تفريغ مقطع : هكذا تكون الراحة في الصلاة... وحقيقة الافتقار إلى الله
وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ؛ مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَسُجُودَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ؛ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ)).
وَقَالَ حَسَّانُ بنُ عَطِيَّةَ: ((إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونَانِ فِي الصَّلَاةِ الوَاحِدَةِ وَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا فِي الفَضْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُقْبِلٌ بِقَلْبِهِ عَلَى اللَّهِ –عَزَّ وَجَلَّ-، وَالآخَرُ سَاهٍ غَافِل، فَإِذَا أَقْبَلَ العَبْدُ عَلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَاب؛ لَمْ يَكُن إِقْبَالًا وَلَا تَقْرِيبًا، فَمَا الظَّنُّ بِالخَالِقِ –عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الخَالِقِ –عَزَّ وَجَلَّ-، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابُ الشَّهَوَاتِ وَالوَسَاوِس، وَالنَّفْسُ مَشْغُوفَةٌ بِهَا، مَلْأَى مِنْهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ إِقْبَالًا، وَقَدْ أَلْهَتْهُ الوَسَاوِسُ وَالأَفْكَارُ، وَذَهَبَت بِهِ كُلَّ مَذْهَب؟)). وَهَذَا الأَثَرُ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ المُبَارَكِ فِي كِتَابِ ((الزُّهْدِ)) لَهُ.
وَالعَبْدُ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ غَارَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ فِي أَعْظَمِ مَقَامٍ، وَأَقْرَبِهِ وَأَغْيَظِهِ لِلشَّيْطَانِ، وَأَشَدِّهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ يَحْرِصُ وَيَجْتَهِدُ كُلَّ الاجْتِهَادِ أَنْ لَا يُقِيمَهُ فِيهِ، بَلْ لَا يَزَالُ بِهِ يَعِدْهُ وَيُمَنِّيهِ وَيُنْسِيهِ، وَيَجْلِبُ عَلَيْهِ بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ حَتَّى يُهَوِّنَ عَلَيْهِ شَأْنَ الصَّلَاةِ؛ فَيَتَهَاوَنُ بِهَا فَيَتْرُكَهَا.
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَصَاهُ العَبْدُ، وَقَامَ فِي ذَلِكَ المَقَام؛ أَقْبَلَ عَدُوُّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِه، فَيُذَكِّرُهُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِيهَا، حَتَّى رُبَّمَا كَانَ قَدْ نَسِيَ الشَّيءَ وَالحَاجَةَ، وَأَيِسَ مِنْ تَذَكُّرِهَا، فَيُذَكِّرُهُ إِيَّاهَا فِي الصَّلَاةِ؛ لِيَشْغَلَ قَلْبَهُ بِهَا، وَيَأْخُذَهُ عَنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيَقُومَ فِي الصَّلَاةِ بِلَا قَلْبٍ، فَلَا يَنَالُ مِنْ إِقْبَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَتِهِ وَقُرْبِهِ مَا يَنَالُهُ المُقْبِلُ عَلَى رَبِّهِ, الحَاضِرُ بِقَلْبِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ مِثْلَ مَا دَخَلَ فِيهَا؛ بِخَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ وَأَثْقَالِهِ، لَمْ تُخَفِّف هَذِهِ الصَّلَاةُ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ أَثْقَالِهِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تُكَفِّرُ سَيِّئَاتِ مَنْ أَدَّى حَقَّهَا، وَأَكْمَلَ خُشُوعَهَا، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ.
فَهَذَا إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ؛ وَجَدَ خِفَّةً مِنْ نَفْسِهِ، وَأَحَسَّ بِأَثْقَالٍ قَدْ وُضِعَت عَنْهُ، فَوَجَدَ نَشَاطًا وَرَاحَةً وَرَوْحًا، حَتَّى يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا قُرَّةَ عَيْنِهِ وَنَعِيمُ رَوْحِه، وَجَنَّةُ قَلْبِهِ، وَمُسْتَرَاحُهُ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَزَالُ كَأَنَّهُ فِي سِجْنٍ وَضِيقٍ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهَا، فَيَسْتَرِيحَ بِهَا لَا مِنْهَا، فَلَيَزَالُ كَأَنَّهُ كَذَلِك حَتَّى يَصِلَ إِلَى رَبِّهِ –جَلَّ وَعَلَا-.
وَالمُحِبُّونَ يَقُولُونَ: نُصَلِّي فَنَسْتَرِيحُ بِصَلَاتِنَا، كَمَا قَالَ إِمَامُهُم وَقُدْوَتُهُم وَنَبِيُّهُم –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((يَا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)) وَلَمْ يَقُل: أَرِحْنَا مِنْهَا.
وَقَالَ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) فَمَنْ جُعِلَت قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ، كَيْفَ تَقَرُّ عَيْنُهُ بِدُونِهَا؟ وَكَيْفَ يَطِيقُ الصَّبْرَ عَنْهَا؟ فَصَلَاةُ هَذَا الحَاضِرِ بِقَلْبِهِ -الَّذِي قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ- هِيَ الَّتِي تَصْعَدُ وَلَهَا نُورٌ وَبُرْهَان، حَتَّى يُسْتَقْبَلَ بِهَا الرَّحْمَنُ -عَزَّ وَجَلَّ-، مَعَ حَقِيقَةِ الفَقْرِ للَّهِ تَعَالَى.
وَحَقِيقَةُ الفَقْرِ للَّهِ؛ أَلَّا تَكُونَ لِنَفْسِكَ وَلَا يَكُونَ لَهَا مِنْكَ شَيْء بِحَيْثُ تَكُونُ كُلُّكَ للَّهِ, وَإِذَا كُنْتَ لِنَفْسِكَ فَثَمَّ مِلْكٌ وَاسْتِغْنَاءٌ مِنَافٍ لِلْفَقْرِ.
وَالفَقْرُ الحَقِيقِيُّ: دَوَامُ الافْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ يَشْهَدَ العَبْدُ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ فَاقَةً تَامَّةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَوْلَاهُ؛ يَجِدُهَا فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ, مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَفِي كُلِّ حِينٍ وَحَال.
نَسْأَلُ اللَّهَ رَبَّ العَالمِينَ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا أَجْمَعِينَ, وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ, وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَ نَهْجَهُم وَصَارَ بِسُنَّتِهِم إِلَى يَوْمِ الدِّين.
التعليقات
مقاطع قد تعجبك