«اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم»
لشيخِ الإسلامِ ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-.
تَعْلِيقُ العَلَّامَة: مُحَمَّد سعيد رسلان –حفظه الله-.
«تنبيه مُهم جدًّا: كلُّ الكلامِ الذي بِاللونِ
الأَحْمَرِ هُوَ مِن تَعْلِيقِ وَتَحْقِيقِ الشيخِ العَلَّامة مُحَمَّد سَعِيد
رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.»
فصل: في الأعياد
عناصر الموضوع:
***فصل:
في أعياد الكفار والأعاجم.
*بَيَانُ أنَّ مُوَافَقَتَهُم فِي أَعْيَادِهِم لَا تَجُوزُ مِن طَرِيقيْن.
*وُجوهُ الاسْتدلالِ مِن السُّنَّةِ عَلَى أنَّ مُوَافَقَتَهُم في
أَعْيَادِهِم لَا تَجُوزُ.
*بَيَانُ أَنَّ مُسَمَّى العِيدِ يَجْمَعُ أُمُورًا.
*بَيَانُ أنَّ أَعْيَادَ الكُفَّارِ كُلَّهَا في الإسلامِ مِن جِنْسٍ
وَاحِدٍ.
*تَتِمَّةُ وجوهِ الاستدلالِ مِن السُّنَّةِ على أنَّ مُوَافَقَتَهُم
في أَعْيَادِهِم لَا تَجُوزُ.
*لنَّهِيُ عن مُوَافقتِهِم في أعيادِهِم بالإجماعِ والآثَارِ.
فَصْلٌ: في الأعياد
طُرُقُ
عدمِ جوازِ مُوَافقتِهِم في أعيادِهِم
الطريقُ الأولُ: أنه موافقةٌ لأهلِ الكتابِ فيما ليسَ
في دينِنَا
إذا
تقرَّرَ هذا الأصلُ في مشابهتِهِم فنقول:
موافقتُهُم
في أعيادِهِم لا تجوز مِن طريقيْن:
الطريقُ
الأولُ:
هو ما تَقَدَّمَ مِن أنَّ هذا موافقةٌ لأهلِ الكتابِ فيما ليس في دينِنَا، ولا
عادة سلفِنَا، فيكونُ فيه مفسدةُ موافقتِهِم، وفي تَرْكِهِ مصلحةُ مخالفتِهِم، حتى
لو كان موافقتُهُم في ذلك أمرًا اتفاقيًّا، ليس مأخوذًا عنهم؛ لكان المشروعُ لنا
مخالفتُهُم؛ لِمَا في مُخالفتِهِم مِن المصلحة -كَمَا تَقَدَّمَت الإشارةُ إليه-،
فَمَنْ وَافَقَهُم فَوَّتَ على نفسِهِ هذه المَصلحة، وإنْ لم يكن قد أتى بمفسدةٍ،
فكيف إذا جَمَعَهُمَا؟
فَوَّتَ المصلحةَ على نفسهِ، وجلبَ وأتى بالمفسدةِ إلى نفسهِ.
ومِن
جِهَةِ أنه مِن البدعِ المُحْدَثَةِ، وهذه الطريقُ لا رَيْبَ أنها تَدُلُّ على
كراهةِ التَّشَبُّهِ بهم في ذلك، فإنَّ أقلَّ أحوالِ التَّشَبُّهِ بهم: أنْ يكونَ
مكروهًا، وكذلك أقلُّ أحوالِ البدع: أنْ تكونَ مكروهة، وَيَدُلُّ كثيرٌ منها على
تحريمِ التَّشَبُّهِ بهم في العيدِ، مِثْلُ قولِهِ ﷺ «مَن تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم»، فإنَّ
مُوجِبَ هذا: تحريمُ التَّشَبُّهِ بهم مُطْلَقًا.
وكذلك
قولُهُ: «خَالِفُوا المُشْرِكِينَ»، ونحو ذلك، ومِثْلُ
ما ذَكَرْنَا مِن دلالةِ الكتابِ والسُّنَّةِ على تحريمِ سبيلِ المغضوبِ عليهم
والضَّالين، وأعيادُهُم مِن سبيلِهِم، إلى غيرِ ذلك مِن الدلائل.
فَمَن
انعطفَ على ما تَقَدَّمَ مِن
الدلائل العامة –والانعطاف: الانثناءُ والمَيْل، ومعنى العبارة
هنا: أنَّ مَن رَجَعَ إلى الأدلةِ ومالَ إليها؛ تبيَّنَ له الحقُّ-.
فَمَن
انعطفَ على ما تَقَدَّمَ مِن
الدلائل العامة نَصًّا وإجماعًا وقياسًا، تَبيَّنَ له دخولَ هذه المسألة في كثيرٍ
مِمَّا تَقَدَّمَ مِن الدلائلِ، وَتَبيَّنَ له أنَّ هذا مِن جِنْسِ أعمالِهِم،
التي هي دينُهُم، أو شِعَارُ دينِهِم الباطل، وأنَّ هذا مُحَرَّمٌ كلهُ بخلافِ ما
لم يَكُن مِن خصائصِ دينِهِم ولا شعارًا له، مِثْل نَزْع النَّعْليْن في الصلاةِ
فإنهُ جائز، كما أنَّ لِبْسَهُمَا جائز، وتَبيَّنَ له أيضًا: الفَرْقُ بين ما بَقينَا
فيه على عادتِنَا، لم نُحْدِث شيئًا نكونُ به مُوافِقِينَ لَهُم فيه، وبَيْنَ أنْ
نُحْدِثَ أعمالًا أصلُهَا مأخوذٌ عنهم، قَصَدْنَا مُوَافَقَتَهُم أو لم نقصد.
فهذا هو الطريقُ الأولُ.
وأمَّا
الطريقُ الثاني الخاصُّ في نفسِ أعيادِ الكُفارِ، والشيخُ –رحمهُ اللهُ كما مرَّ مع ما ذكرَ مِن الأدلةِ العامة، وذكرَ مِن
القواعدِ الشاملةِ في وجوبِ مخالفةِ الكُفار، وفي النهي عن مُشابهتِهِم، الشيخُ مع
ما ذكرَ مِن ذلك؛ ذكرَ أكثرَ مِن مرة أنَّ الذي حملَ على التصنيفِ إنما هو مشابهةُ
المسلمينَ للكافرينَ والمشركين مِن أهلِ الكتابِ وغيرِهِم في أعيادِهِم.
ولم يكُن ذلك عند سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ بِمَرَّةٍ، وَإِنَّمَا
جَدَّ، وَلَعَلَّهُ كانَ فَاشيًا في عَهْدِهِ –رَحِمَهُ اللهُ؛ فَكَتَبَ الكِتَابَ لأَجْلِ ذلك، فَصَارَ اليَوْمَ
كَأَنَّهُ مِن الفُرُوضِ التي فَرَضَهَا اللهُ ربُّ العَالَمِينَ والوَاجِبَات
التي أَوْجَبَهَا ومِن السُّنَنِ التي سَنَّهَا الرَّسُولُ –صلى الله عليه وسلم- وَنَدَبَ إِلَيْهَا!!
الطريقُ
الثَّانِي: الكتابُ والسُّنَّةِ والإجماع والاعتبار
النهيُ
عن موافقتِهِم في أعيادِهِم بالكتابِ:
وأمَّا
الطريقُ الثاني الخاص
في نَفْسِ أعيادِ الكُفَّارِ: فالكتابُ والسُّنَّةُ والإجماع
والاعتبار.
*أَمَّا الكتابُ:
وذكرَ الدلائلَ على حُرمةِ
مشاركةِ الكُفارِ في أعيادِهِم؛ لأنها مِن الزُّورِ.
فَمِمَّا
تَأَوَّلَهُ غيرُ واحدٍ مِن التابعين وغيرُهُم، في قولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72].
فَرَوَى أَبُو بَكْر الخَلَّال في «الجَامِعِ» بِإِسْنَادِهِ
–وهو كتابٌ ألَّفَهُ
الخلَّالُ جمعَ فيه مسائلَ الإمامِ أحمد وعلومَهُ وأقوالَهُ وآثارَهُ كما ذكرَ ابن
الجوزي في «مناقب الإمام»-، فقال الخلَّالُ في «الجامعِ
بإسنادِهِ عن مُحَمَّد بن سِيرينَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ
لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾، قالَ: «هو الشَّعانِين».
والشعانين: عيدٌ للنصارى يُقيمونَهُ يومَ الأحد السابقَ لعيدِ الفُصح،
ويحتفلون فيه بحملِ السَّعفِ، ويزعمونَ أنَّ ذلك ذِكْرَى لدخولِ المسيحِ بَيْتَ
المَقْدِسِ.
وكذلك ذُكِرَ
عن مُجَاهِد قال: «هو أعيادُ المُشركين».
وكذلكَ
عن الربيعِ بن أَنَس قالَ: «أعيادُ
المُشركين».
كلُّ ذلك في تأويلِ قولِهِ تعالى: ﴿الزُّورَ﴾ مِن قولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ
لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾
وفي
معنى هذا: ما رُوِيَ عن عكرمة قال: «لَعِبٌ
كانَ لَهُم في الجَاهليَّةِ».
وقال القاضي أبو يَعْلَى: «مسألة: في النهيِ عن حضورِ أعيادِ المُشركين».
رَوَى
أبو الشَّيْخ الأصبهاني بإسنادِهِ في «شروطِ أهلِ الذِّمَّةِ»، عن الضحاك في قولِهِ
تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾، قالَ: «عيدُ
المُشركين».
وبإسنادِهِ
عن أبي سِنَان عن الضَّحاك: «﴿وَالَّذِينَ
لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ كلامُ
الشِّرك».
وبإسنادِهِ
عن جُبَيْر عن الضَّحاك: «﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾، قالَ: هي «أعيادُ المُشركين».
وَرَوَى
بإسنادِهِ، عن عمرو بن مُرَّةَ: ﴿لَا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾:«لا يُمَالِئُونَ أهلَ الشِّركِ على شِرْكِهِم ولا يُخَالِطُونَهُم».
وبإسنادِهِ عن عطاء بن يَسَار قال: قال عُمَرُ: «إيَّاكُم ورِطَانَة –ورَطَانَةَ الأعاجمِ، بكسر الراء وبفتحِهَا- الأعاجِم، وأنْ تَدخُلُوا على
المشركينَ يومَ عيدِهِم في كنائسِهِم». رواه عبد الرزاق،
والبيهقيُّ في «السُّنن»، وإسنادهُ منقطعٌ.
وقَوْلُ هؤلاء التَّابعين: «إنه
أعيادُ الكُفَّارِ» ليسَ مُخَالِفًا
لقَوْلِ بعضِهِم: «إنهُ
الشِّرْكُ»، أو صَنَمٌ كان في
الجاهلية، ولقولِ بعضِهِم: «إنه مجالسُ الخَنَا»، وقولُ بعضِهِم: «إنه الغناء» -وكلُّ ذلك في تفسيرِ قولِهِ تعالى: «﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾؛ لأنَّ
عادةَ السَّلَفِ في تفسيرِهِم هَكَذَا: يَذْكُرُ الرَّجُلُ نَوْعًا مِن أنواعِ المُسَمَّى
لحاجةِ المُسْتَمِعِ إليه، أو ليُنَبِّهَ به على الجِنْسِ،
كَمَا
لو قالَ العجميُّ: مَا الخُبْزُ؟ فَيُعْطَى رَغِيفًا، ويقالُ له: هذا، بالإشارةِ
إلى الجِنْسِ، لا إلى عَيْنِ الرَّغِيفِ.
لَكِنْ قد قالَ قومٌ: «إنَّ المُرَادَ: شهادةُ الزُّورِ
التي هي الكَذِبُ، وهذا فيه نَظَرٌ، فإنه تعالى قال: «﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ولم يَقُل: لا يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ».
والعَرَبُ
تقولُ: شَهدت كذا: إذا حَضرته، كقول ابنِ عبَّاسٍ: «شَهِدْتُ
العيدَ مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وعلى
آله وسلم-». وهذا في «الصحيحيْن».
وَقَوْلُ عُمَر: «الغنيمةُ
لِمَن شَهِدَ الوَقْعَةَ». أخرجه عبد الرزاق والبيهقيُّ،
وهو موقوفٌ صحيح.
وهذا
كثيرٌ في كلامِهِم.
وأمَّا:
شَهِدْتُ بِكَذَا، فَمَعْنَاهُ: أَخْبَرْتُ بِهِ.
ووجهُ تفسيرِ التابعين المَذكورين: أنَّ
الزورَ هو المُحَسَّنُ المُمَوَّهُ، حتى يَظْهَرَ بِخِلَافِ ما هو عَلَيْهِ في
الحقيقةِ، وَمِنْهُ قولُهُ ﷺ
«المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ
ثَوْبَيْ زُورٍ»، لَمَّا
كانَ يُظْهِرُ مِمَّا يعظم به مِمَّا ليس عِنْدَهُ، فالشاهدُ بالزُّورِ يُظْهِرُ كلامًا يُخَالِفُ
الباطن، وَلَهَذَا فَسَّرَهُ السَّلَفُ تَارَةً بِمَا يظهرُ حَسَنُهُ لشُبْهَةٍ،
أو لشهوةٍ، وهو قبيحٌ في الباطنِ، فالشركُ وَنَحْوُهُ: يَظْهَرُ حُسْنُهُ للشُّبْهَةِ،
والغناءُ ونحوُهُ: يَظْهَرُ حُسْنُهُ للشهوةِ.
وَأَمَّا
أعيادُ المُشركين: فَجَمَعَت الشُّبْهَةَ والشَّهْوَةَ،
وهي بَاطِلٌ؛ إِذْ لا مَنْفَعَةَ فِيهَا في الدِّينِ، وما فِيهَا مِن اللَّذَةِ
العاجِلَةِ: فَعَاقِبَتُهَا إلى أَلَمٍ، فَصَارَت زُورًا، وحضورُهَا: شُهودُهَا،
وإذا كانَ اللهُ قد مَدَحَ تَرْكَ شُهودِهَا، الذي هو مُجَرَّدُ الحضورِ برؤيةٍ أو
سماعٍ، فكيفَ بالمُوافَقَةِ بِمَا يَزِيدُ على ذلك، مِن العملِ الذي هو عَمَلُ الزُّورِ،
لا مُجَرَّدُ شُهودِهِ؟
ثُمَّ مُجَرَّدُ هذه
الآية، فيها الحَمْدُ لهؤلاءِ والثَّنَاءُ عليهم، وذلك وَحْدُهُ يُفِيدُ الترغيبَ
في تَرْكِ شهودِ أعيادِهِم، وغَيْرِهَا مِن الزُّورِ، ويَقتضي النَّدْبَ إلى تَرْكِ
حضورِهَا، وقد يُفيدُ كراهيةَ حضورِهَا لتسميةِ الله لَهَا زُورًا.
فَأمَّا تحريمُ شهودِهَا مِن هذه الآية فَفِيهِ نَظَرٌ،
ودلالتُهَا على تحريمِ فِعْلِهَا أَوْجَه؛ لأنَّ اللهَ تعالى سَمَّاهَا زُورًا،
وقد ذَمَّ مَن يقولُ الزور، وإنْ لم يَضُرَّ غيرَهُ
لقولِهِ في المُتَظَاهِرِينَ: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ
وَزُورًا﴾ [المجادلة: 2]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور﴾ [الحج: 30]، فَفَاعِلُ الزُّورِ كَذَلِكَ.
وَقَد يُقَالُ: قَوْلُ الزُّورِ أَبْلَغُ مِن
فِعْلِهِ، ولأنهم إذا مَدَحَهُم على مُجَرَّدِ تَرْكِهِم شهودَهُ؛ دَلَّ على أنَّ
فِعْلَهُ مَذمومٌ عندَهُ مَعِيبٌ؛ إذ لو كان فِعْلُهُ جَائِزًا والأفضلُ تَرْكُهُ؛
لَم يَكُن في مُجَرَّدِ شُهودِهِ أو تَرْك شُهودِهِ كبيرُ مَدْحٍ، إذ شُهودُ المُبَاحَاتِ
التي لا مَنْفَعَةَ فيها وَعَدَمِ شهودِهَا،
قليل التأثير.
وَقَد يُقَال: هذا
مبالغةٌ في مدحِهِم؛ إذ كانوا لا يحضرونَ مَجَالِسَ البَطَالَةِ، وإنْ كانوا لا يَفْعَلُونَ
الباطلَ، ولأنَّ اللهَ
تعالى قالَ: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: 63]، فَجَعَلَ هؤلاء المَنْعُوتِينَ
هُم عِبَادُ الرَّحْمَنِ، وعبوديةُ الرَّحْمَنِ واجبةٌ، فتكونُ هذه الصِّفَاتُ
واجبة.
وفيه نَظَرٌ؛
إذ قَد يُقَالُ: في هذه الصفاتِ ما لا يَجِبُ، ولأنَّ المَنْعُوتِينَ هُم المُسْتَحِقُّونَ
لَهَذَا الوَصْفِ على وَجْهِ الحقيقةِ والكمالِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 2]، وَقَالَ
تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
وَقَالَ ﷺ «لَيْسَ المِسْكِينُ
الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَان». أخرجه البخاريُّ مِن روايةِ أبي هريرةَ –رضي اللهُ عنه-.
وَقَالَﷺ:
«مَا تُعِدُّونَ المُفْلِسَ فِيكُم»، وَقَالَﷺ:
«مَا تَعُدُّونَ
الرَّقُوبَ». وَنَظَائِرُهُ كثيرةٌ.
فَسَواءٌ
كانت الآيةُ دالَّةً على تحريمِ ذلك، أو كراهتِهِ أو استحباب تَرْكِهِ: حَصَلَ أصلُ
المقصود؛ إذ مِن المقصود: بيانُ استحبابِ تَرْكِ مُوَافقتِهِم أيضًا؛ فإنَّ بعضَ
النَّاسِ قد يَظُنُّ استحبابَ فِعْلِ ما فيه مُوَافَقَة لَهُم؛ لِمَا فيه مِن
التوسيعِ على العيالِ، أو مِن إقرارِ النَّاسِ على اكتسابِهِم، ومصالحِ دُنْياهُم،
فإذا عُلِمَ استحبابُ تَرْكِ ذلك: كان أَوَّلُ المقصود.
استدلَّ شيخُ الإسلامِ –رحمهُ
اللهُ- بقولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ
لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ وما جاء عن
السلفِ مِن التابعين وغيرِهِم في تأويلِهِم ﴿الزُّورَ﴾ هاهنا في بعضِ الأقوالِ بأنها أعيادُ المشركين، فأثنى اللهُ –تبارك وتعالى- على مَن لم يشهدْهَا، فكيف بمَن شَهِدَهَا ووافقَهُم على
ما فيها، فذكرَ قولَهُ تعالى ﴿وَالَّذِينَ
لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾، وذكرَ الإيرادات عليها،
ودفعَهَا جميعًا –رحمهُ اللهُ-، لمَّا شرعَ
في سردِ الأدلةِ من الكتابِ والسُّنةِ والإجماعِ والاعتبارِ في وجوبِ المخالفةِ في
أعيادِ المشركين، فذكر مِن آياتِ الكتابِ العزيز ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾.
ثُمَّ شَرعَ بعد ذلك في بيانِ الأدلةِ التي تنه عن شهودِ أعيادِ
المشركين مِن السُّنة:
وَأَمَّا السُّنَّةُ:
فَرَوَى
أَنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
قال: قَدِمَ رسولُ اللهِ ﷺ
المَدينةَ وَلَهُم يَوْمَان يَلْعَبُونَ فِيهمَا، فَقَالَ: «مَا هَذَان اليَوْمَان؟».
قَالُوا:
كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الجَاهِليَّةِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُم بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمُ
الأَضْحَى وَيَوْمُ الفِطْرِ». رَوَاهُ أَبو دَاود
بِهَذَا اللَّفْظِ.
حَدَّثَنَا
موسى بن إسماعيل، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ عن حُميْد، عن أنس، وَرَوَاهُ أحمد والنسائيُّ وهذا إسنادٌ على شَرْطِ
مُسلم.
والحديثُ أخرجهُ أحمد والنسائيُّ والحاكمُ والبيهقيُّ، وهو حديثٌ صحيح.
فَوَجْهُ
الدَّلَالَةِ: أنَّ العِيديْن الجَاهلييْن لَم يُقِرَّهُمَا
رسولُ اللهِ ﷺ
ولا تَرَكَهُم يَلْعَبُونَ فِيهِمَا على العادةِ، بَلْ قَالَ: ﷺ: «إنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُم
بِهِمَا يوميْن آخريْن»، والإبدالُ
مِن الشَّيءِ يَقتضي تَرْكَ المُبْدَلِ منه؛ إذ لا يُجْمَعُ بينَ البَدَلِ والمُبْدَلِ
منه، ولهذا لا تُسْتَعَمَلُ
هذه العبارةُ إلَّا فيما تُرِكَ اجتماعُهُمَا، كقولِهِ سبحانهُ: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي
وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الكهف: 50].
وقولُهُ: ﴿وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ
أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ: 16].
وَقَوْلُهُ: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ﴾ [البقرة: 59].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾
[النساء: 2].
ومنهُ
الحديثُ في المَقبورِ، فَيُقَالُ
له: «انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ خَيْرًا مِنْهُ مَقْعَدُا فِي الجَنَّةِ»،
ويُقَالُ للآخرِ: «انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ فِي الجَنَّةِ، أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا
مِنَ النَّارِ». والأحاديثُ في هذا مرويةٌ في «الصحيحين»
و«السُّنَن» بألفاظٍ متعددةٍ.
وقولُ عُمَر -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- لِلَبِيد: «مَا فَعَلَ شِعْرُكَ؟
قَالَ: أَبْدَلَنِي
اللهُ به البَقَرَة وآل عمران». رواهُ ابنُ
سعدٍ في «الطبقات»، وابنُ حجرٍ في «الإصابة» بدون سندٍ.
ولَبِيدٌ –رضي الله عنه- مِن أصحابِ «المُعلَّقات
السَّبعِ»، وكان فحلًا –رحمهُ
اللهُ تعالى- مِن فحولِ الشعراءِ، وقد أسلمَ للهِ –تبارك وتعالى-، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ له: : «مَا فَعَلَ شِعْرُكَ؟
فَيَقُولُ: أَبْدَلَنِي اللهُ به البَقَرَة وآل عمران –رضي
الله عنه-».
وهذا
كثيرٌ في الكلامِ.
فقولُهُ ﷺ
«إنَّ اللهَ قَد أَبْدَلَكُم بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَ» يَقْتَضِي تَرْكَ
الجَمْعِ بينهُمَا، لا سيَّمَا وقولُهُ: «خَيْرًا مِنْهُمَا» يَقْتَضِي الاعتياضَ بِمَا شرعَ لَنَا،
عَمَّا كان في الجاهلية.
وأيضًا
فقولُهُ لَهُم: «إِنَّ اللهَ قَد أَبْدَلَكُم» لَمَّا سَأَلَهُم عن
اليوميْن فَأَجَابُوهُ: « بِأَنَّهُمَا يَومَان
كانوا يَلعبونَ فِيهمَا في الجاهلية»؛ دليلٌ
على أنه نَهَاهُم عنهما اعتياضًا بِيَوميِّ الإسلام؛ إذ لو لم يَقْصِد النَّهي لم
يَكُن ذِكْرُ هذا الإبدالِ مُنَاسِبًا؛
إذ
أصلُ شَرْعِ اليوميْن الإسلامييْن
كانوا يعلمونه ولم يكونوا ليتركوهُ
لأجلِ يَوْمي الجاهلية.
وفي
قولِ أَنَس: «وَلَهُم
يَوْمَان يَلْعَبُونَ فِيهِمَا»، وَقَوْل النَّبيِّ ﷺ «إنَّ اللهَ قَد أَبْدَلَكُم بِهِمَا يَوميْن خيرًا مِنْهُمَا»
دليلٌ على أنَّ أَنَسًا -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ-
فَهِمَ مِن قَوْلِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «أَبْدَلَكُم
بِهِمَا» تَعْوِيضًا
باليوميْن المُبْدَلَيْن.
وأيضًا
فإنَّ ذَيْنكَ اليوميْن الجاهلييْن قد مَاتَا في الإسلامِ، فَلَم يَبْقَ لَهُمَا أَثَرٌ
على عَهْدِ رسولِ اللهِ ﷺ
ولا عَهْدِ خُلفائِهِ،
ولو لم يَكُن قد نَهَى النَّاسَ عن اللَّعِبِ فيهما ونحوِهِ مِمَّا كانوا يفعلونَهُ،
لكانوا قد بَقَوا على العادة؛ إذ العاداتُ لا تُغَيَّرُ إلَّا بِمُغَيِّرٍ يُزِيلُهَا،
لا سيَّمَا وطباعُ النساءِ والصِّبيان، وكثيرٌ مِن النَّاسِ مُتَشَوِّفَةٌ إلى اليومِ الذي يَتخذونَهُ
عِيدًا للبطالةِ واللَّعِبِ.
وَلِهَذَا
قَد يَعْجَزُ كثيرٌ مِن المُلوكِ والرؤساء عَن نَقْلِ النَّاسِ عن عاداتِهِم في
أعيادِهِم؛ لقوةِ مُقتضيِهَا مِن نفوسِهِم، وتَوَفُّرِ هِمَمِ الجماهير على اتخاذِهَا،
فَلَوْلَا قوة المَانِعِ مِن رسولِ اللهِ ﷺ لكانت بَاقية، ولو
على وَجْهٍ ضعيفٍ، فَعُلِمَ أنَّ المَانِعَ القَويَّ منه كان ثابتًا، وكلُّ مَا مَنَعَ
منه النبيُّ مَنْعًا قويًّا كان مُحَرَّمًا؛ إذ لا يعني بِالمُحَرَّمِ إلَّا هَذَا.
وهذا
أَمْرٌ بَيِّنٌ لا شُبْهَةَ فيه،
فإنَّ مِثْلَ ذَيْنِكَ العيديْن، لو عادَ النَّاسُ إليهمَا بِنَوْعٍ مِمَّا كان
يفعلُ فيهما -إنَّ رُخِّصَ فيه- كانَ مُرَاغَمَةً بينه وبين ما نهى عنه، فهو
المطلوب.
والمَحذورُ
في أعيادِ أهلِ الكِتَابيْن التي نُقِرُّهُم عليها، أَشَدُّ مِن المَحذورِ في
أعيادِ الجاهليةِ التي لا نُقِرُّهُم عَلَيْهَا؛ فإنَّ الأُمَّةَ قد حُذِّرُوا مُشَابَهَة
اليهودِ والنَّصَارَى، وأُخْبِرُوا أنْ سيفعلُ قومٌ منهم هذا المَحذورَ، بخلافِ
دينِ الجاهلية، فإنه لا يعودُ إلَّا في آخرِ الدَّهْرِ عند اخترامِ أَنْفُسِ المُؤمنينَ
عُمومًا، ولو لم يَكُن أَشَدَّ منه، فإنه مِثْلُهُ على ما لا يخفى؛ إذ الشَّرُّ
الذي له فَاعلٌ موجود، يُخَافُ على النَّاسِ منه أكثر مِن شَرٍّ لا مُقْتَضَى له قَوي.
فهذا الحديثُ الأولُ يدُلُّ على تحريمِ مشاركتِهِم، وتحريمِ
موافقتِهِم، وتحريمِ مُشابهتِهِم في أعيادِهِم.
الحديث
الثاني: ما رَوَاهُ أبو
داود، قال: حَدَّثَنَا داود بن
رُشَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا شُعيب بن إسحاق عن الأوزاعي، قال: حَدَّثَنِي يحيى
بن أبي كثير، قال: حَدَّثَنِي أبو قلابة، قال: حَدَّثَنِي ثابتُ بن الضَّحاك، قال: نَذَرَ رَجُلٌ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ –بُوانَةُ: هضْبَةٌ بالحجازِ خلفَ ينبُع-، فَأَتَى
النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ.
فَقَالَ
النَّبِيُّ ﷺ: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ
مِن أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟»
قَالُوا:
لَا.
قَالَ:
«هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟»
قَالُوا:
لَا.
قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوْفِ
بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا
لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ».
أَصْلُ
هذا الحديثِ في «الصَّحيحيْن»، وهذا
الإسنادُ على شَرْطِ الصَّحيحيْن، وإسنادُهُ كلُّهُم ثِقَاتٌ مَشاهير، وهو مُتَّصِلٌ
بِلَا عَنْعَنَةٍ.
وبُوَانَةُ:
بِضَمِّ الباءِ المُوحدة مِن أسفلِ، فيه
يقولُ وَضَّاحُ اليمن
أَيَا نَخْلَتِي وَادِي بُوَانَة، حَبَّذَا
|
|
إذا نامَ حُرَّاسُ
النَّخِيلِ جَنَاكُمَا
|
وَسَيأتي
وجهُ الدلالةِ مِنْهُ.
وَقَالَ
أبو داودَ في «سُنَنِهِ»: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بن عليٍّ، قال: حَدَّثَنَا
يزيدُ بن هارون، قال: عبدُ اللهِ بن يزيد بن مِقْسَمٍ الثَّقَفَي -مِن أَهْلِ الطَّائِفِ-،
قال: حَدَّثَتْنِي سَارَة بنت مِقْسَمٍ أَنَّهَا
سَمِعَت ميمونةَ بِنْتَ كَرْدَمٍ قَالَت:
«خَرَجْتُ
مَعَ أَبِي فِي حِجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَسَمِعْتُ
النَّاسَ يَقُولُونَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَجَعَلْتُ
أُبِدُّهُ بَصَرِي –أي: ألاحِقُهُ به-،
فَدَنَا إِلَيْهِ أَبِي وَهُوَ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ مَعَهُ دِرَّةٌ كَدِرَّةِ
الْكُتَّابِ –والدِّرَّةُ عصًا يتخذُها
مُعَلِّمُ الأطفالِ ليؤدِّبَهُم بها-.
فَسَمِعْتُ
الْأَعْرَابَ وَالنَّاسَ يَقُولُونَ: الطَّبْطَبِيَّةَ، الطَّبْطَبِيَّةَ –الطَّبْطَبِيَّةَ: صوتُ السوطِ وهو يُضربُ به-، فَدَنَا إِلَيْهِ
أَبِي، فَأَخَذَ بِقَدَمِهِ.
قَالَتْ:
فَأَقَرَّ لَهُ، وَوَقَفَ، فَاسْتَمَعَ مِنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ وُلِدَ لِي وَلَدٌ ذَكَرٌ، أَنْ أَنْحَرَ عَلَى رَأْسِ
بُوَانَةَ فِي عَقَبَةٍ مِنَ الثَّنَايَا –في عقبةٍ: أي في طريقٍ أو مَمرٍّ صعبٍ من الثنايا-
عِدَّةً مِنَ الْغَنَمِ، قَالَ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهَا قَالَتْ: خَمْسِينَ.
فنذرَ ذلك، وأنْ يقومَ بذبحِهَا أو بنحرِها على رأسِ بُوانة.
فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«هَلْ بِهَا مِنَ الْأَوْثَانِ شَيْءٌ؟»
قَالَ:
لَا.
قَالَ:
«فَأَوْفِ بِمَا نَذَرْتَ بِهِ لِلَّهِ».
قَالَتْ:
فَجَمَعَهَا، فَجَعَلَ يَذْبَحُهَا، فَانْفَلَتَتْ مِنْهَا شَاةٌ، فَطَلَبَهَا
وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَوْفِ عَنِّي بِنَذْرِي، فَظَفِرَ بِهَا، فَذَبَحَهَا».
أخرجَهُ أحمد والبيهقيُّ والطبرانيُّ، وهو صحيحٌ
بطُرُقِهِ
قال
أبو داود:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن بَشَّار، قال:
حَدَّثَنَا أبو بكر الحنفي، قال:
حَدَّثَنَا عبد الحميد بن جعفر عن
عمرو بن شعيب، عن ميمونة بنت كَرْدَمٍ بن
سُفيان، عن أبيها.. نحوه مختَصَرا
شيء منه قال: «هَلْ بِهَا وَثَنٌ أَوْ عِيدٌ مِن أَعْيَادٍ
الجَاهليَّةِ؟».
قال:
لا.
قال:
قلت:
إنَّ أُمِّي هذه عَلَيْهَا نَذْر وَمْشٌي، أَفْأَقْضِيهِ
عَنْهَا؟ وَرُبَّمَا قَالَ ابنُ بَشَّارٍ: أَنَقْضِيه عَنْهَا؟
قَالَ: «نَعَم».
وهو صحيح بطُرُقِهِ وشواهدِهِ
وَقال:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا
الحارث بن عبيد أبو قُدامةَ عن عُبيْد الله الأخنسِ عن عمرو بن شعيب، عن
أبيه عن جَدِّهِ، أنَّ امرأةً أَتَت
النَّبيَّ ﷺ
فَقَالَت: يَا
رَسُولَ اللهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ.
قَالَ: «أَوْفَِ بِنَذْرِكَ».
قَالَت: إِنِّي نَذَرْتُ أنْ
أَذْبَحَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا -مَكَانٌ كانَ يَذْبَحُ فِيهِ أَهْلُ الجَاهليةِ-.
قال: «لِصَنَم؟».
قالت: لا.
قال: «لِوَثَنٍ؟»
قالَت: لَا.
قال: «أَوْفِ بِنَذْرِكِ».
والحديثُ صحيحٌ بشواهدِهِ.
فَوَجْهُ
الدلالةِ:
أنَّ هذا النَّاذِرَ كانَ قَد نَذَرَ أنْ يَذْبَحَ نعما: إِمَّا إِبَلًا، وإِمَّا
غَنَمًا، وإِمَّا كانت قَضيَّتَيْن، بِمَكَانٍ سَمَّاهُ، فَسَأَلَهُ النبيُّ ﷺ:
«هَل كانَ بِهَا وَثَنٌ مِن أَوْثَانِ الجَاهليةِ يُعْبَدُ؟»
قالَ:
لا.
قال: «فَهَل كانَ بِهَا عِيدٌ مِن أعيادِهِم؟»
قال:
لا.
فقال: «أَوْفِ بِنَذْرِك»، ثُمَّ قَالَ: «لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصيةِ اللهِ».
وَهَذَا
يَدُلُّ على أنَّ الذَّبْحَ بِمَكَانِ عيدِهِم وَمَحَلِّ أوثانِهِم معصية للهِ، مِن
وجوهٍ:
أحدُهَا:
أنَّ قَوْلَهُ: « فَأَوْفِ بِنَذْرِك» تعقيبٌ للوَصْفِ بِالحُكْمِ
بِحَرْفِ الفَاء، وذلك يَدُلُّ على أنَّ الوَصْفَ هو سَبَبُ الحُكْمِ؛ فيكونُ سَبَبُ
الأمرِ بالوفاءِ: وجود النَّذْرِ خاليًا مِن هذيْن الوصفيْن، فيكونُ الوَصْفَانِ مَانعيْنِ مِن الوفاءِ، ولو لم
يَكُن معصيةً لَجَازَ الوفاءَ به.
الوجهُ
الثاني:
أنه عَقَّبَ ذلك بقولِهِ: «لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعصيةِ اللهِ»، وَلَوْلَا اندراجُ الصورةِ
المسئولِ عنها في هذا اللفظِ العام، وإلَّا لم يَكُن في الكلامِ ارتباط.
والمنذورُ
في نَفْسِهِ -وإنْ لم يَكُن معصية-، لَكِن لَمَّا سَأَلَهُ النَّبيُّ ﷺ
عن الصورتيْن قالَ له: « فَأَوْفِ بِنَذْرِك»،
يعني: حيثُ ليسَ هناك ما يُوجِبُ تحريمَ الذَّبْحِ هناك؛ فكانَ جَوَابُهُ ﷺ
فيه أَمْرًا بالوفاءِ عند الخلوِّ مِن هذا، ونَهَى عنه عند وجودِ هذا، وأصلُ
الوفاءِ بالنَّذْرِ معلومٌ، فَبَيَّنَ ما لا وفاءَ فيه، واللفظُ العام إذا وَرَدَ
على سَبَبٍ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ السببُ مُنْدرِجًا فيه.
الوجهُ
الثالث:
أنه لو كان الذَّبْحُ في مَوْضِعِ العيدِ جَائِزًا لسَوَّغَ ﷺ
للنَّاذِرِ الوفاءَ به، كما سَوَّغَ لِمَن نَذَرَت الضَّرْبَ بالدُّفِّ أنْ تَضْرِبَ به، بَل
لأوْجَبَ الوفاءَ به؛ إذ كانَ الذَّبْحُ بالمكانِ المَنذورِ واجبًا، وإذا كان
الذبحُ بمكانِ عيدِهِم مَنهيًّا عنه، فكيف الموافقةُ في نَفْسِ العيدِ بِفِعْلِ
بعضِ الأعمالِ التي تُعْمَلُ بِسَبَبِ عيدِهِم؟
يُوضِّحُ
ذلك:
أنَّ العيدَ اسمٌ لِمَا يَعُودُ مِن الاجتماعِ العامِ على وجهٍ مُعتادٍ، عائدٍ: إِمَّا
بِعَوْدِ السَّنةِ، أو بِعَوْدِ الأسبوعِ، أو الشهرِ، أو نحوِ ذلك.
فالعيدُ:
يجمعُ أمورًا:
*منها:
يومٌ عَائِدٌ كيومِ الفِطْرِ، ويوم
الجمعة.
*ومنها:
اجتماعٌ فيه.
*ومنها:
أعمالٌ تَتَبْعُ ذلك:
مِن العباداتِ، والعاداتِ، وقد يختصُّ العيدُ بِمَكَانٍ بِعَيْنِهِ، وقد يكونُ مُطلقًا،
وكلُّ من هذه الأمور قد تُسَمَّى عيدًا.
*فالزمانُ:
كقولِهِ ﷺ
ليومِ الجمعة: «إنَّ هَذَا يوم جَعَلَهُ اللهُ للمُسْلِمِينَ عيدًا».
*والاجتماعُ
والأعمال:
كقولِ ابنِ عَبَّاس: «شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ».
*والمكانُ:
كقولِهِ ﷺ:
« لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا».
وَقَد
يَكُونُ لَفْظُ: «العيدُ»
اسْمًا لمَجموعِ اليومِ والعملِ فيه، وهو الغالبُ، كقولِ النَّبيِّ ﷺ:
«دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْر، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ
هذا عِيدُنَا».
فَقَولُ
النَّبيِّ ﷺ:
«هَلْ بِهَا عِيدٌ مِن أعيادِهِم»؛
يُرِيدُ اجتماعًا مُعْتًادًا مِن اجتماعاتِهِم التي كانت عِيدًا، فَلَمَّا قَالَ: لا، قَالَ لَهُ:
«أَوْفِ بِنَذْرِك»، وَهَذَا يَقْتَضِي
أنَّ كَوْنَ البُقعةِ مَكَانًا لعيدِهِم: مانعٌ مِن الذَّبْحِ بِهَا -وإنْ نَذَرَ-،
كَمَا أنَّ كَوْنَهَا مَوضع أوثانِهِم كذلك، وإلَّا لَمَا انتظمَ الكلامُ، ولا حَسُنَ
الاستفصال.
ومعلومٌ
أنَّ ذلك إنما هو لتعظيمِ البقعةِ التي يُعَظِّمُونَهَا بالتعييدِ فيها، أو لمُشاركتِهِم
في التَّعييدِ فيها، أو لإحياءِ شِعَارِ عيدِهِم فيها، ونحوِ ذلك؛ إذ ليس إلَّا
مكان الفِعْلِ، أو نَفْسَ الفِعْل، أو زمانَهُ.
فإنْ
كان مِن أَجْلِ تخصيصِ البُقعةِ -وهو الظاهرُ-؛ فإنَّمَا نَهَى عن تخصيصِ البُقعةِ
لأجلِ كَوْنِهَا مَوْضِعَ عيدِهِم، وَلَهَذَا لَمَّا خَلَت مِن ذلك أَذِنَ في الذَّبْحِ
فيها، وَقَصْدُ التخصيصِ بَاقٍ، فَعُلِمَ: أنَّ المَحذورَ تخصيص بُقعةِ عيدِهِم، وإذا
كان تخصيصُ بُقعةِ عيدِهِم مَحذورًا، فكيف بِنَفْسِ عيدِهِم؟
هذا
كما أنه لَمَّا كَرِهَهَا لكَوْنِهَا موضع شِرْكِهِم بعبادةِ الأوثان، كان ذلك أَدَلَّ على النَّهيِ
عَن الشِّرْكِ وعبادةِ الأوثان.
وإنْ
كان النهيُ لأنَّ في
الذبحِ هُنَاكَ موافقةً لهم في عَمَلِ عيدِهِم، فهو عَيْنُ مسألتِنَا؛ إذ مُجَرَّدُ
الذَّبْحِ هناك لم يُكْرَهُ على هذا التقديرِ إلَّا لمُوافقتِهِم في العيدِ؛ إذ لَيْسَ
فيه مَحذورٌ آخر، وإنما كانَ الاحتمالُ الأوَّلُ أظهر؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ
لم يسألهُ إلَّا عن كَوْنِهَا مكانَ عيدِهِم، ولم يسألْهُ: هل يذبحُ وقتَ عيدِهِم؟
ولأنهُ قال: «هَل كانَ بِهَا عِيدٌ مِن أعيادِهِم»؛
فَعُلِمَ أنه وقت السؤالِ لم يَكُن العيدُ موجودًا، وهذا ظاهرٌ، فإنَّ في الحديثِ
الآخر: أنَّ القصةَ كانت في حَجَّةِ الوداع؛ وحينئذٍ لم يَكُن قد بَقِيَ عِيدٌ للمُشركين.
ولكنَّهُ نهَى عن البُقعةِ نفسِهَا؛ أنْ يفيَ بنَذرِهِ فيها إذا كانت
قبلُ عِيدًا مِن أعيادِهِم.
فإذا
كانَ ﷺ
قد نَهَى أنْ يُذْبَحَ في مكانٍ كان الكُفَّارُ يعملونَ فيه عِيدًا وإنْ كان أولئك الكُفَّارُ
قد أَسْلَمُوا وَتَرَكُوا ذلك العيد، والسَّائِلُ لا يَتَّخِذُ المَكانَ عِيدًا، بَل
يذْبحُ فيه فقط، فَقَدْ ظَهَرَ أنَّ ذلك سَد للذَّريعةِ إلى بقاءِ شيءٍ مِن أعيادِهِم،
خَشْيَةَ أنْ يكونَ الذَّبْحُ هناك سببًا لإحياءِ أَمْرِ تلك البُقعةِ، وذريعةً
إلى اتخاذِهَا عِيدًا، مع أنَّ ذلك العيدَ إنَّمَا كان يكونُ -واللهُ أعلمُ- سُوقًا
يَتَبايعونَ فيها، ويلعبون، كما قالت له الأنصارُ:
«يَوْمَان كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا في الجَاهليةِ»، لَم تَكُن أعيادُ
الجاهليةِ عبادةً لَهُم، ولهذا فَرَّقَ النبيُّ ﷺ بين كَوْنِهَا مكان
وَثَنٍ، وَكَوْنِهَا مكانَ عِيدٍ.
وهذا
نَهْيٌ شديدٌ عن أنْ يُفْعَلَ شيءٌ مِن أعيادِ الجاهليةِ على أيِّ وَجْهٍ كان.
وأعيادُ
الكُفَّارِ: مِن الكِتَابيِّينَ والأُميِّينَ، في دينِ الإسلام، مِن جِنْسٍ
واحدٍ، كما أنَّ كُفْرَ الطائفتيْن سواءٌ في التحريم، وإنْ كان بَعْضُهُ أَشَدَّ تحريمًا مِن بعضٍ، ولا يختلفُ
حُكمُهُمَا في حَقِّ المسلمِ، لَكِنَّ أَهْلَ الكتابيْن أُقِرُّوا على دينِهم، مع
ما فيه مِن أعيادِهِم، بِشَرْطِ: أنْ لا يُظْهِرُوهَا، ولا شيئًا مِن دينِهِم،
وأولئك لم يُقَرُّوا، بل أعيادُ الكِتَابيِّينَ التي تُتَّخَذُ دينًا وعبادةً:
أعظمُ تحريمًا مِن عيدٍ يُتَّخَذُ لَهْوًا ولَعِبًا؛ لأنَّ التَّعَبُّدَ بِمَا يَسْخَطُهُ
اللهُ ويَكْرَهُهُ أعظمُ مِن اقتضاءِ الشهواتِ بِمَا حَرَّمَهُ؛ ولهذا كان الشركُ
أعظمَ إِثْمًا من الزِّنَا، ولهذا كان جهادُ أهلِ الكتابِ أفضلَ مِن جهادِ الوثَنيينَ،
وكان مَن قَتَلُوهُ مِن المُسلمينَ له أَجْرُ شَهيديْن.
وإذا
كان الشارعُ قد حَسَمَ مادةَ أعيادِ أهلِ الأوثانِ خَشَيْةَ أنْ يَتَدَنَّسَ المُسلمُ
بشيءٍ من أَمْرِ الكُفَّارِ، الذين قَد يَئِسَ الشيطانُ أنْ يُقيمَ أَمْرَهُم في
جزيرةِ العربِ؛ فالخشيةُ مِن تَدَنُّسِهِ بأوضَارِ –أي: بأوساخِ- الكتابيين الباقين أَشَد، والنهي
عنه أَوْكَدُ،
كيف
وقد تَقَدَّمَ الخبرُ الصادقُ بسلوكِ طائفةٍ مِن هذه الأُمَّةِ سَبِيلَهُم؟
الوجهُ
الثالثُ مِن السُّنَّةِ: : أنَّ
هذا الحديثَ وغيرَهُ، قد دَلَّ على أنه كان للنَّاسِ في الجاهليةِ أعيادٌ يجتمعونَ
فيها، ومعلومٌ أنه بِمَبْعَثِ
رسولِ اللهِ ﷺ؛
مَحَى اللهُ ذلك عَنْهُم، فَلَم يَبْقَ شيء مِن ذلك.
وَمَعلومٌ
أنه لولا نَهْيُهُ وَمَنْعُهُ لما تَرَكَ النَّاس تلك الأعياد؛ لأنَّ المُقْتَضِي
لَهَا قائمٌ مِن جِهَةِ الطبيعةِ التي تحب ما يصنعُ في الأعياد -خصوصًا أعيادُ
الباطلِ- مِن اللَّعِبِ واللَّذَاتِ، ومِن جِهَةِ العادةِ التي أَلِفَت ما يعودُ مِن
العيد، فإنَّ العادةَ طبيعةٌ ثانية، وإذا كان المُقْتَضِي قَائِمًا قويًّا، فَلَوْلَا
المَانِعُ القويُّ؛ لَمَا دَرَسَت تَلِكَ الأعيادُ.
وهذا
يُوجِبُ العلمَ اليقينيَّ، بأنَّ إمامَ المُتقينَ ﷺ
كان يَمْنَعُ أُمَّتَهُ مَنْعًا قويًّا عن أعيادِ الكُفَّارِ،
وَيَسْعَى في دُروسِهَا وطَمْسِهَا بِكُلِّ سبيل.
ليس في إقرارِ أَهْلِ
الكتابِ على دينِهِم، ليس فيه إبقاءٌ لشيءٍ مِن أعيادِهِم في حَقِّ أُمَّتِهِ، كما
أنه ليس في ذلك إبقاءٌ في حَقِّ أُمَّتِهِ؛ لِمَا هُم عليه في سائرِ أعمالِهِم مِن سائرِ كُفْرِهِم
وَمَعَاصيِهِم، بَل قد بَالَغَ ﷺ
في أَمْرِ أُمَّتِهِ بمُخالفتِهِم في كثيرٍ مِن المُبَاحَاتِ، وَصِفَاتِ الطاعات؛
لِئَلَّا يَكُونَ ذلك ذريعةً إلى موافقتِهِم في غيرِ ذلك مِن أمورِهِم.
وتكونَ
المُخالفةُ في ذلك حَاجِزًا وَمَانِعًا عن سائرِ أمورِهِم، فإنه كُلَّمَا كَثُرَت
المُخَالَفَةُ بَيْنَكَ وبينَ أصحابِ الجحيمِ؛
كان أَبْعَدَ لك عن أعمالِ أهلِ الجحيم.
فليسَ
بعد حِرْصِهِ على أُمَّتِهِ ونُصْحِهِ لَهُم غاية -بأبي هو وأُمِّي ونفسي ﷺ-،
وكلُّ ذلك مِن فَضْلِ اللهِ عليه وعلى الناسِ، ولَكِنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلمون.
وهذه النصوصُ من السُّنةِ
التي ذكرَهَا شيخُ الإسلامِ –رحمهُ اللهُ تعالى-
سِيقَت كلُّهَا بعدما ذكر الآية ﴿وَالَّذِينَ
لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ للدلالة على وجوبِ مُخالفةِ أهلِ الكتابِ
والكُفَّارِ في أعيادِهِم، وعدمِ موافقتِهِم في شيءٍ مِن ذلك؛ لأنَّ ذلك عظيمٌ
خطيرُ الأثرِ على القلوبِ والدِّيانةِ.
نسألُ اللهَ –تبارك وتعالى- أنْ
يُحقِّقَ لنا التوحيد، وأنْ يُحقِّقَنَا بالتوحيدِ، وأنْ يُحييَنَا على التوحيدِ،
وأنْ يجعلنَا مِن دُعاةِ التوحيدِ، وأن يقبضنَا على التوحيدِ، وأنْ يحشرَنا في
زُمرةِ مَن دعا إلى التوحيدِ وجاءَ به.
فَقَد
ذَكَرَ شيخُ الإسلامِ –رَحِمَهُ اللهُ تعالى- أنَّ مخالفةَ
المُشركينَ في أعيادِهِم خاصَّةً مِن الأصولِ الكبيرةِ في دينِ الإسلامِ العظيمِ،
وَبَيَّنَ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بدلالةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ
وسَاقَ إجماعَ الأُمَّةِ، مَعَ مَا سيذكرُ بَعْدَ ذلك مِن الاعتبارِ.
سَاقَ ذلك كلَّهُ لِيُدَلِّلَ على وجوبِ مُخَالَفَةِ
المُشركينَ في أعيادِهِم، وعلى حُرْمَةِ مُشَارَكتِهِم أو مُوَافَقَتِهِم أو
التَّشَبُّهِ بهم في شيءٍ مِن ذلك.
فَذَكَرَ مِن نصوصِ الكتابِ العظيمِ قَوْلَهُ –تَبَارَكَ
وَتَعَالَى-: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾، وَذَكَرَ أقوالَ التَّابِعينَ ومَن
بَعْدَهُم في تأويلِ قولِهِ تعالى ﴿الزُّور﴾ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ، ثُمَّ شَرَعَ بعد
ذلك –رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالى- في ذِكْرِ النصوصِ مِن السُّنَّةِ وَجَعَلَهَا أَوْجَهًا.
مَرَّ ثلاثُ أَوْجَهٍ مِنْهَا، وهذا هو الوجهُ الرابعُ،
قالَ:
الوجهُ
الرابعُ مِن السُّنَّةِ: ما خَرَّجَاهُ في «الصحيحين» عَنْ
عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ
وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ
بِهِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ –وبُعَاثٌ:
اسمُ حِصنٍ للأَوْسِ، ويومُ بُعَاثٍ: يومٌ جرَت فيه بين الأوْسِ والخزرجِ في
الجاهليةِ حرب، وكان الظهورُ والنصرُ فيها للأَوْسِ-، قَالَتْ عَائِشةُ:
وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنٍ –تعني:
الجاريتيْنِ، تُغنيانِ بما تقاولت به الأنصارُ-.
فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَبِمَزْمُورِ
الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟
وَذَلِكَ
يَوْمُ عِيدٍ.
فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا،
وَهَذَا عِيدُنَا».
وفي
رواية:
«يَا أَبَا بَكْرٍ: إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا
اليَوْم».
وفي
«الصحيحيْن» أيضًا أنه قال: «دَعْهُمَا يَا أَبْا بَكْر؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ»،
وتلك الأيامُ أيامُ مِنَى.
فالدلالةُ
مِن وجوهٍ:
أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ: «إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا
عِيدُنَا»: فإنَّ هذا يُوجِبُ اختصاصَ كلِّ قومٍ بِعيدِهِم، كما أنَّ
اللهَ سُبحانهُ لَمَّا قال: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ
مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة: 148]، وَقَالَ: ﴿لِكُلٍّ
جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:48]، أَوْجَبَ ذلك
اختصاصَ كلِّ قومٍ بِوجهتِهِم وبِشِرْعَتِهِم، وذلك أنَّ «اللامَ» تُورِثُ
الاختصاصَ، فإذا كان لليهودِ عيدٌ وللنَّصارى عيدٌ؛ كانوا مُخْتَصِّينَ به فَلَا نَشْرَكُهُم فيه، كما لا نَشْرَكُهُم في قِبْلَتِهِم وشِرْعَتِهِم.
وكذلك
أيضًا، على هذا: لا نَدَعُهُم يَشْركُونَنَا في عيدِنَا.
الثاني:
قَوْلُهُ:
«وَهَذَا عِيدُنَا»: فإنه يقتضي حَصْرَ عيدِنَا في
هذا، فَلَيْسَ لَنَا عِيدٌ سواهُ، وكذلك قولُهُ: «وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا اليَوْم»: فإنَّ
التعريفَ بـ«اللام والإضافة» يقتضي الاستغراقَ، فَيَقْتَضِي أنْ يكونَ جِنْسُ عيدِنَا
مُنْحَصِرًا في جِنْسِ ذلك اليوم،
كَمَا
في قَوْلِهِ «تَحْرِيمُهَا
التَّكبيرُ وتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ». والحديثُ
حسنٌ بشواهدِهِ، أخرجَهُ أحمد وأبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجه.
قال شيخ
الإسلام –رحمهُ الله-: وليس غَرْضُهُ ﷺ
الحَصْر في عَيْنِ ذلك العيد، أو عَيْنِ ذلك اليوم، بَل الإشارةُ إلى جِنْسِ
المشروع، كما تقولُ الفُقهاءُ: بابُ صلاةِ العيد، وصلاةُ العِيدِ كذا وكذا، ويَنْدَرِجُ
فيها صلاةُ العيديْن، وكما يُقال: لا يجوزُ صومُ يومِ العِيدِ.
وكذا
قَوْلُهُ:
«وإنَّ هَذَا اليَوْمَ»: أي جِنْس هذا اليوم، كما يقولُ
القائلُ لِمَا يُعاينُهُ مِن
الصلاة: هذه صلاةُ المُسلمين، ويُقولُ: لِمَخْرَجِ النَّاسِ إلى الصحراء وما يفعلونَهُ مِن
التكبيرِ والصلاةِ ونحوِ ذلك هذا
عيدُ المسلمين، ونحو ذلك.
ومِن
هذا الباب:
حديثُ عُقبة بن عامر -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ-
عن النَّبيِّ ﷺ
أنه قال: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ
وَأَيَّامُ مِنَى، عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ».
رَوَاهُ أبو داود والنسائيُّ والترمذيُّ وقال الترمذيُّ: «حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ»، وصحَّحَهُ الألبانيُّ في السُّنَنِ».
فإنه
دليلُ مُفَارقتِنَا لغيرِنَا
في العيدِ، والتخصيصُ بهذه الأيامِ الخَمْسَة؛ لأنه يجتمعُ فيها العيدان: المكانيُّ
والزمانيُّ، ويطولُ زمنُهُ، وبهذا يُسَمَّى العيدَ الكبير، فَلَمَّا كَمُلَت فيه
صفاتُ التَّعِييدِ: حَصَرَ الحُكْمِ فيه لكمالِهِ، أو لأنه هو عَدَّ أيامًا وليس لنا عيد هو
أيام إلَّا هذه الخمسة.
الوجهُ
الثالثُ:
أنه رَخَّصَ في لَعِبِ الجواري بالدُّفِّ، وتغنيهن، مُعَلِّلًا بأنَّ لِكُلِّ قومٍ
عِيدًا، وأنَّ هذا عيدُنَا، وذلك يقتضي أنَّ الرُّخْصَةَ مُعلَّلَةٌ بِكَوْنِهِ
عيدَ المُسلمين، وأنها لا تَتَعَدَّى إلى أعيادِ الكُفَّارِ، وأنه لا يُرَخَّصُ في اللَّعِبِ في
أعيادِ الكُفَّارِ، كما يُرَخَّصُ فيه
في أعيادِ المُسلمين؛ إذ لو كان ما فُعِلَ في عيدِنَا مِن ذلك اللَّعِبِ يَسُوغُ مِثْلُهُ في أعيادِ
الكُفَّارِ أيضًا لَمَا قال: «فَإِنَّ لِكُلِّ
قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ هَذَا عِيدُنَا»: لأنَّ تَعْقِيبَ الحُكْمِ
بالوصفِ بحرفِ الفاء دليلٌ على أنه عِلَّةٌ، فيكونُ عِلَّةُ الرُّخْصَةِ: أنَّ كلَّ
أُمَّةٍ مُختصةً بِعيدٍ، وهذا عيدُنَا، وهذه العِلَّةُ مُخْتَصَّةٌ بالمُسلمين.
فلو
كانت الرُّخْصَةُ مُعَلَّقَةً باسمِ «عيد»؛
لكانَ الأَعَمُّ مُسْتَقِلًّا بِالحُكْمِ، فيكونُ الأَخَصُّ عدمَ التأثير، فَلَمَّا عَلَّلَ بالأَخَصِّ؛ عُلِمَ
أنَّ الحُكْمَ لا يَثْبُتُ بالوصفِ الأَعَمِّ وهو مُسَمَّى: عيد، فلا يجوزُ لنا أنْ
نفعلَ في كلِّ عيدٍ للناسِ مِن اللَّعِبِ ما نفعلُ في عيدِ المُسلمين، وهذا هو
المَطْلُوبُ، وهذا فيه دلالةٌ على النَّهيِ عن التَّشَبُّهِ بهم في اللَّعِبِ ونحوِهِ.
الوجهُ
الخامسُ مِن السُّنَّةِ:
أنَّ أَرْضَ العربِ مَا زالَ فيها يهودٌ ونصارى، حتى أَجْلَاهُم عُمَر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
في خِلَافتِهِ، وكان اليهودُ بالمدينةِ كثيرًا في حياةِ رسولِ اللهِ ﷺ
وكان قد هَادَنَهُم حتى نَقَضُوا العَهْدَ طائفةً بعد طائفة –وأيضًا تقول: طائفةٌ بعد طائفة-، ومَا زالَ
بالمدينةِ يهود، وإنْ لم يكونوا كثيرًا، فإنه ﷺ ماتَ ودِرْعُهُ
مرهونةٌ عند يهوديٍّ، وكان في اليمنِ يهودٌ كثيرون، والنصارى بِنَجْرَان وغيرهَا،
والفُرْسُ بالبحرين.
ومِن
المَعلومِ أنَّ هؤلاء كانت لَهُم أعياد يَتَّخِذُونَهَا، ومِن المعلومِ أيضًا أنَّ
المُقتضي لما يفعلُ في العيد: مِن الأكلِ، والشُّرْبِ، واللِّبَاسِ، والزِّينةِ،
واللَّعِبِ، والراحةِ، ونحوِ ذلك: قَائِمٌ في النفوسِ كلِّهَا إذا لم يُوجَد مَانِعٌ،
خُصُوصًا في نُفُوسِ الصِّبيانِ والنِّساءِ، وأَكْثَرِ الفَارغين مِن النَّاسِ.
ثُمَّ
مَن كانت له خِبْرَةٌ بالسيرةِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أنَّ المُسلمينَ على عَهْدِهِ ﷺ
ما كانوا يَشْركُونَهُم في شيءٍ مِن أَمْرِهِم، ولا يُغَيِّرُونَ لَهُم عَادةً في
أعيادِ الكافرين، بَلْ
ذَلِكَ اليومُ عِنْدَ رسولِ
الله ﷺ
وَسَائِرِ المُسلمين يومٌ مِن الأيامِ لا يَخُصُّونَهُ بشيءٍ أصلًا إلَّا ما قد
اختلفَ فيه مِن مُخَالفتِهِم فيه، كَصَوْمِهِ، على ما سيأتي إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
فَلَوْلَا
أنَّ المُسلمينَ كان دينُهُم
الذي تَلَّقَوهُ عن نَبيِّهِم مَنَعَ مِن
ذلك وَكَفَّ عنه، لوَجَبَ أنْ يُوجَد
مِن بعضِهِم فِعْلُ بعضِ ذلك؛ لأنَّ المُقتضي إلى ذلك قائم، كما تَدُلُّ عليه
الطبيعةُ والعادة، فلولا المانعُ الشرعيُّ لوُجِدَ مُقْتَضَاهُ، ثُمَّ على هذا جَرَى
عَمَلُ المُسلمين على عَهْدِ الخلفاءِ الراشدين.
غاية
ما كان يُوجَد مِن بعضِ النَّاسِ: ذهابٌ إليهم يوم العيد للتَّنَزُّهِ بالنَّظَرِ
إلى عيدِهِم، ونحوِ ذلك، فَنَهَى عُمَرُ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ-
وغيرُهُ مِن الصحابةِ عن ذلك، كما سنذكرُهُ، فكيف لو كان بعضُ النَّاسِ يَفْعَلُ
ما يفعلونَهُ، أو مَا هو بَسَبَبِ عيدِهِم؟
بَل
لَمَّا ظَهَرَ مِن بعضِ المُسلمينَ اختصاصُ يومِ عيدِهِم بِصَومٍ؛ مُخَالَفَةً لَهُم،
نَهَاهُ الفُقَهَاءُ أو كثيرٌ منهم عن ذلك؛ لأجلِ ما فيه مِن تعظيمٍ ما لعيدِهِم،
أَفَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى أنَّ المُسلمينَ تَلَقَّوا عن نبيِّهِم ﷺ
المَنْعَ عن مُشَاركتِهِم في أعيادِهِم؟ وهذا بعد التَّأَمُّلِ بَيِّنٌ جِدًّا.
الوجهُ
السادسُ مِن السُّنَّةِ:
ما رَوَاهُ أبو هريرة -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ-
أنه سَمِعَ النبيَّ اللهِ ﷺ
يقول: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُم كُلَّ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا،
وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُم الَّذِي فَرَضَ اللهُ
عَلَيْهِم، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ
تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ». الحديثُ مُتفقٌ
عليه.
«بَيْدَ أَنَّهُمْ»: أي مِن أجلِ أنهم.
وفي
لَفْظٍ صحيحٍ: «بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُم الَّذِي
اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللهُ لَهُ».
وعن
أبي هريرة وحذيفة -رضي الله عنهما- قَالَا: قَالَ رسولُ اللهِ ﷺ:
«أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ
قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ
الأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ،
فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالأَوَّلُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ -وفي رواية: بينهم- قَبْلَ
الْخَلائِقِ». هذا الحديثُ بهذا اللفظِ رواهُ مُسلم في «صحيحِهِ».
وقد
سَمَّى النَّبيُّ ﷺ
الجُمُعَةَ: «عِيدًا» في غيرِ مَوْضِعٍ،
وَنَهَى عن إفرادِهِ بالصومِ؛ لِمَا فيه مِن مَعْنَى العيدِ.
ثُمَّ
إنَّ في هذا الحديثِ ذِكْرُ أنَّ الجُمُعَةَ لَنَا، كَمَا أنَّ السَّبْتَ لليهودِ،
والأحدُ للنَّصَارَى، و«اللام» تقتضي الاختصاص.
ثُمَّ
هذا الكلام: يَقْتَضِي الاقتسام، إذا قيلَ: هذه ثلاثةُ أثوابٍ أو ثلاثة غلمان: هذا
لي، وهذا لزَيْد، وهذا لِعَمْرو أَوْجَب،
ذلك أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ مُخْتَصًّا بِمَا جَعَلَ له، ولا يشرك فيه غيره، فإذا
نحن شاركناهُم في عيدِهِم يومَ السَّبْتِ،
أو شاركناهُم في عيدِهِم يومِ
الأحد؛ خَالفنا هذا الحديث.
وإذا
كان هذا في العيدِ الأسبوعيِّ، فكذلك في العيدِ الحوليِّ، إذ لا فَرْق، بَل إذا
كان هذا في عيدٍ يُعْرَفُ بالحسابِ العربيِّ، فكيف بأعيادِ الكافرينَ العجمية التي
لا تُعْرَفُ إلَّا بالحسابِ الرُّوميِّ القِبْطيِّ، أو الفارسيِّ أو العِبريِّ،
ونحو ذلك؟!
وَقَوْلُهُ ﷺ
«بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُم الَّذِي اخْتَلَفُوا
فِيهِ، فَهَدَانَا اللهُ لَهُ» أي: مِن أَجْلِ، كَمَا يُرْوَى أَنَّهُ
قَالَ: «أَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بَيْدَ أَنِّي
مِنْ قُرَيْشٍ واسْتُرْضِعَتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ». رواهُ
ابنُ سعدٍ في «الطبقات» وهو فيه محمد بن عمر الواقدي وهو كذاب، قال الألبانيُّ في «السلسلةِ
الضعيفةِ»: «موضوع».
والمعنى
واللهُ أعلمُ: أي نحن الآخِرُونَ في الخَلْقِ، السَّابِقُونَ في الحسابِ
والدخولِ إلى الجَنَّةِ، كما قد جاءَ في «الصحيح»: أنَّ هذه الأُمَّةَ أَوَّلُ مَن يدخُلُ الجَنَّةَ
مِن الأُمَمِ، وأنَّ مُحَمَّدًا ﷺ
أَوَّلُ مَن يُفْتَحُ له بابُ الجَنَّةِ، وذلك لأَنَّا أُوتِينَا الكتابَ مِن
بعدِهِم، فَهُدِينَا لِمَا اخْتَلَفُوا فيه مِن العيدِ السَّابِقِ للعِيديْن
الآخريْن، وَصَارَ عَمَلُنَا الصَّالِحُ
قَبْلَ عَمَلِهِم، فَلَمَّا سَبَقْنَاهُم إلى الهُدَى والعملِ الصَّالِحِ؛ جَعَلَنَا
سابقينَ لَهُم في ثوابِ العَمَلِ الصَّالِحِ.
ومَن
قالَ: «بَيْدَ»، هُنَا بِمَعْنَى: غَيْر، فَقَدْ
أَبْعَدَ.
الوجهُ
السابعُ مِن السُّنَّةِ: مَا
رَوَى كُرَيْبٌ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا-، قال أَرْسَلَنِي
ابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ- وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ
إلَى أُمِّ سَلَمَةَ –رضيَ اللهُ عنها- أَسْأَلُهَا؟ أَيُّ الْأَيَّامِ كَانَ
النّبِيِّ ﷺ
أَكْثَرَهَا صِيَامًا؟
قَالَتْ:
يَوْمُ السّبْتِ وَالْأَحَدِ، وَيَقُولُ: «إنَّهُمَا
عِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ». رواهُ
أحمد والنسائيُّ وابنُ أبي عاصم، وهو
محفوظٌ مِن حديثِ عبدِ الله بن المبارك، عن عبدِ الله بن مُحمد بن عمر بن علي عن أبيه، عن كُرَيْبٍ.
وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الحُفَّاظِ –كذا قال
شيخُ الإسلامِ -رحمهُ الله-، والحديثُ ذكرَهُ الألبانيُّ –رحمهُ الله- في «السلسلةِ الضعيفة»، وهو حديثٌ ضعيف.
وَهَذَا
نَصٌّ في شَرْعِ مُخَالَفَتِهِم في عيدِهِم، وإنْ كان على طريقِ الاستحبابِ، وَسَنَذْكُرُ
حديثَ نهيِهِ عن صومِ يومِ السَّبتِ، وتعليلَ ذلك أيضًا بِمُخَالفتِهِم، وَنَذْكُرُ
حُكْمَ صَوْمِهِ مُفْرَدًا عند العلماء، وأنهم مُتَّفِقُونَ على شَرْعِ مُخَالَفَتِهِم
في عيدِهِم وإنَّمَا اخْتَلَفُوا:
هل مُخَالَفَتُهُم يومَ عيدِهِم بالصومِ
لمُخَالَفَةِ فِعْلِهِم فيه، أو بالإهمالِ حتى لا يُقْصَدَ بِصَوْمٍ ولا بِفِطْرٍ،
أو يفرق بين العيدِ العربيِّ والعيدِ العجميِّ؟ على مَا سنذكرُهُ -إنْ شَاءَ اللهُ
تَعَالَى-.
هذه الوجوهُ السبعة مِن السُّنَّةِ ذكرَهَا شيخُ الإسلامِ –رحمهُ اللهُ- بعد أنْ ذكرَ قولَهُ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾، وذكرَ ما قالَهُ كثيرٌ مِن التابعين مِن أنَّ الزورَ هاهنا أعيادُ
المُشركين وما هُم عليه مِن الباطلِ؛ مِن الشعانين وغيرِ ذلك.
ثم لمَّا فَرَغَ –رحمهُ
اللهُ- مِن هذه الوجوهِ مِن السُّنةِ؛ شرعَ في بيانِ الإجماعِ والآثارِ فقال:
النَّهِيُ
عن مُوَافقتِهِم في أعيادِهِم بالإجماعِ والآثَارِ.
وأمَّا الإجماعُ والآثارُ؛ فَمِن وجوهٍ:
أحدُهَا:
ما قَدَّمْتُ التنبيهَ عليه، من أنَّ اليهودَ والنصارى والمجوسَ ما زالوا في أمصارِ
المسلمين بالجزية، يَفْعَلُونَ أعيادَهمُ التي لهم، والمُقتضِي لِبَعْضِ ما
يفعلونه قائمٌ في كثيرٍ مِنَ النفوسِ، ثُمَّ لم يكنْ على عهدِ السابقينَ مِنَ المسلمين مَنْ
يَشْرَكُهُم في شيءٍ مِنْ ذلك، فلولا قيامُ المانِعِ في نفوسِ الأمةِ كراهةً ونهيًا
عن ذلك، وإلَّا لَوَقَعَ
ذلك كثيرًا؛ إذِ الفِعْلُ مع وجودِ مُقْتَضِيهِ وعَدَمِ مُنَافِيهِ واقِعٌ لا
محالة، والمقُتَضِي واقعٌ؛ فَعُلِمَ وجودُ المانعِ، والمانعُ هنا هو الدينُ، فَعُلِمَ
أنَّ الدينَ دينَ الإسلامِ هو المانعُ مِنَ الموافَقَةِ، وهو المطلوبُ.
الثاني
مِن الوجوهِ: أنه قد تَقَدَّمَ في شروطِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
التي اتَّفَقَتْ عليها الصحابةُ وسائرُ الفقهاءِ بَعْدَهُم: أنَّ أهلَ الذمةِ مِنْ
أهلِ الكتابِ لا يُظْهِرُون أعيادَهم في دارِ الإسلامِ، وسَمُّوا: «الشعانين والبَاعُوث»، فإذا كان المسلمون
قد اتفقوا على مَنْعِهِم مِنْ إظهارِها؛ فكيف يَسُوغُ للمسلمينَ فِعْلُها؟!
أوَ
ليس فِعْلُ المسلمِ لها أشدَّ مِنْ فِعْلِ الكافرِ لها، مُظْهِرًا لها؟!
وذلك
أنَّا إنما مَنَعْنَاهُم مِنْ
إظهارِها؛ لِمَا فيه مِنَ الفسادِ؛ إمَّا لأنها معصيةٌ، أو شعارُ المعصيةِ، وعلى
التقديريْن؛ فالمسلمُ ممنوعٌ مِنَ المعصيةِ، ومِنْ شِعَارِ المعصيةِ، ولو لم
يكنْ في فِعْلِ المسلِمِ لها مِنَ الشَّرِّ إلا تَجْرِئَةُ الكافرِ على إظهارِهَا
لِقُوَّةِ قلبِهِ بالمسلمِ إذا
فَعَلَها؛ فكيف وفيها مِنَ الشَّرِّ ما سَنُنَبِّهُ على بعضِه؟!
الثالث من الوجوه:
ما تَقَدَّمَ مِنْ روايةِ أبي الشيخِ الأَصْبَهانِيِّ عن عطاءِ بنِ يسارٍ -هكذا
رأيتُهُ، ولعله
ابنُ دينارٍ –يعني
عطاءً- قال: قال عمر: «إياكم
ورِطَانَةَ الأَعَاجِمِ، وأنْ تَدْخُلُوا على المُشركينَ يومَ عِيدِهم في كَنَائِسِهم».
وقد تقدَّمَ أنه ضعيف.
ورَوَى البيهقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ في بابِ: «كراهةِ الدخولِ على أهلِ الذمةِ في كَنَائِسِهم والتَّشَبُّهِ بهم يومَ نَيْرُوزِهم ومَهْرَجَانِهم» عن
سفيانَ الثوريِّ، عن ثورِ بنِ يزيدَ، عن عطاءِ بنِ دينارٍ قال: قال عمر: «لا تَعَلَّمُوا رِطَانَةَ
الأعاجِمِ، ولا تَدْخُلوا على المشركينَ في كَنَائِسِهم يومَ عِيدِهم؛ فإنَّ السُّخْطَةَ
تَنْزِلُ عليهم».
وبالإسنادِ عن
الثوريِّ، عن عوفٍ، عن الوليدِ -أو
أبي الوليدِ-، عن عبد الله بن عمرو قال: «مَنْ بَنَى ببلادِ
الأعاجِمِ فَصَنَعَ نَيْرُوزَهُم ومَهْرَجَانَهُم، وتَشَبَّهَ بهم حتى يموتَ وهو
كذلك؛ حُشِرَ معهم يومَ القيامةِ».
ورَوَى
بإسنادِه عن البخاريِّ صاحبِ الصحيحِ قال: قال لي ابنُ أبي مريمَ: أنبأَنا نافعُ بنُ يزيدَ، سَمِعَ سلمانَ بنَ
أبي زَيْنَبَ وعمرَو بنَ الحارثِ،
سَمِعَ سعيدَ بنَ سَلَمَةَ، سَمِعَ أَبَانَ، سَمِعَ
عمرَ بنَ الخطابِ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ-
قال: «اِجْتَنِبُوا أعداءَ
اللهِ في عيدِهم». أخرجَهُ البخاري
ورَوَى
بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي أسامةَ حدثنا
عوفٌ، عن أبي المغيرةِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرو قال: «مَنْ بَنَى ببلادِ الأَعَاجِمِ فَصَنَعَ نَيْرُوزَهم
ومَهْرَجَانَهُمْ، وتَشَبَّهَ بهم حتى يموتَ وهو كذلك؛ حُشِرَ معهم يومَ القيامةِ».
وقال:
هكذا رواه يحيى بنُ سعيدٍ وابنُ أبي عَدِيٍّ وغُنْدَرٌ وعبدُ الوهابِ عن عوفٍ، عن أبي المُغيرةِ، عن
عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو مِنْ قولِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-،
وإسنادُ لا بأس به.
وبالإسنادِ
إلى أبي أسامةَ، عن حَمَّادِ بنِ زيدٍ، عن
هشامٍ عن محمدِ بنِ سِيرِينَ
قال: «أُتِيَ عليٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
بهَدِيَّةِ النَّيْرُوزِ، فقال:
ما هذه؟ قالوا: يا أميرَ المؤمنين؛ هذا يومُ النَّيْرُوزِ.
قال:
فاصْنَعُوا كلَّ يومٍ نَيْرُوزًا، قال
أبو أسامةَ: كَرِهَ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ-
أنْ يقولَ: نَيْرُوزًا -فلم يقُل نيروزًا، كَرَهَ أن
ينطقَ بها-».
قال
البيهقيُّ:
«وفي هذا الكراهةُ لِتَخْصِيصِ يومٍ بذلك لَمْ يَجْعَلْهُ الشرعُ مخصوصًا به».
وهذا
عُمَرُ نَهَى عن تَعَلُّمِ لسانِهِم،
وعن مُجَرَّدِ دخولِ الكنيسةِ عليهم
يومَ عِيدِهم؛ فكيف بِفِعْلِ بعضِ أفعالِهِم أو بِفِعْلِ ما هو مِنْ مُقْتَضَيَاتِ
دينِهم؟
أليست
موافقتُهُم في العملِ أعظَمَ مِنَ الموافقةِ في اللُّغَةِ؟!
أوَ ليس عَمَلُ بعضِ أعمالِ عِيدِهِم أعظمَ مِنْ مُجَرَّدِ
الدخولِ عليهم في عيدِهم؟!
وإذا
كان السُّخْطُ يَنْزِلُ عليهم يومَ عيدِهم بسببِ عَمَلِهم؛ فمَنْ يَشْرَكُهُم في
العملِ أو بعضِهِ؛ أليس قد يُعَرَّضُ لِعُقوبةِ ذلك؟
ثم
قولُه: «واجْتَنَبِوا أعداءَ
اللهِ في عيدِهم» أليس نهيًا عن لِقَائِهِم والاجتماعِ بهم فيه؟! فكيف بمَنْ عَمِلَ
عيدَهم؟!
وأمَّا
عبدُ اللهِ بنُ عمرو؛ فصَرَّحَ
أنه: «مَنْ بَنَى ببلادِهم،
وصَنَعَ نَيْرُوزَهم ومَهْرَجَانَهم، وتَشَبَّهَ بهم حتى يموت؛ حُشِرَ معهم».
وهذا
يقتضي أنه جعله كافرًا بمشاركتِهِم في مجموعِ هذه الأمورِ، أو جَعَلَ ذلك مِنَ
الكبائرِ المُوجِبَةِ للنارِ، وإِنْ كان الأولُ ظاهرَ لَفْظِهِ، فتكونُ المُشاركةُ
في بعضِ ذلك معصيةً؛ لأنه لو لم يَكُنْ مؤثِّرًا في استحقاقِ العقوبةِ؛ لم يَجُزْ
جَعْلُه جزءًا مِنَ المقتضَى؛ إذِ
المُبَاحُ لا يُعَاقَبُ عليه، ولَيْسَ الذَّمُّ على بعضِ ذلك مَشروطًا ببعضٍ؛ لأنَّ
أَبْعَاضَ ما ذَكَرَهَ يَقْتَضِي
الذمَّ مُفْرَدًا.
وإنَّمَا
ذَكَرَ -والله أعلم- مَنْ بَنَى
ببلادِهم؛ لأنهم على عهدِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو وغيرِهم مِنَ الصحابةِ كانوا ممنوعِينَ
مِنْ إظهارِ أعيادِهم بدارِ الإِسلامِ، وما كان أحدٌ مِنَ المسلمِينَ يَتَشَبَّهُ
بِهِم في عِيدِهمْ، وإنَّمَا
كانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذلك بِكَوْنِهِ في أَرْضِهم.
وَأَمَّا
عليٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛
فَكَرِهَ موافقَتَهم في اسمِ يومِ العيدِ الذي يَنْفَرِدُونَ به؛ فكيف بمُوافقتِهم
في العملِ؟!
وقد
نَصَّ أحمدُ على معنى ما جاء عن عمرَ وعليٍّ -رضي الله عنهما- في ذلك، وذَكَرَ
أصحابُه مسألةَ العيدِ.
وقد
تَقَدَّمَ قولُ القاضِي أبي يعلى: «مسألةٌ في المنعِ من حضورِ أعيادِهم».
وقال
الإمامُ أبو الحسنِ الآمِدِيِّ -المعروفُ بابنِ البغداديِّ- في كتابِهِ:
«عُمْدَةُ الحاضرِ وكفايةُ المسافِرِ»: « فصلٌ: لا يَجُوزُ
شهودُ أعيادِ النصارى واليهودِ»،
نَصَّ عليه أحمدُ في روايةٍ مُهَنَّا، واحْتَجَّ
بقولِه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾، قال:
الشَّعانين وأعيادَهُم، فأمَّا ما يَبِيعون في الأسواقِ في أعيادِهم فلا بَأْسَ
بحضورِه، نَصَّ عليه أحمدُ في روايةِ مُهَنَّا، وقال: «إنما يُمْنَعُونَ أنْ يَدْخُلُوا
عليهم بِيَعَهُم وكنائسَهم، فأمَّا ما يُبَاعُ في الأسواقِ مِنَ المَأْكَلِ فلا،
وإنْ قَصَدَ إلى توفيرِ ذلك وتَحْسِينِه لأجلِهم».
وقال
الخَلَّالُ في «جامعه»: «بابٌ
في كراهيةِ خروجِ المسلمينَ في أعيادِ المشركينَ»،
وذَكَرَ
عن مُهَنَّا قال: «سألتُ
أحمدَ عن شهودِ هذه الأعيادِ التي تكونُ عندَنا بالشامِ؛ مِثْل: طُورِ يَانور ودِير أيوبَ وأشباهِه،
يَشْهَدُهُ المسلمون، يَشهدونَ الأسواقَ، ويَجْلِبون الغَنَمَ
فيه والبقرَ والدقيقَ والبُرَّ
والشَّعير وغيرَ ذلك، إلَّا أنه إنما يكونُ في الأسواقِ يَشترون، ولا يَدْخُلُون
عليهم بِيَعَهم؟
قال: إذا لم
يَدْخُلوا عليهم بِيَعهم، وإنما يَشْهَدون السوقَ؛ فلا بأس».
فإنما رَخَّصَ
أحمدُ -رحمه الله- في شهودِ السوقِ بشرطِ: أَن لا يَدْخُلوا عليهم بِيَعَهُم؛ فعُلِمَ
مَنْعُهُ مِنْ دخولِ بِيَعِهِم.
وكذلك أَخَذَ
الخَلَّالُ مِنْ ذلك: المَنْعَ مِنْ خروجِ المسلمينَ في أعيادِهم؛ فقد نَصَّ أحمدُ
على مِثْلِ ما جاء عن عمرَ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ-
مِنَ المَنْعِ مِنْ دخولِ كنائِسهم في أعيادِهم، وهو كما ذَكَرْنَا مِنْ بابِ التَّنْبِيهِ
عن المَنْعِ عن أنْ يُفْعَلَ كَفِعْلِهِم».
وأما
الرِّطَانَةُ وتسميةُ شهورِهم
بالأسماءِ العَجَمِيَّةِ؛ فقال أبو محمدٍ الكِرْمَانِيُّ -المسمَّى بحَرْبٍ-: «بابُ
تسميةِ الشهورِ بالفارسيةِ».
قلتُ
لأحمدَ:
فإنَّ لِلْفَرَسِ أيَّامًا وشهورًا يسمونها بأسماءٍ لا تُعْرَفُ؟
فكَرِهَ
ذلك أَشَدَّ الكراهةِ، ورَوَى فيه عن مجاهدٍ حديثًا أنه كَرِهَ أنْ يقال: آذرماه وذي ماه.
قلتُ:
فإِنْ كان اسمُ رجلٍ أُسَمِّيهِ به؟ فكَرِهَهُ.
قال:
وسألتُ إسحاقَ، قلتُ: تاريخُ الكتابِ يُكْتَبُ بالشهورِ الفارسيةِ مثل: آذرماه،
وذي ماه؟ قال: إن لم يكنْ في تلك الأَسَامِي اسمٌ يُكْرَهُ؛ فأرجو.
قال:
وكان ابنُ المباركِ يَكْرَهُ إيزدان يَحْلِفُ
به، وقال: لا آمَنُ أنْ يكونَ أُضِيفَ إلى شيءٍ يُعْبَدُ، وكذلك الأسماءُ الفارسيةُ.
قال:
وكذلك أسماءُ العربِ، كلُّ شيءٍ مضافٌ.
قال:
وسألتُ إسحاقَ مَرَّةً أخرى، قلتُ: الرجلُ يَتَعَلَّمُ شهورَ الرومِ والفُرْسِ؟
قال:
كلُّ اسمٍ معروفٍ في كلامهم فلا بأس.
فما
قاله أحمدُ مِنْ كراهةِ هذه الأسماءِ له وجهان:
أحدُهما:
إذا لم يعرفْ معنى الاسمِ، جاز أنْ يكونَ معنى مُحَرَّمًا، فلا يَنْطِقُ المسلمُ
بما لا يَعْرِفُ معناه، ولهذا كُرِهْتُ الرُّقَى العَجَمِيَّةَ، كالعِبْرَانِيَّةِ أو السُّرْيَانِيَّةِ،
أو غيرِها؛ خَوْفًا أنْ يكونَ فيها معانٍ لا تجوز.
وهذا
المعنى هو الذي اعتبرَهُ إسحاقُ؛ لَكِنْ إنْ عَلِمَ أنَّ المعنى مَكْرُوهٌ؛ فلا
ريبَ في كراهتِه، وإنْ جَهِلَ مَعْنَاهُ؛ فأحمدُ كَرِهَهُ، وكلامُ إسحاقَ يَحْتَمِلُ
أنه لم يَكْرَهْهُ.
الوجهُ
الثاني: كَرَاهتُهُ
أنْ يَتَعَوَّدَ الرَّجُلُ النُّطْقَ بغيرِ العربيةِ، فإنَّ اللسانَ العربيَّ شِعَارُ
الإسلامِ وأهلُه، واللغاتُ مِنْ أَعْظَمِ شعائرِ الأممِ التي بها يَتَمَيَّزُون،
ولهذا كان كثيرٌ مِنَ الفقهاءِ أو أكثرُهُم يَكْرَهُون في الأدعيةِ التي في الصَّلَاةِ
والذِّكْرِ أنْ يُدْعَى اللهُ أو يُذْكَرَ بغيرِ العربيةِ.
وقد
اخْتَلَف الفقهاءُ في أذكارِ الصلواتِ؛ هل
تُقَالُ بغيرِ العربيةِ؟
وهي
ثلاثُ درجاتٍ، أعلاهَا القرآنُ، ثم الذِّكْرُ الواجبُ غيرُ القرآنِ؛ كالتَّحْرِيمَةِ
بالإجماعِ، وكالتحليلِ والتَّشَهُّدِ
عندَ مَنْ أَوْجَبهما، ثم
الذِّكْرُ سوى الواجبِ، مِنْ دُعَاءٍ أو تسبيحٍ أو تكبيرٍ أو غيرِ ذلك.
*فَأَمَّا
القرآنُ:
فلا يَقْرُؤُه بغيرِ العربيةِ؛
سواءٌ قَدَرَ عليها أو لم يَقْدِرْ عند الجمهورِ، وهو الصوابُ الذي لا رَيْبَ فيه؛
بل قد قال غيرُ واحد: إنه يُمْتَنِعُ أنْ يُتَرْجِمَ سورةً، أو مَا يَقُومُ بِهِ
الإعْجَاز.
واخْتَلَفَ
أبو حنيفةَ وأصحابُهُ في القَادِرِ على العربيةِ.
*وَأَمَّا
الأذكارُ الوَاجِبَةُ: فاختُلِفَ في مَنْعِ ترجمةِ القُرْآنِ؛ هَلْ يُتَرْجِمُهَا العَاجِزُ عَن
العربيةِ وعن تَعَلُّمِهَا؟
وفيه
لِأَصحابِ أحمدَ وَجْهَان، أَشْبَهُهَا بِكَلَامِ أَحْمد: أنه لا يُتَرْجِمُ، وهو
قولُ مالكٍ وإسحاقَ، والثاني: يُتَرْجِمُ، وهو قولُ أبي يوسفَ ومحمدٍ والشافعيِّ.
*وأما
سائرُ الأذكارِ: فالمَنْصوصُ مِنَ الوجهين: أنه لا يُتَرْجِمُهَا، ومتى فَعَلَ بَطَلَتْ
صلاتُهُ، وهو قولُ مالكٍ وإسحاقَ وبعضِ أصحابِ الشافعيِّ.
والمنصوصُ
عن الشافعيِّ: أنه يُكْرَهُ ذلك بغيرِ العربيةِ ولا تَبْطُلُ صلاتُهُ، ومِنْ أصحابِنا
مَنْ قال: له ذلك إذا لم يُحْسِنِ العربيةَ.
وحُكْمُ
النُّطْقِ بالعَجَمِيَّةِ في العباداتِ؛ مِنَ الصلاةِ والقراءةِ والذكرِ؛ كالتلبيةِ
والتسميةِ على الذبيحةِ، وفي العُقُودِ والفُسُوخِ؛
كالنكاحِ
واللِّعَانِ
وغيرِ
ذلك معروفٌ في كُتُبِ الفقهِ.
وأما
الخطابُ
بها مِنْ
غيرِ
حاجةٍ
في أسماءِ
الناسِ
والشهورِ -كالتواريخِ
ونحوِ
ذلك-:
فهو مَنْهِيٌّ عنه مع الجهلِ بالمعنى بلا ريب، وأمَّا مع العلمِ به؛ فكلامُ أحمدَ
بَيِّنٌ في كراهتِهِ أيضًا، فإنه كَرِهَ:
آذرماه، ونحوَه، ومعناه ليس مُحَرَّمًا.
وأظنُّه
سُئِلَ عن الدعاءِ في الصلاةِ بالفارسيةِ، فكَرِهَهُ وقال: لسانُ سوءٍ! وهو أيضًا
قد أَخَذَ بحديثِ عمرَ -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ-
الذي فيه النهيُ عن رِطَانتِهم –الرَّطانة
بالفتح والكسر كما مرَّ-، وعن شهودِ أعيادِهم، وهذا قولُ مالكٍ أيضا؛
فإنه قال: لا يُحْرِمُ بالعَجَمِيَّةِ، ولا يدعو بها، ولا يَحْلِفُ بها، وقال: نَهَى
عمرُ عن رِطَانةِ الأعاجمِ، وقال: « إِنها خِبٌّ»، فقد استدل بنَهْيِ
عمرَ عن الرِّطَانةِ مطلقًا.
وقال
الشافعيُّ فيما رواه السِّلَفِيُّ بإسنادٍ
معروفٍ إلى محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ
الحَكَمِ قال: سمعتُ محمدَ بنَ
إدريسَ الشافعيَّ يقولُ: «سَمَّى
اللهُ الطَّالِبِينَ مِنْ فضلِهِ في الشراءِ والبيعِ تُجَّارًا، ولم تَزَلِ العربُ
تُسَمِّيهِم التُّجَّارَ، ثم سمَّاهمْ رسولُ اللهِ ﷺ بما سَمَّى اللهُ
به مِنَ التجارةِ بلسانِ العرب، والسَّمَاسِرَةُ اسمٌ مِنْ أسماءِ العَجَمِ، فلا نُحِبُّ
أنْ يُسَمِّي رَجُلٌ يَعْرِفُ العربيةَ تاجرًا إلَّا تاجرًا، ولا يَنْطِقُ
بالعربيةِ، فيُسَمِّي شيئًا بأَعْجَمِيَّةٍ، وذلك أنَّ اللسانَ الذي اخْتَارَهُ
اللهُ U
لسانَ العربِ، فأَنْزَلَ به
كتابَهُ العزيزَ، وجَعَلَهُ لِسَانَ خاتَمِ أنبيائِهِ محمدٍ ﷺ؛
ولهذا نقول: ينبغي لكل أحدٍ يَقْدِرُ على تَعَلُّمِ العربيةِ أنْ يتعلَّمَها؛ لأنها
اللِّسَانُ الأَوْلَى بأنْ يكونَ مَرْغوبًا فيه مِنْ غيرِ أنْ يَحْرُمَ على أحدٍ
أنْ يَنْطِقَ بأعجميةٍ».
فقد
كَرِهَ الشافعيُّ لمن يَعْرِفُ العربيةَ أنْ يُسَمِّيَ بغيرِها، وأنْ يَتَكَلَّمَ
بها خالطًا لها بالعجمية، وهذا الذي قاله
الأئمةُ مأثورٌ عن الصحابةِ والتابعين.
وقد
قَدَّمْنا عن عُمَرَ وعليٍّ
-رضي الله عنهما- ما ذَكَرَهُ.
ورَوَى
أبو بكرِ بنُ أبي شيبةَ في «المُصَنَّفِ»: حدثنا وكيعٌ عن أبي هلالٍ عن ابن بُرَيْدَةَ، قال: قال عُمَرُ: «ما تَكَلَّمَ الرجُلُ
الفارسيةَ إلا خَبَّ، ولا
خَبَّ رجلٌ إلا نَقَصَتْ مروءتُه». إسنادُهُ ضعيف؛ فابنُ
بُريْدة لم يُدرك عُمر –رضي الله
عنه-، وأبو هلال ليس بالقويِّ
وقال:
حدثنا وكيعٌ، عن ثَوْرٍ، عن عطاءٍ قال: «لا
تَعَلَّمُوا رِطَانَةَ الأعاجِمِ، ولا تَدْخُلُوا عليهم كنائسَهم؛ فإنَّ السُّخْطَ
يَنْزِلُ عليهم».
وهذا
هو الذي روينا فيما تَقَدَّمَ
عن عمرَ -رضي الله عنه-.
وقال:
حدثنا إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ، عن داودَ بنِ أبي هندٍ، أنَّ محمدَ بنَ سعدِ بنِ
أبي وقاصٍ سَمِعَ قومًا يَتَكلمون
بالفارسيةِ، فقال: «ما
بَالُ المَجُوسيةِ بَعْدَ الحنيفيةِ؟!»
وقد
رَوَى السِّلَفِيُّ مِنْ حديثِ سعيدِ بنِ العلاءِ البَرْذَعِيِّ، قال: حدثنا إسحاقُ
بنُ إبراهيمَ البَلْخِيُّ، قال:
حدثنا عمرُ بنُ هارونَ البَلْخِيُّ، قال:
حدثنا أسامةُ بنُ زيدٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ
عمرَ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ «مَنْ يُحْسِنْ أنْ يَتَكلَّمَ بالعربيةِ؛ فلا يتكلمْ بالعَجَمِيَّةِ؛
فإنه يُورِثُ النفاقَ». هذا موضوعٌ.
ورواه
أيضًا بإسنادٍ معروفٍ إلى أبي سهلٍ محمودِ
بنِ عمرَ العُكْبَرِيِّ، قال:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ الحسنِ بنِ محمدِ المُقْرِي، قال: حَدَّثَنَا أحمدُ بنُ الخليلِ -بِبَلْخٍ-، قال: حدثنا
إسحاقُ بنُ ابراهيمَ الحَرِيرِيُّ، قال:
حدثنا عمرُ بنُ هارونَ، عن أسامةَ بنِ زيدٍ، عن نافعٍ، عن ابنِ عمرَ قال: قال رسولُ
الله ﷺ
«مَنْ كانَ يُحْسِنْ أنْ يَتَكلَّمَ بالفارسيةِ؛ فلا يتكلمْ بالعَجَمِيَّةِ؛
فإنه يُورِثُ النفاقَ». وهذا موضوع.
وهذا
الكلامُ يُشْبِهُ كلامَ عمرَ بنِ الخطابِ، وأمَّا رَفْعُهُ؛ فمَوْضِعُ تَبَيُّنٍ.
ونُقِلَ
عن طائفةٍ منهم أنهم كانوا يَتَكلمون بالكلمةِ بَعْدَ الكلمةِ مِنَ العَجَمِيَّةِ:
قال
أبو خلدة: كَلَّمَنِي أبو
العاليةِ بالفارسيةِ.
وقال
مُنْذِرٌ الثوريُّ: «سَأَلَ
رجلٌ محمدَ بنَ الحَنَفِيَّةِ عن
الجُبْنِ، فقال: يا جاريةُ؛ اِذْهَبِي بهذا الدرهمِ فاشْتَرِي به نَبِيزًا، فاشْتَرَتْ به نَبِيزًا
–بالزاي لا بالذال-، ثم
جاءت به، يعني الجُبْنَ». وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
وفي
الجملةِ: فالكلمةُ بعدَ الكلمةِ مِنَ العجميةِ أَمْرُها قريبٌ، وأكثرُ ما يَفْعلون
ذلك؛ إمَّا لِكَوْنِ
المخاطَبِ أعجميًّا، أو قد اعتاد العجمية، يُرِيدون تقريبَ الأفهامِ عليه، كما قال
النبيُّ ﷺ
لأمِّ خالدٍ بنتِ خالدِ بنِ سعيدِ بنِ العاصِ،
وكانت صغيرةً قد وُلِدَتْ بأرضِ الحَبَشَةِ لمَّا هاجَرَ أبوها، فَكَسَاهَا النبيُّ ﷺ
خَمِيصةً وقال: «يا أمَّ خالدٍ؛ هذا سَنَا». والسَّنَا بِلُغَةِ
الحبشة: الحَسَنُ. أخرجهُ البخاريُّ في «صحيحِهِ».
ورُوِيَ
عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
أنه قال لمن أَوْجَعَهُ بطنُه: «أَشْكَم بِدَرد». وبعضُهم يرويه مرفوعًا، ولا يَصِحُّ.
وأما
اعْتِيادُ الخِطَابِ بغيرِ اللغةِ العربيةِ -التي هي شعارُ الإسلامِ ولغةُ القرآنِ-
حتى يَصِيرَ ذلك عادةً للمَصْرِ وأهلِه، أو لأهلِ الدارِ، أو للرَّجُلِ مع صاحبِه،
أو لأهلِ السوقِ، أو للأمراءِ، أو لأهلِ الدِّيوَانِ، أو لأهلِ الفِقْهِ؛ فلا ريبَ
أنَّ هذا مكروهٌ؛ فإنه مِنَ التَّشَبُّهِ بالأعاجمِ، وهو مكروهٌ كما تقدم.
ولهذا
كان المسلمون المُتقدمونَ لمَّا سَكَنُوا أرضَ الشامِ ومصرَ، ولغةُ أهلِهما رُومِيَّةٌ،
وأرضَ العراقِ وخُرَاسَانَ ولغةُ أهلِهِمَا فارسيةٌ، وأهلَ المغربِ، ولغةُ أهلِها
بَرْبَرِيَّةٌ؛ عَوَّدُوا أهلَ هذه
البلادِ العربيةَ؛ حَتَّى غَلَبَتْ على أَهْلِ هذه الأمصارِ مُسْلِمِهِم وكافرِهم،
وهكذا كانت خراسانُ قديمًا.
ثم إنهم تَسَاهَلُوا في
أَمْرِ اللُّغَةِ، واعْتَادُوا الخِطَابَ بالفارسيةِ؛ حتى غَلَبَتْ عليهم، وَصَارَت
العربيةُ مَهْجُورَةً عندَ
كثيرٍ منهم، ولا ريبَ أنَّ هذا مكروهٌ، وإنما الطريقُ الحَسَنُ: اعتيادُ الخِطَابِ
بالعربيةِ، حتى يَتَلَقَّنَها الصغارُ في المَكَاتِبِ وفي الدُّورِ، فيَظْهَرَ شِعَارُ
الإسلامِ وأهلِه، ويكونَ ذلك أسهلَ على أهلِ الإسلامِ في فِقْهِ مَعَانِي الكتابِ
والسنةِ وكلامِ السلفِ، بخلافِ مَنِ اعْتَادَ لُغَةً، ثُمَّ أرادَ أنْ يَنْتَقِلَ
إلى أخرى؛ فإنه يَصْعُبُ.
واعلم أنَّ اعتيادَ
اللُّغَةِ يُؤثِّرُ في العقلِ، والخُلُقِ، والدِّينِ تأثيرًا قويًّا بَيِّنًا، وَيُؤثِّرُ
أيضًا في مُشَابَهَةِ صَدْرِ هذه الأُمَّةِ مِن الصحابةِ والتابعين، ومُشابهتُهُم
تَزِيدُ العقلَ والدِّينَ والخُلُقَ.
وأيضًا
فإنَّ نَفْسَ اللُّغَةَ العربيةَ مِن الدِّين، ومَعْرِفَتُهَا فَرْضٌ واجِبٌ، فَإِنَّ
فَهْمَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ فَرْضٌ، ولا يفهم إلَّا بِفَهْمِ اللُّغَةِ العربيةِ،
وَمَا لَا يَتِمُّ الواجبُ إلَّا به فهو واجبٌ.
ثُمَّ
مِنْهَا مَا هو واجبٌ على الأعيانِ، ومِنْهَا ما هو واجبٌ على الكِفَايةِ، وَهَذَا
مَعْنَى مَا رَوَاهُ أبو بَكْرِ بنُ أبي شَيْبَة، قال: حَدَّثَنا عيسى بن يونس عن
ثَوْرِ عن عُمَرَ بن زيد، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلى أبي موسى الأشعري –رضي
الله عنه-: «أَمَّا بَعْدُ: فَتَفَقَّهُوا في السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا في
العربيةِ، وأَعْرِبُوا القُرْآنَ، فإنهُ عربيٌّ».
وفي
حديثٍ آخر عن عُمر –رضي الله عنه- أنه
قال:
«تَعَلَّمُوا العربيةَ، فإنها مِن دينِكُم، وتَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ فَإِنَّهَا مِن
دينِكُم».
وهذا
الذي أَمَرَ به عُمَرُ –رضي الله عنه- مِن فِقْهِ
العربيةِ وفِقْهِ الشَّرِيعةِ، يَجْمَعُ ما يحتاجُ إليه؛ لأنَّ الدِّينَ فيه أقوالٌ
وأعمالٌ، فَفِقْهُ العربيةِ هو الطريقُ إلى فِقْهِ أقوالِهِ، وَفِقْهِ السُّنَّةِ
هو فِقْهُ أعمالِهِ.
حتى في هذه الأمورِ التي يظُنُّهَا كثيرٌ مِن المسلمين يسيرة، وبعضُهُم
لا يجعلُ لها خطرًا ولا قيمة؛ تجِدُ هذا التركيزَ العجيب مِن سلفِنَا الصالحين
تأسيًّا بنبيِّنَا الكريم ﷺ في الدلالةِ على وجوبِ المخالفةِ للكُفارِ والمشركين، وعلى النهيِ عن
الموافقةِ والمُشابهةِ للكُفارِ والمشركين؛ لكي تتميزَ الأُمَّة، ولتظهرَ
بسَمْتِهَا ودَلِّهَا وحركةِ حياتِها؛ لأنها أُمَّةٌ متبوعةٌ وليست بتابعةٍ، فإذا
انماعت وانْمَاثَت في الأُمَمِ؛ فإنَّ ذلك يُؤدي إلى خرابِ العالَمِ؛ لأنَّ
العالَمَ لا يصلُحُ إلَّا بنورِ النبوةِ.
وكلُّ ما كان قبلَ مُحمَّدٍ ﷺ فهو
إمَّا منسوخٌ، وإمَّا مُبَدَّلٌ مُحَرَّفٌ، وأمَّا مَا وَافَقَ مَا جَاءَ به
النبيُّ ﷺ، فَعِنْدَنَا مَا يُغْنِي عَنْهُ، فَصَارَ النُّورُ كلُّهُ نورُ
النُّبُوَّةِ فِيمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ رَبِّنَا ﷺ وَخَلِيلُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ.
ومعلومٌ أنَّ نورَ النبوةِ هو حياةُ العالَمِ، وأنَّ ما تَجِدُهُ مِن
الخيرِ في أُمَّةٍ مِن الأُمَمِ –ولو كانت
وثنية-، ما تجِدُهُ فيها مِن خيرٍ أو مِن خُلُقٍ صالحٍ؛ فهو أثرٌ مِن آثارِ
النبوةِ، إمَّا مِن آثارِ نبيٍّ كان فيهم قبلُ، وإمَّا ممَّا أخذوهُ عن الأُمَمِ
الذين أُرسِلَت فيهم الأنبياءُ، فذلك كذلك، ما في الدنيا مِن خيرٍ قطُّ إلَّا وهو
أَثَرٌ مِن آثارِ الوحي.
فَحَيَاةُ العَالَمِ إِنَّمَا هِيَ في الوَحْيِ المَعْصُومِ.
وهذا الوحيُ المعصومُ هو ما جاء به النبيُّ الكريم ﷺ، وهذا الوحيُ المعصومُ قد أنزلهُ اللهُ –تبارك وتعالى- باللغةِ العربيةِ، وبها نَطَقَ النبيُّ ﷺ الوحيَ الثاني -أعني:
السُّنَّةَ-، وكتبَ علماؤنَا تُراثَنَا كُلَّهُ بهذه اللغةِ الشريفةِ، فقَطْعُ
الصِّلَةِ بين أبناء الأُمَّةِ ولُغتِهِم؛ قَطْعُ صِلَتِهِم بِمَوْرُوثِهِم
وَتُرَاثِهِم وَدِينِهِم وَنَبِيِّهِم ﷺ
وَكِتَابِ ربِّهِم، كَمَا وَقَعَ في الأُمَمِ قَبْلَنَا؛ لأنَّ اللهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَم يَتَكَفَّل بِحِفْظِ كُتُبِهَا، فَحُرِّفَت،
وبُدِّلَت، وَغُيِّرَت، وَصُحِّفَت، لأنَّ اللهَ اسْتَأمَنَهُم عَلَيْهَا فَلَم
يَحْفَظُوهَا.
وأمَّا هذا الوحيُ الشريفُ العظيمُ المعصومُ؛ فإنَّ اللهَ تكفَّلَ
بحِفْظِهِ، هو كتابُ اللهِ –تبارك
وتعالى- وسُنَّةُ نبيِّهِ ﷺ، لأنَّ
الوحيَ مُبَيَّنٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، القرآنُ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، ولا
يُمكنُ بحالٍ مِن الأحوالِ أنْ يتكفلَ اللهُ –جلَّ وعلا- بحِفظِ المُبَيَّنِ مِن غيرِ أنْ يتكفلَ بحِفظِ
المُبَيِّنِ، وإلَّا لأحالنا على ما لا تَثِقُ النَّفْسُ به، ولأحالنا على ما لا
نفقهُهُ، ولا ندري معانيَهُ، فَحَفِظَ اللهُ هذا وهذا، ولا يُفْهَمُ الدِّينُ
إلَّا بِفِقْهِ العَربيةِ، ولذلك كان عُمَرُ يقول: «تَعَلَّمُوا العربيةَ، فإنها مِن
دينِكُم، وتَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ فَإِنَّهَا مِن دينِكُم».
وهذا الذي أَمَرَ به عُمَرُ –رضي الله عنه- مِن فِقْهِ العربيةِ وفِقْهِ الشَّرِيعةِ، يَجْمَعُ ما
يحتاجُ إليه؛ لأنَّ الدِّينَ فيه أقوالٌ وأعمالٌ، فَفِقْهُ العربيةِ هو الطريقُ
إلى فِقْهِ أقوالِهِ، وَفِقْهِ السُّنَّةِ هو فِقْهُ أعمالِهِ.
نسألُ اللهَ –جلَّت
قُدرتُهُ وتقدَّست أسماؤهُ أنْ يُعلَّمنا ما ينفعُنَا، وأنْ ينفعنا بما علَّمنا
وأنْ يزيدنا عِلمًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم
على نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
والحمدُ للهِ
ربِّ العالمين
موقع
تفريغ خُطَب علماء أهلِ السُّنة.
www.khotabtext.com
موقع
تفريغات العلَّامة رسلان –حفظهُ اللهُ-.
www.rslantext.com