وَمَدِينَةُ القُدسِ لَمْ تَكُن يَومًا لَهُم تَارِيخًا وَلَا وَطَنًا, قَدْ يَسأَلُ سَائِلٌ: أَلَمْ يَدخُل اليَهُودُ مَدِينَةَ القُدسِ؟ أَلَمْ يُقِيمُوا فِيهَا مَمْلَكَةً لَهُم رَدحًا مِنَ الزَّمَانِ؟!
وَالإِجَابَةُ التَّارِيخِيَّةُ عَن هَذَا هِيَ؛ أَنَّ بَنِي إِسرَائيلَ دَخَلُوا القُدسَ فِعلًا, وَأَقَامُوا فِيهَا مَمْلَكَةً لَهُم فِعلًا, وَكَانَ هَذَا فِي عَهدِ دَاوُد وَابنِهِ سُلَيمَانَ -عَلَيهِمَا السَّلَامُ-, وَقَد عَاشَت هَذِهِ المَمْلَكَةُ الإِسرَائيلِيَّةُ فِي القُدسِ سَبعِينَ سَنَة -نَعَم سَبعِينَ سَنَةً فَقَط!!- هِيَ عُمرُ اليَهُودُ فِي القُدسِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقصَانٍ, لَمْ يَكُن لَهُم عَهدٌ بِتِلكَ المَدِينَةِ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَان, وَهِيَ فَترَةٌ قَصِيرَةٌ جِدًّا مِن تَارِيخِ مَدِينَةِ القُدس, وَتَارِيخُ القُدسِ يُضَاهِي تَارِيخَ مِصر وَهِيَ أَقدَمُ بِلَادِ العَالَم, وَتَارِيخُ القُدس يَتَكَوَّنُ مِن مَرَاحِل طَويلَة كُلُّ مَرحَلَةٍ مِنهَا دَامَت مِئَاتِ السِّنِين مِنهَا:
- المَرحَلَةُ العَرَبِيَّةُ الأُولَى: الَّتِي جَاءَت فِيهَا قَبَائِلُ كَنعَان العَرَبِيَّة وَاستَوْطَنَت فِي فَلَسطِينَ, وَزَرَعَت أَرضَهَا وَبَنَت فِيهَا القُرَى, وَهِيَ مَرحَلَةٌ طَوِيلَةٌ استَمَرَّت زُهَاءَ أَلفَينِ مِنَ السِّنِين, تَعَاقَبَ بَعدَهَا عَلَى القُدسِ مَن تَعَاقَب, تَعَاقَبَ عَلَى غَزْوِ فَلَسطِينَ وَحُكمِهَا وَالإِقَامَةِ فِيهَا أُمَمٌ عَدِيدَةٌ هِيَ؛ أُمَمُ الأَشُورِيِّينَ وَالبَابِلِيِّينَ وَالفُرْس وَالمِصرِيِّينَ وَاليُونَان وَالرُّومَان, وَقَد أَقَامَ كُلٌّ مِن هَؤلَاءِ مَرحَلَةً تَارِيخِيَّةً أَطوَلُ مِنَ السَّنَوَاتِ السَّبعِينَ الَّتِي عَاشَهَا بَنُو إِسرَائيلَ فِي القُدسِ, دُونَ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدٌ مِنهُم مَا يَدَّعِيهِ اليَهُودُ فِي زَمَانِنَا هَذَا؛ مِن أَنَّ لَهُم حَقًّا تَارِيخِيًّا فِي القُدسِ وَفِي فَلَسطِينَ جَمِيعًا.
بَدَأَت تِلكَ السَّنَوات السَّبعِين عِندَمَا دَخَلَ النَّبِيُّ دَاوُدَ -عَلَيهِ السَّلَامُ- القُدس فِي سَنَةِ خَمسِينَ وَأَلفٍ قَبلَ المِيلَاد( 1050 ق م) أَوْ حَولَ هَذَا التَّارِيخ, وَلَم يَبْنِ دَاوُدُ مَعبَدًا وَلَم يَبْنِ فِي القُدسِ هَيكَلًا.
فَقَد جَاءَ فِي (العَهدِ القَدِيمِ) فِي سِفرِ (الأَيَّامِ الأَوَّل) مَا يَلِي:
((قَال دَاوُدُ لِسُلَيمَانَ: يَا بُنَيَّ قَدْ كَانَ فِي قَلبِي أَنْ أَبْنِيَ بَيتًا لِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِي, فَكَانَ إِلَيَّ كَلَامُ الرَّبِّ قَائِلًا: قَد سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً, وَعَمِلتَ حُرُوبًا عَظِيمَةً, فَلَا تَبنِي بَيتًا لِاسْمِي؛ لِأَنَّكَ سَفَكتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الأَرضِ أَمَامِي, هُوَ ذَا يُولَدُ لَكَ ابنٌ اسْمُهُ يَكُونُ سُلَيمَانَ هُوَ يَبنِي بَيتًا لِاسْمِي)).
وَظَلَّ دَاوُد يُؤدِّيَ صَلَوَاتِهِ فِي خَيْمَةٍ مِنَ الشَّعَر, وَبَنَى سُلَيمَانُ بنُ دَاوُدَ -عَلَيهِمَا السَّلَامُ- المَعبَد, وَكَانَ مَعبَدًا صَغِيرًا مُلحَقًا بِالقَصرِ المَلَكِيِّ, وَبَابُهُ مَفتُوحٌ مِنْ جِهَةِ القَصرِ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِسُلَيمَانَ -عَلَيهِ السَّلَامُ- وَبِحَاشِيَتِهِ وَزَوجَاتِهِ.
هَذَا المَعبَدُ يُسَمُّونَهُ الهَيكَلَ الأَوَّلَ, وَلَمْ يَدُم هَذَا المَعبَدُ طَوِيلًا؛ لِأَنَّ أَولَادَ دَاوُدَ وَسُلَيمَانَ قَد نَشِبَت بَينَهُم المُنَازَعَاتُ وَالمُنَاوَشَاتُ فَلَمْ يَستَمِرُّوا فِي حُكمِ القُدسِ وَفَلَسطِينَ طَوِيلًا.
أَغَارَ عَلَيهَا المِصرِيُّونَ مِن جَانِبِ وَالأَشُورِيُّونَ مِن جَانِبٍ, وَصَارَت المَنطِقَةُ كُلُّهَا مَنطِقَةَ مَعَارِكَ وَحُروب؛ خَرَّبَت مُدُنَهَا وَشَتَّتَت سُكَّانَهَا, ثُمَّ ظَهَرَت قُوَّةٌ كَبِيرَةٌ فِي الشَّرقِ هُمْ البَابِليُون فَاقتَحَمُوا المَدِينَةَ سَنَةَ سَبعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمسِ مِئَةٍ قَبلَ المِيلَاد (587 ق م), وَدَخَلَهَا (نَبُوخَذ نَصَّر) مَلِكُ بَابِل فَأَحْرَقَ الهَيكَلَ وَقَوَّضَ أَركَانَهُ, وَهَدَمَ جُدرَانَهُ, وَسَبَى جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالشُّبَّانِ, مِنَ كَانَ مِنهُم قَادِرًا عَلَى حَملِ السِّلَاحِ, أَوْ كَانَ مَاهِرًا فِي صَنعَتِهِ أَوْ حِرفَتِهِ, وَنَقَلَهُم جَمِيعًا إِلَى بِلَادِهِ, وَبَقِيَت أُورشَلِيم مَدِينَةً مُخَرَّبَةً تَحتَ حُكمِ البَابِليِينَ فَترَةً مِنَ الزَّمَن.
ثُمَّ ظَهَرَت قُوَّةُ الفُرسِ وَمَلِكُهُم (قُورَش), فَأَغَارَ عَلَى أُورشَلِيم, وَانَّضَمَّ إِلَيهِ أَشتَاتُ اليَهُود انتِقَامًا مِنَ البَابِلِيِّينَ, فَسَمَحَ لَهُم حِينَئذٍ بِالعَودَةِ إِلَى أُورشَلِيم, وَبَنَى لَهُم فِيهَا مَعبَدًا؛ وَهَذا مَا يُسَمُّونَهُ الهَيكَل الثَّانِي.
وَكَمَا أُحرِقَ وَدُمِّرَ الهَيكَلُ الأَوَّلُ؛ أُحرِقَ وَدُمِّرَ الهَيكَلُ الثَّانِي, وَذَلِكَ عِندَمَا جَاءَ الإِغرِيقُ وَحَكَمُوا أُورشَلِيم, جَاءَ (الإِسكَنْدَرُ المَقدُونِيُّ) أَوَّلًا, وَكَانَ شَابًّا تَتَلْمَذَ عَلَى (أَرِسطُو) وَفَلَاسِفَةِ اليُونَان, وَكَانَ يَحلُمُ بِأَنْ يَنشُرَ حَضَارَةَ اليُونَانِ فِي بِلَادِ الشَّرق, وَلِهَذَا استُقْبِلَ فِي البِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا بِشَيءٍ مِنَ التَّرحِيب -حَدَثَ هَذَا عِندَمَا جَاءَ إِلَى مِصرَ, وَحَدَثَ مِثلُهُ عِندَمَا وَصَلَ جَيشُهُ إِلَى أُورشَلِيم- فَوَجَدَ أَحبَارَ اليَهُودِ فِي انتِظَارِهِ مُرَحِّبِينَ, وَأَسرَفُوا فِي التَّرحِيبِ؛ فَأَعلَنُوا أَنَّ كُلَّ مَولُودٍ يَهودِيٍّ فِي تِلكَ السَّنَةِ يُسَمَّى بِالإسكَندَرِ.
وَلَمْ يَدُمْ الوُدُّ بَينَ اليُونَان وَاليَهُود طَوِيلًا, فَجَاءَ أَحَدُ خُلَفَاءِ الإِسكَنْدَر وَأَذَلَّ اليَهُودَ؛ هَدَمَ الهَيكَلَ, وَأَقَامَ مَكَانَهُ تِمثَالًا لِرَئِيسِ آلِهَةِ اليُونَان, وَأَمَرَ بِأَنْ تُذبَحَ فِي هَذَا المَعبَدِ الخَنَازِير, وَحَظَرَ عَلَى اليَهُودِ الاخْتِتَان, وَأَجبَرَهُم عَلَى العَمَلِ يَومَ السَّبتِ, وَكَانَت عُقُوبَةُ مَن يُخَالِفُ هَذَا هِيَ الإِعدَامُ, وَظَلَّ الأَمْرُ هَكَذَا حَتَّى دَخَلَ الرُّومَانُ مَدِينَةَ القُدسِ, وَكَانَ هَذَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ قَبْلَ المِيلَادِ (63 ق م).
وَرَحَّبَ اليَهُودُ بِالرُّومَانِ مِثلَمَا رَحَّبُوا مِن قَبْلُ بِاليُونَانِ, فَأَقَامَ الحَاكِمُ الرُّومَانِيُّ (هِيرُودِس) مَعبَدًا كَبِيرًا يُسَمُّونَهُ هُمْ الهَيكَلَ الثَّالِثَ, وَلَمْ يَكُن مَعبَدًا يَهُودِيًّا؛ وَإِنْ كَانَ يُسمَحُ لِليَهُودِ بِدُخُولِ بَعضِ أَرجَائِه, كَانَ مَعبَدًا رُومَانِيًّا, بُنِيَ عَلَى الطِّرَازِ الرُّومَانِيِّ وَعَلَى مِسَاحَةٍ تَبلُغُ عِشرِينَ فَدَّانًا, وَكَانَت الأَلعَابُ الأُولُمْبِيَّةُ وَمُسَابَقَاتِ الأُولُمْبِيَّاتِ تُقَامُ بِهِ, وَكَانَت الحَفلَاتُ السَّاهِرَةُ تُقَامُ بِهِ أَيضًا تَكرِيمًا لِضُيُوفِ المَدِينَةِ مِنَ الكُبَرَاءِ.
ثُمَّ سَاءَت العَلَاقَاتُ بِينَ اليَهُودُ وَالرُّومَانُ, فَأَمَرَ الإِمبِرَاطُورُ الرُّومَانِيُّ (نِيرُون) بِأَنْ تُحرَقَ أُورشَلِيم كَمَا أُحرِقَت رُومَا نَفسُهَا, وَتَمَّ هَذَا عَلَى يَدِ أَحَدِ القُوَّادِ الرُّومَان الَّذِي أَشعَلَ النَّارَ فِي المَدِينَةِ فَظَلَّت مُشتَعِلَةً شَهرًا كَامِلًا!!
وَأَمَرَ بِهَدْمِ ذَلِكَ الهَيكَل -وَمَا كَانَ هَيكَلًا وَإِنَّمَا كَانَ مَعبَدًا وَثَنِيًّا رُومَانِيًّا-, فَلَمْ يَبْقَ مِنهُ إِلَى حَائِط يَقُولُونَ هُمْ عَنهُ هُوَ (حَائِطُ المَبْكَى), وَذَبَحَ جُنُودُهُ كُلَّ مَنْ وَجَدُوهُ فِي المَدِينَةِ مِنَ اليَهُودِ, وَكَانَ هَذَا سَنَةَ سَبعِينَ بَعْدَ المِيلَاد(70 م), وَقَرَّرَ الحَاكِمُ الرُّومَانِيُّ إِلغَاءَ اسمِ أُورشَلِيم وَأَطْلَقَ عَلَى المَدِينَةِ اسْمًا جَدِيدًا فَسَمَّاهَا (إِيلِيَا كَابْيتُولِينَا), وَظَلَّت تُعرَفُ بِهَذَا الاسْمِ حَتَّى دَخَلَ المُسلِمُونَ المَدِينَةَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّ مِئةٍ مِنَ المِيلَادِ (636 م), وَلِهَذا تَجِدُ فِي (العَهدِ العُمَرِيُّ) نَصًّا عَلَى أَنَّهُ عَهِدُ الأَمَانِ لِأَهلِ إِيلِيَا, وَهُوَ الاسْمُ الجَدِيدُ الَّذِي غُيَّرَ اسْمُ المَدِينَةِ القَدِيمَةِ إِلَيهِ.
هَذِهِ إِلْمَامَةٌ سَرِيعَةٌ جِدًّا بِتَارِيخِ مَدِينَةِ القُدسِ أَوْ بِعَلَاقَةِ اليَّهُودِ بِالقُدسِ, وَمِنهَا تَتَبَيَّنُ أَنَّ آخِرَ مَعبَدٍ يَهُودِيٍّ -أَوْ إِنْ شِئتَ الدِّقَّةَ فَقُلْ تَتَبَيَّنُ أَنَّ آخِرَ مَعْبَدٍ سُمِحَ لِليَهُودِ بِدُخُولِهِ- وَكَانَ مَعبَدًا رُومَانِيًّا وَثَنِيًّا, فَسُمِحَ لَهُم بِدُخولِه وَمُمَارَسَةِ الطُّقُوسِ فِي بَعضِ أَرجَائِهِ؛ هُوَ مَا سَمَّوهُ بِالهَيكَلِ الثَّالِثِ, الذِي أَحرَقَهُ الرُّومَانُ وَهَدَمُوهُ وَنَهَبَ جُنُودُهُم مَا فِيهِ فِي سَنَةِ سَبعِينَ مِنَ المِيلَادِ (70 م), أَيْ: قَبلَ دِخُولِ المُسلِمِينَ بِأكثَرَ مِن خَمسَةِ قُرونٍ وَنِصفِ قَرنٍ!!
لمَّا دَخَلَ المُسلِمُونَ المَدِينَةَ تَجَوَّلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- مَعَ (صَفَرونيُوس) وَهُوَ أُسقُف المَدِينَةِ, تَجَوَّلَ مَعَهَ لِيَرَى المَعَالِمَ -مَعَالِمَ المَدِينَةِ- لَمْ يَكُن هُنَالِكَ مَعبَدٌ وَلَا هَيكَلٌ يَهُودِيٌّ وَاحِدٌ, اندَثَرَ هَذَا كُلُّه مُنذُ قُرُونٍ وَقُرُون!!
وَمَعلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم- وَعَلَى رَأسِهِم عُمَرُ -رَضِوَانُ اللَّهُ عَلَيهِ- أَقَرُّوا النَّصَارَى عَلَى مَا كَانَ هُنَالِكَ مِن مَعَابِدِهِم وَلَمْ يَمَسُّوهَا بِسُوءٍ, فَلَم يَهدِمُوا مِنهَا شَيئًا, وَلَمْ يَستَولُوا مِنهَا عَلَى شَيءٍ, فَلَوْ كَانَ لِليَهُودِ مَعبَدٌ فِي مَدِينَةِ القُدسِ عِندَمَا فَتَحَهَا المُسلِمُونَ وَدَخَلَهَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيهِ- وَدَخَلَهَا بَعدُ؛ لَأَبقَى ذَلِكَ عَلَى حَالِهِ, وَلَكِن لَمْ يَبقَ هُنَالِكَ شَيءٌ, وَمَعَ ذَلِكَ فَهُم يَدَّعُونَ الحَقَّ التَارِيخِيَّ فِي المَدِينَةِ, وَيَقُولُونَ إِنَّهُم أَحَقُّ بِهَا وَأَهلُهَا, وَأَنَّهَا مِلْكٌ خَالِصٌ لَهُم يُقَاتِلُونَ عَلَيهِ؛ إِذْ هِيَ مَوعُودُ الرَّبِّ –بِزَعمِهِم- فَهُم كَذَبَةٌ فِي ذَلِكَ.