مُهَذَّب فَتَاوَى كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ حَوْلَ الْأَضْرِحَةِ وَالنُّذُورِ وَالْمَوَالِدِ

مُهَذَّب فَتَاوَى كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ حَوْلَ الْأَضْرِحَةِ وَالنُّذُورِ وَالْمَوَالِدِ

مُهَذَّب

فَتَاوَى كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ

حَوْلَ الْأَضْرِحَةِ وَالنُّذُورِ وَالْمَوَالِدِ

تَهْذِيب: الشَّيْخِ الْعَلَّامَة: سَعْد الْحُصَيْن -رَحِمَهُ اللهُ-.

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حِفْظُ حُقُوقِ التَّأْلِيفِ قَانُونٌ أُورُوبِّيٌّ، وَالْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يَجُوزُ تَحْجِيرُهَا وَلَا احْتِكَارُهَا، وَنَشْرُهَا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ عِبَادَةٌ صَحِيحَةٌ.

طُبِعَ الْأَصْلُ عَامَ (1431هـ)

وَطُبِعَ التَّهْذِيبُ عَامَ (1435هـ)

 

 

بَيَانُ التَّهْذِيبِ

***

عِنْدَمَا زُرْتُ مِصْرَ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَامَ (1374هـ - 1954م)، ثُمَّ أَقَمْتُ فِيهَا لِلدِّرَاسَةِ الْعُلْيَا مِنْ (1378هـ - 1958م) إِلَى (1380هـ - 1960م)، ثُمَّ زُرْتُ بَقِيَّةَ بِلَادِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ الْمُنْتَمِينَ لِلْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ غَيْرِهَا؛ رَأَيْتُ عَدَدًا هَائِلًا مِنَ الْمُخَالَفَاتِ لِشَرْعِ اللهِ -تَعَالَى-، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، أَهْوَنُهَا التَّبَرُّجُ تَقْلِيدًا لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَشْنَعُهَا وَثَنِيَّةُ الْمَقَامَاتِ وَالْمَزَارَاتِ وَالْمَشَاهِدِ وَالْأَضْرِحَةِ؛ تَقَرُّبًا بِالشِّرْكِ الْأَكْبَرِ للهِ -تَعَالَى-، وَاتِّبَاعًا لِسَنَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ، وَمَا بَيْنَ التَّبَرُّجِ وَالْوَثَنِيَّةِ مِنَ الْبِدَعِ، وَزَوَايَا الصُّوفِيَّةِ، وَالْمَلَاهِي وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَى.

وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي السُّعُودِيَّةِ -بِفَضْلِ اللهِ- مُنْذُ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ الْهِجْرِيِّ -الثَّامِنَ عَشَرَ الْكُرِيكُورِيِّ-، عِنْدَمَا قَامَتْ دَوْلَةُ آلِ سُعُودٍ مُؤَازِرَةً دَعْوَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِتَجْدِيدِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-.

وَشَمِلَ مُلْكُهَا أَقْدَسَ بِقَاعِ الْأَرْضِ فِي بِدَايَةِ الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ، ثُمَّ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ، فَهَدَمَتْ جَمِيعَ الْأَوْثَانِ، وَأَزَالَتْ جَمِيعَ الْبِدَعِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَالْمَعَاصِي مِنَ الْأَسْوَاقِ بَيْنَ الْخَلِيجِ وَالْبَحْرِ الْأَحْمَرِ، وَعَجِبْتُ مِنْ طُغْيَانِ الْجَهْلِ وَالشِّرْكِ وَالِابْتِدَاعِ فِي بِلَادِ الْأَزْهَرِ، وَبِلَادِ الشَّامِ الْمُبَارَكَةِ، وَبِلَادِ الْعِرَاقِ بَعْدَ عَهْدِ عَلِيٍّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مُنْذُ نَحْوِ أَلْفِ سَنَةٍ.

ثُمَّ أَهْدَانِي أَخِي فِي الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ الشَّيْخُ: شَرِيف نُصَيْر -مِنْ مِصْرَ- كِتَابًا يَشْمَلُ فَتَاوَى أَشْهَرِ مَشَايِخِ الْأَزْهَرِ، وَمُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَعُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ، كُلُّهُمْ يُحَرِّمُونَ مَا يُحِلُّهُ أَكْثَرُ الْعَوَامِّ وَالْمُثَقَّفِينَ وَطُلَّابِ الْعِلْمِ -بَلْ بَعْضُ مَنْ يُوصَفُونَ بِالْعُلَمَاءِ- مِنَ الْبِدَعِ الْوَثَنِيَّةِ؛ مِنْ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ، وَالنَّذْرِ وَالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللهِ، وَقَلِيلٌ مِنَ الدُّعَاةِ مَنْ يَجْرُؤُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ!

وَقَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ بَيْنَ الْعَوَامِّ وَبَيْنَ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ أَوْثَانَ الْجَاهِلِيَّةِ مُنْذُ قَوْمِ نُوحٍ إِلَى الْيَوْمِ مَا هِيَ إِلَّا الْمَقَامَاتُ وَالْأَضْرِحَةُ وَالْمَزَارَاتُ وَالْمَشَاهِدُ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا بَلَدٌ مُسْلِمٌ غَيْرَ السُّعُودِيَّةِ وَالْإِمَارَاتِ وَالْكُويتِ وَقَطَر؛ بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لِقَوْلِ اللهِ -تَعَالَى- عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قَالَ: ((أُولَئِكَ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ أَنِ ابْنُوا فِي مَجَالِسِهِمْ أَنْصَابًا.. فَلَمَّا تَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ)). رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ((تَفْسِيرِهِ)) بِنَحْوِهِ.

فَالْفَرْقُ فِي الْأَلْفَاظِ فَقَطْ: الْآلِهَةُ، وَالْأَصْنَامُ، وَالْأَوْثَانُ مِنْ قَبْلُ، وَ: الْأَوْلِيَاءُ، وَالْمَقَامَاتُ، وَالْمَزَارَاتُ، وَالْمَشَاهِدُ، وَالْأَضْرِحَةُ هَذَا الْيَوْمَ.

وَحِيلَةٌ لَفْظِيَّةٌ أُخْرَى احْتَالَهَا الشَّيْطَانُ لِيُلَبِّسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ: يَتَعَلَّقُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُبُورِيِّينَ الْوَثَنِيِّينَ بِلَفْظِ: (الْعِبَادَةِ)، فَيَقُولُونَ: نَحْنُ لَا نَعْبُدُ الْقُبُورَ وَلَا أَصْحَابَهَا، لَا نَرْكَعُ، وَلَا نَسْجُدُ، وَلَا نُصَلِّي لَهُمْ، وَإِنَّمَا نَتَقَرَّبُ بِأَوْلِيَاءِ اللهِ إِلَى اللهِ لِيَشْفَعُوا لَنَا عِنْدَهُ، وَقَدْ سَمَّى اللهُ -تَعَالَى- آلِهَةَ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْلِيَاءَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} [الزمر: 3].

وَذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ وَثَنِيِّي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ أَوْلِيَاءَهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5].

وَكَانُوا يَدْعُونَهُمْ فِي الرَّخَاءِ، فَإِذَا وُجِدَتِ الشِّدَّةُ دَعَوُا اللهَ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

وَلَكِنَّ وَثَنِيِّيِ الْعَصْرِ مِمَّنْ يَنْتَمُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ أَوِ الْبِدْعَةِ يَدْعُونَ مَنْ يُسَمُّونَهُمْ (أَوْلِيَاءَ) فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ -هَدَاهُمُ اللهُ، وَدَلَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَثَبَّتَهُمْ عَلَيْهِ-.

وَيُصَرِّحُ أُسْتَاذِي فِي التَّفْسِيرِ الشَّيْخُ د: مُحَمَّد حُسَيْن الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ الْمُبَارَكِ بِأَنَّ مَا يَتَعَبَّدُ النَّاسُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُمْ فِي مِصْرَ الْيَوْمَ حَرَامٌ وَشِرْكٌ، وَمُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللهِ؛ وَلَكِنَّهُ يَعْتَرِفُ بِالْعَجْزِ -وَهُوَ وَزِيرُ الْأَوْقَافِ- عَنْ مُقَاوَمَةِ هَذَا الظُّلْمِ الْعَظِيمِ مِنَ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ نُفُوسِ الْأَغْلَبِيَّةِ.

جَزَى اللهُ خَيْرَ الْجَزَاءِ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِجَمْعِ هَذِهِ الْفَتَاوَى فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَنَشْرِهِ، وَجَزَى اللهُ خَيْرَ الْجَزَاءِ أَخِي الْكَرِيمَ شَرِيف نُصَيْر؛ لِتَعْرِيفِي بِهَذَا الْمَجْمُوعِ النَّادِرِ، وَتَشْرِيفِي بِتَهْذِيبِهِ، وَإِعَادَةِ طَبْعِهِ وَنَشْرِهِ؛ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيَّ بِخَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ؛ فَقَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ بِالْمُوَاطَنَةِ فِي الدَّوْلَةِ الْأُولَى مُنْذُ نِهَايَةِ الْقُرُونِ الْخَيِّرَةِ الَّتِي مَيَّزَهَا اللهُ عَلَى جَمِيعِ دُوَلِ الْمُسْلِمِينَ بِتَأْسِيسِهَا مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى الْأَمْرِ بِإِفْرَادِ اللهِ بِالدُّعَاءِ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ مُنْكَرِ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ مَعَهُ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَمَيَّزَهَا اللهُ الْيَوْمَ بِخُلُوِّ مَسَاجِدِهَا مِنَ الْأَضْرِحَةِ وَالْمَقَامَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَخُلُوِّ أَرْضِهَا مِنَ الْمَزَارَاتِ الْوَثَنِيَّةِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الْبِدَعِ وَالزَّوَايَا الصُّوفِيَّةِ، وَتَحْكِيمِ شَرْعِ اللهِ فِي كُلِّ مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ وَالْعِبَادَاتِ، وَجُلِّ مَسَائِلِ الْمُعَامَلَاتِ، فَلَا يُرْفَعُ فِيهَا قَبْرٌ أَكْثَرَ مِنْ شِبْرٍ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالرَّاعِي وَالرَّعِيَّةُ.

فَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَ بِهَذَا الْمَجْمُوعِ، وَأَلَّا يَحْرِمَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهِ الْأَجْرَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّهِ، وَآلِهِ، وَصَحْبِهِ، وَمُتَّبِعِي سُنَّتِهِ.

***

تَقْدِيمٌ بِقَلَمِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ الدُّكْتُور

عَبْدِ السَّتَّار فَتْح اللهِ سَعِيد

أُسْتَاذُ التَّفْسِيرِ وَعُلُومِ الْقُرْآنِ بِجَامِعَةِ الْأَزْهَرِ

الْحَمْدُ للهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

رَجَاءٌ وَتَحْذِيرٌ!

أَمَّا (الرَّجَاءُ) الْأَعْظَمُ؛ فَهُوَ أَنْ يَنْتَبِهَ كُلُّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ إِلَى أَنَّ إِفْرَادَ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَنَفْيَهَا عَمَّا سِوَاهُ هُوَ أَصْلُ الْأُصُولِ فِي الدِّينِ، وَأَسَاسُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَمَنْ حَقَّقَهُ فَازَ وَنَجَا، وَسَعِدَ فِي الدَّارَيْنِ،  وَمَنْ ضَيَّعَهُ خَابَ وَخَسِرَ.

وَأَمَّا (التَّحْذِيرُ) الْأَكْبَرُ؛ فَهُوَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَرْجَاسِهِ وَبِدَعِهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ، مُحَرِّمٌ لِلْجَنَّةِ، مُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى-.

وَعَلَى الْقَارِئِ الْكَرِيمِ أَنْ يَجْمَعَ حَوَاسَّهُ كُلَّهَا، وَأَنْ يُوقِظَ مَشَاعِرَهُ جَمِيعًا؛ لِيَتَّخِذَ قَرَارًا صَارِمًا بِالْتِزَامِ التَّوْحِيدِ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَبِاجْتِنَابِ الشِّرْكِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ ظُلُمَاتٍ وَفِتَنٍ.

وَلَا يَتَعَامَلُ مَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِأَيِّ قَدْرٍ مِنَ التَّسَاهُلِ وَالتَّهَاوُنِ.

تَفْصِيلٌ وَبَيَانٌ:

وَهَذَا تَفْصِيلٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى مَا أَجْمَلْنَاهُ فِي هَذِهِ السُّطُورِ -وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ-، وَمِنْهُ وَحْدَهُ التَّوْفِيقُ وَالسَّدَادُ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالصِّفَاتِ الْعُلْيَا؛ خَلْقًا، وَمُلْكًا، وَرِزْقًا، وَإِحْيَاءً، وَإِمَاتَةً، وَبَعْثًا، وَجَزَاءً، وَإِلَهِيَّةً، كَمَا فِي قَوْلِهِ الْكَرِيمِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؛ وَلِذَلِكَ اتَّصَفَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِـ(الْوَحْدَانِيَّةِ) الْمُطْلَقَةِ بِلَا شَرِيكٍ وَلَا نَظِيرٍ، وَأَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ التَّوْحِيدَ -إِفْرَادَ اللهِ بِالْعِبَادَةِ-؛ اعْتِقَادًا، وَقَوْلًا، وَعَمَلًا.

وَجَعَلَ اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ أَصْلَ الْأُصُولِ، وَأَسَاسَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا لِعِبَادِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فِي كُلِّ الْعُصُورِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].

وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى- كُلَّ ضُرُوبِ الشِّرْكِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ تَحْرِيمًا قَطْعِيًّا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَلَا رُخْصَةَ مَعَهُ، وَعَدَّ الشِّرْكَ أَفْحَشَ الذُّنُوبِ جَمِيعًا، وَحَكَمَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِأَشْنَعِ حُكْمٍ؛ إِذْ إِنَّهُ:

1*يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، وَيَمْحُو الْحَسَنَاتِ مَهْمَا كَانَتْ عَظِيمَةً.

2*لَا يَقْبَلُ الْمَغْفِرَةَ.

3*يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

4*يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ خُلُودًا أَبَدِيًّا -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى-.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ- مُخَاطِبًا خَاتَمَ رُسُلِهِ مُحَمَّدًا ﷺ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].

وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْمَصِيرِ النِّهَائِيِّ لِمَنْ أَشْرَكَ بِهِ: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].

مَنْهَجُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ:

وَقَدِ اسْتَوْعَبَ الْأَنْبِيَاءُ جَمِيعًا هَذَا الْوَحْيَ الْإِلَهِيَّ؛ فَكَانَتْ قَضِيَّةُ حَيَاتِهِمْ وَمَمَاتِهِمْ هِيَ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ، وَنَبْذِ الشِّرْكِ وَالشُّرَكَاءِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى هَذَا نِيَّةً وَقَوْلًا وَعَمَلًا طُوَالَ حَيَاتِهِ ﷺ، وَسُنَّتُهُ الشَّرِيفَةُ أَبْلَغُ شَاهِدٍ مُنْذُ بُعِثَ حَتَّى مَاتَ.

وَقَدِ اسْتَوْعَبَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ الْعُصُورِ مَنْهَجَهُ ﷺ؛ لِذَلِكَ كَانُوا بِأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمُؤَلَّفَاتِهِمْ عَلَى آثَارِ الْمُصْطَفَى ﷺ فِي نَشْرِ التَّوْحِيدِ، وَمُحَارَبَةِ الشِّرْكِ وَكُلِّ مَظَاهِرِهِ وَمَدَاخِلِهِ الْمُظْلِمَةِ؛ تَحْقِيقًا لِحَقَائِقِ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيَّةِ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ، وَتَأْكِيدًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَلِذَلِكَ كَانَتْ فَتَاوَى عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ الْعُصُورِ وَاضِحَةً، لَا تَقْبَلُ التَّسَاهُلَ وَالتَّرَخُّصَ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، وَلَا تُهَادِنُ أَهْوَاءَ الْعَوَامِّ وَأَصْحَابِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، بَلْ تُطَارِدُ كُلَّ أَلْوَانِ الشِّرْكِ وَأَسْبَابِهِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، مَهْمَا زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ؛ مِثْلَ إِقَامَةِ الْأَضْرِحَةِ عَلَى الْقُبُورِ، وَإِضَاءَتِهَا، وَسَتْرِهَا بِالسُّتُورِ، وَدُعَاءِ الْمَقْبُورِينَ مِنْ بُعْدٍ أَوْ مِنْ قُرْبٍ، أَوِ الطَّوَافِ حَوْلَ هَذِهِ الْأَضْرِحَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، أَوْ نَذْرِ شَيْءٍ لِغَيْرِ اللهِ -تَعَالَى-، كَمَا نَرَى بَرَاهِينَ ذَلِكَ فِي كُلِّ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ الْأَثْبَاتِ الْمَنْقُولَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْقَيِّمِ؛ بَلْ كَمَا نَرَى فِي فَتَاوَى الْوُزَرَاءِ الَّذِينَ صَدَعُوا بِكَلِمَةِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَمْنَعْهُمْ الِاعْتِبَارَاتُ السِّيَاسِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِالْحَقِّ الرَّبَّانِيِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّحْرِيفَ أَوِ التَّغْيِيرَ، فَاسْتَنْكَرُوا الْمَوَالِدَ وَمَا فِيهَا مِنْ بِدَعٍ مُضِلَّةٍ، وَأَنْكَرُوا الْأَضْرِحَةَ، وَصَنَادِيقَ النُّذُورِ، وَضَلَالَاتِ الْمُخَرِّفِينَ مِنْ أَدْعِيَاءِ التَّصَوُّفِ وَالتَّشَيُّعِ، وَبَيَّنُوا مَا حَدَثَ مِنْ بِدَعٍ وَانْحِرَافَاتٍ ضَالَّةٍ مُضِلَّةٍ.

أَدْعِيَاءُ الْإِفْتَاءِ:

وَلْيَكُنْ فِي هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِلنَّاسِ جَمِيعًا؛ خُصُوصًا لِتِلْكَ النَّابِتَةِ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ وَالْإِفْتَاءِ، الَّذِينَ أَوْغَلُوا فِي إِبَاحَةِ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَصْدَرُوا فِي ذَلِكَ الْفَتَاوَى وَالْكُتُبَ، وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَأَضَلُّوا الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ بِمُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٍ، وَاللهُ -تَعَالَى- هُوَ الْمَأْمُولُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ مَمَاتِهِمْ مِنْ هَذِهِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ.

جَزَى اللهُ -تَعَالَى- عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ الْأَثْبَاتَ خَيْرَ الْجَزَاءِ عَلَى مَا كَتَبُوا، وَأَفْتَوْا، وَصَدَعُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ.

وَجَزَى اللهُ خَيْرَ الْجَزَاءِ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْفَتَاوَى وَالْأَقْوَالَ الْمُوَثَّقَةَ مِنْ مَصَادِرِهَا؛ لِتَكُونَ عِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَذْكِرَةً لِلْمُوَحِّدِينَ.

وَإِنَّنَا -بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ- نَدْعُو الْعُلَمَاءَ جَمِيعًا أَلَّا يَتَهَاوَنُوا فِي هَذِهِ الْعَقَائِدِ الْخَطِيرَةِ، وَأَنْ يُقَدِّرُوا الْمَسْؤُولِيَّةَ الْعُظْمَى الَّتِي نِيطَتْ بِأَعْنَاقِهِمْ؛ بَيَانًا لِلْحَقِّ، وَحِفَاظًا عَلَى دِينِ الْأُمَّةِ مِنْ لَوْثَاتِ الشِّرْكِ وَبِدَعِ الْبَاطِلِ.

وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ أَنْ يَأْخُذُوا الْعِلْمَ مِنَ الْعُلَمَاءِ النَّاصِحِينَ الصَّالِحِينَ، وَأَلَّا يَتَرَخَّصُوا فِي أُمُورِ الْعَقَائِدِ وَالْإِيمَانِ، وَأَلَّا يَقْبَلُوا الْفَتَاوَى الْمُبْتَدَعَةَ؛ ((فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ)). كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَفَّقَ اللهُ الْجَمِيعَ إِلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَعَصَمَنَا جَمِيعًا مِنَ الشَّيْطَانِ وَنَزْغِهِ، وَخَتَمَ لَنَا جَمِيعًا بِخَاتِمَةِ السَّعَادَةِ وَالْهُدَى.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

كَتَبَهُ الْفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ اللهِ

عَبْدُ السَّتَّار فَتْح اللهِ سَعِيد

الْقَاهِرَة فِي غُرَّةِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ (1428هـ / 12-9-2007م)

***

تَقْدِيمٌ بِقَلَمِ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ: عَبْدِ الرَّحْمَن يَعْقُوب

مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدْ جَمَعَ أَحَدُ الْمُهْتَمِّينَ بِنَشْرِ الدَّعْوَةِ الصَّحِيحَةِ هَذِهِ الْفَتَاوَى الْمُهِمَّةِ لِكِبَارِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَهِيَ فَتَاوَى تَقَيَّدُوا فِيهَا بِالدَّلِيلِ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَصَحَابَتِهِ الْمُكَرَّمِينَ، وَفُقَهَاءِ السَّلَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ.

وَتَرْجِعُ أَهَمِّيَّةُ هَذِهِ الْفَتَاوَى إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُفْتِينَ -خَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَانِ- قَدْ تَرَكُوا الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى الْعَقْلِ لَا الشَّرْعِ، وَآثَرُوا مَعْسُولَ الْكَلَامِ، وَتَوَسَّعُوا فِي الْآرَاءِ وَالتَّفْرِيعَاتِ وَالنُّقُولِ الَّتِي لَا تُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.

وَإِذَا اسْتَدَلُّوا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ أَوَّلُوهُ حَسَبَ أَهْوَائِهِمْ؛ فَأَوْقَعُوا النَّاسَ فِي حَيْرَةٍ وَخِلَافٍ، وَمِنْ ثَمَّ زَجُّوا بِهِمْ فِي فِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ، فَوَقَعَ مَا حَذَّرَ مِنْهُ رَبُّ الْعِزَّةِ بِقَوْلِهِ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

وَلَا يَخْتَلِفُ الْمُنْصِفُونَ عَلَى فَضْلِ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ سَتَقْرَأُ فَتَاوِيهِمْ، عَلَى غَزَارَةِ عِلْمِهِمْ، وَدَقِيقِ فَهْمِهِمْ، وَتَوْفِيقِ اللهِ لَهُمْ فِيمَا أَفْتَوْا بِهِ وَنُشِرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ؛ فَقَدْ كَانُوا فِي هَذِهِ الْفَتَاوَى عَلَى عِلْمٍ صَحِيحٍ، وَاحْتِيَاطٍ دَقِيقٍ.

إِنَّ هَذِهِ الْفَتَاوَى هِيَ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَهِيَ الصِّدْقُ الَّذِي نَصَحُوا بِهِ الْأُمَّةَ؛ حَتَّى لَا تَقَعَ فِيمَا نَهَى عَنْهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْ سَبَقَهُ مِنَ الرُّسُلِ.

وَأَسْأَلُ اللهَ لِي وَلَكَ التَّوْفِيقَ وَالسَّدَادَ.

وَكَتَبَ

الشَّيْخُ: عَبْدُ الرَّحْمَن يَعْقُوب

الْقَاهِرَة فِي غُرَّةِ رَمَضَانَ 1428هـ

 

 

 

تَقْدِيمٌ بِقَلَمِ الدُّكْتُور: عَبْدِ اللهِ شَاكِر الْجُنَيْدِي

أُسْتَاذُ الْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

الرَّئِيسُ الْعَامُّ لِجَمَاعَةِ أَنْصَارِ السُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِمِصْرَ

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ بِبَعْثَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ وَلَا مَثِيلَ لَهُ، تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا، مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ إِمَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ إِفْرَادَ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَوُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الدُّعَاءِ، وَالْإِخْلَاصَ لَهُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ دَعَوَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَمَا مِنْ نَبِيٍّ بُعِثَ فِي قَوْمِهِ إِلَّا وَدَعَاهُمْ إِلَى إِقَامَةِ الدِّينِ للهِ، وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

 

وَقَدْ تَحَقَّقَ تَمَامُ التَّوْحِيدِ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ ، الْأَمِينِ الَّذِي قَالَ  اللهُ لَهُ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].

وَلَكِنْ خَلَفَ بَعْدَ ذَلِكَ خُلُوفٌ مَالُوا إِلَى طَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيِّينَ، وَانْحَرَفُوا عَنْ هَدْيِ سُنَّةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ، وَأَدْخَلُوا فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَمِنْ ذَلِكَ: بِنَاءُ الْأَضْرِحَةِ، وَتَشْيِيدُ الْقُبُورِ، وَالنَّذْرُ لِأَصْحَابِهَا، وَطَلَبُ الْمَدَدِ مِنْهُمْ مِمَّا يَحْدُثُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ مُخَالَفَةً صَرِيحَةً لِلشَّرْعِ الْحَكِيمِ، وَعُدُولٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ بَلْ خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ.

وَمَا فَتِئَ الْأَئِمَّةُ الْكِرَامُ شُيُوخُ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ، وَأَئِمَّةُ دَارِ الْإِفْتَاءِ، وَأَعْضَاءُ هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، وَوُزَرَاءُ الْأَوْقَافِ الْفُضَلَاءُ يُحَارِبُونَ تِلْكَ الِانْحِرَافَاتِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ تِلْكَ الْبِدَعِ وَالشِّرْكِيَّاتِ، وَلَقَدْ حَفِظَتْ سِجِلَّاتُ الْفَتَاوَى وَبُطُونُ الْكُتُبِ وَصَفْحَاتُ الصُّحُفِ تُرَاثًا مُضِيئًا يُشِعُّ بِالْهُدَى وَالنُّورِ.

وَهَذِهِ الْبَاقَةُ الطَّيِّبَةُ مِنْ فَتَاوَى عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ وَرِجَالَاتِهِ -رَحِمَ اللهُ أَمْوَاتَهُمْ، وَحَفِظَ أَحْيَاءَهُمْ- لَمْ يَكُنْ مِنْ تَدَخُّلٍ فِيهَا إِلَّا بِالْجَمْعِ وَالْإِعْدَادِ وَالتَّرْتِيبِ؛ وَذَلِكَ إِبْرَاءً لِلذِّمَّةِ، وَنُصْحًا لِلْأُمَّةِ، وَتَخْلِيصًا لِلْعَقِيدَةِ مِنْ شَوَائِبِهَا.

وَفَّقَ اللهُ الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ، وَالدُّعَاةَ الصَّادِقِينَ، وَتَقَبَّلَ جِهَادَ الْمُخْلِصِينَ بِأَحْسَنِ الْقَبُولِ؛ إِنَّهُ خَيْرُ مَأْمُولٍ، وَأَكْرَمُ مَسْؤُولٍ.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَكَتَبَ

أ.د/ عَبْدُ اللهِ شَاكِر الْجُنَيْدِيُّ

الْقَاهِرَة فِي غُرَّةِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ 1428هـ

***

تَقْدِيمٌ بِقَلَمِ الدُّكْتُور: مُحَمَّد يُسْرِي إِبْرَاهِيم

نَائِبُ رَئِيسِ الْجَامِعَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ

الْحَمْدُ للهِ إِلَهِ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْهَادِي الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ:

فَفِي الْقَلْبِ شَعَثٌ لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ، وَفِيهِ وَحْشَةٌ لَا يُزِيلُهَا إِلَّا الْأُنْسُ بِاللهِ، وَفِيهِ حُزْنٌ لَا يُذْهِبُهُ إِلَّا السُّرُورُ بِمَعْرِفَتِهِ وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ، وَفِيهِ قَلَقٌ لَا يُسَكِّنُهُ إِلَّا ذِكْرُهُ وَشُكْرُهُ، وَالْفِرَارُ إِلَيْهِ.

وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ أَصْحَابَهُ طَرِيقَةَ الزُّهْدِ الصَّحِيحَةَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أُصُولَ الْوُصُولِ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَعَلَى هَذَا مَضَى التَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً عَنْ رَسْمِ النُّبُوَّةِ فِي بَابِ رِيَاضَةِ النُّفُوسِ خَرَجُوا، وَفِي مُوَافَقَةِ رَهْبَانِيَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ دَخَلُوا، وَعَلَى الضَّعِيفِ وَالْمَوْضُوعِ مِنَ الْآثَارِ اعْتَمَدُوا، وَبِالْخُرَافَةِ وَالضَّلَالَةِ آمَنُوا وَعَمِلُوا، وَكُلَّمَا مَضَى قَرْنٌ وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ انْحَرَفَتْ طَرِيقَتُهُمْ، وَشَاهَتْ مَسَالِكُهُمْ؛ حَتَّى كَثُرَتْ شِرْكِيَّاتُهُمْ، وَتَعَدَّدَتْ مُخَالَفَاتُهُمْ.

وَكَانَ لِزَامًا عَلَى الْأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمَصْرٍ بِمَا أَخَذَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ أَلَّا يَسْكُتُوا عَنْ هَذِهِ الْبِدَعِ وَالْمُخَالَفَاتِ، وَأَنْ يُسَارِعُوا إِلَى إِنْكَارِهَا نُصْحًا لِلْأُمَّةِ.

وَفِي بِلَادِنَا الْمَحْرُوسَةِ بِالسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا قَامَ الْعُلَمَاءُ يَذُودُونَ عَنْ حِمَى الدِّينِ؛ لِيَنْفُوا تَحْرِيفَ الزَّائِغِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَعَلَى رَأْسِ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْأَزْهَرِ الْفُضَلَاءُ، وَمَشْيَخَةُ دَارِ الْإِفْتَاءِ، وَأَعْضَاءُ هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، وَمِمَّا يُثْلِجُ الصَّدْرَ أَنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَاضِينَ وَالْمُعَاصِرِينَ يَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، وَيَلْتَزِمُ اتِّبَاعَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَهَذَا مِنْ جِهَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُصُولَ السُّنَّةِ وَالدِّينِ مُتَّفِقَةٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُبَارَكِينَ؛ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْمَذَاهِبُ الْفِقْهِيَّةُ لِأُولَئِكَ الْمُفْتِينَ.

فَإِمَامُ دَارِ الْإِفْتَاءِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَوَّلُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْدُه يُفْتِي بِهَدْمِ الْقُبَّةِ الْمُشَيَّدَةِ عَلَى قَبْرٍ، وَشَيْخُ الْأَزْهَرِ مُفْتِي الدِّيَارِ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْمَجِيدِ سَلِيم يُحَرِّمُ الدَّفْنَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِقَامَةَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ تَحْرِيمًا قَاطِعًا، وَشَيْخُ الْأَزْهَرِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ حَسَن مَأْمُون يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ تَعْظِيمَ الْأَضْرِحَةِ، وَالتَّوَسُّلَ بِالْمَوْتَى مِنْ مَزَالِقِ الشِّرْكِ، وَمِنْ رَوَاسِبِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّ تَقْبِيلَ الْأَعْتَابِ وَنُحَاسِ الضَّرِيحِ حَرَامٌ قَطْعًا، وَمُنَافٍ لِلشَّرِيعَةِ، وَفِيهِ إِشْرَاكٌ بِاللهِ.

وَلَمَّا رَأَى شَيْخُ الْأَزْهَرِ الرَّاحِلُ مَحْمُود شَلْتُوت مَا تَتَضَمَّنُهُ تِلْكَ الْمَوَالِدُ الْمُبْتَدَعَةُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْمَفَاسِدِ؛ أَفْتَى بِتَحْرِيمِهَا، وَأَرْدَفَ بِأَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا يُقَالُ لَهُ: مَقَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ كَمَا يَعْرِفُ النَّاسُ أَنَّ لَهُمْ قُبُورًا، وَأَنَّ قُبُورَهُمْ كَقُبُورِ سَائِرِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، يَحْرُمُ تَشْيِيدُهَا وَزَخْرَفَتُهَا، وَإِقَامَةُ الْمَقَاصِيرِ عَلَيْهَا، وَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَإِلَيْهَا وَعِنْدَهَا، وَبِنَاءُ الْمَسَاجِدِ مِنْ أَجْلِهَا، وَالطَّوَافُ بِهَا، وَمُنَاجَاةُ مَنْ فِيهَا، وَالتَّمَسُّحُ بِجُدْرَانِهَا، وَتَقْبِيلُهَا وَالتَّعَلُّقُ بِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خُرُوجٌ عَنْ حُدُودِ الدِّينِ، وَرُجُوعٌ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى.

وَيَتَوَاتَرُ النَّقْلُ عَنِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ سَلِيم أَنَّ النَّذْرَ لِلْمَوْتَى أَصْحَابِ الْأَضْرِحَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَيُؤَكِّدُ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ حَسَن مَأْمُون أَنَّهُ شِرْكٌ بِاللهِ، وَيَزِيدُ فَضِيلَةُ مُفْتِي الدِّيَارِ الدُّكْتُور الْعَلَّامَةُ نَصْر فَرِيد وَاصِل هَذَا التَّحْرِيمَ تَأْكِيدًا وَبُرْهَانًا.

وَأَخِيرًا وَلَيْسَ آخِرًا فَإِنَّ مَعَالِيَ وَزِيرِ الْأَوْقَافِ الْمِصْرِيَّةِ الْحَالِي الدُّكْتُور مَحْمُود حَمْدِي زَقْزُوق يُؤَكِّدُ أَنَّ النَّذْرَ لِأَصْحَابِ الْأَضْرِحَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَيَكْتُبُ مُصَرِّحًا بِرَدِّ صُوَرِ الْغُلُوِّ الْبَاطِلِ فِي النَّبِيِّ ، كَمَا فِي رَدِّهِ عَلَى فَتْوَى التَّبَرُّكِ بِبَوْلِ النَّبِيِّ ، وَمَعَهُ فِي ذَلِكَ ثُلَّةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ.

وَمِنَ اللَّافِتِ لِلنَّظَرِ أَنَّ انْتِشَارَ الْبِدَعِ وَالشِّرْكِيَّاتِ يَرْتَبِطُ بِحَالِ الْأُمَّةِ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَبِظُهُورِ السُّنَّةِ وَبِخَفَائِهَا، كَمَا يَرْتَبِطُ بِغَلَبَةِ الْأَعْدَاءِ، وَكَثْرَةِ الْأَدْوَاءِ.

وَفِي هَذَا الْكُتَيِّبِ بَاقَةٌ ثَرِيَّةٌ مِنْ فَتَاوِي أَثَرِيَّةٍ عَصْرِيَّةٍ تُبَصِّرُ مِنْ عَمَايَةٍ، وَتَهْدِي مِنْ غِوَايَةٍ، وَتُنِيرُ الدَّرْبَ، وَتُرْضِي الرَّبَّ، وَتَصِلُ السَّابِقَ بِاللَّاحِقِ، وَتُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَتَقْطَعُ الْمَعْذِرَةَ؛ فَيَا مَنِ اغْتَرَرْتُمْ أَفِيقُوا، وَيَا مَنْ غَفَلْتُمْ تَنَبَّهُوا، وَيَا مَنْ جَهِلْتُمْ تَعَلَّمُوا!

وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 

وَكَتَبَ

د/ مُحَمَّد يُسْرِي إِبْرَاهِيم

الْقَاهِرَة فِي غُرَّةِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ 1428هـ

***

 

((1)) فَتَاوَى الْأَضْرِحَةِ وَالْمَزَارَاتِ

1*لَا يَجْتَمِعُ مَسْجِدٌ وَقَبْرٌ فِي الْإِسْلَامِ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: عَبْدِ الْمَجِيد سَلِيم، شَيْخِ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.

2*حُرْمَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ ذَاتِ الْقُبُورِ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: مَحْمُود شَلْتُوت، شَيْخِ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ.

3*تَحْرِيمُ إِقَامَةِ الْأَضْرِحَةِ وَتَشْيِيدِ الْقُبُورِ.

لَجْنَةُ الْفَتْوَى بِالْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ.

4*تَحْرِيمُ تَزْيِينِ الْقُبُورِ وَإِقَامَةِ الْأَضْرِحَةِ عَلَيْهَا.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: أَحْمَد حَسَن الْبَاقُورِي، وَزِيرِ الْأَوْقَافِ الْمِصْرِيَّةِ.

5*حُرْمَةُ رَفْعِ الْبِنَاءِ وَالْقِبَابِ عَلَى الْقُبُورِ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: عَبْدِ الْمَجِيد سَلِيم، شَيْخِ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.

6*هَدْمُ قُبَّةٍ عَلَى قَبْرٍ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: مُحَمَّد عَبْدُه، مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.

7*حُكْمُ دَفْنِ الْمَوْتَى فِي سَاحَاتٍ مُلَاصِقَةٍ لِلدُّورِ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: عَبْدِ اللَّطِيفِ عَبْدِ الْغَنِيِّ حَمْزَة، مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.

8*حُكْمُ زِيَارَةِ الْأَضْرِحَةِ وَالطَّوَافِ بِالْمَقْصُورَةِ وَالتَّوَسُّلِ بِالْأَوْلِيَاءِ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: حَسَن مَأْمُون، شَيْخِ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.

***

 

 

 

 

 

لَا يَجْتَمِعُ مَسْجِدٌ وَقَبْرٌ فِي الْإِسْلَامِ

فَتْوَى شَيْخِ الْأَزْهَرِ الْإِمَامِ: عَبْدِ الْمَجِيد سَلِيم -رَحِمَهُ اللهُ-

كَتَبَتْ وَزَارَةُ الْأَوْقَافِ مَا يَأْتِي: يُوجَدُ بِوَسَطِ (مَسْجِدِ عِزِّ الدِّينِ أَيْبَك) قَبْرَانِ، وَرَدَ ذِكْرُهُمَا فِي الْخُطَطِ التَّوْفِيقِيَّةِ، وَتُقَامُ الشَّعَائِرُ أَمَامَهُمَا وَخَلْفَهُمَا، وَقَدْ طَلَبَ رَئِيسُ خَدَمِ هَذَا الْمَسْجِدِ دَفْنَهُ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَبْرَيْنِ؛ لِأَنَّ جَدَّهُ الَّذِي جَدَّدَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ مَدْفُونٌ بِأَحَدِهِمَا؛ فَنَرْجُو التَّفَضُّلَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي ذَلِكَ.

الْجَوَابُ:

أَجَابَ فَضِيلَةُ الْعَلَّامَةِ الْمُجْتَهِدِ الشَّيْخِ عَبْدُ الْمَجِيدِ سَلِيم مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَائِلًا: ((نُفِيدَ أَنَّهُ قَدْ أَفْتَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَنَ فِي الْمَسْجِدِ مَيِّتٌ؛ لَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ، وَلَا جَلِيلٌ وَلَا غَيْرُهُ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَا يَجُوزُ تَشْبِيهُهَا بِالْمَقَابِرِ)).  

وَقَالَ فِي فَتْوَى أُخْرَى: ((إِنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْنُ مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ قَبْلَ الدَّفْنِ غُيِّرَ؛ إِمَّا بِتَسْوِيَةِ الْقَبْرِ، وَإِمَّا بِنَبْشِهِ إِنْ كَانَ جَدِيدًا، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بُنِيَ عَلَى الْقَبْرِ فَإِمَّا أَنْ يُزَالَ الْمَسْجِدُ، وَإِمَّا أَنْ تُزَالَ صُورَةُ الْقَبْرِ، فَالْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الْقَبْرِ لَا يُصَلَّى فِيهِ فَرْضٌ وَلَا نَفْلٌ؛ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّفْنَ فِي الْمَسْجِدِ إِخْرَاجٌ لِجُزْءٍ مِنَ الْمَسْجِدِ عَمَّا جُعِلَ لَهُ مِنْ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَتَوَابِعِهَا مِنَ النَّفْلِ، وَالذِّكْرِ، وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا، وَلِأَنَّ اتِّخَاذَ قَبْرٍ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الْوَجْهِ الْوَارِدِ فِي السُّؤَالِ يُؤَدِّي إِلَى الصَّلَاةِ إِلَى هَذَا الْقَبْرِ أَوْ عِنْدَهُ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى حَظْرِ ذَلِكَ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِ ((اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ)) (ص: 158) مَا نَصُّهُ: ((إِنَّ النُّصُوصَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ تَوَاتَرَتْ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُبُورِ مُطْلَقًا، وَعَنِ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ، أَوْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا)).

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ((زَادِ الْمَعَادِ)): ((نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ فِي الْمَسْجِدِ نُبِشَ)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -أَيْضًا-: ((لَا يَجْتَمِعُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ قَبْرٌ وَمَسْجِدٌ، بَلْ أَيُّهُمَا طَرَأَ عَلَى الْآخَرِ مُنِعَ مِنْهُ، وَكَانَ الْحُكْمُ لِلسَّابِقِ)).

وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي ((شَرْحِ الْمُهَذَّبِ)) (5/ 316) مَا نَصُّهُ: ((اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَصْحَابِ عَلَى كَرَاهَةِ بِنَاءِ مَسْجِدٍ عَلَى الْقَبْرِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ إِلَى الْقُبُورِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الْمَيِّتُ صَالِحًا أَوْ غَيْرَهُ.

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى: قَالَ الْإِمَامُ الزَّعْفَرَانِيُّ: وَلَا يُصَلَّى إِلَى قَبْرٍ وَلَا عِنْدَهُ تَبَرُّكًا بِهِ، وَلَا تَعْظِيمًا لَهُ، وَلَا تَقَرُّبًا، وَلَا اسْتِشْفَاعًا بِهِ؛ لِلْأَحَادِيثِ)).

وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ.

وَعَلَّلَ صَاحِبُ ((الْهِدَايَةِ)) هَذِهِ الْكَرَاهَةَ بِعِلَّتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ؛ يَعْنِي: وَتَوَابِعِهَا مِنَ النَّوَافِلِ، وَالذِّكْرِ، وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ، وَإِذَا كَانَتْ صَلَاةُ الْجَنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهَةً لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ -كَمَا هُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا الْعَلَّامَةُ قَاسِمٌ وَغَيْرُهُ-؛ كَانَ الدَّفْنُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى بِالْحَظْرِ؛ لِأَنَّ الدَّفْنَ فِي الْمَسْجِدِ فِيهِ إِخْرَاجُ الْجُزْءِ الْمَدْفُونِ فِيهِ عَمَّا جُعِلَ لَهُ الْمَسْجِدُ مِنْ صَلَاةِ الْمَكْتُوبَاتِ وَتَوَابِعِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ شَرْعًا، وَاللهُ أَعْلَمُ.

***

حُرْمَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ ذَاتِ الْقُبُورِ

فَتْوَى شَيْخِ الْأَزْهَرِ مَحْمُود شَلْتُوت -رَحِمَهُ اللهُ-

تُوجَدُ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ أَضْرِحَةٌ وَمَقَابِرُ؛ فَمَا حُكْمُ إِقَامَتِهَا؟ وَمَا حُكْمُ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا، وَالصَّلَاةِ فِيهَا؟

الْجَوَابُ:

أَجَابَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: مَحْمُود شَلْتُوت -شَيْخُ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ- قَائِلًا:

((تَطْهِيرُ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ: شُرِعَتِ الصَّلَاةُ فِي الْإِسْلَامِ لِتَكُونَ رِبَاطًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، يَقِفُ فِيهَا بَيْنَ يَدَيْهِ خَاشِعًا ضَارِعًا، يُنَاجِيهِ مُسْتَشْعِرًا عَظَمَتَهُ، وَمُسْتَحْضِرًا جَلَالَهُ، مُلْتَمِسًا عَفْوَهُ وَرِضَاهُ؛ فَتَسْمُو نَفْسُهُ، وَتَزْكُو رُوحُهُ، وَتَرْتَفِعُ هِمَّتُهُ عَنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِغَيْرِ مَوْلَاهُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

وَكَانَ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَالْمُحَافَظَةِ فِيهِ عَلَى قَلْبِ الْمُصَلِّي: أَنْ يُخْلِصَ قَلْبُهُ فِي الِاتِّجَاهِ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَشَاهِدَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَبْعَثَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ غَيْرِ اللهِ؛ فَيُصْرَفُ عَنْ تَعْظِيمِهِ إِلَى تَعْظِيمِ غَيْرِهِ، أَوْ إِلَى إِشْرَاكِ غَيْرِهِ مَعَهُ فِي التَّعْظِيمِ.

وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِأَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ: تَطْهِيرُهَا مِنْ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18].

{وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].

تَسَرُّبُ الشِّرْكِ إِلَى الْعِبَادَةِ:

وَمَا زَلَّ الْعَقْلُ الْإِنْسَانِيُّ، وَخَرَجَ عَنْ فِطْرَةِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ فَعَبَدَ غَيْرَ اللهِ، أَوْ أَشْرَكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْدِيسِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ الَّتِي اعْتَقَدَ أَنَّ لِأَرْبَابِهَا وَالثَّاوِينَ فِيهَا صِلَةً خَاصَّةً بِاللهِ، بِهَا يُقَرِّبُونَ إِلَيْهِ، وَبِهَا يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ؛ فَعَظَّمَهَا، وَاتَّجَهَ إِلَيْهَا، وَاسْتَغَاثَ بِهَا، وَأَخِيرًا طَافَ وَتَعَلَّقَ، وَفَعَلَ بَيْنَ يَدَيْهَا كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ أَمَامَ اللهِ مِنْ دُعَاءٍ وَتَقْدِيسٍ.

لَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ:

وَالْإِسْلَامُ مِنْ قَوَاعِدِهِ الْإِصْلَاحِيَّةِ: أَنْ يَسُدَّ بَيْنَ أَهْلِهِ ذَرَائِعَ الْفَسَادِ، وَتَطْبِيقًا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ؛ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ)).

 نَهَى الرَّسُولُ ﷺ وَشَدَّدَ فِي النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ، وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا، وَالصَّلَاةِ فِيهَا، وَأَشَارَ الرَّسُولُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبًا فِي انْحِرَافِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ عَنْ إِخْلَاصِ الدُّعَاءِ للهِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ، وَفَكَّرَ حُكَّامُ الْأُمَوِيِّينَ فِي تَوْسِيعِ مَسْجِدِهِ، وَامْتَدَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ دَخَلَتْ فِيهِ بُيُوتُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِيهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ -مَدْفَنُ الرَّسُولِ ﷺ، وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- فَبَنَوْا عَلَى الْقَبْرِ حِيطَانًا مُرْتَفِعَةً تَدُورُ حَوْلَهُ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَظْهَرَ الْقُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ، فَيُصَلِّيَ إِلَيْهَا النَّاسُ، وَيَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ وَالْمَحْظُورِ.

وَاجِبُ الْمُسْلِمِينَ نَحْوَ الْأَضْرِحَةِ:

وَإِذَا كَانَ الِافْتِتَانُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ -كَمَا نَرَاهُ وَنَعْلَمُهُ- شَأْنَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ فَصْلُ الْأَضْرِحَةِ عَنِ الْمَسَاجِدِ، وَنَقْلُهَا إِلَى الْمَقَابِرِ؛ لِتَعُودَ الْمَسَاجِدُ بُيُوتًا للهِ، وَالْقُبُورُ قُبُورًا؛ فَيَجِبُ أَنْ تُفْصَلَ عَنْهَا فَصْلًا تَامًّا، بِحَيْثُ لَا تَقَعُ أَبْصَارُ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهَا، وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا وَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى يَجِبُ مَنْعُ الصَّلَاةِ فِي نَفْسِ الضَّرِيحِ، وَإِزَالَةُ الْمَحَارِيبِ مِنَ الْأَضْرِحَةِ.

وَإِنَّ مَا نَرَاهُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا الْأَضْرِحَةُ، وَنَرَاهُ فِي نَفْسِ الْأَضْرِحَةِ لَمِمَّا يَبْعَثُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ هِمَّةَ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ؛ وِقَايَةً لِعَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ وَعِبَادَاتِهِمْ مِنْ مَظَاهِرَ لَا تَتَّفِقُ، وَوَاجِبِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعَقِيدَةِ وَالتَّوْحِيدِ.

وَمِنْ هُنَا رَأَى الْعُلَمَاءُ أَنَّ الصَّلَاةَ إِلَى الْقَبْرِ أَيًّا كَانَ مُحَرَّمَةٌ، وَنُهِيَ عَنْهَا، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ بِحُكْمِ النَّهْيِ بُطْلَانَهَا؛ فَلْيَتَنَبَّهِ الْمُسْلِمُونَ إِلَى ذَلِكَ، وَلْيُسْرِعْ أَوْلِيَاءُ الْأَمْرِ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى إِخْلَاصِ الْمَسَاجِدِ للهِ، كَمَا قَالَ اللهُ: {وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].

***

تَحْرِيمُ إِقَامَةِ الْأَضْرِحَةِ وَتَشْيِيدِ الْقُبُورِ

فَتْوَى لَجْنَةِ الْفَتْوَى بِالْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ

دُفِنَ شَخْصٌ بِطَابِقٍ عُلْوِيٍّ، وَدُفِنَ قَبْلَهُ وَالِدُهُ بِالطَّابِقِ الْأَرْضِيِّ مِنَ الْمَقْبَرَةِ، وَيُرَادُ نَقْلُ الْأَوَّلِ إِلَى مَقَامٍ شُيِّدَ لَهُ، وَبِالْأَرْضِ رُطُوبَةٌ ضَارَّةٌ بِالْجُدْرَانِ ظَاهِرَةٌ لِلْعَيَانِ؛ حَتَّى إِنَّ الْجُدْرَانَ لَا تُمْسِكُ مَوَادَّ الْبِنَاءِ فِيهَا -الْأَسْمَنْت-؛ فَهَلْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُجِيزُ نَقْلَ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ؟

الْجَوَابُ:

((اطَّلَعَتِ اللَّجْنَةُ عَلَى هَذَا، وَتُفِيدُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَالُ كَمَا ذُكِرَ بِهِ جَازَ نَقْلُ هَذَا الْمَيِّتِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ؛ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ شَرْعًا نَقْلُهُ إِلَى ضَرِيحٍ أَوْ قُبَّةٍ، كَمَا يَصْنَعُهُ بَعْضُ النَّاسِ لِمَنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْوَلَايَةَ وَالصَّلَاحَ؛ فَإِنَّ هَذَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ -حَيَّانِ بْنِ حُصَيْنٍ- عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟ أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ)).

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

 وَلَفْظُهُ -أَيِ: التِّرْمِذِيّ-: ((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ، أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ، أَوْ يُجَصَّصَ، أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ)).

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: ((وَمِنْ رَفْعِ الْقُبُورِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْحَدِيثِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا: الْقُبَبُ وَالْمَشَاهِدُ الْمَعْمُورَةُ عَلَى الْقُبُورِ...)).

إِلَى أَنْ قَالَ: ((وَكَمْ نَتَجَ عَنْ تَشْيِيدِ أَبْنِيَةِ الْقُبُورِ وَتَحْسِينِهَا مِنْ مَفَاسِدَ يَبْكِي لَهَا الْإِسْلَامُ؛ مِنْهَا: اعْتِقَادُ الْجَهَلَةِ لَهَا كَاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ لِلْأَصْنَامِ، وَعَظُمَ ذَلِكَ فَظَنُّوا أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ، فَجَعَلُوهَا مَقْصِدًا لِطَلَبِ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَمَلْجَأً لِنَجَاحِ الْمَطَالِبِ، وَسَأَلُوا مِنْهَا مَا يَسْأَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَشَدُّوا إِلَيْهَا الرِّحَالَ، وَتَمَسَّحُوا بِهَا وَاسْتَغَاثُوا.

وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا مِمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ بِالْأَصْنَامِ إِلَّا فَعَلُوهُ؛ فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ...)) إِلَى آخِرِ مَا قَالَ فِي صَفْحَةِ (325) مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ.

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ اللَّجْنَةَ تَرَى تَحْرِيمَ نَقْلِ هَذَا الْمَيِّتِ إِلَى ضَرِيحٍ أَوْ قَبْرٍ ذِي قُبَّةٍ؛ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهِيَ مَفَاسِدُ تَمَسُّ الْعَقِيدَةَ، وَتُخِلُّ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَالْأَوْلَى نَقْلُهُ إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ اتِّبَاعًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا وَأَرْضَاهُمْ-، وَلِيَشْمَلَهُ سَلَامُ الْمُسْلِمِينَ وَدُعَاؤُهُمْ.

***

تَحْرِيمُ تَزْيِينِ الْقُبُورِ وَإِقَامَةِ الْأَضْرِحَةِ عَلَيْهَا

فَتْوَى وَزِيرِ الْأَوْقَافِ وَمُدِيرِ جَامِعَةِ الْأَزْهَرِ الشَّيْخِ الْبَاقُورِي

وَجَّهَتْ بَعْضُ الْهَيْئَاتِ الدِّينِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْهِنْدِ إِلَى فَضِيلَةِ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ: أَحْمَد حَسَن الْبَاقُورِي -وَزِيرِ الْأَوْقَافِ- سُؤَالًا قَالَتْ فِيهِ: هَلْ مِنَ الْجَائِزِ شَرْعًا تَزْيِينُ الْقُبُورِ، وَإِقَامَةُ أَضْرِحَةٍ عَلَيْهَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ شَرْعًا إِقَامَةُ مَرَافِقَ بِجِوَارِهَا؛ مِثْلَ السَّبِيلِ، وَالْمَسْجِدِ، وَالِاسْتِرَاحَةِ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي وَضْعِ بَعْضِ الْأُصُصِ -الزُّهْرِيَّاتِ- عَلَى الْقُبُورِ، أَوْ إِضَاءَتِهَا فِي لَيَالِي الْمَوَاسِمِ الدِّينِيَّةِ؟

الْجَوَابُ:

اسْتَهَلَّ فَضِيلَةُ الْأُسْتَاذِ الْبَاقُورِيِّ إِجَابَتَهُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِتَزْيِينِ الْقُبُورِ، وَإِقَامَةِ أَضْرِحَةٍ عَلَيْهَا: بِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ ضَرْبٌ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ، وَعِبَادَةِ الْأَشْخَاصِ، وَقَدْ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ، وَنَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَحَثَّ عَلَى تَرْكِهِ.

فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ)).

وَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِأَحَدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ -وَهُوَ يُوصِيهِ-: ((أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟ أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ)).

وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ يَتَّخِذُونَ مِنْ تَزْيِينِ الْقُبُورِ مَجَالًا لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّظَاهُرِ، وَيَمْضِي بَعْضُهُمْ فِي الشَّطَطِ حَتَّى يُقِيمَ الضَّرِيحَ عَلَى الْقَبْرِ؛ إِظْهَارًا لِلْمَيِّتِ بِأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ، أَوْ بِأَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ؛ اسْتِغْلَالًا لِهَذِهِ الرَّابِطَةِ عَلَى حِسَابِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ.

أَمَّا إِقَامَةُ مَرَافِقَ بِجِوَارِ الْقُبُورِ؛ كَالسَّبِيلِ، وَالْمَسْجِدِ، وَالِاسْتِرَاحَةِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَكْرَهُ مُزَاحَمَةَ الْقَبْرِ وَالتَّضْيِيقَ عَلَيْهِ، هَذَا وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرَافِقُ عَلَى أَرْضٍ عَامَّةٍ لِلدَّفْنِ فَيَحْرُمُ شَرْعًا شَغْلُهَا بِأَيِّ بِنَاءٍ آخَرَ سِوَى الْقُبُورِ، وَفِي الْأَرْضِ مُتَّسَعٌ لِتِلْكَ الْمَرَافِقِ فِيمَا يُجَاوِرُهَا أَوْ يَقْرُبُ مِنْهَا.

بَقِيَ مَوْضُوعُ إِضَاءَةِ الْقُبُورِ؛ إِشَادَةً بِهَا وَبِأَصْحَابِهَا، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُضِيءُ الْقَبْرَ هُوَ عَمَلُ الْمَيِّتِ، وَمَا ادَّخَرَ مِنْ صَالِحٍ وَطَيِّبٍ، لَا تِلْكَ الْقَنَادِيلُ أَوِ الشُّمُوعُ أَوِ الثُّرَيَّاتُ.

حُكْمُ الْإِسْلَامِ:

وَقَدْ سَأَلَ مَنْدُوبُ الْأَهْرَامِ الْأُسْتَاذَ الْبَاقُورِيَّ عَنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ.

فَقَالَ: ((الْإِسْلَامُ دِينُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ؛ فَكَيْفَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَوْتَى فِي أَشْكَالِ الْقُبُورِ وَمَظَاهِرِهَا؟!!

فَإِذَا جَاءَ الْأَغْنِيَاءُ فَأَقَامُوا لِمَوْتَاهُمُ الْأَضْرِحَةَ وَالْقِبَابَ، وَأَضَاءُوهَا، وَحَفُّوهَا بِالْحَدَائِقِ أَوِ الْأَشْجَارِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَنْ يُقِيمَ لَهُمْ وَزْنًا، بَلْ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا أَسْرَفُوا وَأَضَاعُوا مِنْ أَمْوَالٍ، وَافْتَرَوْا عَلَى اللهِ مِنْ مَظَاهِرِ الْقُرْبَى الْكَاذِبَةِ الْخَدَّاعَةِ.

وَقَدْ كَانَ مِنْ تَنَافُسِ الْأَغْنِيَاءِ فِي إِقَامَةِ الْأَضْرِحَةِ وَالْقِبَابِ: أَنِ انْصَرَفُوا عَنِ الْجَوْهَرِ إِلَى الْمَظْهَرِ، فَشَمَخَتِ الْقِبَابُ وَالْأَضْرِحَةُ فِي أَنْحَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، وَتَسَابَقَتِ الْمَآذِنُ، وَأُقِيمَتِ الْمَوَالِدُ؛ ظَنًّا مِنْهُمْ بِأَنَّهَا تُؤَدِّي عِنْدَ اللهِ مَا قَصَّرَتْ عَنْهُ أَنْفُسُهُمْ مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ صَوْمٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ زَكَاةٍ، وَنَتَجَ عَنْ ذَلِكَ أَنْ عَظَّمَ الْمُسْلِمُونَ أَصْحَابَ الْأَضْرِحَةِ الْكَبِيرَةِ، وَالْقِبَابِ الْعَالِيَةِ -هَذَا فِي مِصْرَ، وَلَهُ أَشْبَاهٌ فِي كُلِّ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ عَدَا السُّعُودِيَّةَ-.

وَأُحِبُّ أَنْ أُرْسِلَهَا كَلِمَةً خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا: أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ مَظَاهِرِ الْمَقَابِرِ، وَأَنْ يَعُودُوا إِلَى رِحَابِ الدِّينِ الَّتِي تُسَوِّي بَيْنَ النَّاسِ جَمِيعًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى الْآخَرِ إِلَّا بِالتَّقْوَى وَمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ لِلْخَلْقِ مِنْ أَعْمَالٍ خَالِصَةٍ لِوَجْهِ اللهِ.

***

 

حُرْمَةُ رَفْعِ الْبِنَاءِ وَالْقِبَابِ عَلَى الْقُبُورِ

فَتْوَى شَيْخِ الْأَزْهَرِ الْإِمَامِ عَبْدِ الْمَجِيد سَلِيم

سُئِلَ: «وَقَفَتِ امْرَأَةٌ وَقْفًا، وَقَرَّرَتْ أَنْ يُعْمَلَ مِنْ إِيرَادِ الْوَقْفِ تَرْكِيبَتَانِ مِنَ الرُّخَامِ، تُوضَعُ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ قَبْرِهَا، وَالْأُخْرَى فَوْقَ قَبْرِ زَوْجِهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْقَائِمُ بِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُحَرَّمٌ وَغَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا؛ فَمَا الْحُكْمُ»؟

الْجَوَابُ:

فَأَجَابَ فَضِيلَةُ الْعَلَّامَةِ الْمُجْتَهِدِ الشَّيْخِ: عَبْدُ الْمَجِيد سَلِيم -رَحِمَهُ اللهُ-:

((اعْلَمْ أَنَّهُ يَحْرُمُ رَفْعُ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ وَلَوْ لِلزِّينَةِ؛ بَلْ تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ التُّرَابِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ». انْتَهَى مِنَ ((الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَتُهُ رَدُّ الْمُحْتَارِ)).

وَفِي «الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ»: «وَإِذَا أَوْصَى بِأَنْ يُطَيَّنَ قَبْرُهُ، أَوْ تُوضَعَ عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةٌ؛ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ إِلَى التَّطْيِينِ؛ لِخَوْفِ سَبُعٍ أَوْ نَحْوِهِ».

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: فَوَضْعُ التَّرْكِيبَتَيْنِ لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَطُلَ شَرْطُ الْوَاقِفَةِ شِرَاءَهُمَا بِالْمَبْلَغِ الَّذِي عَيَّنَتْهُ، وَوَجَبَ صَرْفُ هَذَا الْمَبْلَغِ إِلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ مَا بَطُلَ صَرْفُهُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي حُجَّةِ الْوَقْفِ الَّتِي لَمْ يُرْسِلْهَا الْمُسْتَفْتِي إِلَيْنَا مَا يَقْضِي بِصَرْفِهِ فِي جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْفُقَرَاءِ، وَغَيْرِ الْقَبْرِ، وَاللهُ أَعْلَمُ».

***

هَدْمُ قُبَّةٍ عَلَى قَبْرٍ

فَتْوَى الْإِمَامِ مُحَمَّد عَبْدُه مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ

سُئِلَ فَضِيلَةُ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ: مُحَمَّد عَبْدُه -مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ-: ((ضَرِيحٌ قَدِيمٌ عَلَيْهِ قُبَّةٌ فِي شَارِعٍ مَطْرُوقٍ لَيْلًا وَنَهَارًا، مُعَرَّضَةٌ لِلْبَوْلِ وَالْأَقْذَارِ، وَبِجِوَارِ هَذَا الضَّرِيِحِ مَسْجِدٌ مَنْسُوبٌ لِصَاحِبِهِ، وَفِي هَذَا الْمَسْجِدِ بَابٌ لِذَلِكَ الضَّرِيحِ؛ فَهَلْ يَجُوزُ هَدْمُ الْقُبَّةِ، وَنَقْلُ الضَّرِيحِ إِلَى دَاخِلِ الْمَسْجِدِ، أَوْ يَبْقَى فِي مَحَلِّهِ؟

الْجَوَابُ:

أَجَابَ: ((الْمَرْوِيُّ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِنَاءَ بَيْتٍ أَوْ قُبَّةٍ عَلَى الْقَبْرِ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى هَدْمُ الْقُبَّةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهَا، فَإِذَا كَانَتْ تَجْتَمِعُ حَوْلَهَا الْقَاذُورَاتُ، وَاعْتَرَضَتْ فِي الطَّرِيقِ؛ تَأَكَّدَتِ الْأَوْلَوِيَّةُ، أَمَّا مَوْضِعُ الْقُبَّةِ وَهُوَ الضَّرِيحُ؛ فَيُسَوَّى بِأَرْضِ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ تَحْتَهُ مَيِّتًا مَدْفُونًا فَقَدْ بَلِيَ، فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ أَرْضِهِ فِي غَيْرِ الدَّفْنِ، وَاللهُ أَعْلَمُ)).

***

دَفْنُ الْمَوْتَى فِي سَاحَاتٍ مُلَاصِقَةٍ لِلدُّورِ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ

فَتْوَى الشَّيْخِ: عَبْدِ اللَّطِيفِ حَمْزَة -مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ-

سُئِلَ: فِي الطَّلَبِ الْمُقَيَّدِ بِرَقْم (261) لِسَنَةِ (1984م)، الْمُتَضَمِّنِ بَيَانَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِيمَنْ يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ فِي سَاحَاتِهِمُ الْمُلَاصِقَةِ لِدُورِهِمُ الَّتِي يَسْكُنُونَ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي؛ لِيَتَبَارَكَ النَّاسُ بِمَوْتَاهُمْ.

أَجَابَ فَضِيلَةُ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ: عَبْدُ اللَّطِيفِ حَمْزَة -مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ-  قَائِلًا: قَالَ تَعَالَى: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 17-21].

مِنْ مَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ إِقْبَارَ الْإِنْسَانِ -أَيْ: دَفْنَهُ فِي الْقَبْرِ- مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ لَهُ، وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَقَلُّ الْقَبْرِ حُفْرَةٌ تُوَارِي الْمَيِّتَ، وَتَمْنَعُ بَعْدَ رَدْمِهَا ظُهُورَ رَائِحَةٍ مِنْهُ تُؤْذِي الْأَحْيَاءَ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَبْشِهَا سَبُعٌ وَنَحْوُهُ، وَأَكْمَلُ الْقَبْرِ اللَّحْدُ، وَهُوَ حُفْرَةٌ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ جِهَةَ الْقِبْلَةِ، يُوضَعُ فِيهَا الْمَيِّتُ، وَتُجْعَلُ كَالْبَيْتِ الْمُسَقَّفِ يُنْصَبُ اللَّبِنُ عَلَيْهِ -اللَّبِنُ: هُوَ الطُّوبُ النَّيِّئُ-، وَالدَّفْنُ فِي اللَّحْدِ مُسْتَحَبٌّ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-:  «لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ ﷺ اخْتَلَفُوا فِي اللَّحْدِ وَالشَّقِّ، حَتَّى تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: ((لَا تَصْخَبُوا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا، فَأَرْسِلُوا إِلَى الشَّقَّاقِ وَاللَّاحِدِ جَمِيعًا، فَجَاءَ اللَّاحِدُ، فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ دُفِنَ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

وَأَحَادِيثُ أُخْرَى دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الدَّفْنَ فِي اللَّحْدِ أَفْضَلُ مِنَ الشَّقِّ؛ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ رِخْوَةً لَيِّنَةً يُخَافُ مِنْهَا انْهِيَارُ اللَّحْدِ، فَيُصَارُ إِلَى الشَّقِّ، وَهُوَ: حُفْرَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ فِي وَسَطِ الْقَبْرِ، وَتُبْنَى جَوَانِبُهَا بِاللَّبِنِ أَوْ غَيْرِهِ، يُوضَعُ فِيهَا الْمَيِّتُ، وَيُسَقَّفُ عَلَيْهِ بِاللَّبِنِ وَالْخَشَبِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَيُرْفَعُ السَّقْفُ قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا يَمَسُّ الْمَيِّتَ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ صُلْبَةً فَالدَّفْنُ فِي الشَّقِّ مَكْرُوهٌ.

وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيِّينَ دَفْنُ الْمَيِّتِ وَلَوْ صَغِيرًا فِي الْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُعَدَّةِ لِلدَّفْنِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَدْفِنُ الْمُتَوَفَّى بِالْبَقِيعِ، وَهُوَ مَكَانٌ مُخَصَّصٌ لِدَفْنِ الْمَوْتَى، وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَفَنَ أَصْحَابَهُ فِي الْمَقْبَرَةِ، فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِهِ أَوْلَى، أَمَّا الدَّفْنُ فِي الْمَنْزِلِ أَوِ الدَّارِ فَهَذَا خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ؛ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ)).

وَقَدْ وَافَقَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الصِّدِّيقَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: ((أَنَا سَمِعْتُهُ أَيْضًا)).

وَعَلَى ذَلِكَ نَرَى أَنَّ الْأَفْضَلَ وَالْأَوْلَى دَفْنُ الْأَمْوَاتِ فِي الْمَقَابِرِ الْمُعَدَّةِ لِذَلِكَ، وَفِي الْمَكَانِ الْمُخَصَّصِ لِلْمَقَابِرِ؛ اقْتِدَاءً بِفِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلِيَشْمَلَهُمْ تَسْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وَدُعَاؤُهُمْ لَهُمْ، وَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ)).

***

زِيَارَةُ الْأَضْرِحَةِ وَالطَّوَافُ بِالْمَقْصُورَةِ وَالتَّوَسُّلُ بِالْأَوْلِيَاءِ

فَتْوَى الشَّيْخِ: حَسَن مَأْمُون -شَيْخِ الْأَزْهَرِ-

 

سُئِلَ: مَا حُكْمُ الشَّرْعِ فِي زِيَارَةِ أَضْرِحَةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالطَّوَافِ بِالْمَقْصُورَةِ، وَتَقْبِيلِهَا، وَالتَّوَسُّلِ بِالْأَوْلِيَاءِ؟

الْجَوَابُ:

أَجَابَ فَضِيلَةُ الْإِمَامِ الْأَكْبَرِ: حَسَن مَأْمُون -شَيْخُ الْأَزْهَرِ، وَمُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ- بِمَا يَلِي:

أَوَدُّ أَنْ أَذْكُرَ أَوَّلًا أَنَّ أَصْلَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَقُومُ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْإِسْلَامُ يُحَارِبُ جَاهِدًا كُلَّ مَا يُقَرِّبُ الْإِنْسَانَ مِنْ مَزَالِقِ الشِّرْكِ بِاللهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالْأَضْرِحَةِ وَالْمَوْتَى أَحَدُ هَذِهِ الْمَزَالِقِ، وَهِيَ رَوَاسِبُ جَاهِلِيَّةٌ، فَلَوْ نَظَرْنَا إِلَى مَا قَالَهُ الْمُشْرِكُونَ عِنْدَمَا نَعَى عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ ﷺ عِبَادَتَهُمْ لِلْأَصْنَامِ؛ قَالُوا لَهُ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ} [الزمر: 3].

فَهِيَ نَفْسُ الْحُجَّةِ الَّتِي يَسُوقُهَا الْيَوْمَ الدَّاعُونَ لِلتَّوَسُّلِ بِالْأَوْلِيَاءِ [لِلشَّفَاعَةِ] عِنْدَ اللهِ، أَوِ التَّقَرُّبِ مِنْهُ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ هَذِهِ الزِّيَارَاتِ: أَفْعَالٌ تَتَنَافَى مَعَ عِبَادَاتٍ إِسْلَامِيَّةٍ ثَابِتَةٍ؛ فَالطَّوَافُ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُشْرَعْ إِلَّا حَوْلَ الْكَعْبَةِ الشَّرِيفَةِ، وَكُلُّ طَوَافٍ حَوْلَ أَيِّ مَكَانٍ آخَرَ حَرَامٌ شَرْعًا، وَالتَّقْبِيلُ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُسَنَّ إِلَّا لِلْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَحَتَّى الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ قَالَ فِيهِ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ يُقَبِّلُهُ:  «وَاللهِ! لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يُقَبِّلُكَ مَا فَعَلْتُ».

فَتَقْبِيلُ الْأَعْتَابِ، أَوْ نُحَاسِ الضَّرِيحِ، أَوْ أَيِّ مَكَانٍ بِهِ حَرَامٌ قَطْعًا.

وَتَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفَاعَةُ، وَهَذِهِ فِي الْآخِرَةِ غَيْرُهَا فِي الدُّنْيَا؛ فَالشَّفَاعَةُ ارْتَبَطَتْ فِي أَذْهَانِنَا بِمَا يَحْدُثُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ تَوَسُّطِ إِنْسَانٍ لِآخَرَ أَخْطَأَ عِنْدَ رَئِيسِهِ وَمَنْ بِيَدِهِ أَمْرُهُ، يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ هَذَا الْخَطَأَ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُخْطِئُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ؛ غَيْرَ أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ حَدَّدَ طَرِيقَ الشَّفَاعَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَنْ تَكُونَ إِلَّا لِمَنْ يَرْتَضِي اللهُ لَهُمْ أَنْ يَشْفَعُوا لِأَشْخَاصٍ مُسْلِمِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ، وَهَؤُلَاءِ -أَيْضًا- يُعَيِّنُهُمُ اللهُ.

إِذَنْ؛ فَكُلُّ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِإِذْنِ اللهِ وَحُكْمِهِ، فَإِذَا نَحْنُ سَبَقْنَا هَذَا الْحُكْمَ بِطَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ فَإِنَّ هَذَا عَبَثٌ؛ لِأَنَّنَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعْرِفَ مَنْ سَيَأْذَنُ اللهُ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ، وَمَنْ يَشْفَعُ فِيهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].

عَلَى ذَلِكَ يَتَّضِحُ أَنَّ كُلَّ زِيَارَةٍ لِلْأَضْرِحَةِ، وَالطَّوَافَ حَوْلَهَا، وَتَقْبِيلَ الْمَقْصُورَةِ وَالْأَعْتَابِ، وَالتَّوَسُّلَ بِالْأَوْلِيَاءِ، وَطَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ؛ كُلُّ هَذَا حَرَامٌ قَطْعًا، وَمُنَافٍ لِلشَّرِيعَةِ، وَفِيهِ إِشْرَاكٌ بِاللهِ.

وَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يُنَظِّمُوا حَمْلَةً جَادَّةً لِتِبْيَانِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ؛ فَإِنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْعَامَّةِ.. بَلْ وَمِنَ الْخَاصَّةِ مِمَّنْ لَمْ تُتَحْ لَهُمُ الْمَعْرِفَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الصَّحِيحَةُ يَقَعُونَ فَرِيسَةَ هَذِهِ الرَّوَاسِبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي تَتَنَافَى مَعَ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا أُخِذَ النَّاسُ بِالرِّفْقِ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلَا بُدَّ أَنَّهُمْ سَوْفَ يَسْتَجِيبُونَ لِلدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ حَرِيصُونَ -وَلَا شَكَّ- عَلَى حَقَائِقِ دِينِهِمْ.

***

((2)) فَتَاوَى الْمَوْلِدِ

1*حُكْمُ الْمَوْلِدِ لِلْمَوْتَى، وَحُكْمُ وَضْعِ الشَّمْعِ وَالْقَنَادِيلِ عَلَى مَقَامَاتِهِمْ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: مَحْمُود شَلْتُوت -شَيْخِ الْأَزْهَرِ-.

2*لَوْ كَانَ الْمَوْلِدُ حَقًّا لَسَبَقَنَا إِلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: عَبْدِ الْمَجِيد سَلِيم -شَيْخِ الْأَزْهَرِ، وَمُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ-.

3*الْمَوَالِدُ إِسَاءَةٌ لِلْإِسْلَامِ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: مُحَمَّد حُسَيْن الذَّهَبِيِّ -وَزِيرِ الْأَوْقَافِ الْمِصْرِيَّةِ-.

4*عَمَلُ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ فَاطِمِيَّةٌ.

لِلشَّيْخِ: عَلِي مَحْفُوظ -عُضْوُ هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، وَرَئِيسُ قِسْمِ الْوَعْظِ بِالْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ-.

5*بِدَعُ الصُّوفِيَّةِ فِي الْأَذْكَارِ وَالْمَوَالِدِ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: حَسَنِين مُحَمَّد مَخْلُوف -مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.-

حُكْمُ الْمَوْلِدِ لِلْمَوْتَى، وَحُكْمُ وَضْعِ الشَّمْعِ وَالْقَنَادِيلِ عَلَى مَقَامَاتِهِمْ.

فَتْوَى الْإِمَامِ: مَحْمُود شَلْتُوت -شَيْخِ الْأَزْهَرِ-.

وُجِّهَ إِلَى فَضِيلَةِ الْإِمَامِ الْأَكْبَرِ مَحْمُود شَلْتُوت:

مَا حُكْمُ الدِّينِ فِي إِقَامَةِ الْمَوَالِدِ لِلْمَشَايِخِ، وَوَضْعِ الشَّمْعِ وَالْقَنَادِيلِ عَلَى مَقَامَاتِهِمْ؟

الْجَوَابُ:

فَأَجَابَ قَائِلًا: وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَنَفْعِ النَّاسِ بِقَوْلِ الْحَقِّ، الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ رُسُلِهِ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ.

الْمَوَالِدُ: هِيَ هَذِهِ الْحَفْلَاتُ الصَّاخِبَةُ، أَوِ الْمُجْتَمَعَاتُ السُّوقِيَّةُ بِاسْمِ تَكْرِيمِ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ بِمَنْ يُدَّعَى أَنَّهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَإِعْلَاءِ قَدْرِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ عَنْ طَرِيقِ تَقْدِيمِ الْقَرَابِينِ، وَذَبْحِ النُّذُورِ، وَإِقَامَةِ حَلْقَاتِ الذِّكْرِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْخُطَبِ وَالْقِصَصِ وَالْمَنَاقِبِ وَالْأَنَاشِيدِ الَّتِي تُصَوِّرُ حَيَاةَ الْوَلِيِّ، وَتَصِفُ تَنَقُّلَهُ فِي مَعَارِجِ الْوَلَايَةِ، وَمَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ عَنْهُ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ مِنْ كَشْفٍ وَخَوَارِقَ وَكَرَامَاتٍ.

تُقَامُ تِلْكَ الْحَفْلَاتُ لِأَوْلِيَاءِ الْمُدُنِ، وَلِكَثِيرٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقُرَى، وَقَدْ تُقَامُ حَفْلَةُ الْمِيلَادِ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ لِلْوَلِيِّ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَلِهَذِهِ الْمَوَالِدِ عَلَى الْعُمُومِ عُشَّاقٌ يَضَعُونَهَا فِي مَصَافِّ الشُّؤُونِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللهِ عَنْ طَرِيقِ الْوَلِيِّ، فَيَحْفَظُونَ تَوَارِيخَهَا، وَيُهَيِّئُونَ طُوَالَ الْعَامِ لَهَا، حَتَّى إِذَا مَا حَلَّ وَقْتُهَا تَرَاهُمْ يَحْزِمُونَ أَمْتِعَتَهُمْ، وَيَرْتَحِلُونَ بِقَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ، بِرِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، بِشُيُوخِهِمْ وَشُبَّانِهِمْ، وَيُلْقُونَ بِأَحْمَالِهِمْ -كَمَا يَقُولُونَ- تَارِكِينَ بُيُوتَهُمْ وَمَصَالِحَهُمْ فِي قُرَاهُمْ وَمَزَارِعِهِمْ.

وَالْمَشَايِخُ الْأَوْلِيَاءُ مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ النَّاسِ بِهِمْ، وَالْعِنَايَةِ بِمَوَالِدِهِمْ عَلَى قِيَمٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَدَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْظُمُ عِنْدَ النَّاسِ جَاهُهُ، وَيَمْتَدُّ فِي نَظَرِهِمْ سُلْطَانُهُ، وَيَتَّسِعُ صَدْرُهُ لِكُلِّ لَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الْحَيَاةِ، وَلِكُلِّ رَغْبَةٍ مِنْ رَغَبَاتِ الطَّوَائِفِ؛ حَتَّى لَقَدْ تَرَى حَفْلَاتِ الْمُقَامِرِينَ وَالْمُقَامِرَاتِ بِجَانِبِ حَفْلَاتِ الْمُدْمِنِينَ وَالْمُدْمِنَاتِ، وَبِجَانِبِهَا حَفْلَاتُ الذَّاكِرينَ وَالذَّاكِرَاتِ، وَالْخَلِيعِينَ وَالْخَلِيعَاتِ، وَالرَّاقِصِينَ وَالرَّاقِصَاتِ، وَيَجُوسُ خِلَالَ الْجَمِيعِ الْمُتَسَوِّلُونَ وَالْمُتَسَوِّلَاتُ، وَالنَّشَّالُونَ وَالنَّشَّالَاتُ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ يُصْنَعُ فِي الْمَوَالِدِ، عَلَيْهَا تُقَامُ، وَإِلَيْهَا يُهْرَعُ النَّاسُ بِاسْمِ الْوَلَايَةِ وَتَكْرِيمِ الْمَشَايِخِ.

وَمَهْمَا قَالَ عُشَّاقُ الْمَوَالِدِ، وَالْمُتَكَسِّبُونَ بِهَا، وَمُرَوِّجُوهَا مِنْ أَنَّ فِيهَا ذِكْرَ اللهِ، وَالْمَوَاعِظَ، وَفِيهَا الصَّدَقَاتُ، وَإِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ مَا تَرَاهُ فِيهَا وَيَرَاهُ كُلُّ النَّاسِ مِنْ أَلْوَانِ الْفُسُوقِ وَأَنْوَاعِ الْمَخَازِي، وَصُوَرِ التَّهَتُّكِ، وَالْإِسْرَافِ فِي الْمَالِ مَا يُحَتِّمُ عَلَى رِجَالِ الشُّؤُونِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَقَادَةِ الْإِصْلَاحِ الْخُلُقِيِّ وَالدِّينِيِّ الْمُبَادَرَةُ بِالْعَمَلِ عَلَى إِبْطَالِهَا وَمَنْعِهَا، وَوَضْعِ حَدٍّ لِمَخَازِيهَا، وَتَطْهِيرِ الْبِلَادِ مِنْ وَصْمَتِهَا، وَلَقَدْ صَارَتْ بِحَقٍّ -لِسُكُوتِ الْعُلَمَاءِ عَنْهَا- مَبَاءَةً عَامَّةً تُنْتَهَكُ فِيهَا الْحُرُمَاتُ، وَتُمْسَخُ فِيهَا وُجُوهُ الْعِبَادَةِ، وَتُسْتَبَاحُ الْبِدَعُ وَالْمُنْكَرَاتُ.

وَمِنْ أَشَدِّ مَا يُؤْلِمُ الْمُؤْمِنَ أَنْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الدَّاعِرَةِ تُطَوِّقُ فِي الْمُدُنِ مَعَاهِدَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَمَسَاجِدَ الْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى عَلَى مَسْمَعٍ وَمَرْأًى مِنْ رِجَالِ الْحُكْمِ، وَرِجَالِ الدِّينِ أَرْبَابِ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ.

أَمَّا وَضْعُ الشَّمْعِ وَالْقَنَادِيلِ عَلَى مَقَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَكِسْوَتُهَا؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَوَّلًا أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا يُقَالُ لَهُ (مَقَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ)؛ سِوَى مَا أَوْحَى اللهُ بِهِ لِرَسُولِهِ مِمَّا لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ مِنْ دَرَجَاتٍ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُ كَمَا يَعْرِفُ النَّاسُ أَنَّ لَهُمْ قُبُورًا، وَأَنَّ قُبُورَهُمْ كَقُبُورِ سَائِرِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ؛ يَحْرُمُ تَشْيِيدُهَا وَزَخْرَفَتُهَا، وَإِقَامَةُ الْمَقَاصِيرِ عَلَيْهَا، وَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَإِلَيْهَا وَعِنْدَهَا، وَبِنَاءُ الْمَسَاجِدِ مِنْ أَجْلِهَا، وَالطَّوَافُ بِهَا، وَمُنَاجَاةُ مَنْ فِيهَا، وَالتَّمَسُّحُ بِجُدْرَانِهَا، وَتَقْبِيلُهَا، وَالتَّعَلُّقُ بِهَا.

وَيَحْرُمُ وَضْعُ أَسْتَارٍ وَعَمَائِمَ عَلَيْهَا، وَيَحْرُمُ إِيقَادُ شُمُوعٍ أَوْ ثُرَيَّاتٍ حَوْلَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَهَافَتُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَيَتَسَابَقُونَ فِي فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ للهِ، أَوْ تَكْرِيمٌ لِلْوَلِيِّ خُرُوجٌ عَنْ حُدُودِ الدِّينِ، وَرُجُوعٌ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وَارْتِكَابٌ لِمَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعَمَلِ، وَإِضَاعَةٌ لِلْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ؛ بَلْ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ، وَسَبِيلٌ لِلتَّغْرِيرِ بِأَرْبَابِ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، وَاحْتِيَالٌ عَلَى سَلْبِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا هُوَ حُكْمُ الدِّينِ فِي الْمَوَالِدِ، وَهَذَا هُوَ حُكْمُهُ فِيمَا يُصْنَعُ بِمَقَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ؛ فَمَتَى يَتَنَبَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيَعُودُونَ إِلَى الْهَدْيِ الْحَقِّ؟!! وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللهِ بِمَا يَرْضَاهُ اللهُ بِمَا شَرَعَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، وَتَقَرَّبَ بِهِ أَوْلِيَاؤُهُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63]؟!!

((وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا)).

***

لَوْ كَانَ الْمَوْلِدُ حَقًّا لَسَبَقَنَا السَّلَفُ الصَّالِحُ إِلَيْهِ

فَتْوَى الْعَلَّامَةِ الْمُجْتَهِدِ: عَبْدِ الْمَجِيدِ سَلِيم.

قَالَ فَضِيلَةُ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ: عَبْدُ الْمَجِيدِ سَلِيم -مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ-: ((عَمَلُ الْمَوَالِدِ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَعْمَلُهَا الْعَامَّةُ الْآنَ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرَبِ لَفَعَلُوهُ)).

***

الْمَوَالِدُ إِسَاءَةٌ لِلْإِسْلَامِ

فَتْوَى الْعَلَّامَةِ: مُحَمَّد حُسَيْن الذَّهَبِيِّ -وَزِيرِ الْأَوْقَافِ-.

أَجْرَتْ جَرِيدَةُ الْأَهْرَامِ لِقَاءً مَعَ فَضِيلَةِ الشَّيْخِ الْأُسْتَاذِ الدُّكْتُور: مُحَمَّد حُسَيْن الذَّهَبِيِّ -وَزِيرِ الْأَوْقَافِ الْمِصْرِيَّةِ-، وَفِيهِ:

الْأَهْرَامُ: فِي الْبِدَايَةِ نُرِيدُ أَنْ نَعْرِفَ رَأْيَكَ -وَأَنْتَ عَلَى قِمَّةِ الْمَسْؤُولِيَّةِ- فِي الْمَوَالِدِ الَّتِي تُشَارِكُ فِيهَا الْمَلَايِينُ؛ هَلْ هَذِهِ الصُّورَةُ يُقِرُّهَا الْإِسْلَامُ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: أَقُولُ لَكَ: الْحَقِيقَةُ أَنَّ الْمَوَالِدَ مَلِيئَةٌ بِأُمُورٍ لَا تَلِيقُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا الْكَثِيرُ مِمَّا لَا يُقِرُّهُ الْإِسْلَامُ؛ بِمِثْلِ صُوَرِ الذِّكْرِ بِالطُّبُولِ، وَالرَّقْصِ.

الْأَهْرَامُ: وَإِذَا كُنْتَ لَا تُوَافِقُ عَلَيْهَا؛ فَلِمَاذَا تُعْطِي الْوَزَارَةُ مُوَافَقَتَهَا؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: بِحُكْمِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مُنْذُ عَشَرَاتِ السِّنِينَ، وَمَا دُمْنَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُحَافِظَ فِيهَا عَلَى شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْحَقَّةِ؛ فَإِنَّنِي أَرَى إِلْغَاءَهَا؛ لِأَنَّهَا -بِصُورَتِهَا الرَّاهِنَةِ- تُسِيءُ إِلَى الْإِسْلَامِ.

الْأَهْرَامُ: إِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الرَّأْيُ؛ فَكَيْفَ تَشْهَدُ كَوَزِيرٍ لِلْأَوْقَافِ وَشُؤُونِ الْأَزْهَرِ هَذِهِ الْمَوَالِدَ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: لِأَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَإِلَى أَنْ نُحَقِّقَ فِكْرَ الْإِلْغَاءِ لَا بُدَّ أَنْ نَمْضِيَ فِي طَرِيقِنَا لِمُحَاوَلَةِ الْإِصْلَاحِ، وَوُجُودُ وَزِيرِ الْأَوْقَافِ وَعُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ الْهَدَفُ مِنْهُ -فِي الْحَقِيقَةِ-: تَوْجِيهُ هَذِهِ الْمَوَالِدِ وُجْهَةً سَلِيمَةً؛ لِأَنَّنَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتْرُكَ السَّاحَةَ لِلْمُنْحَرِفِينَ وَحْدَهُمْ لِيَنْفَرِدُوا بِهَذِهِ الْمَوَالِدِ، وَيَفْعَلُوا فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ بَعِيدًا عَنْ أَعْيُنِ رِجَالِ الدِّينِ.

الْأَهْرَامُ: وَمَتَى يَبْدَأُ الْإِلْغَاءُ مَا دَامَ الرَّأْيُ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَالِدَ لَا يُقِرُّهَا الْإِسْلَامُ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: يَحْتَاجُ الْأَمْرُ إِلَى جُرْأَةٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَقَدَّمُ لِإِلْغَاءِ هَذِهِ الْمَوَالِدِ سَوْفَ يُوَاجَهُ بِعَاصِفَةٍ قَوِيَّةٍ جِدًّا مِنَ الْمُعَارَضَةِ؛ مِنَ الْمُنْتَفِعِينَ بِهَذِهِ الْمَوَالِدِ، وَالْمُرَوِّجِينَ لِلْبِدَعِ، وَالْمُدَافِعِينَ عَنْهَا.

الْأَهْرَامُ: الْأَمْرُ -إِذَنْ- أَنَّ الْبِدْعَةَ تَنْتَصِرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: هُوَ كَذَلِكَ؛ فَالْعَادَاتُ إِذَا اسْتَحْكَمَتْ أَصْبَحَتْ جُزْءًا مِنْ عَقَائِدِ النَّاسِ، وَالْعَادَةُ يُمْكِنُ أَنْ تُصْبِحَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الْعِبَادَةِ، وَهُنَاكَ جَمَاهِيرُ وَاسِعَةٌ تَتَحَمَّسُ لِهَذِهِ الْمَوَالِدِ، وَمُوَاجَهَتُهَا لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الْهَيِّنِ، الْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى سِيَاسَةٍ حَكِيمَةٍ، وَهَذَا مَا نَرْجُو أَنْ نَصِلَ إِلَيْهِ، حَتَّى نَقْضِيَ عَلَى هَذِهِ الْمَظَاهِرِ الَّتِي تُشَوِّهُ وَجْهَ الْإِسْلَامِ.

الْأَهْرَامُ: يَتَرَدَّدُ أَنَّ الْمُنْتَفِعِينَ بِالْمَوَالِدِ يَكْسِبُونَ مِنْهَا كَثِيرًا؛ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ: كَمْ يَبْلُغُ إِيرَادُ صُنْدُوقِ النُّذُورِ فِي السَّيِّدِ الْبَدَوِيِّ -مَثَلًا-؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: فِي آخِرِ مَرَّةٍ فُتِحَ الصُّنْدُوقُ فِي الْمَوَالِدِ كَانَ فِيهِ (21) أَلْفُ جُنَيْهٍ.

الْأَهْرَامُ: إِذَا كَانَتِ الْخُرَافَةُ تَنْتَصِرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ فَكَيْفَ نَسْكُتُ وَنَرْضَى بِذَلِكَ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: أَقُولُ لَكَ قِصَّةً مِمَّا فِي كُتُبِ التُّرَاثِ الصَّحِيحِ، تَكْفِي لِتَفْهَمَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ: فَقَدْ سَافَرَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ -وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ- مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ، وَفِي طَرِيقِهِ دَخَلَ مَسْجِدًا، فَوَجَدَ رَجُلًا يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ مَجْمُوعَةً مِنَ الْخُرَافَاتِ؛ مِنْهَا -مَثَلًا-: أَنَّ للهِ صُورَيْنِ يَنْفُخُ فِيهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ...، وَبَعْدَ انْتِهَاءِ الدَّرْسِ قَالَ لَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: كَيْفَ تَقُولُ هَذَا وَللهِ صُورٌ وَاحِدٌ، وَفِي الْقُرْآنِ: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} [النبأ: 18]؟!

فَصَاحَ الرَّجُلُ فِيهِ أَمَامَ الْعَامَّةِ: يَا هَذَا! أَقُولُ: للهِ صُورَانِ، فَتَقُولُ: لَهُ صُورٌ وَاحِدٌ، أَسْتَكْثَرْتَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ؟!!

يَقُولُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: فَقَامَ النَّاسُ يَضْرِبُونَنِي، فَمَا أَنْجَانِي مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ قُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ للهِ سَبْعِينَ صُورًا.

هَكَذَا تَنْتَصِرُ الْخُرَافَةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيَنْتَصِرُ الضَّلَالُ عَلَى الْهُدَى، وَلَوْ قَامَتِ الْوَزَارَةُ بِمَنْعِ هَذِهِ الْمَوَالِدِ بِصُورَتِهَا الشَّائِعَةِ لَوَجَدْتَ مُقَاوَمَةً مِنَ الْعَامَّةِ.

وَلِهَذَا أَقُولُ: إِنَّنِي أَشْهَدُ هَذِهِ الْمَوَالِدَ، وَكَذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهَا رِجَالُ الدِّينِ لِيَقُولُوا كَلِمَةَ الْحَقِّ، وَيُقَاوِمُوا الِانْحِرَافَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.

الْأَهْرَامُ: الْمُشْكِلَةُ لَهَا جَانِبٌ آخَرُ، هُنَاكَ أَوْلِيَاءُ جُدُدٌ يَظْهَرُونَ، وَأَضْرِحَةٌ جَدِيدَةٌ تُقَامُ، وَبِالتَّالِي مَوَالِدُ جَدِيدَةٌ؛ أَلَا يُمْكِنُ حَتَّى وَقْفُ مَا يَسْتَجِدُّ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: إِقَامَةُ الْأَضْرِحَةِ الْجَدِيدَةِ مَمْنُوعٌ قَانُونًا، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَانُونُ دَفْنَ وَاحِدٍ -مَهْمَا يَكُنْ- فِي مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ.

الْأَهْرَامُ: يَهُمُّنَا أَنْ نَعْرِفَ رَأْيَكُمْ فِي إِقَامَةِ الْأَضْرِحَةِ فِي الْمَسَاجِدِ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا مَاتَ -أَيًّا كَانَ- فَيَجِبُ أَنْ يُدْفَنَ، وَيُسَوَّى قَبْرُهُ بِالْأَرْضِ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)).

الْأَهْرَامُ: وَالصَّلَاةُ فِي مَقْصُورَةِ الْحُسَيْنِ، وَالسَّيِّدَةِ زَيْنَبَ، وَالسَّيِّدِ الْبَدَوِيِّ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: اسْتِقْبَالُ الْقَبْرِ فِي الصَّلَاةِ -أَيًّا كَانَ صَاحِبُهُ- حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَجِبُ أَنْ يَتَّجِهَ إِلَى اللهِ، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَحْدَهَا، وَلَا يَسْتَقْبِلَ الضَّرِيحَ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ثَوَابَهُ يَكُونُ أَكْبَرَ لَوْ أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَقْصُورَةِ أَوِ اسْتَقْبَلَ الضَّرِيحَ فَهُوَ مُخْطِئٌ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَلَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ ﷺ عَنِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَلَعَنَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ مَنِ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.

الْأَهْرَامُ: مِنْ حَقِّنَا أَنْ نَسْأَلَ: مَاذَا فَعَلَتِ الْوَزَارَةُ لِتُحَارِبَ الْبِدَعَ فِي الدِّينِ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: الْوَزَارَةُ تَبْذُلُ جُهْدَهَا، وَلَيْسَ لَدَيْهَا سِلَاحٌ إلَّا الدَّعْوَةُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّ جُهُودَهَا قَدْ أَثْمَرَتْ إِلَى حَدٍّ مَا؛ فَإِنَّ الْبِدَعَ السَّائِدَةَ الْآنَ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ مِمَّا كَانَ سَائِدًا فِي الْمَاضِي، وَهَذَا نَتِيجَةٌ لِلتَّوْعِيَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْوُعَّاظُ وَالْأَئِمَّةُ؛ لَكِنِ الْأَمْرُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ تُسَاعِدَنَا وَسَائِلُ الْإِعْلَامِ.

الْأَهْرَامُ: وَهَلْ تَرَى أَنَّ وَسَائِلَ الْإِعْلَامِ لَا تُسَاعِدُ فِي ذَلِكَ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: أَبَدًا، مَا زَالَتْ وَسَائِلُ الْإِعْلَامِ مُبْعَدَةً، وَالْوَزَارَةُ تَعْمَلُ وَحْدَهَا.

الْأَهْرَامُ: وَالَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: الْوَلِيُّ الْحَقُّ لَا يُعْلِنُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُعْلِنُ عَنْ كَرَامَاتِهِ.

الْأَهْرَامُ: وَالِانْحِرَافَاتُ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: حَقِيقَةً لَقَدِ انْدَسَّ عَلَى التَّصَوُّفِ قَوْمٌ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَالتَّصَوُّفُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَهَؤُلَاءِ اسْتَطَاعُوا اسْتِهْوَاءَ الْعَامَّةِ وَخِدَاعَهُمْ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، وَفِي اعْتِقَادِي أَنَّ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ لَمَّا عَجَزُوا عَنْ إِطْفَاءِ نُورِهِ لَجَأُوا إِلَى وَسَائِلَ خَبِيثَةٍ لِيُشَوِّهُوا جَمَالَ الْإِسْلَامِ، وَوَصَلُوا إِلَى طَرِيقِهِمْ مِنْ طَرِيقِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:

1*ادِّعَاءُ التَّصَوُّفِ.

2*ادِّعَاءُ التَّشَيُّعِ.

3*تَشْوِيهُ الذِّكْرِ الشَّرْعِيِّ.

وَهَؤُلَاءِ قَالَ عَنْهُمُ الْإِمَامُ مُحَمَّد عَبْدُه: ((إِنَّهُمْ قَوْمٌ تَبَطَّنُوا الْكُفْرَ، وَالْتَحَفُوا بِالْإِسْلَامِ)).

الْأَهْرَامُ: هَكَذَا يَجُرُّنَا الْحَدِيثُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الطُّرُقِ  الصُّوفِيَّةِ وَمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ.

مَعَالِي الْوَزِيرِ: الصُّوفِيَّةُ عِنْدَنَا فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ لَا يَزَالُ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ عَلَى أَسَاسِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لَا يَشْغَلُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَّا بِالْقُرْآنِ وَحَدِيثِ الرَّسُولِ، وَفَرِيقٌ أَقْحَمَ نَفْسَهُ عَلَى مُرِيدِيهِ بِشَعْوَذَاتٍ يَحْسَبُهَا بُسَطَاءُ الْعُقُولِ كَرَامَاتٍ، وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ مُخَادِعُونَ، يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِاسْمِ الدِّينِ، وَيَرْجُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ.

الْأَهْرَامُ: إِذَنْ؛ مَا دَوْرُ الْوَزَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِهَؤُلَاءِ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: لَيْسَ لِلْوَزَارَةِ سُلْطَانٌ عَلَى الطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ، هُنَاكَ الْمَجْلِسُ الْأَعْلَى لِلطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ هُوَ الْمَسْؤُولُ، وَلَقَدْ نَبَّهْنَا إِلَى خُطُورَةِ الطَّرِيقَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ، وَأَصْدَرَتْ وَزَارَةُ الدَّاخِلِيَّةِ قَرَارًا يَحْظُرُ نَشَاطَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ مَا زَالَتْ مَوْجُودَةً، وَلَهَا مُرِيدُونَ بِالْآلَافِ، وَلَا بُدَّ أَنْ نُنْقِذَ هَؤُلَاءِ مِنْ ضَحَايَا التَّضْلِيلِ.

الْأَهْرَامُ: إِذَا كُنَّا بِالْقَانُونِ نَحْمِي كُلَّ سِلْعَةٍ مِنَ الْغِشِّ؛ فَكَيْفَ لَا نَحْمِي بِالْقَانُونِ عَقَائِدَ النَّاسِ وَأَفْكَارَهُمْ؟

مَعَالِي الْوَزِيرِ: الْحَقُّ مَعَكَ؛ وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا يَكْفِي فِيهَا الْقَانُونُ وَحْدَهُ، مَسَائِلُ الِاعْتِقَادِ تَحْتَاجُ إِلَى ثَوْرَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ لِحِمَايَةِ الْإِسْلَامِ وَأَفْكَارِهِ، وَمُوَاجَهَةِ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِصْلَاحَ، وَالْمُضَلِّلِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِرْشَادَ.

***

عَمَلُ الْمَوْلِدِ بِدْعَةٌ فَاطِمِيَّةٌ
فَتْوَى الْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ: عَلِي مَحْفُوظ

كَتَبَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ: عَلِي مَحْفُوظ -عُضْوُ هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِالْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ- فَصْلًا كَامِلًا عَنْ بِدَعِ الْمَوَالِدِ فِي كِتَابِهِ الْفَرِيدِ: ((الْإِبْدَاعُ فِي مَضَارِّ الِابْتِدَاعِ))، قَالَ فِيهِ: ((أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْمَوَالِدَ -أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهَا بِالْقَاهِرَةِ- الْخُلَفَاءُ الْفَاطِمِيُّونَ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ، فَابْتَدَعُوا سِتَّةَ مَوَالِدَ:

1*الْمَوْلِدُ النَّبَوِيُّ.

2*مَوْلِدُ الْإِمَامِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

3*مَوْلِدُ الْحَسَنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

4*مَوْلِدُ الْحُسَيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

5*مَوْلِدُ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

6*مَوْلِدُ الْخَلِيفَةِ الْحَاضِرِ.

وَبَقِيَتْ هَذِهِ الْمَوَالِدُ عَلَى رُسُومِهَا إِلَى أَنْ أَبْطَلَهَا الْأَفْضَلُ ابْنُ أَمِيرِ الْجُيُوشِ، ثُمَّ أُعِيدَتْ فِي خِلَافَةِ الْآمِرِ بِأَحْكَامِ اللهِ فِي سَنَةِ (524هـ) بَعْدَمَا كَادَ النَّاسُ يَنْسُونَهَا)).

ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَوَالِدُ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ قَائِلًا: ((وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوَالِدِ الْآنَ إِلَّا اتِّخَاذُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ عِيدًا لَكَفَى فِي الْمَنْعِ مِنْهَا؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ أَيْنَمَا كُنْتُمْ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)).

وَمَعْنَى اتِّخَاذِهِ عِيدًا: أَنْ يُقْصَدَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَيُظْهَرَ عِنْدَهُ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ، وَتَقَعَ عِنْدَهُ الْعِبَادَةُ، وَذَبْحُ الذَّبَائِحِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْأَوْثَانِ.

وَالنَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ الْبُيُوتِ قُبُورًا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِتَحَرِّي النَّافِلَةِ فِي الْبُيُوتِ؛ حَتَّى لَا تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْقُبُورِ، وَالنَّهْيُ عَنْ تَحَرِّي الْعِبَادَةِ عِنْدَ الْقُبُورِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: ((فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ)) إِلَى أَنَّ الْقُرْبَ مِنْ قَبْرِهِ وَالْبُعْدَ عَنْهُ سَوَاءٌ، فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى اتِّخَاذِهِ عِيدًا، كَمَا اتَّخَذَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ عِيدًا، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ أَعْيَادٌ زَمَانِيَّةٌ وَمَكَانِيَّةٌ أَبْطَلَهَا اللهُ -تَعَالَى- بِالْإِسْلَامِ، وَعَوَّضَ عَنْ أَعْيَادِهِمُ الزَّمَانِيَّةِ عِيدَ الْفِطْرَ، وَالنَّحْرَ، وَأَيَّامَ مِنًى، وَعَنِ الْمَكَانِيَّةِ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَعَرَفَاتٍ، وَمِنًى، وَمُزْدَلِفَةَ.

***

بَعْضُ بِدَعِ الصُّوفِيَّةِ فِي الْأَذْكَارِ وَالْمَوَالِدِ

فَتْوَى الْعَلَّامَةِ: حَسَنِين مَخْلُوف -مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ-.

سُئِلَ: يَقُومُ رِجَالٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ لِلصُّوفِيَّةِ بِمَرَاسِيمَ فِي الْمَوالِدِ الْكَبِيرَةِ حَوْلَ الصَّارِي، وَهِيَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، كُلُّ وَاحِدٍ قَبْلَ الْآخَرِ مُشِيرًا بِذِرَاعَيْهِ، قَابِضًا بَاسِطًا، مُحَرِّكًا جِسْمَهُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، قَائِلًا: (يَا اللهُ، يَا اللهُ) بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ، ثُمَّ يَدُورُ بَعْدَ ذَلِكَ طَابُورَانِ، يَتَقَدَّمُهُمُ الْمُنْشِدُ، يُصَافِحُ رِجَالُ كُلِّ طَابُورٍ جَمِيعَ مَنْ يَقِفُ فِي الْحَلْقَةِ، يَحْدُثُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ فَهَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ أَوْ فِي عَمَلِ السَّلَفِ؟

الْجَوَابُ:

فَأَجَابَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ حَسَنِين مُحَمَّد مَخْلُوف-مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ- قَائِلًا: ((نَحْمَدُ اللهَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا.

وَبَعْدُ:

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا أَصْلَ فِي الدِّينِ لِذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- بِهَذِهِ الْهَيْئَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِالسُّؤَالِ، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، بَلْ هُوَ مِنَ الْبِدَعِ السَّيِّئَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا بَعْضُ أَهْلِ الطُّرُقِ؛ جَهْلًا بِهَدْيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي ذِكْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ مِنَ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا؛ خُصُوصًا إِذَا أَدَّى الْتِزَامُ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ فِي الذِّكْرِ إِلَى اعْتِقَادِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَطَلَبِهَا وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ.

وَقَدِ اسْتَقَرَّ الْآنَ فِي عَقَائِدِ الْعَامَّةِ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَدَعْوَةِ جَهَلَةِ مَشَايِخِ الطُّرُقِ إِلَيْهَا، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهَا، وَاسْتِمْسَاكِهِمْ بِهَا أَنَّهَا مِنَ الدِّينِ؛ بَلْ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الذِّكْرِ، وَنَيْلِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، وَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، وَيُوقِعُ فِي الْإِثْمِ الْعَظِيمِ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالدُّعَاةِ إِلَى الْحَقِّ أَنْ يَنْهَى عَنْهَا، وَيَزْجُرَ مَنْ يَأْتِي بِهَا، وَيُرْشِدَهُ إِلَى خَطَرِهَا، وَإِلَى أَنَّ اقْتِرَانَ الْمَعْصِيَةِ بِالطَّاعَةِ مُؤَثِّمٌ، وَمُحْبِطٌ لِلثَّوَابِ.

أَمَّا الثَّوَابُ الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ الذَّاكِرِينَ؛ فَإِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ يَذْكُرُهُ -جَلَّ شَأْنُهُ- بِخُشُوعِ الْقَلْبِ، وَخُضُوعِ الْجَوَارِحِ، وَحُضُورِ الْفِكْرِ، لَا بِهَذِهِ الْهَيْئَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مُنْذُ ابْتُدِعَتْ هِيَ وَأَمْثَالُهَا كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِهِمْ.

وَإِنَّ مَقَامَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ الْمَقَامُ الْأَسْنَى الَّذِي وَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ عِبَادَهُ الْمُصْطَفَيْنِ الْأَخْيَارِ، خَاطَبَهُمْ بِهِ، وَشَرَّفَهُمْ بِنِسْبَتِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَوَصَفَ بِهِ عِبَادَهُ الطَّائِعِينَ، وَعِبَادَهُ الْمُخْبِتِينَ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَقُّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ إِلَّا إِذَا وَقَفَ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ يَذْكُرُهُ وَيُنَاجِيهِ، وَيَدْعُوهُ، وَيَبْتَهِلُ إِلَيْهِ بِمَا شَرَعَ -سُبْحَانَهُ- فِي عِبَادَتِهِ، وَأَرْشَدَ الدُّنْيَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الْقُدْوَةُ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَصُلَحَائِهَا، وَخُرُوجُ الْعَبْدِ عَنْ هَذَا الْمَنْهَجِ، وَالِابْتِدَاعُ فِيهِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الَّتِي يَبْغِي لَهُ بِهَا الْخِذْلَانَ، وَيُرْدِيهِ بِهَا فِي حَمْأَةِ الْعِصْيَانِ.

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ لِلْعِلْمِ عَنْ إِنْكَارِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَمَا إِلَيْهَا مِنَ الشَّعْوَذَةِ وَالتَّدْجِيلِ الَّتِي اعْتَادَهَا بَعْضُهُمْ، يَشْهَدُونَهَا وَيُقِرُّونَهُمْ عَلَيْهَا، وَيُجَارُونَهُمْ فِي فِعْلِهَا؛ بَلْ يُدَافِعُونَ الْمُنْكِرِينَ لَهَا، الذَّائِدِينَ عَنْ حِمَى الدِّينِ، وَالدَّاعِينَ إِلَى سَبِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَدْيِ إِمَامِ الْعَابِدِينَ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ سَوَاءَ السَّبِيلِ-.

***

 

 

 

 

 

 

 

((3)) فَتَاوَى النُّذُورِ.

1*النَّذْرُ لِلْأَوْلِيَاءِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: عَبْدِ الْمَجِيد سَلِيم -شَيْخِ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ، وَمُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ-.

2*النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: حَسَن مَأْمُون -شَيْخِ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ، وَمُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ-.

3*النُّذُورُ (عِجْلُ السَّيِّدِ) وَ(فُولُ السَّيِّدَةِ) حَرَامٌ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ: مَحْمُود شَلْتُوت -شَيْخِ الْأَزْهَرِ الشَّرِيفِ-.

4*النَّذْرُ لِصَاحِبِ الضَّرِيحِ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعٍ.

لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ الدُّكْتُور: نَصْر فَرِيد وَاصِل -مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ-.

5*النَّذْرُ لِأَصْحَابِ الْأَضْرِحَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ الصَّالِحِينَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.

لِفَضِيلَةِ الْأُسْتَاذِ الدُّكْتُور: مَحْمُود حَمْدِي زَقْزُوق -وَزِيرِ الْأَوْقَافِ-.

 

 

 

 

النَّذْرُ لِلْأَوْلِيَاءِ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.

فَتْوَى الشَّيْخِ: عَبْدِ الْمَجِيد سَلِيم -شَيْخِ الْأَزْهَرِ-.

سُئِلَ: سَيِّدَةٌ لَهَا حِصَّةٌ فِي صُنْدُوقِ النُّذُورِ وَالصَّدَقَاتِ بِضَرِيحِ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ، قَدْ تَنَازَلَتْ عَنْهَا لِأَوْلَادِ بِنْتِهَا؛ فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا التَّنَازُلُ شَرْعًا؟ وَهَلْ هَذِهِ النُّذُورُ تُوَرَّثُ؟

الْجَوَابُ:

أَجَابَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْمَجِيد سَلِيم -رَحِمَهُ اللهُ-:

اطَّلَعْنَا عَلَى هَذَا السُّؤَالِ، وَنُفِيدُ بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي ((الْبَحْرِ)) قُبَيْلَ بَابِ الِاعْتِكَافِ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ نَقْلًا عَنِ الشَّيْخِ قَاسِمٍ فِى ((شَرْحِ الدُّرَرِ)) مَا نَصُّهُ: ((وَأَمَّا النَّذْرُ الَّذِى يَنْذِرُهُ أَكْثَرُ الْعَوَامِّ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ؛ كَأَنْ يَكُونَ لِإِنْسَانٍ غَائِبٍ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ لَهُ حَاجَةٌ، فَيَأْتِي قَبْرَ بَعْضِ الصُّلَحَاءِ فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِى فُلَانُ! إِنْ عُوفِيَ مَرِيضِي أَوْ قُضِيَتْ حَاجَتِي فَلَكَ مِنَ النُّقُودِ كَذَا، أَوْ مِنَ الطَّعَامِ كَذَا؛ فَهَذَا النَّذْرُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُوهٍ:

مِنْهَا: أَنَّهُ نَذَرَ لِمَخْلُوقٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ لِلْمَخْلُوقِ، الْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْخَالِقِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَنْذُورَ لَهُ مَيِّتٌ، وَالْمَيِّتُ لَا يَمْلِكُ.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَصَرَّفُ فِي الْأُمُورِ دُونَ اللهِ -تَعَالَى-، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ كُفْرٌ.

 إِلَّا إِنْ قَالَ: يَا اللهُ! إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ إِنْ شَفَيْتَ مَرِيضِي، أَوْ رَدَدْتَ غَائِبِي أَنْ أُطْعِمَ الْفُقَرَاءَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ نَفْعٌ لِلْفُقَرَاءِ، وَالنَّذْرُ للهِ؛ فَيَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ إِذْ مَصْرِفُ النَّذْرِ الْفُقَرَاءُ، وَقَدْ وَجَدَ الْمَصْرِفَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ لِغَنِيٍّ غَيْرِ مُحْتَاجٍ، وَلَا لِشَرِيفٍ ذِي مَنْصِبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ مَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فَقِيرًا، وَلَا لِذِي النَّسَبِ لِأَجْلِ نَسَبِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا، وَلَا لِذِي عِلْمٍ لِأَجْلِ عِلْمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا.

وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الشَّرْعِ إِلَّا الْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَةِ النَّذْرِ لِلْمَخْلُوقِ، وَلَا يَنْعَقِدُ، وَلَا تُشْغَلُ الذِّمَّةُ بِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ؛ بَلْ سُحْتٌ، وَلَا يَجُوزُ لِخَادِمِ الْقَبْرِ أَخْذُهُ، وَلَا أَكْلُهُ، وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

فَإِذَا عُلِمَ هَذَا؛ فَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا، وَتُنْقَلُ إِلَى أَضْرِحَةِ الْأَوْلِيَاءِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يُقْصَدْ صَرْفُهُ لِلْفُقَرَاءِ الْأَحْيَاءِ، إِذَا كَانَ النَّذْرُ للهِ وَحْدَهُ نِيَّةً وَعَمَلًا قَوْلًا وَاحِدًا)).

 وَالظَّاهِرُ لَنَا أَنَّ النَّاذِرِينَ لِلْقَبْرِ وَإِنْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ: إِنِّي نَذَرْتُ للهِ، أَوْ تَصَدَّقْتُ للهِ؛ فَقَصْدُهُمْ فِي الْوَاقِعِ وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِنَّمَا هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَلَيْسَ مَقْصِدُهُمُ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَبْتَغُوا بِذَلِكَ وَجْهَهُ -سُبْحَانَهُ-.

وَلَقَدْ صَدَقَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قُرَّاعَة -رَحِمَهُ اللهُ-؛ إِذْ يَقُولُ فِي رِسَالَتِهِ الَّتِي أَلَّفَهَا فِي النُّذُورِ وَأَحْكَامِهَا: ((مَا أَشْبَهَ مَا يُقَدِّمُونَ مِنْ قُرْبَانٍ، وَمَا يَنْذِرُونَ مِنْ نُذُورٍ، وَمَا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَضْرِحَةِ وَسَاكِنِيهَا بِمَا كَانَ يَصْنَعُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا يُغْنِي عَنْهُمْ نَفْيُ الشِّرْكِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَفْعَالُهُمْ تُنْبِأُ عَمَّا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ لَهُمْ نَافِعُونَ، وَلِأَعْدَائِهِمْ ضَارُّونَ)).

  وَقَدْ جَاءَ فِي ((سُبُلِ السَّلَامِ)) مَا نَصُّهُ:  ((وَأَمَّا النُّذُورُ الْمَعْرُوفَةُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ وَالْأَمْوَاتِ فَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهَا؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ يَعْتَقِدُ فِي صَاحِبِ الْقَبْرِ أَنَّهُ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِى كَانَ يَفْعَلُهُ عُبَّادُ الْأَوْثَانِ بِعَيْنِهِ، فَيَحْرُمُ كَمَا يَحْرُمُ النَّذْرُ عَلَى الْوَثَنِ، وَيَحْرُمُ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الشِّرْكِ، وَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ، وَإِبَانَةُ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لَكِنْ طَالَ الْأَمْرُ حَتَّى صَارَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا)).

وَقَدْ أَطَالَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ الشَّوْكَانِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ ((شَرْحُ الصُّدُورِ فِي تَحْرِيمِ رَفْعِ الْقُبُورِ))، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْمَلَلِ لَذَكَرْنَاهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيهِ الْكِفَايَةُ.

مِمَّا ذُكِرَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ نَذْرَ الْعَوَامِّ لِأَرْبَابِ الْأَضْرِحَةِ، أَوِ التَّصَدُّقَ لَهُمْ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ وَبِهِمْ، وَهُوَ مَا يَقْصِدُهُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِمَّا يَنْذِرُونَهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَالُ الْمَنْذُورُ أَوِ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ يَجِبُ رَدُّهُ لِصَاحِبِهِ إِنْ عُلِمَ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَالِ الضَّائِعِ الَّذِى لَا يُعْلَمُ لَهُ مُسْتَحِقٌّ، فَيُصْرَفُ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ.

مِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُتَنَازِلَةِ الْمَذْكُورَةِ حَقٌّ فِيمَا يُوضَعُ فِي الصُّنْدُوقِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا تَنَازَلَتْ فَإِنَّمَا تَتَنَازَلُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا شَرْعًا، وَعَلَى فَرْضِ أَنَّ لَهَا حَقًّا فِيهِ فَلَيْسَ هَذَا الْحَقُّ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّنَازُلَ وَالتَّمْلِيكَ، أَوِ الَّتِي تُنْقَلُ بِالْإِرْثِ عَنْهَا لِوَرَثَتِهَا.

وَبِهَذَا عُلِمَ الْجَوَابُ عَلَى السُّؤَالِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

***

النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ

فَتْوَى الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ: حَسَن مَأْمُون

سُئِلَ: هَلْ يَجُوزُ النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ؛ مِثْلَ أَنْ يَنْذِرَ أَحَدُهُمْ نَتَاجَ مَاشِيَتِهِ، أَوْ رُبُعَ أَرْضِهِ، أَوْ مَبْلَغًا مِنَ الْمَالِ لِأَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ؟ وَهَلْ يُقِرُّ الْإِسْلَامُ هَذِهِ النُّذُورَ؟ 

الْجَوَابُ:

أَجَابَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ حَسَن مَأْمُون -مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ- قَائِلًا:

((وَرَدَتِ الْآيَاتُ صَرِيحَةً فِي أَنَّ النَّذْرَ لَا يَجُوزُ إِلَّا للهِ، وَالنَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ؛ فَالنَّذْرُ طَاعَةٌ، وَلَا طَاعَةَ لِغَيْرِ اللهِ)). 

***

عِجْلُ السَّيِّدِ وَفُولُ السَّيِّدَةِ

فَتْوَى الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ: مَحْمُود شَلْتُوت مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ

وَرَدَ سُؤَالٌ عَنِ النُّذُورِ لِلشَّيْخِ: مَحْمُود شَلْتُوت؛ هَذَا نَصُّهُ: ((صِنْفٌ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ اتَّجَهَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَاتَّخَذُوا مِنْهُ -بِزَعْمِهِمْ- سَبِيلًا لِصَرْفِ الْمَقَادِيرِ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا يَخْشَوْنَ أَنْ تَكُونَ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ يَنْزِلُ بِالنَّفْسِ أَوِ الْمَالِ أَوِ الْوَلَدِ، إِلَى مَا يَرْجُونَهُ مِنْ مَحْبُوبٍ فِيهَا أَوْ مَرْغُوبٍ، ثُمَّ اشْتَطُّوا فِيهِ وَأَسْرَفُوا، فَأَضَافُوهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ إِلَى غَيْرِ اللهِ الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ كُلِّ شَيْءٍ، وَالَّذِي شَرَعَهُ حِينَ شَرَعَهُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ وَحْدَهُ، يَلْتَزِمُ بِاسْمِهِ، وَيُعْمَلُ بِاسْمِهِ، وَيُقْصَدُ بِهِ وَجْهُهُ الْكَرِيمُ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَبِيهٌ فِيهِ مِنِ اسْمٍ أَوْ رَسْمٍ.

وَذَلِكُمُ الصِّنْفُ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْإِسْلَامِ بِاسْمِ (النَّذْرِ)، شَرَعَهُ اللهُ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ؛ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، يَلْتَزِمُهُ النَّاسُ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَحْضِ إِرَادَتِهِمْ، وَخَالِصِ نِيَّتِهِمْ فِي زِيَادَةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-.

وَلَكِنَّهُمْ قَدْ تَوَسَّعُوا فِيهِ بِالشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ، وَالْفَتَاوَى الشَّخْصِيَّةِ، وَنَذَرُوا إِنْ نَجَحَ وَلَدُهُمْ فِي الِامْتِحَانِ، أَوْ نَجَحُوا فِي الِانْتِخَابِ، أَوْ شُفِيَ مَرِيضُهُمْ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْبَقَرَةِ لِلسَّيِّدِ الْبَدَوِيِّ، أَوْ يَصْنَعُوا لِلسَّيِّدَةِ فُولَهَا السَّنَوِيَّ، يُقِيمُونَ بِالْعِجْلِ أَوِ الْفُولِ لَيْلَةً صَاخِبَةً، يُدْعَى لَهَا الدَّرَاوِيشُ وَأَرْبَابُ الطُّرُقِ، وَيَهْتِفُونَ فِيهَا بِاسْمِ السَّيِّدِ أَوِ السَّيِّدَةِ.

وَفِي هَذَا الصَّنِيعِ يَتَسَرَّبُ الشَّكُّ إِلَى بَعْضِ الْعُقَلَاءِ، وَلَا يَتَقَبَّلُونَهُ بِاطْمِئْنَانٍ، يَشُكُّونَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَيَشُكُّونَ فِي أَنَّهُ النَّذْرُ الَّذِي طَلَبَ اللهُ الْوَفَاءَ بِهِ، وَمَنَحَ الْمُوفِينَ بِهِ دَرَجَةَ الْأَطْهَارِ الْأَبْرَارِ، يَتَسَرَّبُ الشَّكُّ إِلَيْهِمُ فَيَسْأَلُونَ:

هَلْ هَذَا نَذْرٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؟!

وَهَلْ يَتَعَيَّنُ فِيهِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاذِرُ بِمَا نَذَرَ مِنْ عِجْلٍ أَوْ فُولٍ إِلَى مَكَانِ الْوَلِيِّ الَّذِي نَذَرَ بِاسْمِهِ، وَيُوَزِّعَهُ عَلَى أَحْلَاسِ الضَّرِيحِ الْعَاكِفِينَ حَوْلَهُ؟!

وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَصْرِفَ ثَمَنَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ بَدَلَ الْتِزَامِ عَيْنِهِ؟!

وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ ثَمَنَهُ فِي مَهَامٍّ يَحْتَاجُهَا لِنَفْسِهِ وَلِأَوْلَادِهِ؛ مِنْ كِسْوَةٍ، أَوْ نَفَقَةٍ، أَوْ آلَةِ زِرَاعَتِهِ، أَوْ بَذْرِ أَرْضِهِ، ثُمَّ يَكُونَ دَيْنًا للهِ فِي ذِمَّتِهِ يَقْضِيهِ إِذَا أَيْسَرَ؟!

وَأَخِيرًا يَسْأَلُونَ عَنِ الْمَصْرِفِ الشَّرْعِيِّ لِلنُّقُودِ الَّتِي تُوضَعُ فِي صَنَادِيقِ الْأَضْرِحَةِ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ عَنْ طَرِيقِ صَاحِبِ الضَّرِيحِ: أَتُصْرَفُ عَلَى تَرْمِيمِ الْأَضْرِحَةِ، وَإِضَاءَتِهَا، وَفَرْشِهَا، وَتَزْيِينِهَا، أَمْ تُصْرَفُ عَلَى خِدْمَتِهَا وَمُوَظَّفِي مَسَاجِدِهَا، أَمْ أَنَّ هُنَاكَ جِهَةً أُخْرَى هِيَ أَحَقُّ بِالصَّرْفِ فِيهَا مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ؟!)).

الْجَوَابُ:

فَأَجَابَ قَائِلًا: ((لَا بُدَّ مِنْ تَمْحِيصِ الْمَشْرُوعِ: هَذِهِ أَسْئِلَةٌ يَتَّجِهُ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ اللهِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّذُورِ الشَّائِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحُقَّ لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا ثَبَتَ لَهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ شَرَعَهُ، وَكَثِيرًا مَا يَجْرِي النَّاسُ عَلَى عَادَاتٍ مَوْرُوثَةٍ تَأْخُذُ صِفَةَ الذُّيُوعِ وَالِاشْتِهَارِ، وَيَفْعَلُونَهَا عَلَى أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ، وَلَا لَهَا فِي التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ حِسَابٌ.

وَإِذَنْ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّمْحِيصِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إِرْشَادِ النَّاسِ، وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْمَشْرُوعِ، وَتَخْلِيصِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ.

وَعَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ اللهِ بِمُقْتَضَى وَضْعِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ، وَبِمُقْتَضَى الْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَيِّنُوا أَحْكَامَ اللهِ عَلَى وَجْهِهَا دُونَ تَأَثُّرٍ بِمَوْرُوثٍ فَاسِدٍ وَإِنْ طَالَ أَمَدُهُ، وَدُونَ مُحَاوَلَةٍ لِتَصْحِيحِهِ، وَإِلْبَاسِهِ ثَوْبَ الْمَشْرُوعِ؛ مُجَامَلَةً لِلنَّاسِ، وَمُجَارَاةً لِلْأَهْوَاءِ.

وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ أُبَيِّنُ بِهَا مَا أَعْتَقِدُهُ مَشْرُوعًا فِي النَّذْرِ، وَأَرْجُو أَلَّا تَأْخُذَ بَعْضَ النَّاسِ فِيهَا الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ؛ فَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.

النَّذْرُ شِرْعَةٌ قَدِيمَةٌ:

وَالنَّذْرُ أُسْلُوبٌ قَدِيمٌ مِنْ أَسَالِيبِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ، حَكَاهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- عَنِ امْرَأَةِ عِمْرَانَ أُمِّ مَرْيَمَ: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35].

وحَكَاهُ عَنْ مَرْيَمَ نَفْسِهَا حِينَمَا اقْتَرَبَ مِنْهَا الْوَضْعُ، وَأَمَرَهَا بِهِ: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم: 26].

النَّذْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ:     

وَقَدْ تَصَرَّفَ فِيهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِالشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي شَذُّوا بِهَا عَنِ الْفِطْرَةِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بِغَيْرِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، تَصَرَّفُوا فِيهِ فَجَعَلُوهُ لِآلِهَتِهِمْ؛ الْتِمَاسًا لِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ، وَلِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].

النَّذْرُ فِي الْإِسْلَامِ:

وَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَقَرَّ النَّذْرَ عَلَى وَضْعِهِ الْأَوَّلِ؛ طَاعَةً للهِ، فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ بِمَعْصِيَتِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ النَّذْرُ فِي الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ اللهِ بَاطِلًا وَحَرَامًا، لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يُثَابُ النَّاذِرُ عَلَيْهِ؛ بَلْ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَا يَشْفَعُ فِي صِحَّتِهِ وَحِلِّهِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُفْتِينَ: إِنَّهُ للهِ فِي النِّيَّةِ وَالْقَلْبِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ؛ لِأَنَّ صِيغَتَهُ وَظُرُوفَ فِعْلِهِ، وَشَوَاهِدَ حَالِ النَّاذِرِينَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ لِغَيْرِ اللهِ فِيهِ نَصِيبًا، أَقَلُّهُ أَنْ يَقُومَ الْوَلِيُّ بِدَوْرِ الْوَسَاطَةِ فِي الْمَحْبُوبِ وَالْمَرْغُوبِ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاذِرِ.

وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ شِرْكًا بِالنِّيَّةِ وَالْقَلْبِ فَهُوَ شِرْكٌ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَمِنْ شَأْنِ الْعِبَادَةِ الْمَقْبُولَةِ أَنْ تَكُونَ للهِ فِي النِّيَّةِ وَالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

أَجْوِبَةُ السَّائِلِينَ: 

وَإِذَنْ؛ فَالنَّذْرُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ هُوَ مَا كَانَ بِاسْمِ اللهِ وَحْدَهُ، وَمُتَّجِهًا بِهِ للهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا هُوَ جَوَابُ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ.

وَإِذَا كَانَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ آخَرَ، وَكَانَ تَخْصِيصُ الْعِبَادَةِ بِالْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ كَانَ لِلنَّاذِرِ -بَعْدَ أَنْ يَكُونَ النَّذْرُ للهِ- أَنْ يَصْرِفَ نَذْرَهُ فِي قَرْيَتِهِ، أَوْ فِي حَيِّهِ، وَأَنْ يُطْعِمَهُ فُقَرَاءَهَا؛ بَلْ هُمْ بِهِ أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا هُوَ جَوَابُ السُّؤَالِ الثَّانِي.

وَكَذَلِكَ إِذَا رَأَى النَّاذِرُ أَنَّ صَرْفَ ثَمَنِ النَّذْرِ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ احْتَاجَ فِي دَفْعِهَا إِلَى ثَمَنِهِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَأَنْ يَصْرِفَ ثَمَنَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ فِي حَاجَتِهِ، وَيَكُونُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ يَقْضِيهِ إِذَا أَيْسَرَ، وَهَذَانِ هُمَا جَوَابُ السُّؤَالَيْنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ.

صَنَادِيقُ النُّذُورِ:

أَمَّا النُّقُودُ الَّتِي تُوضَعُ فِي صَنَادِيقِ الْأَضْرِحَةِ فَمَصْرِفُهَا أَوَّلًا: الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، ثُمَّ جِهَاتُ الْبِرِّ، وَالْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ، وَلَيْسَ تَرْمِيمُ الْأَضْرِحَةِ وَإِضَاءَتُهَا وَفَرْشُهَا وَتَزْيِينُهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ.

نَعَمْ، يَصِحُّ الصَّرْفُ مِنْهَا عَلَى تَرْمِيمِ الْمَسَاجِدِ، وَعَلَى خَدَمِهَا الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا تَفِي رَوَاتِبُهُمْ بِمَعِيشَتِهِمْ.

وَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى هَذِهِ الصَّنَادِيقِ كَخَزَائِنَ عَامَّةٍ وُضِعَتْ فِي أَمَاكِنَ عَامَّةٍ، وَهِيَ الْمَسَاجِدُ لَا الْأَضْرِحَةُ؛ لِيَضَعَ فِيهَا أَرْبَابُ الْخَيْرِ مَا تَجُودُ بِهِ نُفُوسُهُمْ للهِ وَفِي سَبِيلِ اللهِ، لَا لِلْأَضْرِحَةِ وَلَا لِأَصْحَابِهَا.

وَيَجِبُ مَعَ هَذَا أَنْ يَتَوَلَّى حِفْظَهَا، وَصَرْفَ مَا فِيهَا وَتَعْيِينَ جِهَاتِهِ أُنَاسٌ مَعْرُوفُونَ بِتَقْوَى اللهِ فِي مَالِ اللهِ، وَلَا تَحْكُمُ الصِّلَاتُ الشَّخْصِيَّةُ أَوْ الِاعْتِبَارَاتُ الْفَاسِدَةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ.

كَلِمَتَانِ:         

هَذِهِ هِيَ أَجْوِبَةُ السَّائِلِينَ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنَّذْرِ، وَأُحِبُّ أَنْ أَخْتِمَ هَذَا الْحَدِيثَ بِكَلِمَتَيْنِ يَجْدُرُ بِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُمَا، وَأَنْ يَكُونُوا عَلَى ذُكْرٍ مِنْهُمَا، وَإِيمَانٍ بِهِمَا؛ لِتَكُونَ صِلَتُهُمْ بِاللهِ فِي شَرْعِهِ وَعِبَادَتِهِ عَلَى مَا رَسَمَ، وَعَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى.

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ اللهُ، وَيَعْرِفُونَ اللهَ، يُرْضِيهِمْ مَا يُرْضِي اللهَ، وَيُغْضِبُهُمْ مَا يُغْضِبُهُ، وَأَنَّهُمْ قَدْ تَقَرَّبُوا إِلَيْهِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ دَرَجَاتٍ عِنْدَهُ بِفِعْلِ مَا شَرَعَ، وَأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ بِمَا تَقَرَّبُوا هُمْ بِهِ إِلَيْهِ، وَيُغْضِبُهُمْ وَيُضَاعِفُ غَضَبَهُمْ أَنْ يَرْفَعَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ أَكُفَّ الضَّرَاعَةِ، أَوْ يَلْتَزِمُوا بِاسْمِهِمْ نَذْرًا أَوْ طَاعَةً.

أَمَّا الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ أَنَّ النَّذْرَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ، وَيُؤَكِّدُ بِهِ مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ الْخَالِصَةِ للهِ وَحْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا بِاسْمِ غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مَشْرُوطًا عَلَى اللهِ الْمَعْبُودِ، فَيَكُونُ مُقَابَلَةً وَمُبَادَلَةً يَنْزِلُ كَثِيرًا عَنْ دَرَجَةِ الْعِبَادَةِ، وَلَا يُصَاحِبُهُ إِلَى دَرَجَةِ الْعَابِدِينَ الْأَبْرَارِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّمَا النَّذْرُ مَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))، وَإِنَّهُ ((لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ)).     

فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ النَّذْرِ أُقَدِّمُهَا لِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ؛ قِيَامًا بِوَاجِبِ الْبَيَانِ، وَخَيْرٌ لَنَا وَلَهُمْ أَنْ يَتَحَرُّوا فِي نُذُورِهِمْ إِذَا أَرَادُوا مَا شَرَعَ اللهُ، وَأَنْ يُوفُوا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا الْمَشْرُوعِ، فَيَكُونَ لَهُمْ ثَوَابُ الْمُخْلِصِينَ، وَمَنْزِلَةُ الْعَابِدِينَ الْمُقَرَّبِينَ.

وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.

***

النَّذْرُ لِصَاحِبِ الضَّرِيحِ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ

فَتْوَى الشَّيْخِ د. نَصْر فَرِيد وَاصِل

سُئِلَ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ الدُّكْتُور: نَصْر فَرِيد وَاصِل -مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ سَابِقًا- عَنْ حُكْمِ صَنَادِيقِ النُّذُورِ الْمَوْجُودَةِ بِالْمَسَاجِدِ الْكُبْرَى بِالْقَاهِرَةِ، وَخَاصَّةً الَّتِي بِهَا أَضْرِحَةٌ؟

الْجَوَابُ:

فَأَجَابَ فَضِيلَتُهُ قَائِلًا: ((إِذَا كَانَ نَذْرُ النَّاذِرِ مَالًا يَضَعُهُ فِي هَذِهِ الصَّنَادِيقِ، يَقْصِدُ نَاذِرُهُ قُرْبَةَ صَاحِبِ الضَّرِيحِ بِطَلَبِ خَيْرٍ مِنْهُ، أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهُ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ؛ فَيَكُونُ نَذْرًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَيَكُونُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ مَعْصِيَةً تُقَرِّبُ صَاحِبَهَا مِنْ دَرَجَةِ الشِّرْكِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، وَيَكُونُ نَذْرُهُ هَذَا بَاطِلًا، وَمَالُهُ وِزْرًا عَلَيْهِ، وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ النَّذْرَ يَكُونُ وَسِيلَةً لِلْحَرَامِ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى الْحَرَامِ يَكُونُ حَرَامًا، وَلِأَنَّ نَذْرَ الْحَرَامِ مَعْصِيَةٌ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَالْبَاطِلُ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ.

وَصَنَادِيقُ النُّذُورِ الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَمْوَالُ الْحَرَامُ تَكُونُ حَرَامًا، وَيَجِبُ التَّنزُّهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهَا، وَتُوضَعُ فِي الْمَصَارِفِ الْعَامَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَتُرْفَعُ الصَّنَادِيقُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ سَدًّا لِلذَّرَائِعِ، وَمَنْعًا لِلْمَفَاسِدِ، وَمَنْعًا لِلشُّبُهَاتِ، ((وَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ)).

وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَاللهُ أَعْلَمُ)).

***

النَّذْرُ لِأَصْحَابِ الْأَضْرِحَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ

فَتْوَى الشَّيْخ/ د. مَحْمُود حَمْدِي زَقْزُوق

جَاءَ فِي الْخِطَابِ الْمُوَجَّهِ مِنْ مَعَالِي وَزِيرِ الْأَوْقَافِ الدُّكْتُور: مَحْمُود حَمْدِي زَقْزُوق إِلَى الصَّحَفِيِّ أَحْمَد رَجَب، فَتْوَى عَنِ النَّذْرِ لِغَيْرِ اللهِ، وَفِيهَا:

نَصُّ الْفَتْوَى:

((النَّذْرُ لِأَصْحَابِ الْأَضْرِحَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ لِمَخْلُوقٍ، وَالنَّذْرُ عِبَادَةٌ، وَهِيَ لَا تَكُونُ لِمَخْلُوقٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِلْخَالِقِ.

وَالنَّذْرُ للهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَدِيمَةِ، وَيُعَدُّ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ، وَقَدْ أَقَرَّ الْإِسْلَامُ النَّذْرَ للهِ، وَجَعَلَ الْوَفَاءَ بِهِ مُلْزِمًا، أَمَّا النَّذْرُ لِغَيْرِ اللهِ فَإِنَّهُ فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمِنْ جَانِبِنَا نَقُومُ بِتَوجِيهِ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ إِلَى تَوْضِيحِ ذَلِكَ لِجَمَاهِيرِ النَّاسِ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك