تفريغ خطبة الأمن من مكر الله
خطبة الجمعة 20 من صفر 1436هـ الموافق 12-12-2014م
إنَّ
الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ
بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ
اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ؛ أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ
أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ
مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وَكُلَّ
ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:
فإن الأمنَ
من مكرِ الله تبارك وتعالى من أكبر الكبائر ومن أعظمِ الذنوب، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا
بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا
ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)، وقال جلَّ وعلا (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي
تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ
رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)؛ الأمنُ في اللغة تدور مادته حول معنيين الأمانةُ
والتصديق, يقول ابن فارس (الهمزةُ والميم والنون أصلان متقابلان متقاربان, أحدهما:
الأمانة الّتي هي ضدُ الخيانة، ومعناها سُكون القلب، والآخر: التّصديق, فمن الأول الأمنَةُ
من الأمن, والأمان إعطاؤه، والأمانةُ ضد الخيانة؛ يقال: أمِنتُ الرّجل أمنًا وأمنة
وأمانا، وأمنني يؤمنني إيمانا؛ والعرب تقول: رجل أمان: إذا كان أمينا؛ ومن الثاني التصديق,
ومنه قوله تعالى (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا) أي:
بمصدقٍ لنا؛ يقول الرَّاغب " أصل الأمن طمأنينة النفس
وزوال الخوف " والأمن والأمانة والأمان في الأصل مصادر، ويُجعل الأمان
تارة اسمًا للحالة التي يكون عليها الإنسان في حال أمْنِه، وتارةً اسمًا لما يُؤْمَنُ
عليه الإنسان، كقوله تعالى (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ)
أي: ما اُئتُمِنتُم عليه.
وقال ابن
منظور " الأمن نقيض الخوف, أمِنَ فلان يأمَن أمنًا وأمَنَا
" حكى هذا الزَّجَّاج، وأمنةً وأمانً فهو آمنٌ، والأمَنَةُ: الأمنُ، وفي حديث
نزول المسيح، على نبيّنا وعليه الصلاةُ والسلام (وتقعُ الأمنةُ
في الأرض) أي: الأمنُ، يريد أنَّ الأرض تمتلأ بالأمن فلا يخاف أحدٌ من النَّاس
والحيوان، وفي الحديث (النُّجوم أمنَةٌ، فإذا ذهبت النُّجوم
أتى السّماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ
لأمَّتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمَّة ما توعد)؛ وأما الأمن من المكرِ في الاصطلاح
فمعناه, كما قال ابنُ حجر " الأمن من مكر الله تعالى
يتحقّق بالاسترسال في المعاصي مع الاتَّكال على الرٍحمة ", فإذا كان الإنسان
مسترسلًا في المعاصي مع اتكاله على رحمة الله جلَّ وعلا من غير إحداث توبةٍ من ذنوبه
وأوبة من معاصيه, فهذا قد أمِنَ من مكر الله جلَّ وعلا ووقع في هذه الكبيرةِ العظيمةِ
من كبائر الإثم، وقيل (الأمنُ من المكر: هو الاسترسال على المعاصي اتّكالا على عفو
الله تعالى)؛ ومكرُ الله تعالى صفةٌ فعليةٌ حقيقيةٌ على ما يليقُ بجلال الله وكماله,
فصفاتُ ربنا تبارك وتعالى, صفاتُ ذاتٍ وصفاتُ فعْل, وصفاتُ الأفعال لله جلَّ وعلا متعلقةٌ
بالمشيئة كصفة المكر وهى صفةٌ فعليةٌ حقيقيةٌ ثابتةٌ لله جلَّ وعلا على ما يليقُ بجماله
وكماله وجلاله, ومِثلُها أيضًا ما يتعلقُ بالنزول والاستواء والضحكِ وما أشبه من صفات
الأفعال الثابتة لله جلَّ وعلا؛ ومن لوازم صفة المكر, إمهالُ العبد وتمكينه من أعراض
الدنيا ولذلك قال عليٌ رضى الله عنه " من وُسِعَ عليه
في دنياه ولم يَعلَم أنه مُكِرَ به فهو مخدوعٌ عن عقله "، قال الإمامُ
ابن القيم رحمه الله تعالى " وأما المكرُ الذى وصفَ
الله به نفسه فهو مُجازاته للماكرين بأوليائه ورُسُله, فيقابل مكرَهم السيء بمَكرِه
الحسن, فيكون المكر منهم أقبح شيء, ومنه أحسن شيء لأنه عدلٌ ومجازاة، وكذلك المخادعة
منه جزاءً على مخادعة رسله وأوليائه فلا أحسن من تلك المخادعةِ والمكر
", وهو رحمه الله تعالى لا يُأَّوِلُ
ها هنا وإنما يُثبِتُ الصفةَ لله تبارك وتعالى حقيقةً كما
أثبتها الله تبارك وتعالى لنفسه وكما أثبتها له نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال
رحمه الله (وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبقُ
عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس - وهذا الموصوف ها هنا إنما عمل
بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس - ولو كان عملًا صالحًا مقبولًا للجنة قد أحبه الله
ورضَيه لم يُبطِله عليه - ولكن هنالك دَسيسةٌ في قلبه فيأتي عملهُ الصالحُ صالحًا ظاهرا
ويبدو على هذا النحو فيما يبدو للناس وأما حقيقتُه فليست كذلك, لذلك أبطله الله تبارك
وتعالى عليه, وإنَّ أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنةِ فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه
وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعملُ بعمل أهل النار فيدخلُ النار عِـيَاذًا بِـالله
وَ لِّـيَـاذًا بجنابه الرحيم - وقوله: لم يبق بينه وبينها إلا ذراع يُشْكِلُ على هذا
الشرح, فيُقال: لمَّا كان فيه آفةٌ كامنةٌ ونكتةٌ خُذِلَ بها في آخر عمره، فخانته تلك
الآفة والداهيةُ الباطنةُ في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها، وعمِلت عملها، ولو لم يكن
هناك غشٌ وآفةٌ لم يقلب اللهُ إيمانَه: يعنى إذا كان هنالك إخلاصٌ وإنابةٌ وخشية ولم
يكن هنالك دسيسةٌ باطنة, فإنَّ الله تبارك وتعالى يجازيه الجزاءَ الحسن؛ لقد أورده
مع صدقه فيه وإخلاصهِ بغير سببٍ منه يقتضى إفساده عليه والله يعلم من سائر العباد ما
لا يعلمه بعضهم من بعض، وأمَّا شأنُ إبليس فإن الله سبحانه وتعالى قال للملائكة (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) فالرب تعالى كان يعلم
ما في قلبِ إبليسَ من الكفرِ والكبر والحسد, يعلم من ذلك ما لا يعلمه الملائكة فلما
أُمِرِوا بالسجود ظهر ما في قلوبهم من الطاعةِ والمحبةِ والخشيةِ والانقياد, فبَادَروا
إلى الامتثال وظهر ما في قلب عدوه من الكِبْرِ والغشِ والحسد فأبىَ وأستكبرَ وكان من
الكافرين؛ وأمَّا خوف أوليائه من مكره فحق, فإنهم يخافون أن يَخذلهُم بذنوبهم وخطاياهم
فيصيروا إلى الشقاء, فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته، وقوله تعالى (أَفَأَمِنُوا مَكْر اللَّه) إنما هو في حق الفجارِ والكفار
ومعنى الآية: فلا يَعصي ويأمنُ مقابلةَ الله له على مكرِ السيئات بمكره به إلا القومُ
الخاسرون, والذى يخافه العارفون بالله من مكْرهِ أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال، فيحصُل
منهم نوع اغترارٍ فيَأْنُسُوا بالذنوب، فيجيئُهم العذاب على غِرةٍ وفترة؛ وأمرٌ آخر:
وهو أن يَغفُلوا عنه وَينسَوا ذكره فيتخلى عنهم إذا تخلَّوا عن ذكره وطاعته, فيُسرعُ
إليهم البلاء والفتنة, فيكون مَكْرُه بهم تخلِّيه عنهم؛ وأمرٌ آخر: أن يعلم من ذنوبهم
وعيوبهم ما لا يعلمون من نفوسِهم فيأتيَهم المكر من حيث لا يشعرون؛ وأمرٌ آخر: أن يَمتَحِنهم
ويَبتلِيهم بما لا صبرَ لهم عليه فيُفتنوا به وذلك مكرٌ أيضا؛ فالذين يعرفون الله تبارك
وتعالى معرفةً صحيحة ويَقْدُرون الله رب العالمين حق قدره لا يأمنون مكره جلَّ وعلا,
لأنَّ الأمن من مكر الله رب العالمين كبيرةٌ من كبائرِ الإثم, وقد كان نبينا صلى الله
عليه وآله وسلم مع عظيمِ مَنزِلَته عند ربه جلَّ وعلا يقول (يا مقلّب القلوب ثبت قلبي
على دينك) وفي روايةٍ (فقالوا: يا رسول الله أتخاف؟؛ قال: «إنَّ القلب بين أصبعين من
أصابع الرّحمن يقلّبه كيف يشاء»), فهو يُصرِّف القلوب أسرع من ممرِّ الرّيح على اختلافٍ
في القبول والرد والإرادة والكراهة وغير ذلك من الأوصاف، وفى التنزيل (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)
أي: بينه وبين عقله, حتى لا يدرى ما يصنع قاله مجاهد، ويؤيّده قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي:
كان له عقل، واختار الطّبراني أنَّ معنى تلك الإحالة إعلامُ العباد بأنَّه أملكُ لقلوبهم
منهم، وأنّه يحول بينهم وبينها إذا شاء حتى لا يدرك أحد شيئًا إلَّا بمشيئته تعالى،
ولمَّا كان صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول (يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك) قالت عائشة-
رضي الله عنها- (يا رسول الله إنك تُكثِرُ أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى) فقال (وما
يؤمّننا يا عائشة- وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن- إذا أراد أن يُقلِّب قلب
عبده قلَّبه؟)؛ وقد أثنى الله جلَّ وعلا على الرَّاسخين في العلم بقوله (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ
لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) وفى هذه الآية دلالةٌ
ظاهرة على أحقيةِ ما ذهب إليه أهل السنة من أن الزيغَ والهدايةَ بخلق الله وإرادته؛
بيان ذلك أنَّ القلب صالح للمثَلِ إلى الخير والشر، ومحال أن يميل إلى أحدهما بدون
داعية، فإن كان داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغةُ والصدُ والختم، وإن كان داعية الإيمان
فهو التّوفيق والإرشاد والهدايةُ والتّسديدُ والتّثبيت والعصمة وغير ذلك من الألفاظ
الواردة في الكتاب العزيز.
وممّا يُحذّرك
أيضا من أمن المكرِ استحضارك قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصّحيح (إنّ أحدَكُم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يبقى بينه وبينها إلّا
ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلُها)، وفي حديث البخاري
(إنّ العبد ليعمل بعمل أهل النّار وإنّه من أهل الجنّة، ويعمل
الرّجل بعمل أهل الجنّة وإنّه من أهل النّار، وإنّما الأعمال بالخواتيم)، ولا
يَتَّكِل على ذلك، فإنَّ الصحابةَ- رضوان الله عليهم- لمَّا قالوا عند سماع ذلك (ففيم
العمل يا رسول الله أفلا نتَّكِل على كتاب أعمالنا، قال لهم (بل اعملوا فكلٌّ ميسّر لما خلق له) ثم قرأ قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)) اعملوا فكلٌ ميسرٌ لما
خُلق له ولا تتكلوا على الكتاب السابق فإن الله ربَ العالمين كَلَّفَكٌم، أَمَرَكُمْ
ونَهَاكُم وعليكم أن تأتمروا بأمره وأن تنتهوا عن نَهْيِه ولن يضيعَ الله تبارك وتعالى
جزاء المحسنين.
الأمنُ من
مكرِ الله تعالى: الطمأنينة وعدم الخوف منه، ومكر الله عزَّ وجلَّ تدبيره الخفي الذي
قد يغيب وجهُ ظهورِه عن كثير من المخدوعين والمغفلين فيحملُهم ذلك على الاسترسال في
الغفلات وعدم المبالاة, ظنًا منهم أنَّ حال السلامةِ سيدوم وواقع الأمن والراحة سوف
يستمر وألًّا خطر هنالك يسعى نحوهم أو يتهددَ سعادتهم وسرورهم، وهذه حالٌ خاطئة والركون
إليها والاعتقاد بها والاستسلامُ لها جريمةٌ مُنْكَره ومعصيةٌ كبيرة لما تجرُّ إليه
من الإدمان على المخالفات والاسترسالِ في الشهوات والاستخفافِ بجلالِ الربوبية والتعريضِ
بعدم الرقابة الإلهية، وهذا غايةُ الفجورُ والغرور الذي لا يصْدرُ إلا عن قليل الإيمان
أو عديم اليقين, ولقد لَفَتَ الدينُ أنظار أمثال هؤلاء المخدوعين إلى أنَّ الله عزَّ
وجلَّ وإنْ أمهل فإنه لا يُهمل وأنه ليس بغافل عما يعملون, قال الله جلَّ وعلا (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، وقال جلَّ
وعلا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ
الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)،
وقال عزَّ وجلَّ (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وقال سبحانه (أَفَأَمِنُوا
مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)،
وقال سبحانه (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)،
وقال جلَّ وعلا (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ
أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ(51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً
بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52))؛ إنَّ
تركَ العُتَاة في غيِّهم وإغداق النِعم على الكثيرين منهم وعدم معاجلتِهم بالعقاب,
إنما هو من بابِ الاستدراج لهم لتَعْظُمَ جناياتُهم ويشتدُّ أخذُهم وعقابُهم قال الله
جلَّ وعلا (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
(44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45))، وقال الله جلَّ وعلا (قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ
مَدًّا حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا)، وقال سبحانَه
(فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً
فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ
لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45))، وقال عزَّ وجلَّ منذرًا ومحذرًا (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17))؛ وقد ذكر القرآنُ العظيم طوائفَ
من هؤلاء المخدوعين الذين أبطرَتهم النعم، ورأوا في جوارها الأمن والأمان ولم تنفعهم
العِظات والعِبَرْ ولم يلتفتوا إلى نُصحِ الناصحين وتذكير المُذَكِّرين حتى حَلَّ بهم
ما لم يكونوا يحتسبون فعَضُّوا أناملَ الندم وقلَّبوا أَكُفَّ الخيبة والحسرة, وقال
جلَّ وعلا في حكاية ما كان من قارون مع قومه وما كان أيضًا من صاحبِ الجنة مع صاحبه,
وبَيَّنَ الله ربُ العالمين حال هؤلاء الذين قد مَكَرَ الله ربُ العالمين بهم لما أمِنوا
مَكْرَه واسترسلوا مع ما أتاهم الله رب العالمين من النعم؛ قال الله جلَّ وعلا (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ
مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا
نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) يقول تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم
اضرب للناس مثلَ هذين الرجلين الشاكر لنعمة الله, والكافر بها, وما صدرَ من كل منهما,
من الأقوال والأفعال, وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل والثواب ليعتبروا بحالِهما,
ويتعظوا بما حصل عليهما, وليس معرفة أعيان الرجلين, وفي أي زمان أو مكان هما, ليس
في علم ذلك فائدةٌ أو نتيجة؛ فالنتيجةُ تَحصُل من قصِّتهما فقط, والتعرض لما سوى ذلك,
من التكلُّف؛ فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة, جعل الله له جنتين أي:
بستانين حسنين من أعناب؛ (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ)
أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات, وخصوصًا أشرف الأشجار, العنب, والنخل؛ فالعنب
وسطها, والنخل قد حفَّ بذلك ودار به, فحصل فيه من حُسنِ المنظر وبهائه, وبروز الشجر
والنخلِ للشمسِ والرياح, التي تكتملُ بها الثمار, وتنضُج بها وتتجوهر؛ ومع ذلك جعل
بين تلك الأشجار زرعا؛ فلم يبق عليهما إلَّا أن يُقال: كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل
لهما ماء يكفيِهما؟ فأخبر تعالى أن كلًا من الجنتين آتت أكلها أي: ثمرها وزرعها ضِعفين
أي: متضاعفا وأنها لم (تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) أي:
لم تنقُص من أُكُلِها أدنى شيء؛ ومع ذلك فالأنهار في جوانبها سارحة كثيرة غزيرة؛ (وَكَانَ لَهُ) أي لذلك الرجل (ثَمَرٌ)
أي عظيمٌ كما يُفيده التنكير أي: استكملت جنتاه ثمارهما, وارجحنت أشجارهما, ولم تعرِض
لهما آفة أو نقص؛ فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث, ولهذا اغتر هذا الرجل, وتبجَّح
وافتخر, ونسيَ آخرتَه.ُ
(فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا
وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ
أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ
إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36))؛ فقال صاحب الجنتين
لصاحبه المؤمن, وهما يتحاوران أي يتراجعان بينهما في بعض المَجريات المعتادة, مفتخرًا
عليه (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)
فخرَ بكثرة ماله, وعزةِ أنصاره من عبيد, وخدم, وأقارب, وهذا جهل منه؛ وإلَّا فأي افتخار
بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية, ولا صفة معنوية؛ وإنما هو بمنزلة فخر الصبي بالأماني,
التي لا حقائق تحتها؛ ثم لم يكفُّه هذا الافتخار على صاحبه, حتى حكم بجهله وظلمه, وظن
لما دخل جنته (فقَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ) أي:
تنقطع وتضمحل (هَذِهِ أَبَدًا)؛ فاطمأن إلى هذه الدنيا,
ورضي بها, وأنكر البعث, فقال (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً
وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي) على ضربِ المَثل (لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) أي ليعطيَني خيرًا من هاتين
الجنتين, وهذا لا يخلو من أمرين؛ إما أن يكونَ عالمًا بحقيقة الحال, فيكون كلامه هذا
على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كُفرٍ إلى كفره؛ وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة,
فيكون من أجهل الناس, وأبخسهم حظًا من العقل؛ فأي تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة,
حتى يظن بجهله, أن من أُعطي في الدنيا أُعطي في الآخرة؛ بل الغالبُ أن الله تعالى يزوي
الدنيا عن أوليائه وأصفيائه, ويوسِّعُها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب.
والظاهر
أنه يعلم حقيقة الحال, ولكنَّهُ قال هذا الكلام على وجه التهكمِ والاستهزاء, بدليل
قوله (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ)؛
فإثبات أن وصفه الظلم, في حال دخوله, الذي جرى منه, من القول ما جرى, يدلُّ على تمردهِ
وعناده.
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ
رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ
مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) قال له صاحبُهُ المؤمن، ناصحًا
له، ومذكرًا له حاله الأولى، التي أوجده الله فيها في الدنيا (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا)
فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد، وواصل عليك النِعم، ونقلك من طورٍ إلى
طور، حتى سوَّاك رجلًا كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة والمعقولة، وبذلك يسَّر لك الأسباب،
وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك، بل بفضل الله تعالى
عليك، فكيف يليقُ بك أنْ تكفُرَ بالله الذي خلقك من تراب، ثم من نطفة ثم سواك رجلا
وتجهل نعمته، وتزعم أنه لا يبعثك، وإن بعثك أنه يعطيك خيرًا من جنتك؟! هذا مما لا ينبغي
ولا يليق؛ ولهذا لما رأى صاحبُهُ المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه، قال مخبرًا
عن نفسه على وجه الشكر لربه، والإعلان بدينه عند ورود المجادلات والشُبَهْ (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)
فأقر بربوبية ربه، وانفرادهِ فيها، والتزام طاعته وعبادته، وأنَّه لا يُشرك به أحدًا
من المخلوقين، ثم أخبر أنَّ نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام، ولو مع قلة مالهِ وولدهِ،
أنها هي النعمة الحقيقية، وأنَّ ما عداها معرض للزوالِ والعقوبةِ عليه والنَكَال، فقال
( .... إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا
(39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا
حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40))؛ قال للكافر
صاحبه المؤمن أنت -وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك، ورأيتني أقل منك مالا وولدا -فإنَّ
ما عند الله، خيرٌ وأبقى، وما يرجى من خيره وإحسانه، أفضلُ من جميع الدنيا، التي يتنافس
فيها المتنافسون؛ (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا
مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا) أي: على جنتك التي طَغيتَ بها وغرَّتك
(حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ) أي: عذابًا بمطرٍ عظيمٍ
أو غيره، (فَتُصْبِحَ) بسبب ذلك (صَعِيدًا زَلَقًا) أي: قد اُقتلعت أشجارها، وتِلفت ثمارها،
وغرق زرعها وزال نفعها، (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا) الذي
مادتها منه (غَوْرًا) أي: غائرًا في الأرض (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) أي: غائرًا لا يُستطاع
الوصولُ إليه بالمعاول ولا بغيرها، وإنما دعا على جنته المؤمنُ، غضبًا لربه، لكونها
غرَّتهُ وأطغته، واطمأن إليها، لعلَّه ينيب، لعلَه يراجع رشده، ويبصر أمره.
فاستجاب
الله تعالى دعاءَ المؤمن (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أي:
أصابه عذاب أحاطَ به واستهلكه، فلم يبق منه شيء، والإحاطة بالثمر يستلزم تلفَ جميع
أشجاره وثماره وزرعه، فندمَ كل الندامة، واشتدَّ لذلك أسفُهُ، (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا)
أي على كثرة نفقاته الدنيوية عليها، حيث اضمحلت وتلاشت، فلم يبق لها عِوض، وندم أيضًا
على شِركه وشره، ولهذا قال (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ
أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا)؛ قال الله جلَّ وعلا (وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا)
أي: لمَّا نزلَ العذاب بجنته، ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا) فلم يدفعوا
عنه من العذابِ شيئًا، أشدَّ ما كان إليهم حاجة، وما كان بنفسه منتصرًا، وكيف ينتصرُ
أو يكون له انتصارٌ على قضاءِ الله وقدرهِ الذي إذا أمضاه وقدره، لو اجتمع أهلُ السماء
والأرض على إزالةِ شيءٍ منه لم يقدروا؛ ولا يُستبعد من رحمةِ الله ولطفه، أنَّ صاحب
هذه الجنة، التي أحيط بها، قد تحسَّنت حاله، ورزقه الله الإنابة إليه، وراجع رشده،
وذهب تمرده وطغيانه، بدليل أنه أظهر الندم على شِركه بربه، وأنَّ الله أذهب عنه ما
يُطغيه، وعاقبه في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد خيرًا عجَّلَ له العقوبة في الدنيا؛
وفضل الله لا تحيط به الأوهام والعقول، ولا ينكره إلا ظالمٌ جَهول.
(هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ
عُقْبًا) أي: في تلك الحال التي أجرى الله فيها العقوبةَ على من طغى، وآثرَ
الحياةَ الدنيا، والكرامة لمن آمن، وعملَ صالحا، وشكرَ اللهَ، ودعا غيره لذلك تبيَّن
وتَوضَّحَ أنَّ الولَاية الحق لله جلَّ وعلا وحده، فمن كان مؤمنًا به تقيا، كان له
وليا، فأكرمه بأنواعِ الكرامات، ودفعَ عنه الشرور والمَثُلات، ومن لم يؤمن بربه ويتولاه،
خسِر دينه ودنياه، فثوابه الدنيوي والأخروي، خير ثواب يُرجى ويُؤمَّل، ففي هذه القصةِ
العظيمة، اعتبارٌ بحال الذي أنعم الله عليه نعمًا دنيوية، فألهْته عن آخرته وأطغْته،
وعصى الله فيها، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال، وأنه وإنْ تمتع بها قليلًا فإنه يُحرمها
طويلًا وأن العبد ينبغي له -إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده- أن يضيف النعمة إلى مُولِيها
ومُسْديها، وأن يقول (مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ
بِاللَّهِ) ليكونَ شاكرًا لله متسببًا لبقاءِ نعمتهِ عليه، لقولهِ (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ
إِلا بِاللَّهِ)؛ في هذه القصةِ العظيمة الإرشادُ إلى التسلِّي عن لذات الدنيا
وشهواتها، بما عند الله من الخير لقوله جلَّ وعلا (إِنْ تَرَن
أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ
جَنَّتِكَ) وفيها أنَّ المالَ والولد لا ينفعان، إن لم يُعينا على طاعةِ الله
كما قال جلَّ وعلا (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ
بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)
وفيه الدعاءُ بتلفِ مالِ من كان مالُه سببَ طغيانِه وكفرهِ وخسرانهِ، خصوصًا إنْ فضَّل
نفسُه بسببه على المؤمنين وفخر عليهم، وفي هذه القصة العظيمة أنَّ ولَاية الله وعدمها
إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحق الجزاء، ووجد العاملون أجرهم فـ (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ
عُقْبًا) أي: عاقبةً ومآلا.
فضربَ
اللهُ ربُّ العالمين لنا في هذه القصة العظيمة مَثلًا ما يزال قائمًا بإزاءِ أعينِ
ذوى البصائر، من أجل أن يتأملوا فيه، حتي لا يركنوا إلى الأمن من مكرِ الله جلَّ
وعلا؛ فإنَّ الله تبارك وتعالى يُملي للظالمِ حتي إذا أخذه لم يُفْلِتهُ.
إنَّ
الله رب العالمين يواترُ ويوالي نعمَهُ علي عبده، فإذا كان العبدُ في حال طاعةٍ
لله رب العالمين وشكرٍ علي ما أنعم الله رب العالمين عليه، زاده الله رب العالمين
من فضله ونعمته؛ وإنْ كفرَ بنعمة الله عليه فجحدها، وأمِنَ مكْرَ الله رب
العالمين، أخذه الله رب العالمين أخذَ عزيزٍ مقتدر.
نسأل
الله رب العالمين أن يعفو عنَّا أجمعين إنه تبارك وتعالى هو القادر علي كل شيء وهو
العفو الغفور؛ وصلى الله وسلم علي نبيِّنا محمد وعلي آله وأصحابه أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ
ربِّ العالمين, وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له هو يتولى الصالحين, وأشهدُ
أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه و آله وسلم صلاةً وسلامًا دائمين مُتلازمين
إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد قال
الله جلَّ وعلا (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ
مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) في هذه الآية التنبيهُ علي
أنَّ الأمنَ من مكرِ الله من أعظم الذنوب، وأنه ينافي كمال التوحيد، كما أنَّ القنوطَ
من رحمة الله كذلك، وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوفِ والرجاء، كما
دلَّ على ذلك الكتاب والسُنَّة، وأرشد إليه السلفُ والأئمة.
ومعنى
هذه الآية العظيمة أنَّ الله -تبارك وتعالى- لمَّا ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل
بَيَّنَ أن الذي حملَهم على ذلك هو الأمنُ منْ مكرِ الله وعدم الخوف منه، كما قال
ربنا جلَّ وعلا (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ
بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ
بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) أي: الهالكون؛ وذلك أنهم أمنوا مكرَ
الله لما استدرجهم بالسراء والنعيم، فاستبعدوا أن يكون ذلك مكرا؛ قال الحسن "
من وسَّعَ الله عليه فلم ير أنه يُمكر به فلا رأي له
"؛ وقال قتادة " بَغَت القومَ أمرُ الله، وما أخذ
اللهُ قوما قط إلا عند سلوتِهم وغرِّتِهم ونعمتهم؛ فلا تغتروا بالله "؛
وفي الحديث (إذا رأيت الله يُعطي العبدَ من الدنيا وهو
مقيم علي معاصيه ما يُحب، فإنما هو استدراج) رواه أحمد وابنُ جَرير وابن أبي
حاتم؛ وقال إسماعيل بن رافع (من الأمن من مكر الله إقامة العبد
على الذنب يتمنى على الله المغفرة) أخرجه ابن أبي حاتم.
وهذا هو
تفسيرُ المكر في قولِ بعض السلف " يستدرجُهم اللهُ بالنعم
إذا عَصَوه، ويُملي لهم ثم يأخذهم أخذَ عزيزٍ مقتدر ".
قال
الأمام ابن القيم –رحمه الله تعالي– " الخَوْفُ مِنْ
أَجَلِّ مَنازِلِ الطَّرِيقِ، وخَوْفُ الخاصَّةِ أَعْظَمُ من خَوْفِ العامَّةِ، وهُم
إليهِ أَحْوَجُ، وهُمْ به أَلْيَقُ وله أَلْزَمُ، فإنَّ العَبْدَ إمَّا أَنْ يَكونَ
مُسْتَقِيما، أو مائِلًا عن الاسْتِقامةِ، فإن كانَ مائلًا عن الاستقامةِ فخَوْفُه
مِن العقوبةِ على مَيْلِه، ولا يَصِحُّ الإيمانُ إلاَّ بِهَذَا الخَوْفِ، وهو يَنْشَأُ
من ثلاثةِ أمورٍ؛ أحدُها (مَعْرِفتُه بالجِنايَةِ وقُبْحِها)؛ والثَّاني
(تَصْدِيقُ الوَعِيدِ، وأَنَّ اللهَ رَتَّبَ على المَعْصِيةِ عُقوبتَها)؛
الثَّالثُ (أنَّهُ لا يَعْلَمُ أنَّهُ يُمْنَعُ مِن التَّوْبةِ، ويُحالُ بينَهُ وبينَها
إذا ارْتَكَبَ الذَّنْبَ)؛ فبهذه الأُمورِ الثلاثةِ يَتِمُّ له الخَوْفُ، وسببُ قوَّتِها
وضَعْفِها بكونُ قوَّةَ الخَوْفِ وضَعْفَه، هذا قَبْلَ الذَّنْبِ، فإذا عَمِلَه كان
خوفُه أَشَدَّ؛ وبالجُمْلةِ فمن اسْتَقَرَّ في قلبِهِ ذِكْرُ الله وذِكرُ الدَّارِ
الآخِرةِ وما يكون من جَزائِها، وذِكْرُ المَعْصيةِ والتَّوَعُّدِ عليها، وعَدَمِ الوُقوفِ
بإِتْيانِهِ بالتَّوبةِ النَّصُوحِ، منْ كان كذلك هاجَ مِن قلبِه مِن الخوفِ ما لا
يَمْلِكُه، ولا يُفارِقُه حتَّى يَنْجُوَ من العذاب؛ وأمَّا إنْ كانَ مُسْتَقِيمًا
معَ اللهِ، فخَوْفُه يَكونُ مِن جَرَيانِ الأَنْفاسِ لعِلْمِهِ بأنَّ اللهَ مُقَلِّبُ
القلوبِ، وما مِن قلبٍ إلاَّ وهو بينَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصابعِ الرَّحمنِ -عَزَّ وجَلَّ-
فإن شَاءَ أَنْ يُقِيمَه أَقامَه، وإنْ شَاءَ أن يُزِيغَهُ أَزاغَهُ، كما ثَبَتَ عن
النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كانَتْ أَكْثَرَ يَمِينِه (لا وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ)، ويَكْفِي
في هذا قولُه تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)؛ فأيُّ قَرارٍ لِمَنْ
هذه حالُه ومَنْ أَحَقُّ بالخوفِ منه، بل خوفُه لازِمٌ له في كلِّ حالٍ، وإن تَوَارَى
عنه الخوف بغَلَبةِ حالٍ أُخْرَى عليه؛ فإن الخوفَ حَشْوُ قلبِه، ولكنْ تَوَارَى عنه
بغَلَبةِ غيرِه، فوُجودُ الشَّيْءِ غيرُ العِلْمِ به، فالخَوْفُ الأوَّلُ ثَمَرةُ العِلْمِ
بالوَعْدِ والوَعِيدِ، وهذا الخوفُ ثَمَرةُ العِلْمِ بقُدْرةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وعِزَّتِه
وجَلالِهِ، وأنّهُ فَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وأنَّهُ المُحَرِّكُ لِلقلبِ المُصَرِّفُ
له كيفَ يَشاءُ، لا إلهَ إلاَّ اللهُ هو العَزِيزُ الحَكِيمُ ".
فهذا الخَوْفُ
الثاني: هو مِن خوفِ المَكْرِ، من خوفِ مكرِ الله رب العالمين به؛ قوله تعالي (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) معنى هذه الآيةِ أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى لَمَّا
ذَكَرَ حالَ أَهْلِ القُرَى المُكَذِّبِينَ لِلرُّسلِ، بيَّنَ أنَّ الذي حَمَلَهُم
على ذلكَ هو الأَمْنُ مِن عَذابِ اللهِ، وعَدَمُ الخَوْفِ منه، كما قال جلَّ وعلا
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا
وَهُمْ نَائِمُونَ (96) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى
وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذلك بِسَبَبِ الجَهْلِ والغِرَّةِ
باللهِ، أفأَمِنُوا مَكْرَهُ فيما ابْتَلاهُم بهِ مِن السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، بأَنْه
يَكونَ اسْتِدْراجًا، فقالَ جلَّ وعلا (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) أي: الهالِكُون.
فدَلَّ على
وُجوبِ الخَوْفِ مِن مَكْرِ اللهِ؛ قالَ الحَسَنُ " مَن
وُسِّعَ عليه فلم يَرَ أنَّهُ يُمْكَرُ به فلا رَأيَ له، ومَن قُتِرَ عليه فلم يَرَ
أنَّه يُنْظَرُ له فلا رَأْيَ له "؛ وقال قَتادةُ " بَغَتَ القومَ أَمْرُ اللهِ، وما أَخَذَ اللهُ قومًا قَطُّ إلاَّ
عند سَلْوَتِهم وغِرَّتِهم ونِعْمَتِهم، فلا تَغْتَرُّوا بِاللهِ إنَّه لا يَغْتَرُّ
به إلاَّ القومُ الفاسِقون " رَوَاهُما ابنُ أَبِي حاتِمٍ؛ وفي الحديثِ
(إِذَا رَأيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى
مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ) رَواهُ أحمدُ، وابنُ
جَرِيرٍ، وابنُ أَبِي حاتمٍ، وذكره الألبانيُّ في صحيح الجامع؛ وقد مرَّ قول إِسْماعِيلُ
بنُ رافِعٍ " مِن الأَمْنِ مِن مَكْرِ اللهِ إِقامةُ
العبدِ على الذَّنبِ يَتَمَنَّى على اللهِ المَغْفِرةَ " رَوَاه ابنُ أَبِي
حاتمٍ.
هذه
الكبيرةُ من كبائرِ الإثم لا يعلمُ جماهيرُ المسلمين إلَّا مَنْ رحِمَ اللهُ جلَّ
وعلا لا يعلمونَ أنها من كبائرِ الإثم، وهم لا يلتفتون إليها؛ كما أنَّ القنوطَ مِنْ
رحمةِ الله رب العالمين من كبائرِ الذنوب، وكذا لا يعلمُ كثيــرٌ من المسلمين أنها
كذلك.
فإذا
كان الإنسانُ لا يعلم أنَّ الذنبَ من كبائرِ الذنوب ومن عظائِمها فكيف يتوقاه ؟!!
؛ الإنسانُ يأمنُ مكرَ الله رب العالمين ويغترُ باللهِ جلَّ وعلا، يؤتيه اللهُ رب
العالمين نعمَهُ، فيَمُنُّ عليه بالصحةِ والعافية، ويَمنُّ عليه بالولد ويوسِّعُ
عليه رزقَه، ويؤتيه ما أحب، وهو مقيمٌ علي معصيةٍ الله عزَّ وجل؛ فيري ذلك إنما
كان بمَلْكِه (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي)،
و حِينَئِذٍ يأخذُهُ الله رب العالمين أخذَ عزيزٌ مقتدر؛
كما ذكر الله رب العالمين حال أهل القرى فإنهم أمِنوا مكر الله فأخذهم الله رب
العالمين أخذ عزيزٍ مقتدر.
فلا تكن
إلَّا خائفًا، لا تكُنْ إلَّا حذِرًا؛ فإنَّ اللهَ ربَّ العالمين قطعَ العضو منْ
أجل ربع درهم، إذا سرقَ المرءُ وتوفرت الشروطُ، أقيمَ عليه الحدُّ وقُطعت يده؛ و جَلَدَ
الظهر في مثل رأس الدَبوس من الخمر؛ فلا تأمن مكرُه، فإنَّ اللهَ ربَّ العالمين هو
خير الماكرين.
لا تغتر
... كن عاقلًا، وكن واعيًا، والتفت إلي صالحكَ الحق، وهو الذي يكون في الآخرة،
وأما هذه الدنيا فإنها دار الغرور؛ والله رب العالمين يبتلي الناسَ فيه بما يشاء
من الخير والشر، فإياك أن تأمن مكرَ الله رب العالمين؛ فإن الحسن كما قال وكذا قال
قَتادةُ (إنما يؤخذون في حال غِرَّتِهم في حالِ سَلْوَتِهم، في حال لَعبِهم، في
حال انشغالهم ،في حال أمنهم، فيأخذُهم الله رب العالمين ويسلبُهم ما أتاهم من
النعم، لأنهم لم يشكروا الله رب العالمين عليها، فاحذره وإياك أن تغترَّ به، فإن
الله رب العالمين له صفات الكمال والجمال والجلال، وهو تبارك وتعالى علي كل شيء
قدير، فعليك أن تنظرَ إلى مُوجبِ هذه الصفات، وأن تكونَ عاقلًا في نظرك لنفسك
وشأنك وآخرتك، وإياك أن يخدعكَ أحدًا وأنْ تركنَ إلي الدنيا، فإنَّ الله ربَّ العالمين
إنما هو مُستعملكَ عليها لينظر كيف تصنع كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم؛ فلنخرج الآن بهذا المعنى، بهذه الجملة، بهذا العلم أنَّ الأمنَ منْ مكرِ
الله رب العالمين من كبائرِ الإثم، فيكون العبدُ آتَيًا بكبيرةٍ من الكبائر؛
ومعلومٌ أنَّ الكبائرَ لا تُكفَّر إلا بتوبة و إلَّا أُخذ بها العبد، فإنَّ العبد
إذا أتى بالأعمال الصالحة التي تُكفِّر الذنوب فإنها لا تُكفِّر كبائرَها، كما بَيَّنَ
ذلك علماؤنا رحمة الله عليهم، كالذي يصوم يوم عرفة والذي يصوم يوم عاشوراء إلى غير
ذلك من هذه الأعمالِ الصالحة التي بَيَّنَ فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنها
تُكفِّر ذنوب سنة أو ذنوب سنتين، قالوا إلَّا الكبائر فإنَّ الكبيرةَ لابد لها من
توبةٍ مستقلة، فهذه كبيرة.. مَنْ الذي نجي منها؟!! مَنْ الذي لا يأمنُ مكرَ
الله؟!!.
إنَّ
أكثرَنَا يأمنُ مكرَ اللهِ ربِّ العالمين، يوالي علينا النعم، ولا نلتفتُ إلى ربنا
تبارك وتعالى بشُكرِها، والإقبالِ على الآخرةِ بسببها وإنما نَركَنُ إلى تلك
النِعم، وكأنها ستظلُ متواترةً علينا دائمًا أبدًا، حتي يقبضَنا اللهُ ربُّ
العالمين؛ وهذا وهْمٌ محض، فإنَّ اللهَ ربَّ العالمين يُقدِّرُ الموتَ على الأبناء
فيستأصلُهُم، ويُقدِّرُ الفَناء على الأموالِ فتُجتاح، ويصيرُ الغني فقيرًا، ويصيرُ
العزيزُ ذَليلًا، ويصيرُ القويُ ضعيفًا، ويصيرُ الصحيحُ مريضًا، إلى غير ذلك من
هذه الأضداد المتقابلة، فمَنْ أمِنَ مكرَ اللهِ ربِّ العالمين فقد تورطَ في هذه
الكبيرة العظيمة، وهو مُعرضٌ لسخطِ اللهِ ربِّ العالمين، ولا يأتيه أمرُ ربِّهِ إلَّا
على غِرّة في حالِ سَلْوتِه، في حالِ لهوِهِ، في حالِ كثرِتِهِ؛ ليكون السلبُ أوقعَ
في النفسِ وأشدَّ إيلامًا لها.
فنسألُ
اللهَ ربَّ العالمين بأسمائهِ الحسنى وصفاتِه المُثلى أنْ يَمُنَّ علينا بالصَحْوِ
مِنْ بعد السُبَات، وأنْ يَمُنَّ علينا باليقظة من بعد الرُقاد، وأن َيَمُنُّ
علينا تبارك وتعالى بالعلمِ مِنْ بعدِ الجهل؛ إنه تبارك وتعالى علي كل شيء قدير؛
وصلى الله وسلم علي نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.