فَمَا زَالَت الأحداثُ الداميةُ التي تَقَعُ في مِصْرَ
تَدُلُّ على أنَّ أَكْثَرَ الذينَ يتناولونَهَا بالتحليلِ والتفسيرِ والتوضيحِ
والتَّبِيينِ؛ لا يَخْرُجُ تَنَاولُهُم عَن الثرثرةِ الفارغةِ الجاهلةِ بحقيقةِ
المعركةِ الدائرةِ وماهيَّةِ الصِّرَاعِ المُحْتَدِمِ, وَلَا شَكَّ أنَّهُ عِنْدَ
احتدامِ الصِّرَاعِ يَتَوَارَى الصوابُ, وَمِن أكبرِ العَيْبِ، وهو دليلٌ قاطعٌ
على انعدامِ المُروءةِ, وَفُجْرِ الخصومةِ, وتَدَنِّي النَّفْسِ أنْ يُتَاجَرَ
بالأشْلَاءِ والدِّمَاءِ, وأنْ يُزَايَدَ على الحَسَرَاتِ والعَبَرَاتِ!!
هل يَعْلَمُ الذينَ يَمْلَؤُونَ الدنيا في الفضائياتِ
ثَرْثَرَةً وَكَلَامًا, ويَمْلَؤُونَ الأوراقَ في الصُّحُفِ والمَجَلَّاتِ
مِدَادًا وَسَوَادًا, ويَزْحَمُونَ العَالَمَ الافتراضيَّ أكاذيبَ وبُهْتَانًا,
هَل يَعْلَمُ هؤلاء أنَّ الحربَ التي تخوضُهَا مِصْر –قِيَادَةً
وَجَيْشًا وشُرْطَةً وَشَعْبًا- حَرْبٌ عقائديةٌ؟
فَهَل تُخَاضُ هذه الحربُ بالاعتداءِ على الدِّينِ
والطَّعْنِ في ثَوَابِتِهِ؟
أليسَ هذا مِمَّا يُعْطِي الحُجَّةَ للتكفيريينَ أمامَ
أنفُسِهِم؟!
وهل يَعْلَمُ المُتكلمونَ أنَّ الذينَ يُكَفِّرونَ
ويُفَجِّرُونَ ويَنْسِفُونَ ويَقْتُلُونَ يعتقدونَ أنَّ المسلمينَ أَشَدُّ كُفْرًا
مِن المَسيحيينَ واليهود؟!
يَعْتَقِدُونَ أنَّ المُسلمينَ مُرْتَدِّينَ عن
الإسلامِ؛ بَيْنَمَا الآخرونَ أَهْلُ كتابٍ, فَهُم أقربُ إليهم مِن المُسلمينَ
المُرتدِّين!!
وهل يَعْلَمُ هؤلاء المُحَلِّلُونَ أنَّ الاعتداءَ على
الكنائسِ وقَتْلَ المسيحيينَ لَيْسَ مَقْصُودًا أَوَّليًّا عندَ التكفيريين؟!
وَهُم لا يحتاجونَ إلى مَن يُعَلِّمُهُم أنَّ
المَسيحيينَ كُفَّار؛ فيقومونَ بِقَتْلِهِم لِكُفْرِهِم، وكيفَ ذلك وَهُم
يُكَفِّرُونَ المُسلمينَ, وَيُكَفِّرُونَ مَنْ يقولُ بِتِلْكَ المَقولةِ مِن
المُسلمين!!
إنَّ المَقصودَ الأَوَّلَ هو مِصْر –قِيَادَةً
وَشَعْبًا وَشُرْطَةً وَجَيْشًا-, المقصودُ هو الدولةُ, والتكفيريونَ يُكَفِّرُونَ
المُسلمينَ أَشَدَّ مِن تكفيرِهِم للمَسيحيين.
فهل يَعْلَمُ الذينَ يَمْلَؤُونَ الدنيا في الفضائياتِ
ثَرْثَرَةً وَكَلَامًا, و يَمْلَؤُونَ
الأوراقَ في الصُّحُفِ والمَجَلَّاتِ مِدَادًا وَسَوَادًا, وَيَزْحَمُونَ
العَالَمَ الافتراضيَّ أكاذيبَ وبُهْتَانًا؛ أنَّ اللَّعِبَ بالعقائدِ سَكْبٌ
للنِّفْطِ على النَّارِ؟!
لأنَّ المسيحيَّ لا يكونُ مَسيحيًّا إلَّا إذا آمنَ
بـ((عقائدِ التَّثْليثِ والخَلَاصِ والصَّلْبِ والفِدَاءِ)), والمسلمُ لا يكونُ
مُسْلِمًا إلَّا إذا كانَ بِتِلْكَ العقائدِ كافرًا, ولأنَّ المُسْلِمَ لا يكونُ
مُسْلِمًا إلَّا إذا آمنَ بـ((الرِّسَالَةِ والرَّسُولِ والقُرآنِ)), والمسيحيُّ
لا يكونُ مَسيحيًّا إلَّا إذا كان بِتِلْكَ العَقَائِدِ كَافِرًا.
وَهَل سَمِعَ أولئك المُحَرِّضُونَ على الفِتْنَةِ
والمُؤجِّجُونَ لنِيرَانِهَا نصيحةَ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر عندما قالَ:
((أَنَا أَنْصَحُ الشَّبَابَ وأَنْصَحُ النَّاسَ ميلعبوش على الكلمة دي.
قال المُذيعُ: مِن الجَانِبيْن؟
قال الشيخُ: مِن الجَانِبيْن, طَبْعًا مِن الجَانِبيْن.
قال:
وهذا الكلامُ قُلْتُهُ في مُحاضرةٍ مع قِسِّيسٍ في روما -قِسِّيسٍ عربيٍّ مِن
الشرقِ يعني-، قال: إِنَّكُم أَنْتُم بِتتهمونَنَا بِالكُفْرِ.
قُلتُ له: بِمَاذَا تُسَمِّيني؟
سَكَتَ قَلِيلًا وقال: أنتَ مُؤمنٌ!!
قُلْتُ: أنا مؤمنٌ مُمكِنٌ؛ ولَكِن بِمَاذَا تُسَمِّي مَوْقِفِي مِن التَّثْلِيثِ؟
سَكَتَ؛ لأنَّهُ لا يَسَعُهُ إلَّا أنْ يقولَ: أنتَ
كافرٌ مِن وِجْهَةِ نَظري.
قال الشيخُ: لو شيلنا الحدودَ الفاصلةَ والمَانِعَةَ بينَ الأديان؛
هنبقى أمامَ عقيدةٍ واحدةٍ ودينٍ واحدٍ، ودا مش هيحصل.
وفي نصيحةِ الشيخِ قالَ: إذا قُلْنَا عايزين يقولوا إنَّ المَسيحيين -كما
يَشْغَبُ كثيرٌ مِن الشبابِ الذي لا يفهمُ الإسلامَ- أنهم يُسَمَّوْنَ كُفَّارًا
لأنَّهُم كَفَرُوا بالإسلامِ...
قال الشيخُ: نعم؛ لأنهم لا يُؤمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ،
ولا بالقُرآنِ, أَعْتَبِرُهُم مِن هذه الناحيةِ كُفَّارًا بالنسبةِ لي, لَكِنْ في
نَفْسِ الشَّيءِ بِمَا أنني مُسْلِمٌ لا أؤمنُ بالتثليثِ, ولا أؤمنُ بالمسيحيةِ
كما هي الآن؛ أنا أُعْتَبَرُ كَافِرًا بالنسبةِ لَهُم.
قال الشيخُ: خلينا نتكلمُ بِصَرَاحَة, نحن في نظرِ المؤسساتِ
الدينيةِ الغربيةِ الكُبرى كُفَّار، بل قُل لي: الحروب الصَّليبيَّة –يعني
حينما رُوِّجَت هناك في الغربِ- رُوِّجَت لإنقاذِ قَبْرِ المسيحِ –عليه
السلام- أو مَرْقَدِهِ أو مَوْلِدِهِ –يعني تحريرَ
بيتِ المَقْدس- مِن أيدي الكُفَّارِ المُسلمينَ!!
قالَ: تَجِدُ كلمةَ الكُفَّارَ وكلمةَ المُسلمينَ جنب بعض!!
إذن يعني أنا أنصحُ الشبابَ، وأنصحُ النَّاسَ ميلعبوش
على الكلمةِ دي)). انتهى كلامُهُ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ الكَنِيسَةَ الكاثوليكيةَ تُكَفِّرُ
الكنيسةَ الأُرثوذوكسيةَ, والكنيسةَ الإنجيليَّةَ البروتستانتيةَ تُكَفِّرُ
الكنيستيْن, وأنا بِدَوْرِي أَنْصَحُ النَّافِخِينَ في النَّارِ والنَّهَازِينَ
للفُرَصِ -ولو على الأشلاءِ والدِّمَاءِ, ولو خَوْضًا في بَحْرٍ مِن الدُّمُوعِ
والعَبَرَاتِ!!- أَنْصَحُهُم أنَّ يَكُفُّوا مِن اللَّعِبِ على هذه الكلماتِ,
والتحريشِ بينَ النَّاسِ بَعْضِهِم بَعْضًا, والتحريشِ بينَ النَّاسِ
والسُّلُطَاتِ؛ لأنَّ هذا لا يَزِيدُ النَّارَ إلَّا اشْتِعَالًا.
هؤلاء إِنَّمَا يَرَوْنَ أَنَّهُم في فرصةٍ تاريخيةٍ
بالنسبةِ لَهُم –بالنسبةِ لليبراليةِ والعلمانيةِ وما أَشْبَهَ-، فإنْ لم
يَنْتَهِزُوهَا الآن -ولو على أنقاضِ هذا الوطنِ, ولو خَاضُوا إلى مَأرِبِهِم
أَنْهَارًا مِن الدِّمَاءِ- فإنَّهَا لن تعودَ إليهم أبدًا!!
لذلك تَجِدُ هذا التأجيجَ والخَبْطَ في ثوابتِ الدِّينِ,
مِمَّا يجعلُ المُتَطَرِّفَ يزدادُ تَطَرُّفًا, ويجعلُ المُحايدَ ينتقلُ إلى
مُعَسْكَرِ المُتطرفين, ويجعلُ التكفيرَ سَاريًا في الأُمَّةِ سريانَ النَّارِ مِن
الهَشِيمِ؛ لأنهم يسمعونَ في الصباحِ وفي المساءِ هَرْطَقَةً وَزَنْدَقَةً
وَكُفْرًا باللهِ رَبِّ العَالَمِين!!
وهذا لا يَرْضَاهُ الشَّعْبُ المُسلمُ, لا يَقْبَلُهُ
ولا يُحِبُّ أنْ يَسْمَعَهُ, ولا يُحِبُّ أنْ يَرَى أَبْنَاءَهُ يُتَخَطَّفُونَ في
الطُّرُقَاتِ إلى الإلحادِ تَارَةً, وإلى الشَّكِّ تَارَةً, وإلى الفجورِ
والمُجُونِ تَارَةً!!
اتَّقُوا اللهَ في هذا البلدِ.
ثُمَّ إنَّ الذينَ يُحَلِّلُونَ وَيَتفلسفونَ
ويُؤجِّجُونَ نيرانَ الفتنةِ لا يستطيعونَ أنْ يُنَاظِرُوا وَاحِدًا مِن
التكفيريين!! لا يُنَاظِرُ التكفيريينَ ولا يَقْمَعُ حُجَّتَهُم بالحُجَّةِ
والدليلِ إلَّا مَن يُحَرِّشُونَ السُّلُطَاتِ عَليهم, وجهودُهُم في محاربةِ
التكفيرِ معلومةً ورائعةً, وهؤلاء جهودُهُم في سَحْبِ النَّاسِ إلى التكفيرِ واضحةٌ
ودَامِغَةٌ؛ فَليَتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ في البلدِ, فَليَتَّقُوا اللهَ
رَبَّ العَالَمِينَ في الإسلامِ!! لا؛ هُم لا يُبَالُونَ بذلك!! فَليَتَّقُوا
اللهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في الأنَاسيِّ, في الحيواناتِ, في
هذا الشَّعْبِ المُستكينِ الضَّارِعِ إلى رَبِّهِ أنْ يُنَجِّيَهُ مِن الفِتَنِ,
وأنْ يَرْزَقَهُ اللُّقْمَةَ الحَلَالَ؛ هذا أَمَلُهُ، فَليَبْتَعِدُوا عن هذا
التَّحريشِ.
فَمَا الذي يُفِيدُهُ العَاميُّ مِن عِلْمِهِ بأنَّ
البُخاريَّ كان كذا وكذا, وأنَّ الأئمةَ الأربعةَ كانوا كذا وكذا, وأنَّ الصَّحَابَةَ
سَالَت بينهُم أنهارُ الدِّمَاءِ؟!!
هذا يُنَاقَشُ لو كانت عليه حُجَّةٌ بين المُتخصصين,
وأَمَّا أنْ يُذَاعَ هذا، فهذه هي الفِتْنَةُ بِعَيْنِهَا, ويَجِبُ على ولاةِ
الأمرِ أنْ يَكُفُّوا أولئك عن إثارةِ الفتنِ في البلادِ, وإلَّا فالعاقبةُ لن
تَسُرَّ أَحَدًا بحالٍ -نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ-.
فأنصحُ النَّافِخِينَ في النَّارِ والنَّهَازينَ
للفُرَصِ -ولو على الأشلاءِ والدِّمَاءِ, وَلَو خَوْضًا في بحرٍ مِن الدموعِ
والعَبَرَاتِ!!- أنْ يَكُفُّوا عَن اللَّعِبِ على هذه الكلماتِ, وأنْ يَكُفُّوا عن
كلامِهِم في الدينِ والسياسةِ والتحليلِ والتحريشِ, ولَيَعْلَمُوا جَمِيعًا أنهم
يُخَالِفُونَ المِهنيَّةَ الحَقَّةَ التي يَدِينونَ بِهَا؛ لأنَّ مُقَدِّمَ
البرامج لَيْسَ له دَخْلٌ في مَا يُقَالُ!!
هو إِنَّمَا يُوَجِّهُ البرنامج إلى ما عُقِدَ الكلامُ
عليه, أَمَّا أنْ يصيرَ هو مُحَلِّلًا وَمُنَظِّرًا, أَمَّا أنْ يصيرَ هو
مُفْتِيًا وَمُتَكَلِمًا في الدِّينِ وفي غيرِ الدِّينِ؛ فَهَذَا لَيْسَ مِن
المِهنيَّةِ في شَيءٍ.
نَاقِلُ الأخبارِ في الإذاعةِ المَسموعةِ أو المرئيةِ أو
حتى في الصُّحُفِ السَّيَّارةِ ينبغي أنْ يُطَالِبَ بشيءٍ وَاحِدٍ؛ بِالصِّدْقِ في
النَّقْلِ, أَمَّا رَأْيُهُ هو إنْ أَصَرَّ على أنْ يُبْديَهُ؛ فَليَتَحوَّل مِن
مُقَدِّمٍ للبرامجِ –مِن مُذِيعٍ للأنباءِ-, أنْ يتحولَ مِن كاتبٍ لعمودٍ أو
مَقَالَةٍ يَسْرِدُ فِيهَا أَخْبَارًا إلى مُحَلِّلٍ وَلَهُ مَقَامٌ آخر,
والرَّدُّ عليه يكونُ بطريقةٍ أُخرى.
أَمَّا هذا الخَلْطُ المَعِيبُ؛ فهو في النهايةِ يُؤدِّي
إلى طَرِيقٍ مَسْدُودٍ, إلى عاقبةٍ وَبِيلَةٍ –نسألُ
اللهَ السلامةَ والعافيةَ-.