((تطور
فكر الخوارج في العصر الحديث))
وهاهنا سؤال هو: هل جاءت هذه
الأصول دَفعةً واحدة؟ والتزم بها الجميع من أولِّهم إلى آخرهم؟
الجواب: إنَّ البدعة تبدأ
صغيرة ثم تنمو وتكبُر شيئًا فشيئًا.
قال شيخ الإسلام –رحمه
الله-: ((فالبدعُ تكون في أولِّها شبرًا ثم تكثُر في الأتباعِ حتى
تصيرَ أذرُعًا وأميالًا وفراسخ)).
ومما يؤكد الكلامَ الثاقبَ
لشيخِ الإسلام –رحمه الله-: أنَّ البدعة تنمو قليلًا قليلًا وشيئًا
فشيئًا؛ أنَّ مُنظري المرحلةِ الثانية نصُّوا صراحةً على عدمِ تكفيرهم طوائفَ
الحُكام كما سيأتي النقلُ –إن شاء الله- عند استعراضِ المرحلةِ الثانية.
وأما المرحلة
الثالثة –وهي المرحلة الحالية-: فإنَّ أهلها لم يتوقفوا عند كُفر الحُكام؛ بل كفَّروا
طوائف، كفَّروا طوائفهم وعند البعض كفَّروا من لم يُكفِّرُهم.
فالمنهجُ الخارجيُّ في عصرنا
قام في أولِّ أمره على بعضِ الأصول، ثم بدأ يزيدُ قليلًا قليلًا وينمو شيئًا
فشيئًا، والذي يُسجَّلُ على أوائلِ حملةِ هذا الفكرِ في العصر الحاضر أمران:
*أنَّ شرارة البدء كانت منهم
حيث انحرفوا في تفسيرِ دعوةِ التوحيدِ ودعوةِ الشرك، كما مرَّت الإشارة إليه في
التفسير السياسي، وأنَّ اللهَ ما أرسل الرُّسل ولا أنزل الكتب إلا من أجل
الحاكمية، وأنَّ فرعون لم يكن مشركًا في الربوبية وكذا النمرود لم يكن مشركًا في
الربوبية وإنما كان منازعًا في حاكمية الله –جل
وعلا-، فهذا شِركهُ عند خوارج العصر؛ لأنهم يُفسرون الإسلام تفسيرًا سياسيًا.
يقولون: إنَّ شرارة البدء
كانت منهم.
الذي يُسجَّل على أوائلِ
حملةِ هذا الفكر في العصر الحاضر أمران:
أنَّ شرارةَ البدءِ كانت
منهم –أي من أولئك الأوائل- حيث انحرفوا في تفسيرِ دعوةِ
التوحيدِ ودعوةِ الشرك، والمراد هاهنا: ((أبو الأعلى المودودي)) و((سيد قطب)) كما
سيأتي تفصيلًا -إن شاء الله جلَّ وعلا-.
*وأما الأمر الثاني: فهو أن
الأوائلَ ذكروا أصولًا عامة، وهذه الأصولُ العامة كانت هي المرتكز لِما بعدها من
الأصول والركن الركين.
وهاهنا مثالٌ يُقرِّب ذلك:
قال ((أبو محمد المقدسيُّ)) –عليه
من الله ما يستحقه-: ((الأصلُ في الجيوش والشرطة ورجال المرور الكُفر، قال:
ونقاتلهم على أنهم كُفار لأن الله قال في كتابه: {فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا
انفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256}.
يقول: وكل مَن جعل من نفسهِ
جنديًا للطاغوت ونصيرًا وعونًا وحارسًا له، مختارًا لا مُكرهًا ولا مُجبرًا، لا شك
أنه لم يجتنب الطاغوت، ومَن لم يجتنب الطاغوت فليس بموحدٍ ولا مسلم لأنه لم يُحقق
أدنى درجاتِ التوحيد)). قال ذلك في رسالة ((تذكير ومناصحة)).
فكفَّر اللاحقُ الجيوش
والشُّرط ومن يوالي الحكام لأنَّ السابق من الأوائل كفَّر الحكام وترتب على ذلك
التكفير عند من جاء بعدهم أصولٌ أخرى.
فالأوائلُ منهم ((أبو الأعلى
المودودي)) –وهذه الكُنية لا يصحُّ أن تُتخذ أصلًا كما في كُنية أبي
الحكم؛ قد غيرها النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- وقال: ((إنَّ الحَكَمَ هو الله وإليه الحُكْم))، وسأل عن أكبرِ أبنائهِ؛
فكنَّاه به، فلا يجوز أن يتكنى رجل أو يُكنِّي أحدًا؛ لا ابنًا ولا غيرَه بأبي
الأعلى، هذا لا يجوز، ولكن هذا ما يُعرف به، وسنجتهد في أن نقول عنه بعد ذلك
((المودودي)) فرارًا من النطقِ بهذه الكُنية التي لا تصح شرعًا.
ف((المودودي)) و((سيد قطب))
أصَّلا أصولًا عامة ومدَّ من أتى بعدهما الخطَّ على استقامتهِ حتى كُفِّرَت
المجتمعاتُ كلُّها، فأوائلهم كفَّروا الحكام وأتى من كفَّر الطوائفَ بعد، وأتى بعد
ذلك من كفَّر المجتمعات كلها، كما سيأتي –إن
شاء الله- في تتبعِ مراحلِ تكفيرِ خوارجِ عصرِنا للمسلمين في ديارِ الإسلام.
أوائلُهم وضعوا أصولًا؛
كفَّروا الحكام، وترتب على ذلك التكفير عند مَن جاء بعدهم أصولٌ أخرى، كذلك
أوائلهم الذين أحدثوا القولَ بعدمِ وجودِ جماعةٍ للمسلمين وأنَّ غايةَ الإسلامِ
العظمى: هي إقامةُ دولةٍ للإسلام –يعني: الحاكمية-، هذا ما أحدثهُ أوائلُهم، فجاء الشبابُ
من بعدهم ومن أجلِ هذه الغاية الموهومة وهي إقامةُ دولةِ الإسلام أو إقامةُ
الخلافة؛ فحملوا الأطنان من المتفجرات وفجَّروها في ديارِ الإسلام؛ جازمين
ومُعتقدين أنَّ ما يفعلونه لَبِنةٌ من لَبِنات إقامةِ المقصود الإلهي وهو إقامةُ
الخلافة زعموا.
في ذلك يقول ((أبو قتادة)) –عليه
من الله ما يستحقه-: ((أما موجباتُ حركاتِ الجهاد في ديارِ الرِدَّة –يريد
بديار الرِدَّة: ديار الإسلام- يقول: أما موجبات حركات الجهاد في ديار الردة –يقصد
بها ديارَ الإسلام- فهي إعادة العِقد الجامعِ لشتاتِ المسلمين –أي
دولة الخلافة الضائعة- فلما سقطت الخلافة انفرط عِقدُ الأمة، فلم تَعُد تستحق اسمَ
الأمة)).
فيتضحُ من هذا النص: أنَّ
منظري المرحلة الأولى قالوا بعدمِ وجودِ جماعةٍ للمسلمين ولابد من إقامةِ دولةِ
الخلافة، اقتنع أصحابُ المرحلة الثانية وأصحابُ المرحلة الثالثة بهذا الأصل وحملوا
السلاح من أجل هذه الغاية الموهومةِ التي لا دليل عليها لا من الكتاب، ولا من
السُّنة، ولم يقُل بهذا القولِ عالمٌ مُعتبر على الرغمِ مِن افتراقِ الأمةِ
الإسلامية منذ عهد الإمامِ أحمد، وعلى فتراتٍ متقطعةٍ في أواخرِ زمنِ الصحابة،
وسوف يأتي الكلام عن ذلك بشكلٍ أوسع –إن شاء الله جل
وعلا-.
كذلك قتلُ أهل الذمة: قتلُ
المستأمنين، قتلُ أهلِ الكتاب من المواطنين الأصليين في ديارِ الإسلام، قتلُ هؤلاء
كان نتَاجًا طبيعيًا لتكفيرِ الحاكمِ من قِبلِ الأوائل، فقال الأواخر: الحاكمُ
المرتد لا يملكُ الأمان لنفسهِ فضلًا أن يُؤمِّنَ غيره كما يقولون.
لذلك من باب التقريب لفهمِ
كيفية تطور منهج الخوارج في العصر الحاضر؛ تمَّ تقسيمُ مراحلِ نشوء ذلك الفكر إلى
ثلاثِ مراحل، وهذا التقسيم قُدِّمَ بين يديه الأدلةُ القاطعةُ التي لا يرتقي إليها
شك؛ بأنَّ هذه المراحلَ الثلاث امتدادٌ لبعضِها ومُكَمِّلةٌ لبعضها، ووقع النقلُ
في كلِّ مرحلة بالثناءِ الجميلِ للأوائل؛ فأثنى عليهم الأواخر من مؤسسي هذا الفِكر
–أثنوا على أوائلهم-.
فهذا ما تيسر ذِكرُهُ في
كيفيةِ نشأةِ منهجِ الخوارج في العصرِ الحاضر من حيث الجُملة.
وهذا المبحث يصلُحُ أنْ
يكونَ رسالةً علميةً مستقلة حتى يُعطى حقَّه من الجمعِ والتدوينِ والإيضاح، فإنَّ
معرفةَ كيفية نشوءِ الداء أصلٌ مهمٌ في وصفِ العلاج وتحديدِ الدواء.
فهذا مطلوب؛ بل هو مطلوبٌ
مُهم؛ لكي نعرفَ كيف وصلنا إلى ما نحن فيه.
ما هي الطريقُ التي سُلكت
والسبيلُ التي تمَّ السيرُ فيها حتى وصلنا إلى النتيجةِ التي نحن عليها الآن
والموضعُ الذي نحن فيه؟
فالرسول -صلى الله عليه وآله
وسلم- أخبر عن هذه الفتن التي ما تزالُ تقعُ صباحَ مساء، فيصبحُ الناس على فَعلةٍ شنيعةٍ
من أفعالِ الخوارج الذين لا هَمَّ لهم إلا في إحداثِ الفوضى وإراقةِ الدماء يقتلون
المسلمين؛ لأنهم يحكمون عليهم بالكُفر المبين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله
وسلم-: ((كلما طلع قرنٌ قُطع)).
فلا تخافوا أيها المسلمون، فما
يصنعون؟!!
قتيلُهم الذي يقتلونه خيرُ قتيلٍ
تحت أديمِ السماء، وقتلاهم –أي: الذين يُقتلون منهم- شرُّ القتلى تحت أديمِ السماء. فماذا
تَحْذَرون؟
هؤلاء الذين انحرفوا عن الاسلام،
وخرجوا عن جَادةِ الصواب؛ يعتقدون أنهم إذا ما فَجَّر الواحدُ منهم نفسَهُ، إذا ما
أورد الواحدُ منهم نفسهُ حتفَهُ، إذا ما قتلَ الواحد منهم نفسهُ منتحرا ... فما هي
إلا طَرفةُ العين أو انتباهتها أو ما أقلَّ من ذلك حتى يخرجَ من هاهنا إلى الجنَّةِ
بأنهارِها وحورِ عِينها على حسبِ أوهامهم وخرافاتهم، ولكن هذا لكم إنْ قتلوكم، فما
يضرُّكم لو ثَبَتُّم؟
أيها المسلمون إنكم إنْ ثَبَتم
أمام أولئك المجرمين فلن يضروكم شيئا، ((كلما طلع قرنٌ
منهم قُطع)) كما قال الرسول.
فليفجِّروا وليُدَمِّروا وليُخَرِّبوا
وليُقتِّلوا.
قتلاهم -كما قال رسول الله-:
((شرُّ قتلى تحت أديم السماء، وقتلاكم ـ إنْ قتلوكم ـ
خيرُ قتلى تحت أديم السماء)).
نسأل اللهَ أن يُسلِّم وطننا وجميع أوطان المسلمين،
إنه تعالى على كل شيءٍ قدير، وأن يُنجيَنا جميعًا من مُضلاتِ الفتن ما ظهر منها وما
بطن.
وأنْ يأخذَ على أيدي المجرمين
المفسدين وأنْ يُمكِّنَ منهم أجمعين.
إنه تعالى على كل شيءٍ قدير،
وصلى الله وسلم على نبينا مُحمد وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعين.