فَمَنْ شَرَعَ عِبَادَةً لِسَبَبٍ لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ
سَبَبًا فَإِنَّهَا لَا تُقبَل؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَأْذَن بِهَا, مِنْ ذَلِكَ
مَا يُفْعَلُ فِي شَهرِ رَبِيعٍ الأَوَّل مِنَ الاحتِفَالِ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ.
فِإنَّ الاحتِفَالَ بِالمَوْلِدِ إِنَّمَا يَحمِلُ عَلَيهِ
مَحَبَّةُ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عِندَ مَنْ احتَفَلَ بِهِ,
أَوْ يَحمِلُ عَلَيهِ مُضَاهَاةُ النَّصَارَى الَّذِينَ يَحتَفِلُونَ بِمَوْلِدِ المَسِيحِ
عِيسَى ابنِ مَرْيَم –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-, أَوْ لِأَسبَابٍ أُخْرَى.
لَكِنَّ غَالِبَهُم إِنَّمَا يَحمِلَهُم عَلَى الاحْتِفَالِ
مَحَبَّةُ الرَّسُولِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَذِكرَى وَلَادَتِه –كمَا
زَعَمُوا-!!
هَذهِ البِدْعَةُ لَمْ تَكُنْ مَعرُوفَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ
–صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-, وَلَا فِي عَهْدِ الخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ, وَلَا فِي عَهْدِ الصَّحَابَة, وَلَا فِي عَهْدِ التَّابِعِينَ, وَلَا
فِي عَهْدِ تَابِعِي التَّابِعِينَ, وَإِنَّمَا أُحْدِثَت فِي القَرْنِ الرَّابِعِ
الهِجْرِيِّ.
وَقَد ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ –صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- حَذَّرَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الأُمُور, فَقَالَ: ((إيَّاكُم
وَمُحدَثَاتِ الأُمُورِ, فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة)) أَخْرَجَهُ أَبْو دَاوُد
وَالتِّرمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَغَيرُهُم مِنْ حَدِيثِ العِربَاضِ بنِ سَارِيَةَ
–رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي أَكْثَرَ
مِنْ مَوْضِعٍ.
فَإِنْ قَالَ قَائلٌ: أَنَا لَا أَعْمَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَحَبَّةً
لِرَسُولِ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- .يَعْنِي: الاحْتِفَالَ
بِالمَولِدِ.
فَيَقُولُ: أَنَا أَصْنَعُ هَذَا مَحَبَّةً لِلنَّبِيِّ –صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-!!
** الجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَين:
* الوَجْهُ الأَوَّلُ: أَنَّ مِنْ عَلَامَةِ المَحَبَّة
-وَهُوَ أَصْدَقُ عَلَامَاتِهَا-, أَنْ يَكُونَ المُحِبُّ مُتَّبِعًا لِمَنْ أَحَبَّهُ,
قَالَ اللهُ –جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْدَقَ عَلَامَاتِ المَحَبَّة، فَاتِّبَاعُ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِي ذَلِكَ أَلَّا يُقِيمَ هَذِهِ البِدْعَة؛
لِأَنَّهَا شَيءٌ لَمْ يَفْعَلهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَحَقِيقَةُ
الاتِّبَاعِ أَنْ لَا يَأتِيَ بِشَيءٍ لَمْ يَفعَلهُ. -هَذَا هُوَ الوَجْهُ الأَوَّلُ-
* الوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّكَ لَسْتَ أَشَدَّ مَحَبَّةً
لِرَسُولِ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِنْ خُلَفَائهِ وَأَصْحَابِه،
وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُحِبَّ الرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-
أَعْظَمَ مِمَّا يُحِبُّهُ أَبْو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُم
مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُم- وَكَذا مِنَ التَّابِعِين...
هَؤلَاءِ كُلُّهُم مَعَ مَحَبَّتِهِم لِرَسُولِ اللهِ –صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُم يُرِيدُونَ أَنْ
يُطَبِّقُوا حَقِيقَةَ المَحَبَّةِ تَمَامًا، وَهِيَ أَنْ يَتَّبِعُوا الرَّسُولَ
-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، فَكَمَا أَنَّ
فِعْلَ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- سُنَّة...
هَذَا وَجْهٌ مُهِمٌّ, يَعْنِي أَنْتَ تَقُول –يَعْنِي-
هُدِيتَ إِلَى مَا لَمْ يُهْدَى إِلَيهِ الرَّاشِدُون, وَلَمْ يُهْدَى إِلَيهِ الصَّحَابَةُ
أَجمَعُون, وَلَمْ يُهْدَى إِلَيهِ التَّابِعُونَ, وَلَا تَابِعُوا التَّابِعِينَ,
وَلَا تَبَعُوا أَتبَاعِهِم, لَمْ يُهْدَى إِلَيهِ أَحَدٌ فِي القُرُونِ المُفَضَّلَةِ,
وَهُدِيتَ إِلَيهِ أَنْت!!
...لَمْ يَفْعَلُوا شَيئًا مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُم يُرِيدُونَ
أَنْ يُطَبِّقُوا حَقِيقَةَ المَحَبَّةِ تَمَامًا، وَهِيَ أَنْ يَتَّبِعُوا الرَّسُولَ
-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِي فِعلِهِ وَتَركِهِ، فَكَمَا أَنَّ فِعْلَ مَا
فَعَلَهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- سُنَّة, فَكَذَلِكَ تَرْكُ مَا
تَرَكَهُ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ سُنَّة, وَانتِفَاءِ المَانِع مِنْهُ.
كَمَا هُوَ مَعرُوفٌ فِي السُّنَّةِ التَّركِيَّة: فَهِيَ
كُلُّ مَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مَعَ قِيَامِ المُقتَضِي
لِفِعلِهِ, وَانتِفَاءِ المَانِع مِنْ فِعْلِهِ.
فَمَعَ ذَلِكَ تَرَكَهُ النَّبِيُّ –صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَفعَلْه, فَيَكُونُ التَّرْكُ سُنَّةً, وَيَكُونُ
الفِعْلُ بِدْعَة.
لَوْ طَبَّقنَا هَذِهِ القَاعِدة هَاهُنَا؛ لَقُولْنَا أَنَّ
عَدَمَ الاحْتِفَالِ سُنَّةٌ تَركِيَّةٌ, فَالمُتَسَنِّنُ حَقًّا هُوَ الَّذِي يَترُكُ
الاحْتِفَالَ عَلَى النَّحْوِ المُحْدَثِ. وَكَذَلِكَ الذِي يَفعَلُهُ يَكُونُ مُخَالِفًا
لِلنَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لِمَا؟
لِأَنَّهُ مِنَ المَقَاصِدِ العَظِيمَةِ فِي الدِّينِ, أَنْ
نَفْرَحَ بِنِعمَةِ اللهِ عَلَيْنَا وَبِفَضْلِهِ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
فَالمُقتَضِي لِلاحْتِفَالِ -لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا-
كَانَ مَوجُودًا, وَلَا مَانِعَ كَانَ يَمْنَعُ النَّبِيَّ –صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَنْ يَأمُرَ أصْحَابَه بِأَنْ يَحتَفِلُوا بِذَلِكَ,
وَأَنْ يَحتَفِلَ هُوَ أَيضًا, وَلَكِنْ مَعَ قِيَامِ المُقتَضِي, وَانتِفَاءِ المَانِعِ
لَمْ يَفْعَل؛ فَصَارَ التَّركُ سُنَّة.
بَلْ إِنَّهُ دَلَّنَا عَلَى أَمْرٍ آخَرَ لَمَّا سُئِلَ
عَن صَوْمِ الإِثنَينِ وَالخَمِيسِ؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ –صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ يَصُومُ الإِثنَين؛ لِأَنَّهُ يَومٌ وُلِدَ فِيهِ,
وَأُوحِيَ إِلَيهِ فِيهِ, وَقَدْ مَاتَ فِي يَوْمِ الإِثنِينِ أَيْضًا.
وَلِذَلِكَ تَجِدُ مِنَ السَّفَهِ, أَنْ يَكُونَ الإِنسَانُ
قَدْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ, وَهُوَ يُحِبُّهُ حُبًّا عَظِيمًا, وَلَيْسَ عِندَهُ سِوَاهُ
–مَثْلًا-, وَقَدْ جَاءَهُ عَلَى كِبَرٍ, فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ
بِضْعَ سِنِينَ مَاتَ فِي اليَومِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ, فَهُوَ يَأْتِي فِي كُلِّ
عَامٍ لِكَيْ يَحْتَفِلَ -بَعْدَ مَوْتِ وَلَدِهِ- بِعِيدِ مِيَلادِ وَلَدِه! وَعِيدُ
مِيلَادِهِ هُوَ عِيدُ وَفَاتِه, لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ سَفِيهًا!!
الصَّحَابَةُ -رِضْوانُ اللهِ عَلَيهِم- وَالسَّلَفُ كَانُوا
يَتَّبِعُونَ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ,
فَمَا فَعَلَهُ فَعَلُوهُ, وَمَا تَرَكَهُ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَانتِفَاءِ المَانِعِ
مِنهُ تَرَكُوهُ, وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بِدْعَة. هَذِهِ المَسأَلَة يَنْبَغِي
لَنَا أَنْ نَتَفَطَّنَ لَهَا.
كُلُّنَا يَعلَمُ أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى الرَّسُولِ –صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَلَى وَجْهٍ لَا غُلُوَّ فِيهِ مَحبُوبٌ إِلَى اللهِ وَإِلَى
رَسُولِهِ.
فَإِذَا قَالَ المُبتَدِعُ لِلاحْتِفَالِ بِالمَوْلِدِ: أَنَا
لَمْ أَفعَلْ شَيئًا مَمْنُوعًا؛ إِنَّمَا جَلَسْتُ لِصُنعِ الطَّعَامِ لِلنَّاسِ وَإِطعَامِهِم،
وَإطعَامُ النَّاسِ دَائِرٌ بَيْنَ الإِبَاحَةِ وَالاسْتِحبَابِ، ثُمَّ إِنِّي أَتَحَدَّثُ
عَن سِيرَة الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وأُصَلِّي عَلَيهِ، وَأَتْلُو
مِنَ القَصَائدِ مَا فِيهِ الثَّنَاءُ عَلَيهِ، أَلَيْسَ هَذَا أَمرًا مَطْلُوبًا؟
أَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يُحِبُّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؟
أَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يُشَنِّفُ أَسْمَاعَهُ بقَصَائدِ
الثَّنَاءِ عَلَى الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؟
الجَوَابُ: بَلَى؛ وَلَكِنَّ تَقْيِيدَ هَذِهِ الأُمُورِ
بزَمَنٍ أَوْ مَكَانٍ هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا بِدْعَة.
فَأَنْتَ لَا تُقَيِّدُهَا بِهَذَا الزَّمَن، وَنَقُولُ:
صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-،
وَكُلَّمَا أَكْثَرْتَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ...
أَثْنِ عَلَيهِ بِمَا شِئْتَ مِنَ القَصَائدِ؛ بِشَرْطِ أَلَّا
تَخْرُجَ إِلَى دَرَجِةِ الغُلُو...
أَطْعِم الطَّعَام، لَا نَمنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ تَقْيِيدَهُ
بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِدْعَة.
وَإِلَّا فَهَات دَلِيلًا عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ مَولِدِهِ
وَقْتٌ لِلاحْتِفَالِ, وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ!!
عَلَى أَنَّ الاحْتِفَالَ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ يَحْدُثُ
فِيهِ مِنَ الأَغْلَاطِ، وَالغُلُوِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، وَغَيرِ ذَلِكَ مِنَ الأَشيَاءِ
مَا لَا يَرتَضِيهُ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا رُجُولَةٌ.
ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَثْبُت تَارِيخِيًّا أَنَّ وِلَادَةَ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَانَت فِي اليَوْمِ الثَّانِي عَشَر
مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّل.
وَالمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ الحِسَابِ يَقُولُونَ: إِنَّ
وِلَادَتَهُ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَانَت فِي اليَومِ التَّاسِعِ, وَلَمْ
تَكُن فِي اليَّومِ الثَّانِي عَشَر، وَهَذا مِمَّا يُوَهِّنُ القَوْلَ بِجَوَازِ الاحْتِفَالِ
بِمَوْلِدِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ
عَشرَة.