْنَ فيه إثباتُ الهَوَى للهِ -جل وعلا-؟!!
إلَّا أنَّ الأَفَّاكِينَ البَهَّاتِينَ مِنْ أهلِ الأهواءِ والزَّيْغِ مِنْ شياطينِ الإنسِ يُثْبِتُونَ ما يَحْلُو لهم إثباتُهُ مِنَ البهتانِ المُبِينِ، ثُمَّ يُثَبِّتُونَهُ على أنه حَقٌّ ويَقِينٌ، ويَسْأَلُونَ عنه سؤالًا مُجْمَلًا مَنْ تَيَسَّرَ لهم سؤالُهُ مِنْ أهلِ العلمِ، قائِلِينَ مثلًا: عندَنا مَنْ يُثْبِتُ للهِ الهَوَى فما تقولون؟!!
والجوابُ معروفٌ.
وقَبْلَ النَّظَرِ فيما قُلْتُ، أَنْظُرُ في أمورٍ:
الأولُ: الهَوَى منه محمودٌ ومَذْمُومٌ.
الثاني: إثباتُ الهَوَى للرسولِ ﷺ -ولا يَكُونُ هواهُ إلا محمودًا- صَحَّ عن عائشةَ -رضي الله عنها- وعن عُمَرَ -رضي الله عنه-.
في ((الصحِيحَيْنِ)) عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: ((كنتُ أَغَارُ مِنَ اللاتِي وَهَبْنَ أنفسَهُنَّ مِنَ النبيِّ ﷺ وأقولُ: أَتَهَبُ امرأةٌ نَفْسَها؟ فلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ}[الأحزاب: 51]، قُلْتُ: ما أَرَى رَبَّكَ إلا يُسَارِعُ في هَوَاكَ)).
وقال عُمَرُ -رضي الله عنه- في شَأْنِ أَسْرَى بدرٍ: ((فَهَوِيَ رسولُ اللهِ ﷺ ما قال أبو بكرٍ، ولَمْ يَهْوَ ما قُلْتُ، وأَخَذَ مِنْهُمُ الفِدَاءَ..)). الحديثَ رواهُ مسلمٌ وغيرُه.
الثالثُ مِنَ الأمورِ: ما قُلْتُهُ في العبارةِ المُفْتَرَى عليها: ((حتى يَكُونَ هواهُ تَبَعًا لِمَا جاء مِنْ عِنْدِ اللهِ)) موافقٌ لِمَا رَفَعَهُ عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-: ((لا يؤمِنُ أحدُكُم حتى يكونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ به)). وهو ضعيفٌ لا يَثْبُتُ، ضَعَّفَهُ ابنُ رَجَبٍ، وكذلك ضعَّفَهُ الألبانيُّ.
ولَكِنِّي لَمْ أَذْكُرْهُ في السياقِ الذي مَرَّ على أنه حديثٌ عن رسولِ اللهِ ﷺ، ولكنْ كما قال الشيخُ ابنُ عُثَيْمِينَ -رحمه الله تعالى- في ((شرحِ الأربعين)): ((ابنُ رَجَبٍ -رحمه اللهُ تعالى- حافِظٌ مِنْ حُفَّاظِ الحديثِ، وهو إذا أَعَلَّ الأحاديثَ التي ذَكَرَهَا النوويُّ -رحمه الله- يُبَيِّنُ وَجْهَ العِلَّةِ)).
قال الشيخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رحمه الله-: ((ولكِنَّ مَعْنَى الحديثِ بِقَطْعِ النظرِ عن إسنادِهِ صحيحٌ، وأنَّ الإنسانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جاء به الرسولُ ﷺ )). انتهى كلامُهُ.
وما جاء به رسولُ اللهِ ﷺ هو الوحْيُ الذي أَوْحَاهُ اللهُ تعالى إليه، فالوحْيُ جاء مِنْ عِنْدِ اللهِ -جل وعلا-.
الرابعُ مِنَ الأُمورِ: هذا مِثَالٌ يُقَرِّبُ المَعْنَى الصَّحِيحَ مِنَ الأَفْهَامِ السَّقِيمَةِ والعُقُولِ العَقِيمَةِ:
اِبْنٌ هواهُ في طاعةِ مَوْلَاهُ بِأَنْ يَبَرَّ أباهُ، يأمُرُهُ أَبُوه بما لا يَهْوَاهُ ولا يخالِفُ شَرْعَ اللهِ، يَلْتَزِمُ الِابْنُ بطاعةِ أبيهِ فيما يَأْمُرُهُ به؛ بَرًّا به، وإنْ كان لا يوافِقُ هَوَاهُ، ولَكِنْ يَبْقَى لَدَيْهِ هَوَاهُ في طاعةِ مَوْلَاهُ بِأَنْ يَبَرَّ أباهُ وإِنْ خالَفَ بِرُّهُ بأبِيهِ هواهُ، فإذا أَمَرَهُ أَبُوه بما يَهْوَاهُ، وعِنْدَهُ هَوَاهُ في طاعةِ مَوْلَاهُ، فَقَدْ وَاطَئَ الهَوَى الهَوَى.
فهَاهُنَا هَوَيَانِ، وهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بالعَبْدِ:
الأولُ: هَوَاهُ التابِعُ لِمَا جاء مِنْ عِنْدِ اللهِ، وهذا فيه مُجَاهَدَةٌ وَمُزَاوَلَةٌ، كما في قَوْلِهِ -جل وعلا-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65].
والثاني: ما جاء مِنْ عِنْدِ اللهِ مِمَّا يَهْوَاهُ القَلْبُ أَصْلًا.
فإذا وافَقَ الهَوَى الهَوَى، فهو المُرَادُ والمُشْتَهَى، كما قال الأَوَّلُ ذَاكِرًا الحَقَّ والباطِلَ: إذا وَافَقَ الحَقُّ الهَوَى فهو أَلَذُّ مِنَ الشَّهْدِ وأَحْلَى؛ لأنَّ المُسْلِمَ لا يَسَعُهُ إلَّا أنْ يُسَلِّمَ للحَقِّ وإنْ كان على غَيْرِ هَوَاهُ، فإذا كان الحَقُّ الذي يُسَلِّمُ له على ما يَهْوَاهُ فَهُوَ كما وُصِفَ.
والآنَ؛ فَلْنَنْظُرْ في الكلامِ المُفْتَرَى عليه:
الرسولُ ﷺ هواهُ أنْ يَتَوَجَّهَ إلى البيتِ الحرامِ في الصلاةِ، وقَدْ وَجَّهَهُ اللهُ تعالى إلى بيتِ المَقْدِسِ، فما يَكُونُ مِنَ النبيِّ ﷺ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هواهُ تَبَعًا لِمَا جاء مِنْ عِنْدِ اللهِ، ويَمْكُثُ ﷺ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، يَتَوَجَّهُ إلى بيتِ المَقْدِسِ وهو في جِهَةِ الشَّمالِ والبَيْتُ الحرامُ جِهَةَ الجنوبِ، ويُقَلِّبُ الرسولُ ﷺ وَجْهَهُ في السماءِ، ولا يُحَرِّكُ لسانَهُ بكلمةٍ واحدةٍ، واللهُ تعالى مُطَّلِعٌ على ما في قَلْبِهِ، ولا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هواهُ تَبَعًا لِمَا جاء ما عِنْدِ اللهِ.
فهذا هو الهَوَى الأَوَّلُ.
ثُمَّ يُوَجِّهُهُ اللهُ تعالى قِبْلَةً يَرْضَاهَا، وهذا ما يَهْوَاهُ الرسولُ ﷺ، فَيُوَافِقُ هذا هَوَاهُ التَّابِعَ لِمَا جاء مِنْ عِنْدِ اللهِ، ويُوَاطِئُ الهَوَى الهَوَى، والهَوَيَانِ للرسولِ ﷺ، ويَأْتِي الأمرُ على حَسَبِ ما يَوَدُّ النبيُّ ﷺ، ويَرْغَبُ ويَتَمَنَّى.
فأَيْنَ في هذا كُلِّهِ إثباتُ الهَوَى للهِ -عز وجل-؟!!
شَاهَتِ الوُجُوهُ..
أَوَيَبْلُغُ الحِقْدُ العَقُورُ، والفُجُورُ في الخُصُومَةِ هذا الدَّرْكَ الهَابِطَ مِنَ الِانْعِتَاقِ مِنْ قَيْدِ الأخلاقِ الشريفةِ والخِلَالِ المُنِيفَةِ، ومِنْ أَجْلِ ماذا؟!!
أَنَا لا بِي شَيْءٌ، ولا مِنِّي شَيْءٌ، ولَا لِي شَيْءٌ، وأَنَا المُكَدِّي وَابْنُ المُكَدِّي وكَذَا كان أَبِي وَجَدِّي، ولَكِنْ هُوَ صَدُّ العُدْوَانِ، ودَحْضُ البُهْتَانِ، واللهُ المستعانُ، وعليه التُّكْلَانُ، وهو حَسْبُنَا ونِعْمَ الوَكِيلُ.
وصلى اللهُ وسَلَّمَ على نَبِيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين.