سَفِينَةُ الْأُسْرَةِ

((سَفِينَةُ الْأُسْرَةِ))

تَأْلِيفُ

الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ: صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ اللِّحِيدَان -رَحِمَهُ اللهُ-.

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَخَلِيلُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَنَصَحَ لِلْأُمَّةِ، وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، عَلَّمَ أُمَّتَهُ كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ حَيَاتِهَا مِمَّا يُوَصِّلُهَا إِلَى رِضْوَانِ رَبِّهَا، وَيُبْعِدُهَا مِنْ سَخَطِهِ، فَمَا تَرَكَ أَمْرًا يُقَرِّبُنَا مِنْ رَحْمَةِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- إِلَّا وَبَيَّنَهُ، تَرَكَنَا ﷺ عَلَى مَحَجَّةٍ بَيْضَاءَ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.

وَيَسَّرَ اللهُ لَهُ صَحَابَةً كِرَامًا نَصَرُوهُ ﷺ، وَجَاهَدُوا مَعَهُ، وَحَمَلُوا بَعْدَهُ دَعْوَتَهُ، وَنَشَرُوا شَرِيعَتَهُ، وَفَتَحَ اللهُ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْقُلُوبَ، كَانُوا صَحَابَةً أَزْكِيَاءَ كِرَامًا بَرَرَةً، أَهْلَ صِدْقٍ وَوَفَاءٍ، حُبُّهُمْ إِيمَانٌ، وَبُغْضُهُمْ نِفَاقٌ وَشَرٌّ وَبَلَاءٌ، أَثْنَى عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ ﷺ وَقَالَ: ((لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ))^([1]).

فَخَلَّفُوا بَعْدَهُمْ مَا وَرِثُوهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ ﷺ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَا يُوَرِّثُونَ مَالًا، وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ، مَنْ تَلَقَّاهُ وَحَمَلَهُ، وَأَخَذَ مِنْهُ بِحَظٍّ وَافِرٍ؛ أَخَذَ مِيرَاثًا عَظِيمًا جَلِيلًا؛ فَمِنْ حَقِّهِمْ عَلَيْنَا أَنْ نَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ وَنَتَرَضَّى، أَنْ نُحِبَّهُمْ، وَنَتَلَذَّذَ بِقِرَاءَةِ سِيرَتِهِمْ وَسَمَاعِهَا؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إِنْعَاشِ الْقُلُوبِ، وَتَنْمِيَةِ شَجَرَةِ الْإِيمَانِ.

كَانُوا أَهْلَ إِيثَارٍ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

كَانُوا أَهْلَ صَبْرٍ وَثَبَاتٍ، أَهْلَ غَيْرَةٍ عَلَى الدِّينِ، يُحَامُونَ عَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَيَجِدُّونَ فِي نَشْرِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-، وَوَفَّقَنَا جَمِيعًا لِحُسْنِ مُتَابَعَتِهِمْ، وَصَادِقِ مَحَبَّتِهِمْ.

 ((أَوَّلُ أُسْرَةٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ أَبُو الْبَشَرِ))

ثُمَّ الْحَدِيثُ عَنِ الْأُسْرَةِ.

أَوَّلُ أُسْرَةٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ أَبُو الْبَشَرِ، وَهُوَ مَثَلٌ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ أُسْرَةٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- ذَكَرَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ ابْتِدَاءَ خَلْقِ الْبَشَرِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].

وَتَتَكَرَّرُ هَذِهِ الْعَمَلِيَّةُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فِي إِنْشَاءِ الْأُسَرِ؛ فَإِنَّ الْأُسَرَ تَبْدَأُ بِالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي ذَلِكَ آيَةً لِلْبَشَرِ، مِنْ آيَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: أَنَّهُ خَلَقَ لِلنَّاسِ أَزْوَاجًا، وَجَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ تُبْنَى الْأُسْرَةُ، مُجَرَّدُ الْمَوَدَّةِ غَيْرُ كَافٍ، وَمُجَرَّدُ الرَّحْمَةِ غَيْرُ كَافٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الرَّحْمَةُ وَالْمَوَدَّةُ نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ تَعَاوُنٌ عَلَى حِمَايَةِ الْأُسْرَةِ، وَحُسْنِ رِعَايَتِهَا وَصِيَانَتِهَا فِي مَسَارِهَا عَنْ أَنْ تَزِلَّ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً؛ لِأَنَّ مَنْ زَلَّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ضَلَّ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

((الزَّوَاجُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ))

الزَّوَاجُ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي قِصَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنْ عَمَلِهِ ﷺ، فَلَمَّا أَخْبَرَتْهُمْ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ تَقَالُّوا الْعَمَلَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ، فَبَعْضُهُمْ قَالَ: ((لَأَصُومَنَّ فَلَا أُفْطِرُ، وَالْآخَرُ قَالَ: لَأُصَلِّيَنَّ فَلَا أَفْتُرُ، وَالْآخَرُ قَالَ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ)).

فَاسْتَدْعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: ((لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))^([2]).

((طَاعَةُ اللهِ وَتَقْوَاهُ أَسَاسُ تَكْوِينِ الْأُسْرَةِ))

لَكِنْ عِنْدَ تَأْسِيسِ الْأُسْرَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُؤَسَّسَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَتَقْوَاهُ، أَنْ يُوَطِّنَ طَرَفَا هَذِهِ الْأُسْرَةِ الَّتِي تَكُونُ جَدِيدَةً فِي الْمَنْشَأِ فِي الْمَبْدَأِ.. أَنْ يُرَاقِبُوا اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي سِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ، أَنْ يَهْتَمُّوا بِالتَّعَاوُنِ عَلَى حِرَاسَةِ الْأُسْرَةِ وَالنَّاشِئَةِ، أَنْ يَقُومُوا بِحَقِّ الرِّعَايَةِ وَحِفْظِ الرَّعِيَّةِ؛ فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ صَاحِبَيِ الْأُسْرَةِ رُعَاةً لِلْأُسْرَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُخَرَّجِ فِي ((الصَّحِيحِ)) الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ -أَحَدُ قُطْبَيِ الْأُسْرَةِ- وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)).

يَتَعَاوَنُ رَبَّا الْأُسْرَةِ لِصِيَانَةِ الرَّعِيَّةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَحِرَاسَتِهَا فِي عَقِيدَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا وَسَائِرِ أُمُورِهَا بِلُطْفٍ وَحُسْنِ الرِّعَايَةِ، وَتَوْجِيهٍ وَإِرْشَادٍ، وَحَزْمٍ فِي الْعِلَاجِ إِذَا احْتَاجَ الْأَمْرُ إِلَى حَزْمٍ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ.

وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: أَنَّهُ رَكَّزَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَمَشَاعِرِهِمْ حُبَّ الْعِنَايَةِ بِالْأُسْرَةِ، وَرِعَايَةِ نَاشِئَتِهَا؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْحَبَ ذَلِكَ مُرَاقَبَةُ مَخَافَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَإِنَّ الرِّعَايَةَ الْحَقَّةَ وَتَكْوِينَ الْأُسْرَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى أَسَاسِ مَخَافَةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} [النازعات: 40-41].

لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُحِبُّ أَنْ يُنَعِّمَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا مَجَالَ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ إِلَّا بِطَاعَةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

((أُسُسٌ جَامِعَةٌ فِي تَرْبِيَةِ النَّاشِئَةِ))

الْأُسَرُ فِي السَّابِقِ كَانَ هَمُّ الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا تَوْفِيرَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالسَّكَنِ، وَلَا يَخْشَوْنَ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي النَّادِرِ، وَفِي هَذَا الزَّمَنِ الْمُتَغَيِّرِ الْمُتَلَوِّنِ صَارَتِ الْمَخَاوِفُ فِيهِ مُتَعَدِّدَةً وَكَثِيرَةً، فَتَحْتَاجُ الْأُسْرَةُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَنْ تَصْطَحِبَ الْيَقَظَةَ وَحُسْنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَصَادِقَ التَّفَقُّدِ، تَكُونُ تَرْبِيَةً عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ، وَصِدْقِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

وَحُسْنُ التَّوْجِيهِ لِلْأُسْرَةِ وَجَمِيلُ التَّرْبِيَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى رَبْطِ قُلُوبِ النَّاشِئَةِ بِخَالِقِهِمْ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَإِشْعَارِهِمْ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ فَمِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يُدْفَعُ شَرٌّ وَلَا بَلَاءٌ وَلَا فِتْنَةٌ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ.

أَنْ يَتَعَوَّدَ النَّاشِئَةُ عَلَى صِدْقِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَحْصُلَ التَّعَاوُنُ بَيْنَ رَبَّيِ الْأُسْرَةِ عَلَى ذَلِكَ بِتَوْجِيهٍ وَتَرْبِيَةٍ وَتَعْلِيمٍ.

وَأَنْ يَكُونَ الْأَبُ وَالْأُمُّ قُدْوَةً صَالِحَةً فِي الْأَدَبِ وَالرِّعَايَةِ، وَفِي تَعْظِيمِ أَمْرِ اللهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ ﷺ، وَفِي جَمِيلِ التَّعَاوُنِ مَعَ الْقَرَابَاتِ؛ قَرَابَاتِ الْأُسْرَةِ، قَرَابَاتِ الْأَبِ، قَرَابَاتِ الْأُمِّ، وَرِعَايَةِ الْجِوَارِ، وَحُسْنِ الْخِطَابِ، وَجَمِيلِ الْمُعَاشَرَةِ عَلَى أَسَاسٍ مِنْ مَخَافَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَحُسْنِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ ﷺ؛ فَإِنَّ مُتَابَعَتَهُ ﷺ دَلِيلُ مَحَبَّةِ اللهِ لِلْعَبْدِ، وَدَلِيلُ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ للهِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].

اللهُ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ حَفِظَهُ، وَلَطَفَ بِهِ، وَصَانَهُ.

وَمَحَبَّةُ اللهِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِتَعَاهُدِ طَاعَتِهِ -سُبْحَانَهُ-، تَعَاهُدُ طَاعَةِ رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْعِبَادَةِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ مَعَ الْآخَرِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.

الْقَبِيلَةُ وَالْبَلْدَةُ وَالْبَشَرِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ أُسَرٌ، أَوَّلُ أُسْرَةٍ فِي الْوُجُودِ أُسْرَةُ آدَمَ وَحَوَّاءَ، ثُمَّ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَتَكَرَّرَ هَذِهِ الْأُسَرُ وَتَنْتَشِرُ.

فَيَنْبَغِي لِلْقَائِمِ عَلَى شُؤُونِ الْأُسْرَةِ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ أَنْ يُحْسِنُوا مُرَاقَبَةَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ -سُبْحَانَهُ-، وَأَنْ يُحْسِنُوا الْعَمَلَ، وَيُخْلِصُوهُ لِرَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ يَتَّقُونَ اللهَ فِيمَنْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ فِي كُلِّ الْأُمُورِ؛ تَنْشِئَةً، وَرِعَايَةً، وَنَفَقَةً بِقَدْرِ الْمُسْتَطَاعِ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .

وَلَكِنْ أَهَمُّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَنَى بِهِ: حَمْلُ النَّاشِئَةِ عَلَى لُزُومِ طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِإِظْهَارِ الصَّلَاحِ، وَالْبَيْتُ الَّذِي يَنْشَأُ عَلَى التُّقَى تَنْشَأُ ذُرِّيَّتُهُ -ذُرِّيَّةُ مَنْ فِي الْبَيْتِ- عَلَى طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَتَقْوَاهُ، فَيَكُونُ قُدْوَةً لِلْآخَرِينَ.

مَا أَحْسَنَ أَنْ يُحَقِّقَ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ وَأُسْرَتِهِ بِأَنْ يَكُونُوا قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ وَالتُّقَى، وَأَسْبَابَ هِدَايَةٍ لِلْآخَرِينَ.

مِنْ أَعْظَمِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَنَى بِهِ: صِلَةُ الْأَرْحَامِ؛ فَـ((إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهَا: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَاك)).

فَإِذَا كَانَ الْبَيْتُ مُعْتَنِيًا بِصِلَةِ ذَوِي الْقُرْبَى؛ انْتَشَرَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ عِنْدَمَا يَتَفَرَّقُ نَاشِئَةُ الْبَيْتِ لِتَكْوِينِ أُسَرٍ جَدِيدَةٍ يَكُونُونَ قُدْوَةً فِي الْخَيْرِ.

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَثْنَى عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ فِي الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَأَكَّدَ عَلَيْهَا نَبِيُّهُ ﷺ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ؛ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِذَلِكَ غَايَةَ الِاعْتِنَاءِ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَنَى بِهِ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ أَوَّلِ لِقَاءٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمَا مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسٍ مِنْ طَاعَةِ اللهِ؛ الدُّعَاءِ، وَالصَّلَاةِ؛ فَحَسَنٌ إِذَا صَلَّى الْإِنْسَانُ، فَدَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَيَأْمُرَهَا بِأَنْ تُصَلِّيَ مَعَهُ، فَتَصُفُّ خَلْفَهُ^([3])؛ لِتَكُونَ أَوَّلُ لَبِنَةٍ مِنْ لَبِنَاتِ بِنَاءِ الْأُسْرَةِ مِنْ رَبَّيْهَا أَدَاءَ عِبَادَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَيُسَنُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَمْسَحَ نَاصِيَتَهَا، وَيَقُولَ: ((اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ)).

ثُمَّ يَعْتَنِي بِالذِّكْرِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ؛ فِي دُخُولِ الْمَنْزِلِ، وَالْمَبِيتِ، وَالِاضْطِجَاعِ عَلَى الْفِرَاشِ، الْعِنَايَةُ بِالْأَذْكَارِ؛ بَلْ حَتَّى التَّسْمِيَةُ تُتَعَاهَدُ عِنْدَمَا تَحْصُلُ مُبَاشَرَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ إِرَادَةِ وِقَاعِ امْرَأَتِهِ لَوْ ذَكَرَ اللهَ.. سَمَّى اللهَ؛ إِنْ كُتِبَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي صَاحَبَتْهُ التَّسْمِيَةُ قَبْلَ الْبَدْءِ؛ لَنْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ^([4]).

يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَاهَدَ هَذِهِ الْأُمُورَ؛ رَغْبَةً فِي اسْتِصْلَاحِ الذُّرِّيَّةِ، وَتَنْشِئَةِ الْأُسْرَةِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَذِكْرِهِ، وَلِيَكُونَ قُدْوَةً فِي حَيَاتِهِ.

ثُمَّ الْإِحْسَانُ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى، لَا شَكَّ أَنَّ أَسَاسَ الْقَرَابَاتِ الْأَبَوَانِ، وَأَنَّ كُلَّ صِلَةٍ لِلْقَرَابَةِ إِنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً لِلصِّلَةِ بِالْأَبَوَيْنِ -بِرِّهِمَا-؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ لَهُ قَرَابَاتٌ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَالِدَيْنِ، وَمَا عَدَاهُمَا فَشَيْءٌ آخَرُ.

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَقَالَ: ((إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيؤُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ)).

فَقَالَ -عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ-: ((لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)).

الْإِنْسَانُ لَا يُقَالُ لَهُ إِذَا أَسَاءَ ذَوُو قُرْبَاهُ: قَابِلِ الْإِسَاءَةَ بِالْإِسَاءَةِ، بَلْ يُقَالُ لَهُ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالدَّفْعُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَجْعَلُ الشَّخْصَ الْبَعِيدَ عَنِ الْإِنْسَانِ  كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعَالَجُ أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ وَلَا تُسْتَصْلَحُ النُّفُوسُ بِشَيْءٍ كَالْإِحْسَانِ؛ إِلَّا مَنْ جُبِلَ عَلَى السُّوءِ، وَبَادَلَ الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، وَالْإِحْسَانَ بِالْإِسَاءَةِ، هَذَا لَهُ شَأْنٌ آخَرُ، لَكِنْ لِذَوِي الْقُرْبَى يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْلُمَ عَلَيْهِمْ، وَيَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيَتَجَاوَزَ عَمَّا يَحْصُلُ مِنْ إِسَاءَاتٍ، وَيَتَغَافَلَ عَنْ كُلِّ مَا يَسُوءُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ، وَأَنْ يُرَبِّيَ نَاشِئَتَهُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَبَعْضُ النَّاسِ تَكُونُ لَهُ قَرَابَةٌ، وَيَحْصُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ شَيْءٌ مِنَ التَّنَافُرِ، ثُمَّ يُثِيرُ هَذَا الْأَمْرَ مَعَ أَوْلَادِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ.

يَنْبَغِي بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَادُ فِي مَنْأَى عَمَّا يَكُونُ بَيْنَ أَبِيهِمْ أَوْ أُمِّهِمْ وَقَرَابَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا نَشَأُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَرَاهِيَةِ ذَوِي الْقُرْبَى تَمَكَّنَ مِنْ قُلُوبِهِمْ فِي غَضَاضَتِهَا، وَارْتَكَزَ فِيهَا فِي نُعُومَتِهَا؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَبُ وَالْأُمُّ حَرِيصَيْنَ عَلَى إِبْعَادِ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ خِلَافَاتِهِمْ مَعَ ذَوِي قُرْبَاهُمْ؛ حَتَّى تَنْشَأَ الذُّرِّيَّةُ مَا تُفَكِّرُ فِي مُنَافَرَاتٍ بَيْنَ أُسْرَتِهَا وَذَوِي قُرَبِهَا؛ لِيَنْشَئُوا نَشْأَةً مُبَارَكَةً صَالِحَةً.

وَإِنَّ مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَنَى بِهِ مَعَ النَّاشِئَةِ إِذَا بَلَغَتْ سِنَّ التَّمْيِيزِ:

أَنْ يُعَوَّدُوا عَلَى الصَّلَاةِ.

وَأَنْ يُعَوَّدُوا عَلَى حُسْنِ الْخِطَابِ، وَالِابْتِعَادِ عَنِ الْأَلْفَاظِ السَّيِّئَةِ الْبَذِيئَةِ، وَالتَّنْفِيرِ مِنَ اللَّعْنِ وَالْمُلَاعَنَاتِ.

أَنْ يُعَوَّدُوا عَلَى كَرِيمِ الْخِطَابِ، وَإِلْفِ الْمَسَاجِدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفِتْيَانِ، مَعَ حَمْلِ الْجَمِيعِ عَلَى الصَّلَاةِ؛ لِحَدِيثِ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ -وَالْأَوْلَادُ هُمُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ- بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)).

وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَطْفَالِ فِي الْمَضَاجِعِ مُهِمٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لَكِنَّهُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي انْتَشَرَتِ الثَّقَافَاتُ بِمَا يُسَمَّى (ثَقَافَةَ الْجِنْسِ)؛ صَارَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْحَذَرِ فِي صِيَانَةِ نَاشِئَتِهِمْ، وَتَفْرِيقِ مَضَاجِعِهِمْ، مَعَ الْإِشْرَافِ الصَّادِقِ؛ لِيَنْشَأَ الْبَيْتُ عَلَى طُهْرٍ وَعَفَافٍ، وَيَنْمُوَ الْفَتَى وَالْفَتَاةُ عَلَى حُبِّ الْبُعْدِ عَنْ كُلِّ مَا يُدَنِّسُ الشَّرَفَ، وَيُلَوِّثُ الْأَخْلَاقَ.

إِنَّ الرِّعَايَةَ كَبِيرَةٌ، وَإِنَّ الْمُهِمَّةَ عَظِيمَةٌ، وَإِنَّ الْحِمْلَ ثَقِيلٌ عَلَى رَبَّيِ الْأُسْرَةِ؛ وَلَكِنْ {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ يَجِدْ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لُطْفًا وَإِعَانَةً وَتَوْفِيقًا.

وَمَعَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ الْجَمِيعُ -الرَّاعِيَانِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ- عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الدُّعَاءِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَهْمَا كَانَ حَاذِقًا، وَمَهْمَا كَانَ حَازِمًا، وَمَهْمَا كَانَ مُتَيَقِّظًا تَعْتَرِيهِ سَاعَةُ ضَعْفٍ؛ فَلْيَكُنْ كَثِيرَ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِلْحَاحِ عَلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَاللهُ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُلِحَّ فِي الطَّلَبِ مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ الْمَغْفِرَةَ، وَيَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، فَيَلْتَجِأُ إِلَى خَالِقِهِ لِأَنْ يُعِينَهُ؛ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ؛ وَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ كَلِمَةَ ((لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ بِأَنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ)) ، فَمَا أَحْسَنَ أَنْ يَتَعَاهَدَهَا النَّاسُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَعِنْدَ تَنْشِئَةِ الْأُسَرِ وَتَأْسِيسِهَا فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْغَالِبِ يَبْدَؤُونَ مِنِ اثْنَيْنِ، ثُمَّ فِي النِّهَايَةِ يَنْتَهُونَ مِنِ اثْنَيْنِ.

فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْبِدَايَةِ وَفِي النِّهَايَةِ قَوِيَّ الِارْتِبَاطِ بِطَاعَةِ اللهِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَصِدْقِ التَّوَكُّلِ، وَصَادِقِ الرَّغْبَةِ فِي إِرْضَائِهِ.

ثُمَّ يَحْرِصُ الْمَرْءُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، إِذَا جَلَسَ مُنْفَرِدًا يُفَكِّرُ: هَلْ حَصَلَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ؟

هَلْ أَسَاءَ مُخَاطَبَةَ الْآخَرِينَ؟

هَلْ غَفَلَ عَنْ عَيْبٍ رَآهُ فِي أَوْلَادِهِ، وَلَمْ يُحَاوِلْ تَقْوِيمَهُمْ؟

ثُمَّ يَعْقِدُ الْعَزْمَ عَلَى أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ الْمُرَاقَبَةِ مَعَ اللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْتِمَاسِ الْعُذْرِ الَّذِي لَا يُفْسِدُ.

أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَنْ يُصْلِحَ حَالَنَا وَحَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَأَنْ يُعِزَّ دِينَهُ، وَيُعْلِيَ كَلِمَتَهُ، وَيَنْصُرَ أَوْلِيَاءَهُ، وَيَخْذُلَ أَعْدَاءَهُ، وَأَنْ يُرِيَنَا فِي بِلَادِنَا مَا يَسُرُّنَا وَيَسُرُّ كُلَّ مُؤْمِنٍ، وَأَنْ يُسْمِعَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ مَا يَسُرُّنَا وَيَسُرُّ كُلَّ مُؤْمِنٍ، وَأَنْ يُرِيَنَا فِي أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ عَجَائِبَ قُدْرَتِهِ، وَعَظِيمَ بَطْشِهِ، وَأَنْ يُزَلْزِلَ أَقْدَامَهُمْ، وَيُحْبِطَ كَيْدَهُمْ، وَيُقِضَّ مَضَاجِعَهُمْ، وَيُظْهِرَ لَهُمُ الشَّمَاتَةَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَعْوَانِهِمْ، وَأَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي احْتَلُّوهَا وَاعْتَدَوْا عَلَيْهَا عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ.

وَأَنْ يُصْلِحَ حَالَنَا وَحَالَ الْمُسْلِمِينَ.

كَمَا نَسْأَلُهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْبِلَادِ أَمْنَنَا عَلَى دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَأَنْ يَزِيدَنَا تَمَسُّكًا بِهِ، وَحِرْصًا عَلَيْهِ، وَصِدْقَ مُتَابَعَةٍ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

كَمَا أَسْأَلُهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُجِيرَنَا مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَنْ يُوَفِّقَ مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَنَا لِحِفْظِ الْأَمْنِ، وَصِيَانَةِ الْحُرُمِ، وَحِرَاسَةِ الْأَخْلَاقِ، وَصِيَانَةِ الْعَقِيدَةِ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ، وَأَطْرِهِمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَأَنْ يُجَازِيَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى ذَلِكَ بِالتَّوْفِيقِ لِأَمْثَالِهِ، وَالسَّدَادِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ.

كَمَا نَسْأَلُهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُدِيمَ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، فَيَصُدَّ عَنَّا كُلَّ بَلَاءٍ وَفِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ، وَأَنْ يُحْبِطَ كَيْدَ كُلِّ مَنْ أَرَادَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ شَرًّا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُعَاجِلَهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ وَالنَّكْبَاتِ وَالْكُرُوبِ وَأَنْوَاعِ الْمَصَائِبِ؛ إِنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- مُجِيبُ الدُّعَاءِ.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

 

((كَيْفَ أُرَبِّي طِفْلِي تَرْبِيَةً إِسْلَامِيَّةً صَحِيحَةً؟))

الشَّيْخ الْعَلَّامَة: صَالِح بْنُ مُحَمَّد اللِّحِيدَانُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

إِذَا تَمَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ التَّعَاوُنُ عَلَى حَلِّ مَشَاكِلِ هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ عَاشَا عِيشَةً هَنِيَّةً.

يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَا بِالذُّرِّيَّةِ، بِدَايَةُ فَهْمِ الْأَطْفَالِ لْلَحَيَاةِ؛ يُوَضِّحُ لِلْأَطْفَالِ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَنَّ أَهَمَّ ذَلِكَ: أَدَاءُ فَرَائِضِ الدِّينِ.. عِبَادَةُ اللهِ.

وَيَتْبَعُ ذَلِكَ: السَّعْيُ فِي الْخَيْرِ لِعِبَادِ اللهِ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنْ عِبَادِ اللهِ؛ لِيَنْشَأَ النَّاشِئُ مُتَعَلِّقًا بِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، مُحْسِنًا التَّعَامُلَ مَعَ مَنْ يُحِيطُ بِهِ؛ مِنْ أَبَوَيْنِ، مِنْ إِخْوَةٍ وَأَخَوَاتٍ، وَقَرَابَةٍ، وَجِيرَتِهِ، وَمَنْ يَخْتَلِطُ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَيُبَيِّنُ لِلنَّاشِئِ أَهَمِّيَّةَ الْإِسْلَامِ، وَأَهَمِّيَّةَ التَّعَامُلِ مِنَ الْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.

الْبَيْتُ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ.. الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ الْمَدْرَسَةُ الْأُولَى الَّتِي تَرْبِطُ النَّاشِئَ بِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَتُعَوِّدُهُ عَلَى حُسْنِ الْمُخَالَطَةِ مَعَ الْآخَرِينَ.

***

 

((نَصِيحَةٌ لِلنِّسَاءِ بِتَرْبِيَةِ الْبَنَاتِ عَلَى الْعِفَّةِ))

الشَّيْخ الْعَلَّامَة: صَالِح بْنُ مُحَمَّد اللِّحِيدَانُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

نَصِيحَتِي لِلنِّسَاءِ -بِالْخُصُوصِ- أَنْ تَعْتَنِيَ بِتَرْبِيَةِ بَنَاتِهِنَّ عَلَى الْعِفَّةِ وَالْحَيَاءِ، وَالْأَدَبِ وَالْحِشْمَةِ، وَالْحِجَابِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالْفِتْيَانِ وَمَنْ لَا يَرْضَى بِالِاخْتِلَاطِ بِهِنَّ مِنَ الْفَتَيَاتِ؛ تَرْبِيَةً لِنَاشِئَةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

إِنَّ الْبَيْتَ إِذَا كَانَ بَيْتَ عِفَّةٍ فِي الْمَرْأَةِ، بَيْتَ عِفَّةٍ فِي الرَّجُلِ؛ أَنْشَأَ جِيلًا عَفِيفًا مُسْتَقِيمًا.

فَمَا أَحْسَنَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مُتَضَافِرِينَ فِي هَذَا، وَلَا يَمْنَعُ الْمَرْءَ أَنْ يَرَى مُنْكَرًا أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ إِذَا كَانَ قَوْلُ الْحَقِّ نَافِعًا، وَيَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ.

***

 

 

 

((تَرْبِيَةُ الْأَبْنَاءِ))

الشَّيْخ الْعَلَّامَة: صَالِح بْنُ مُحَمَّد اللِّحِيدَانُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

 

أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكُمْ!

يَقُولُ: مَتَى يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ الْأَبْنَاءَ مِنَ الْخَلْوَةِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالنِّسَاءِ غَيْرِ الْمَحَارِمِ؟

وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَأْمُرَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ بِالصَّلَاةِ، أَمْ أَنَّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْأُمِّ فَهِيَ أَعْرَفُ بِحَالِ بِنْتِهَا؟

الْجَوَابُ:

أَمَّا الْأَوْلَادُ فَيُؤْمَرُونَ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغُوا -أَتَّمُوا- سَبْعَ سِنِينَ أَمْرًا لَا شِدَّةَ فِيهِ، فِيهِ التَّرْغِيبُ وَالْحَثُّ، وَيُؤْمَرُونَ بِالْأَمْرِ الْحَازِمِ وَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يَشُقُّ جِلْدًا وَلَا يَكْسِرُ عَظْمًا إِذَا أَكْمَلُوا عَشْرَ سِنِينَ؛ لِحَدِيثِ: ((مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)) أَيْ: لَا يَنَامُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ مُتَلَاصِقِينَ فِي نَوْمِهِمْ، فَرِّقْ بَيْنَهُمْ.

وَيَحْسُنُ أَنْ تَنْحَازَ الْفَتَيَاتُ عَنِ الْفِتْيَانِ فِي هَذِهِ السِّنِّ.

وَالْفَتَى لَا يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ إِذَا بَلَغَ الْحُلُمَ، عَلَيْهِنَّ الِاحْتِجَابُ مِنْهُ، وَالِاسْتِئْذَانُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى مَكَانٍ فِيهِ النِّسَاءُ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي سُورَةِ النُّورِ آدَابَ الدُّخُولِ فِي الْمَنَازِلِ وَالِاسْتِئْذَانِ.

وَبِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ؛ فَإِنَّ مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ -احْتَلَمَ- وَرَأَى الْمَنِيَّ مِنَ احْتِلَامِهِ، أَوْ أَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَتَمَّهَا مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ الْخَشِنَ حَوْلَ ذَكَرِهِ، مَنْ فِيهِ هَذِهِ الْعَلَامَاتُ أَوْ بَعْضُهَا فَقَدْ بَلَغَ، وَتَحْتَجِبُ مِنْهُ النِّسَاءُ.