تفريغ مقطع : رمضان فرصة للتائبين وبيان حقيقة الصيام
رَمَضَانَ فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِلتَّوْبَةِ، وَفُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ لِتَحْصِيلِ التَّقْوَى، وَلِلْاسْتِقَامَةِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الصِّيَامِ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَفِطَامُهَا عَنِ الْمَأْلُوفَاتِ، وَتَعْدِيلُ قُوَّتِهَا الشَّهْوَانِيَّةِ؛ لِتَسْتَعِدَّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمَّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيَّةُ.
وَيَكْسِرُ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ مِنْ حِدِّتِهَا وَسَوْرَتِهَا، وَيُذَكِّرُهُ بِحَالِ الْأَكْبَادِ الْجَائِعَةِ مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَتَضِيقُ مَجَارِيَ الشَّيْطَانِ مِنْ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتُحْبَسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنْ اسْتِرْسَالِهَا لِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ فِيمَا يَضُرُّهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، وَيُسَكَّنُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهَا وَكُلُّ قُوَّةٍ عَنْ جِمَاحِهِ، وَتُلْجَمُ بِلِجَامِهِ.
فَهُوَ لِجَامُ الْمُتَّقِينَ، وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنَّ الصَّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ؛ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ.
فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذَاتِهَا؛ إيثَارًا لِمَحَبَّةِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَالصِّيَامُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَرَكَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ وَمَوْلَاهُ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصَّوْمِ.
يُتَابِعُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بَيَانَ الْمَقْصُودِ مِنَ الصِّيَامِ:
((لِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ وَالْقُوَى الْبَاطِنَةِ، وَحِمْيَتِهَا عَنِ التَّخْلِيطِ الْجَالِبِ لَهَا الْمَوَادَّ الْفَاسِدَةَ الَّتِي إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا أَفْسَدَتْهَا، وَاسْتِفْرَاغِ الْمَوَادِّ الرَّدِيئَةِ الْمَانِعَةِ لَهَا مِنْ صِحَّتِهَا.
فَالصَّوْمُ يَحْفَظُ عَلَى الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ صِحَّتَهَا، وَيُعِيدُ إِلَيْهَا مَا اسْتَلَبَتْهُ مِنْهَا أَيْدِي الشَّهَوَاتِ، فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التَّقْوَى، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ». أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَنِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النِّكَاحِ، أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ بِالصِّيَامِ، وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هَذِهِ الشَّهْوَةِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَصَالِحَ الصَّوْمِ لَمَّا كَانَتْ مَشْهُودَةً بِالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ؛ شَرَعَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَحِمْيَةً لَهُمْ وَجُنَّةً.
وَالصَّوْمُ نَاهِيكَ بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ تَكُفُّ النَّفْسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا، وَتُخْرِجُهَا عَنْ شَبَهِ الْبَهَائِمِ إِلَى شَبَهِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا خُلِّيَتْ وَدَعَاوِي شَهَوَاتِهَا؛ الْتَحَقَتْ بِعَالَمِ الْبَهَائِمِ، فَإِذَا كُفَّتْ شَهَوَاتُهَا للهِ؛ ضُيِّقَتْ مَجَارِي الشَّيْطَانِ، وَصَارَتْ قَرِيبَةً مِنَ اللهِ بِتَرْكِ عَادَتِهَا وَشَهَوَاتِهَا؛ مَحَبَّةً لَهُ، وَإِيثَارًا لِمَرْضَاتِهِ، وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ.
فَيَدَعُ الصَّائِمُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَأَعْظَمَهَا لُصُوقًا بِنَفْسِهِ؛ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ، فَهُوَ عِبَادَةٌ، وَلَا تُتَصَوَّرُ حَقِيقَتُهَا إِلَّا بِتَرْكِ الشَّهْوَةِ للهِ، فَالصَّائِمُ يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهَوَاتِهِ؛ مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ.
وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الصَّائِمِ قَدْ صَامَ للهِ، فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الصِّيَامِ للهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الْإِضَافَةَ فِي الْحَدِيثِ، فَقَالَ: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا، قَالَ اللهُ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
حَتَّى إِنَّ الصَّائِمَ لَيتَصَوَّرَ بِصُورَةِ مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا فِي تَحْصِيلِ رِضَا اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأَيُّ حُسْنٍ يَزِيدُ عَلَى حُسْنِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تَكْسِرُ الشَّهْوَةَ، وَتَقْمَعُ النَّفْسَ، وَتُحْيِي الْقَلْبَ وَتُفْرِحُهُ، وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا -وَتُرَغِّبُ فِيمَا عِنْدَ اللهِ، وَتُذَكِّرُ الْأَغْنِيَاءَ بِشَأْنِ الْمَسَاكِينِ وَأَحْوَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَدْ أَخَذُوا بِنَصِيبٍ مِنْ عَيْشِهِمْ؛ فَتَعْطِفُ قُلُوبُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَعْلَمُونَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ؛ فَيَزْدَادُوا لَهُ شُكْرًا.
وَبِالْجُمْلَة؛ فَعَوْنُ الصَّوْمِ عَلَى تَقْوَى اللهِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ، فَمَا اسْتَعَانَ أَحَدٌ عَلَى تَقْوَى اللهِ، وَحِفْظِ حُدُودِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ بِمِثْلِ الصَّوْمِ.
فَهُوَ شَاهِدٌ لِمَنْ شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ أَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا شَرَعَهُ؛ إِحْسَانًا إِلَى عِبَادِهِ، وَرَحْمَةً بِهِمْ، وَلُطْفًا بِهِمْ، لَا بُخْلًا عَلَيْهِمْ بِرِزْقِهِ، وَلَا مُجَرَّدَ تَكْلِيفٍ وَتَعْذِيبٍ خَالٍ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، بَلْ هُوَ غَايَةُ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ شَرْعَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ.
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْقِيَامِ بِمَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا؛ قِيَامًا يُرْضِيهِ وَيَرْضَى بِهِ عَنَّا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
التعليقات
مقاطع قد تعجبك