((رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ أَبٍ وَأُمٍّ))
تَأْلِيف
فَضِيلَة الشَّيْخ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ صَلَاحِ بْنِ مُحَمَّد غَانِم -رَحِمَهُ اللهُ-.
إِعْدَاد: فَرِيق مَوْقِعِ تَفْرِيغَاتِ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ
((رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ أَبٍ وَأُمٍّ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِلَى آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَإِخْوَانِنَا وَأَخَوَاتِنَا، وَأَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا! أُقَدِّمُ هَذِهِ النَّصِيحَةَ الْغَالِيَةَ، وَالْفَائِدَةَ الثَّمِينَةَ، وَالْوَصِيَّةَ الْهَامَّةَ؛ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا فِي شَرْحِ الصُّدُورِ، وَإِنَارَةِ الْعُقُولِ، وَجَلْبِ الْمَأْمُولِ، وَسَبَبًا فِي بِرِّ الْبَارِّينَ، وَإِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ، وَنَشْأَةِ جِيلٍ يَحْمِلُ مَشَاعِلَ الْهُدَى وَالنُّورِ إِلَى النَّاسِ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ أَجْمَعِينَ، وَالْخَيْرِ وَالْبِرِّ إِلَى شَتَّى بِقَاعِ الْأَرْضِ فِي الْعَالَمِينَ، فَيُنِيرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمُ الظُّلُمَاتِ، وَيَقْضِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى أَيْدِيهِمُ الْحَاجَاتِ، وَتُرْفَعُ بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمُ الْمِحَنُ وَالْبَلِيَّاتُ.
أَيُّهَا الْآبَاءُ الْفُضَلَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْفُضْلَيَاتُ؛ عَضُّوا عَلَى هَذِهِ النَّصِيحَةِ بِالنَّوَاجِذِ، وَبُثُّوهَا فِي الْمَحَافِلِ وَالْمَجَالِسِ؛ فَـ((الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ))، وَالْمُصْلِحُ فِي زَمَانِ الْإِفْسَادِ إِصْلَاحُهُ يَعُودُ عَلَيْهِ فِي أَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَزَمَانِهِ، وَمَآلِهِ؛ فَإِلَيْكُمْ جَمِيعًا أَقُولُ:
أَبْنَاؤُنَا هُمْ ثَمَرَةُ أَفْئِدَتِنَا، وَفِلْذَةُ أَكْبَادِنَا، وَنِتَاجُ أَعْمَالِنَا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْمَلَهُمْ بِرِعَايَتِنَا، وَأَنْ نَكْفُلَهُمْ بِعِنَايَتِنَا، فَقِيَامُنَا فِي قِيَامِهِمْ، وَسَعَادَتُنَا فِي سَعَادَتِهِمْ؛ فَهُمْ أَثْمَنُ وَأَغْلَى مَا نَمْلِكُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بَعْدَ عِبَادَةِ اللهِ وَطَاعَتِهِ.
وَاعْلَمُوا -أَيُّهَا الْآبَاءُ الْفُضَلَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ الْفُضْلَيَاتُ- أَنَّ الْوَلَدَ أَمَانَةٌ فِي عُنُقِ أَبِيهِ، وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ عَلَيْهِ، وَالْوَلَدُ رَعِيَّةٌ، وَأَبُوهُ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، وَمُسْتَخْلَفٌ عَلَى رِعَايَتِهِ؛ فَلْيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا أَمِينًا عَلَى وَلَدِهِ لَا خَائِنًا، مُحَافِظًا عَلَيْهِ لَا مُضَيِّعًا، مُتَعَاهِدًا عَلَى رِعَايَتِهِ لَا مُفَرِّطًا.
وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ جَدَلًا وَلَا نِقَاشًا: أَنَّ الْوَلَدَ نِتَاجُ الْبِيئَةِ الَّتِي تَرَبَّى فِيهَا، وَالْأُسْرَةِ الَّتِي عَاشَ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، فَيَخْرُجُ إِلَى الْحَيَاةِ مُتَأَثِّرًا بِهَا سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا، طَاعَةً أَوْ عِصْيَانًا، بِرًّا وَوَفَاءً أَوْ جُحُودًا وَنُكْرَانًا؛ فَلَا تَظْلِمُوا أَبْنَاءَكُمْ بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى تَقْصِيرِكُمْ وَإِسَاءَتِكُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَيْهِمْ بِإِعَانَتِهِمْ وَمُعَايَنَتِهِمْ بِإِحْسَانِكُمْ وَطَاعَتِكُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58].
فَالْوَلَدُ يَتَأَثَّرُ بِالْأُسْرَةِ الَّتِي نَشَأَ فِيهَا، يَتَأَثَّرُ بِأَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَأَحْوَالِهَا؛ فَيَخْرُجُ نَمُوذَجًا مُمَاثِلًا لِهَذَا الْبَيْتِ الَّذِي تَرَبَّى وَتَرَعْرَعَ فِيهِ.
وَاعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْوَلَدَ بِنَاءٌ، وَكُلُّ بِنَاءٍ لَهُ أَسَاسٌ وَأَعْمِدَةٌ، وَسَقْفٌ وَجُدْرَانٌ، وَجِهَازٌ وَأَرْكَانٌ، فَأَسَاسُ وَلَدِكَ إِيمَانُهُ وَعَقِيدَتُهُ وَيَقِينُهُ، وَأَعْمِدَتُهُ فَرَائِضُ دِينِهِ، وَسَقْفُهُ الْحُدُودُ وَالنَّوَاهِي وَالْمَحَارِمُ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنِ التَّجَرُّءِ عَلَيْهَا، وَجُدْرَانُهُ قِيَمُهُ وَمَبَادِئُهُ، وَأَرْكَانُهُ آدَابُهُ وَأَخْلَاقُهُ؛ فَهَلْ أَسَّسْتَ عَقِيدَةَ وَلَدِكَ؟!!
وَهَلْ أَقَمْتَهُ عَلَى الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عَلَيْهِ؟!!
وَهَلْ حُلْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ؟!!
وَهَلْ أَقَمْتَهُ عَلَى قِيَمٍ وَمَبَادِئَ وَمُثُلٍ، أَمْ تَرَكْتَهُ هَكَذَا؟!!
وَهَلْ نَظَرْتَ فِي آدَابِهِ وَأَخْلَاقِهِ، أَمْ تَرَكْتَهُ هَمَلًا بِلَا آدَابٍ وَلَا أَخْلَاقٍ؟!!
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ أَنْ يُؤَسِّسَا أَبْنَاءَهُمَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَاعْتِقَادِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ، وَإِعْلَانِهِ وَبَثِّهِ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَاقِّهِ وَآلَامِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر: 1-3].
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ بِنَاءَ الْوَلَدِ جَسَدٌ ظَاهِرٌ، وَرُوحٌ بَاطِنَةٌ؛ فَلَا يَشْغَلَنَّكُمْ بِنَاءُ الْأَجْسَادِ عَنْ تَهْذِيبِ الْأَرْوَاحِ، وَلَا يَشْغَلَنَّكُمْ تَعَاهُدُ الْأَبْدَانِ فِي مُقَابِلِ تَضْيِيعِ الْأَدْيَانِ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ طَرِيقُ الْحِرْمَانِ وَالْخُسْرَانِ، فَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ بِإِيمَانِهِ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ بِبَدَنِهِ وَجُثْمَانِهِ، وَخَيْرٌ مِنْهُمَا مَنْ جَمَعَ قُوَّةَ الْبَدَنِ إِلَى قُوَّةِ الدِّينِ بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، قَالَ تَعَالَى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْوَلَدَ دَائِمًا وَأَبَدًا ابْنُ بِيئَتِهِ، مِنْهَا يَكْتَسِبُ لُغَتَهُ وَآدَابَهُ، وَأَخْلَاقَهُ وَمَبَادِئَهُ، فَعَلَى قَدْرِ لُغَةِ وَآدَابِ وَأَخْلَاقِ وَالِدَيْهِ تَكُونُ لُغَتُهُ وَآدَابُهُ وَأَخْلَاقُهُ؛ فَالْأَبْنَاءُ يَنْزِلُونَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا، فَيَصِيرُ الْعَرَبِيُّ عَرَبِيًّا، وَالْأُورُوبِّيُّ أُورُوبِّيًّا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لُغَةُ أُسْرَتِهِ وَآدَابُهَا وَأَخْلَاقُهَا؛ فَلَا تَلُومُوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى تَفْرِيطِهِمْ فِي لُغَتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَلَكِنْ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ؛ فَقَدِيمًا قَالُوا: ((مَنْ شَابَهَ أَبَاهَ فَمَا ظَلَمَ))، وَإِذَا كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ بِالدُّفِّ ضَارِبًا فَشِيمَةُ أَهْلِ الْبَيْتِ كُلِّهِمُ الرَّقْصُ!!
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إِلَى حُضْنٍ يَحْتَضِنُهُ، وَقَلْبٍ يَمِيلُ الْوَلَدُ إِلَيْهِ وَيَعْشَقُهُ، وَإِلَى نَفْسٍ فَاضِلَةٍ زَكِيَّةٍ نَقِيَّةٍ تَمْلِكُهُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْوَلَدُ ذَلِكَ فِي أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ؛ سَعَى إِلَى تَحْصِيلِهِ فِي الْمَحَاضِنِ مِنْ حَوْلِهِ؛ فَيَحْتَضِنُهُ أَصْحَابُ السُّوءِ، فَيَحْتَضِنُهُ الصَّاحِبُ السَّاحِبُ، أَوِ الشَّارِعُ الْفَاسِدُ، أَوْ مَوَاقِعُ التَّوَاصُلِ بِمَا فِيهَا مِنْ مَفَاسِدَ، أَوِ الْأَوْهَامُ وَالْخَيَالَاتُ فِي مَجَالِسِ الْفَاسِقِينَ وَالْفَاسِقَاتِ؛ حَيْثُ يَجِدُ الْوَلَدُ فِيهِمْ بُغْيَتَهُ، وَيَسْتَشْعِرُ فِيهِمْ قِيمَتَهُ؛ فَتَرَى فِي وَلَدِكَ الْعُقُوقَ بَدِيلًا عَنِ الْبِرِّ، وَالْإِسَاءَةَ وَالنُّفُورَ مَحَلَّ الطَّاعَةِ وَالسُّرُورِ.
فَاحْتَضِنُوا -أَيُّهَا الْآبَاءُ- أَبْنَاءَكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، وَهُدُوءِ النَّفْسِ فِيمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ مُخَالَفَاتٍ، وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ مِنْ مُؤَاخَذَاتٍ بِمَزِيدٍ مِنَ الصَّبْرِ وَالرِّعَايَةِ، وَإِظْهَارِ الْكَثِيرِ مِنَ الْوُدِّ وَالْحُبِّ وَالْبَشَاشَةِ.
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْوَالِدَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَامِلَ الْوَلَدَ بِعَقْلِيَّتِهِ؛ فَبَيْنَ عَقْلِ وَلَدِكَ وَعَقْلِكَ عُلُومٌ لَمْ يُحَصِّلْهَا، وَتَجَارِبُ لَمْ يُعَايِنْهَا، وَأَحْدَاثٌ لَمْ يُوَاقِعْهَا؛ فَتَرَفَّقْ بِهِ فِي النُّصْحِ وَالتَّوْجِيهِ وَالْجِدَالِ وَالْمُنَاقَشَةِ، وَانْزِلْ إِلَيْهِ وَلَا تَطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْكَ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ يَخْفِضُ ظَهْرَهُ وَيَحْنِي رَأْسَهُ لِيَكُونَ مَطِيَّةً لِحَفِيدِهِ وَوَلَدِهِ؛ حُنُوًّا وَحُبًّا وَعَطْفًا وَإِحْسَانًا وَبِرًّا وَاطْمِئْنَانًا، فَأَظْهِرُوا لَهُمْ -عِبَادَ اللهِ- عَطْفَكُمْ وَبِرَّكُمْ وَحُبَّكُمْ وَحُنُوَّكُمْ، وَلَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ.
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْجَسَدَ لَهُ غِذَاؤُهُ، وَأَنَّ الرُّوحَ لَهَا غِذَاؤُهَا، وَالْكَثِيرُ مِنَ الْآبَاءِ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- شَغَلَهُمْ غِذَاءُ الْأَبْدَانِ عَنْ غِذَاءِ الْأَرْوَاحِ، فَكَبُرَتْ أَبْدَانُ أَبْنَائِهِمْ، وَصَغُرَتْ عُقُولُهُمْ، وَضَعُفَتْ أَرْوَاحُهُمْ، وَخَفَّتْ أَدْيَانُهُمْ؛ فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْآبَاءُ- فِي غِذَاءِ أَرْوَاحِ أَبْنَائِكُمْ، فَهُوَ مَصْدَرُ عِزِّهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَبِرِّهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، فَمَا تَرَاهُ مِنْ عُقُوقِ الْعَاقِّينَ، وَمَعْصِيَةِ الْعَاصِينَ، وَانْفِلَاتِ الْمُنْفَلِتِينَ إِلَّا لِتَقْصِيرِ الْآبَاءِ فِي هَذَا الرُّكْنِ الرَّكِينِ وَالْأَصْلِ الْعَظِيمِ، فَمَا قَامَتْ فِي الْعَالَمِينَ أُمَّةٌ إِلَّا عَلَى قَدَمِ الْعِلْمِ وَسَاقِهِ، فَالْعِلْمُ غِذَاءُ الرُّوحِ، وَهُوَ حُلْوٌ مَنْظَرُهُ، جَمِيلٌ مَذَاقُهُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَأَخْتِمُ رِسَالَتِي هَذِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُوجَزَةِ؛ أَقُولُ: الْأَبْنَاءُ زَرْعٌ وَالْآبَاءُ زَارِعُونَ، وَالْأَبْنَاءُ نِتَاجٌ وَالْآبَاءُ صَانِعُونَ، فَمَنْ جَدَّ وَجَدَ، وَمَنْ زَرَعَ حَصَدَ، وَلَيْسَ مَنْ قَامَ وَاجْتَهَدَ كَمَنْ نَامَ وَرَقَدَ؛ فَانْظُرُوا -أَيُّهَا الْآبَاءُ- فِي أُصُولِ زِرَاعَتِكُمْ، وَقَوَاعِدِ صِنَاعَتِكُمْ، فَأَدْرِكُوا مَا فَاتَكُمْ، وَحَصِّلُوا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالنِّيَّةِ الصَّادِقَةِ، وَالْعَزِيمَةِ الرَّاشِدَةِ مَا حَصَّلَهُ مَنْ سَبَقَكُمْ، فَالْأُمَّةُ الْيَوْمَ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى سَوَاعِدِ أَبْنَائِكُمْ، وَقُوَّةِ شَبَابِكُمْ؛ فَهُمْ حُرَّاسُ الْعَقِيدَةِ، وَحُمَاةُ الشَّرِيعَةِ، وَهُمْ سَوَاعِدُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، فَقُوَّةُ بِلَادِكُمْ فِي قُوَّةِ أَبْنَائِكُمْ، وَضَعْفُهَا فِي ضَعْفِهِمْ، وَالْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ هُنَا لَيْسَتْ بِقُوَّةِ الْأَبْدَانِ، وَلَا بِقُوَّةِ الْمَنْصِبِ وَالْجَاهِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِنَّمَا الْقُوَّةُ هَاهُنَا فِي قُوَّةِ الْعَقِيدَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْأَدْيَانِ، وَأَنْتُمْ -أَيُّهَا الْآبَاءُ- فِي الْمُنْتَهَى.. أَنْتُمُ الْمَسْؤُولُونَ عَنْهُمْ، الْمُرَبُّونَ لَهُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُمْ فَلَكُمْ وَلَنَا وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَعَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ وَعَلَيْنَا تَدُورُ الدَّوَائِرُ، وَتَنْزِلُ النَّوَازِلُ، وَتَشْتَدُّ الْمِحَنُ، وَتَظْهَرُ الْبَلَايَا وَالْفِتَنُ.
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ-، وَخُذُوا بِأَسْبَابِ الْعَافِيَةِ وَالْوِقَايَةِ، وَادْفَعُوا بِهَا أَسْبَابَ الْفِتَنِ وَالْبَلَايَا؛ فَإِنَّ الْعَالَمَ عَلَى أَتُّونِ فِتْنَةٍ وَفِي انْتِظَارِ بَلِيَّةٍ وَمِحْنَةٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَأْسِيسِ جِيلٍ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، لَا تُدْفَعُ تِلْكَ الْفِتَنُ، وَلَا نُعَافَى مِنْ تِلْكَ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ إِلَّا بِتَأْسِيسِ جِيلٍ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ؛ فَيَرْفَعُ اللهُ بِهِ الْبَلِيَّةَ، وَيَدْفَعُ اللهُ بِهِ الرَّزِيَّةَ، وَيَجْعَلُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ سُبُلَ الْوِقَايَةِ وَالْخَيْرِيَّةِ.
فَاللهم هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا نَبِيِّ الْأَمِّيِّينَ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْمُتَّقِينَ الْمُطَهَّرِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
((السِّرُّ وَرَاءَ اسْتِقَامَةِ أَبْنَائِكَ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((فِقْهُ تَرْبِيَةِ الْأَنْفُسِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ))
فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- مَا يُسَمَّى بِفِقْهِ تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ، وَلَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مُصَنَّفًا فِي هَذِهِ الْمُصَنَّفَاتِ؛ بَلْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ أَنَّ هُنَاكَ مَا يُسَمَّى بِفِقْهِ تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ فِقْهَ تَرْبِيَةِ الْأَنْفُسِ؛ فَقَدْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَنْشَغِلُ بِتَرْبِيَةِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا أَصْلَحُوا نُفُوسَهُمْ؛ أَصْلَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نُفُوسَ زَوْجَاتِهِمْ، وَأَصْلَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نُفُوسَ أَبْنَائِهِمْ، وَأَصْلَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نُفُوسَ عُمَّالِهِمْ.
((سَبَبُ اخْتِيَارِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْبَقَاءَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ))
نَبِيُّنَا ﷺ كَانَ لَهُ غُلَامٌ وَهَبَتْهُ لَهُ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَانْظُرْ إِلَيْهِ لَمَّا رَأَى مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ ﷺ وَشِيَاتِهِ، وَرَأَى مِنْ هَدْيِهِ وَأَخْلَاقِهِ، وَكَانَ عَبْدًا، وَلَمْ يَكُنْ حُرًّا، وَكَانَ مُسْتَرَقًّا، وَلَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا إِلَى أَنِ اهْتَدَى إِلَيْهِ أَبُوهُ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَطْلُبُ الْوَلَدَ، وَيَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا يُرِيدُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ؟)).
قَالَ: ((مَا عِنْدَكَ؟)).
قَالَ: ((نُخَيِّرُهُ؛ فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَمَا أَنَا بِالَّذِي يَمْنَعُهُ عَنْ وَالِدَيْهِ، وَإِنِ اخْتَارَنِي فَمَا أَنَا بِالَّذِي يَرُّدُ خِيَارَ مَنِ اخْتَارَ)).
فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي صَارَ إِلَى الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الرِّقِّ، وَصَارَ إِلَى الِانْطِلَاقِ بَعْدَ الْقَيْدِ.
وَلَكِنْ أَنَّى لَهُ أَنْ يَتْرُكَ هَدْيًا مُصْطَفَوِيًّا، وَأَنْ يَتْرُكَ خُلُقًا نَبَوِيًّا، وَأَنْ يَتْرُكَ حَيَاةً هِيَ عَيْنُ الْحَيَاةِ!
فَإِذَا بِهِ يَرْفُضُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَبَوَيْهِ، وَيَبْقَى عَبْدًا مُسْتَرَقًّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ!!
مَا الَّذِي جَعَلَ زَيْدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَتْرُكُ الْحُرِّيَّةَ إِلَى الرِّقِّ؟!!
مَا الَّذِي جَعَلَ زَيْدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَتْرُكُ أَبَوَيْهِ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ بِأَبٍ؟!!
إِنَّهَا الْأَخْلَاقُ، إِنَّهَا الصِّفَاتُ وَالشِّيَاتُ الَّتِي اسْتَأْثَرَتْ قَلْبَ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَقْلَهُ، وَهَذَا الَّذِي يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ يَنْسَوْنَ أَنَّ أَبْنَاءَهُمْ يُرَاقِبُونَهُمْ، يَنْسَوْنَ أَنَّ أَبْنَاءَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، يَنْسَوْنَ أَنَّ أَبْنَاءَهُمْ يُقَيِّدُونَ عَلَيْهِمْ حَرَكَاتِهِمْ، فَيَتَأَثَّرُ الْوَلَدُ بِحَالِ أَبِيهِ، فَإِذَا رَأَى أَبَاهُ مُقْبِلًا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غَيْرَ مُدْبِرٍ؛ فَلَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يُقْبِلَ كَإِقْبَالِهِ، وَإِنْ رَآهُ مُدْبِرًا عَنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غَيْرَ مُقْبِلٍ؛ فَلَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُدْبِرًا كَإِدْبَارِهِ.
((غَايَتُكَ غَايَةُ وَلَدِكَ))
النَّاسُ رَجُلَانِ؛ رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ لِدُنْيَاهُ، وَرَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ لِأُخْرَاهُ، رَجُلٌ صَارَتِ الدُّنْيَا أُمَّهُ، وَرَجُلٌ صَارَتِ الْآخِرَةُ أُمَّهُ، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ فِي الْمُنْتَهَى أُمَّهُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، وَالْآخِرَةُ وَعْدٌ صَادِقٌ آجِلٌ، وَالنَّاسُ يَرْتَبِطُونَ بِالْعَرَضِ الْحَاضِرِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْتَبِطُونَ بِالْوَعْدِ الْآجِلِ، وَلِلدُّنْيَا بَنُونَ، وَلِلْآخِرَةِ بَنُونَ؛ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ كُلَّ أُمٍّ يَتْبَعُهَا بَنُوهَا)).
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أُمِّهِ، يَنْظُرَ إِلَى هَدَفِهِ، يَنْظُرَ إِلَى غَايَتِهِ؛ لِأَنَّ أُمَّكَ سَتَصِيرُ أُمًّا لِوَلَدِكَ، وَغَايَتَكَ سَتَصِيرُ غَايَةً لِوَلَدِكَ، وَهَدَفَكَ سَيَصِيرُ هَدَفًا لِوَلَدِكَ، فَإِنْ رَأَى أُمَّكَ آخِرَتَكَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَى هَدَفَكَ آخِرَتَكَ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، إِنْ رَآكَ صَادِقًا فِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ، صَادِقًا فِي وَعْدِكَ وَقَوْلِكَ؛ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الصَّادِقِينَ.
((إِنْ رَبَّيْتَ نَفْسَكَ تَرَبَّى وَلَدُكَ!))
الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَتَعَاهَدُوا نُفُوسَهُمْ، وَأَقْبَلُوا عَلَى رَبِّهِمْ، وَتَمَسَّكُوا بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ؛ فَإِلَى مَاذَا آلَ أَمْرُ أَبْنَائِهِمْ؟
صَارُوا خَلْفَهُمْ؛ فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْعَبَّاسِ، هَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ، هَؤُلَاءِ جُذُورُ أُمَّةِ النَّبِيِّ خَيْرِ الْأَنَامِ، آبَاؤُهُمُ اسْتَقَامُوا فَاسْتَقَامَتِ الْأَبْنَاءُ، وَلَوِ اعْوَجَّ الْأَبُ فَلَا سَبِيلَ لِلْوَلَدِ إِلَّا الِاعْوِجَاجِ.
فَعَلَى الْمَرْءِ أَلَّا يُفَكِّرَ فِي تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُفَكِّرَ فِي تَرْبِيَةِ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ إِنْ رَبَّى نَفْسَهُ تَرَبَّى وَلَدُهُ، يَقُولُونَ فِي الْحِكْمَةِ: ((فَاقِدُ الشَّيْءِ لَا يُعْطِيهِ))، ((وَلَا يَسْتَقِيمُ الظِّلُّ وَالْعُودُ أَعْوَجُ)).
((صَلَاحُكَ مِنْ أَسْبَابِ صَلَاحِ أَوْلَادِكَ))
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اصْطَفَى مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ أَنْبِيَاءَ وَمُرْسَلِينَ، وَاصْطَفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَنْبِيَاءَ وَمُرْسَلِينَ، وَاصْطَفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأُمَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ ﷺ، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} [آل عمران: 33].
لَوْ تُرِيدُ الصَّلَاحَ لِوَلَدِكَ كُنْ صَالِحًا!
لَوْ تُرِيدُ مِنْ وَلَدِكَ أَنْ يَكُونَ مُصَلِّيًا كُنْ مُصَلِّيًا!
لَوْ تُرِيدُ لِوَلَدِكَ أَنْ يَكُونَ بِكَ بَارًّا كُنْ أَنْتَ بِأَبِيكَ بَارًّا!
لَوْ تُرِيدُ مِنْ وَلَدِكَ أَنْ يَكُونَ لِجَارِهِ مُحْسِنًا كُنْ أَنْتَ لِجَارِكَ مُحْسِنًا!
لَوْ تُرِيدُ مِنْ وَلَدِكَ أَنْ يَعُفَّ عَنِ الْحَرَامِ عُفَّ أَنْتَ عَنِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ سَيَنْظُرُ إِلَيْكَ، فَإِنْ وَجَدَكَ عَلَى شَاكِلَةٍ كَانَ عَلَى تِلْكَ الشَّاكِلَةِ، {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84].
((خَيْرُ مِيرَاثٍ مَتْرُوكٍ لِلْأَوْلَادِ تَقْوَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ خَيْرَ مَا يَتْرُكُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9].
لَقَدْ غَفَلَتِ الْأُمَّةُ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ- عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، نَتْرُكُ لِأَبْنَائِنَا أَمْوَالًا يَفْسَدُونَ بِهَا، نَتْرُكُ لِأَبْنَائِنَا مَنَاصِبَ يُضَيِّعُونَ الْأُمَّةَ مِنْ خِلَالِهَا، نُعَلِّمُ أَبْنَاءَنَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا مُهَنْدِسِينَ، فَيُتَاجِرُونَ فِي حَاجَاتِ الْمُسْلِمِينَ، نُعَلِّمُ أَبْنَاءَنَا أَنْ يَكُونُوا مُدَرِّسِينَ، فَيَخُونُونَنَا فِي أَبْنَائِنَا، فَلَا يُرَبُّوهُمْ عَلَى الْقِيَمِ وَالْمَبَادِئِ وَالْمُثُلِ، إِنَّمَا يَسْتَنْزِفُونَ أَمْوَالَنَا مِنْ خِلَالِهَا، وَهَذَا الَّذِي نُقَدِّمُهُ لِأَنْفُسِنَا، وَلَوْ أَنَّنَا اتَّقَيْنَا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَوَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا اللهُ بِهِ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3].
تَقْوَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَيْرُ زَادٍ، خَيْرُ مَا يَتْركُهُ الْمَرْءُ لِوَلَدِهِ تَقْوَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَ مِنْ أَغْنَى أَغْنِيَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَحُمِّلَتْ أَمْوَالُهُ عَلَى الْبِغَالِ، وَكَانَتِ الْأَمْوَالُ تُقَسَّمُ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ بِالْمَغَالِيقِ، كَانَتْ تُقَسَّمُ بِالْمَغَالِيقِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ لَهَا مِنَ الضَّيْعَاتِ وَالْأَرَاضِي مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ، وَكَانَ لَهَا مِنَ الْأَغْنَامِ وَالْأَبْقَارِ وَالْجَامُوسِ أَوْدِيَةٌ غَيْرَ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعٌ مِنَ النِّسْوَةِ؛ فَكَمْ يَكُونُ نَصِيبُ وَلَدِهِ؟!! النِّسْوَةُ لَهُنَّ الثُّمُنُ، فَإِذَا كَانَ الثُّمُنُ بِهَذَا الْقَدْرِ فَكَيْفَ بِسَبْعَةِ أَثْمَانٍ؟!!
وَانْظُرْ إِلَيْهِ؛ لَمْ يَكُنْ للهِ تَقِيًّا، خَلْفَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لَمَّا وَلِيَ إِمَارَةَ الْمُسْلِمِينَ وَخِلَافَتَهُمْ؛ عَلِمَ مَا كَانَ مِنْ جَوْرٍ فِي بَنِي أُمَيَّةَ، فَرَدَّ مَالَ أَبِيهِ كُلَّهُ إِلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقْبَلَ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَلَامَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ؛ يَا عُمَرُ! تَتْرُكُ أَبْنَاءَكَ وَلَكَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْوَلَدِ؟!!
فَقَالَ: ((إِنْ كَانُوا صَالِحِينَ فَاللهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا أَتْرُكُ لَهُمْ مَالًا أُحَاسَبُ أَنَا عَلَيْهِ، وَيَتَمَتَّعُونَ هُمْ بِهِ)).
مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ مَالٍ إِلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِينَارًا، قَسِّمْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْأَوْلَادِ، لَا يَصِلُ نَصِيبُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ دِينَارًا، يَقُولُ الرَّاوِي: ((وَاللهِ! لَقَدْ رَأَيْتُ أَبْنَاءَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ بِلُقْمَةٍ يَأْكُلُهَا، وَرَأَيْتُ أَبْنَاءَ عُمَرَ بْنِ الْعَزِيزِ وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يُجَهِّزُ مِنْ مَالِهِ ثَمَانِينَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللهِ)).
{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، مَا كَانَ للهِ دَامَ وَاتَّصَلَ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِ اللهِ انْقَطَعَ وَانْفَصَلَ.
إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَتْرُكَ لِوَلَدِكَ فَاتْرُكْ لَهُ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، اللهُ مَعَ الْمُتَّقِينَ، اللهُ يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].
اللهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُؤَيِّدُ الْمُتَّقِينَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ للهِ تَقِيًّا، مَنْ لَمْ يَكُنْ للهِ وَلِيًّا فَهُوَ مَخْذُولٌ، يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَدَهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً، وَيَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَالَهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً.
((مَنِ اسْتَقَامَ فِي دُنْيَاهُ طَابَتْ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ))
عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَعْلَمَ أَنَّنَا نَدْخُلُ إِلَى الدُّنْيَا وَنَحْنُ عَلَيْهَا ضُيُوفٌ، فَضَيْفٌ يَخْرُجُ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا، وَضَيْفٌ يَخْرُجُ مِنْهَا مُهَانًا مُحَقَّرًا، لَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَضَافَ رَجُلًا فَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ، فَسَرَقَ مَالَ ذَلِكَ الضَّائِفِ، وَتَعَرَّضَ لِعِرْضِهِ؛ كَيْفَ يَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ؟!!
يَخْرُجُ مُهَانًا، يَخْرُجُ ذَلِيلًا، يَخْرُجُ حَقِيرًا.
وَالرَّجُلُ الَّذِي يَدْخُلُ الْبَيْتَ فَيَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَلَا يَتَطَلَّعُ إِلَى عَوْرَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مَا قُدِّمَ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا، هَكَذَا الْمَرْءُ يَدْخُلُ إِلَى الدُّنْيَا وَهُوَ ضَيْفٌ فِيهَا، وَالَّذِي ضَافَهُ فِيهَا هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا، وَلَا تَأْخُذْ هَذَا، افْعَلْ هَذَا، وَلَا تَفْعَلْ هَذَا، فَإِنِ اسْتَقَامَ طَابَتْ عَلَانِيَتُهُ، وَطَابَتْ سَرِيرَتُهُ، وَطَابَتْ دُنْيَاهُ، وَطَابَتْ آخِرَتُهُ، وَإِنْ اعْوَجَّ فَسَدَتْ عَلَيْهِ سَرِيرَتُهُ، وَفَسَدَتْ عَلَيْهِ عَلَانِيَتُهُ، وَخَابَ فِي دُنْيَاهُ، وَخَابَ فِي آخِرَتِهِ، {وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72]، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ} [طه: 124-126].
((قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا))
اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6].
أَمَرَكَ أَنْ تَقِيَ نَفْسَكَ أَوَّلًا مِنَ النَّارِ، الَّذِي يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ يُضَيِّعُ صَلَاتَهُ، يُضَيِّعُ بِرَّهُ لِوَالِدَيْهِ، يُضَيِّعُ صِلَتَهُ لِأَرْحَامِهِ، يُضَيِّعُ كِتَابَ رَبِّهِ، يَهْجُرُهُ؛ مِنْ أَجْلِ مَاذَا؟!!
مِنْ أَجْلِ مَا يَجْمَعُ لِوَلَدِهِ، تُدْخِلُ نَفْسَكَ النَّارَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُنْجِيَهُ؟!! وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ لَكَ: نَجِّ نَفْسَكَ أَوَّلًا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ}.
فَأَنْتَ مُطَالَبٌ كَمَا تَعْمَلُ لِوَلَدِكَ أَنْ تَعْمَلَ لِنَفْسِكَ، أَلَيْسَ لَكَ جَنَّةٌ تُرِيدُ أَنْ تَسْكُنَهَا؟!!
أَلَيْسَ لَكَ قَبْرٌ تُرِيدُ أَنْ تُنَوِّرَهُ.. أَنْ تُعَمِّرَهُ؟!!
إِذَا نَوَّرْتَ قَبْرَكَ أَنَارَ وَلَدُكَ قَبْرَهُ، وَإِذَا عَمَّرْتَ آخِرَتَكَ عَمَّرَ وَلَدُكَ آخِرَتَهُ، وَأَمَّا إِذَا قَصَّرَ الْمَرْءُ فَالْوَلَدُ عَلَى شَاكِلَةِ أَبِيهِ؛ وَحِينَئِذٍ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34-37].
((مَنِ اسْتَقَامَتْ لَهُ نَفْسُهُ اسْتَقَامَتْ لَهُ أُسْرَتُهُ!))
أَنَا أَنْصَحُ نَفْسِي، وَأَنْصَحُ إِخْوَانِي، وَأَنْصَحُ آبَائِي أَنْ نَجْتَهِدَ فِي رِعَايَةِ أَنْفُسِنَا؛ حَتَّى نُؤَثِّرَ فِيمَنْ حَوْلَنَا.
أَتَطْمَعُ أَنْ يُطِيعَكَ قَلْبُ سُعْدَى = وَتَزْعُمُ أَنَّ قَلْبَكَ قَدْ عَصَاكَ
أَتَطْمَعُ أَنْ يُطِيعَكَ وَلَدُكَ وَالْأَبْعَدُ عَاصٍ لِرَبِّهِ؟!!
أَتَطْمَعُ أَنْ تُطِيعَكَ زَوْجُكَ وَأَنْتَ لَا تَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، وَلَا تَنْتَهِي بِنَهْيِهِ؟!!
الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، إِنْ أَطَعْتَ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلَّ مَنْ حَوْلَكَ يُطِيعُكَ، وَإِنْ عَصَى الْأَبْعَدُ جَعَلَ اللهُ كُلَّ مَنْ حَوْلَهُ يَعْصِيهِ.
نَبِيُّكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هَلْ رَأَيْتَهُ؟
لَمْ نَرَ نَبِيَّنَا؛ وَلَكِنَّنَا نُحِبُّهُ، مَا الَّذِي جَعَلَ قُلُوبَنَا تَتَعَلَّقُ بِمَحَبَّتِهِ؟
خِلْقَتُهُ؟!! نَسَبُهُ؟!! مَالُهُ؟!! لَا، طَاعَتُهُ، عُبُودِيَّتُهُ، فَانْظُرْ كَيْفَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بِتَحْقِيقِهِ لِلْعُبُودِيَّةِ لِرَبِّهِ عَلَّقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْقُلُوبَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، الْمَرْءُ يَحْلُمُ أَنْ يَرَى النَّبِيَّ فِي مَنَامِهِ، وَمَنْ رَآهُ فِي مَنَامِهِ فَيَا لَهَا مِنْ كَرَامَةٍ وَنِعْمَةٍ!!
مَا الَّذِي جَعَلَ النَّبِيَّ فِي بِهَذَا الْقَدْرِ؟
لَيْسَ جَمَالُهُ وَلَا مَالُهُ، وَلَا حَسَبُهُ وَلَا نَسَبُهُ، وَإِنَّمَا عُبُودِيَّتُهُ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
يَنْبَغِي عَلَى الْعَبْدِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَسْتَقِيمَ لَهُ أُسْرَتُهُ أَنْ تَسْتَقِيمَ لَهُ نَفْسُهُ؛ فَإِنَّ مَنِ اسْتَقَامَتْ لَهُ نَفْسُهُ اسْتَقَامَتْ لَهُ أُسْرَتُهُ، اسْتَقَامَ لَهُ طَرِيقُهُ، اسْتَقَامَ لَهُ بَدَنُهُ.
فَنَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَجْعَلَنَا عَلَى وَفْقِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَنْ يُرَبِّيَ بِنَا أَبْنَاءَنَا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
((سَبِيلُ الذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَلِمَاذَا نَتْرُكُ أَوْلَادَنَا بِلَا دَفْعٍ إِلَى أَنْ يَتَعَلَّمُوا؟!!
لَا بُدَ أَنْ نَجْعَلَ بِيئَةً لِهَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ.. هَذِهِ الْبِيئَةُ يَحْمِلُونَ بِهَا الْقُرْآنَ، نُرِيدُ بِيئَةً يَحْمِلُونَ فِيهَا الْعِلْمَ.
كَمَا تُفَرِّغُ وَلَدَكَ لِدَرْسِهِ فَفَرِّغْهُ لِدِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَدِينُهُ هُوَ أَوَّلُ مَا يَصِلُ إِلَيْكَ، دِينُهُ.. لَا عِلْمُهُ الدُّنْيَوِيُّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ طَبِيبًا.. بَعْدَ كَمْ تَرَى ذَلِكَ؟ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.. يَعْنِي بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً تَرَاهُ طَبِيبًا.. أَنْتَ ضَامِنٌ تَعِيشُ أَمْ لَا؟!!
لَكِنْ إِنْ عَلَّمْتَهُ دِينَهُ تَرَاهُ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ.
أَذْكُرُ أَنَّنِي كُنْتُ أُعَلِّمُ الصِّبْيَةَ فِي مَسْجِدِ أَوْلَادِ غَانِمٍ -وَهَذَا مُنْذُ مَا يَزِيدُ عَنْ عِشْرِينَ سَنَةً-، فَعَلَّمْتُ الْأَوْلَادَ كَيْفَ يَتَعَامَلُونَ مَعَ آبَائِهِمْ مُنْذُ أَنْ يَدْخُلوا الْبَيْتَ إِلَى أَنْ يَنَامُوا.
وَكُنْتُ أَذْكُرُ لَهُمْ مِنْ قَصَصِ الْقُرْآنِ وَقَصَصِ السُّنَّةِ وَرِوَايَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحِكَايَاتِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّرُوسِ، وَاللهِ! كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَأْتِي تَقُولُ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا.. جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا.. لَقَدْ تَغَيَّرَ وَلَدِي.
بَلْ إِنَّ وَلَدًا فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ أَصْلَحَ بَيْنَ خَالَتَيْهِ، حَدَثَ بَيْنَهُمَا شِقَاقٌ، فَقَالَ: مَا هَذَا الشِّقَاقُ؟!! تَعْلَمُونَ أَيْنَ سَنَصِيرُ؟!! سَنَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةً مِنْ حُفَرِ النَّارِ، وَأَخَذَ يَقُصُّ عَلَيْهِمْ قِصَّةَ الْمَلِكِ، فَسَمِعُوا هَذِهِ الْقِصَّةَ، تَأَثَّرُوا بِهَا، فَأَخَذَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُعَانِقُ أُخْتَهَا وَتَبْكِي.
وَهَذَا الْوَلَدُ كَانَ صَغِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ! مُنْذُ أَيَّامٍ هَذَا الْوَلَدُ لَقِيتُهُ فِي مَصْلَحَةٍ مِنَ الْمَصَالِحِ، ذَهَبْتُ لِأَدْفَعَ بَعْضَ الرُّسُومِ فَوَجَدْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي قَامَ وَرَحَّبَ بِي وَقَالَ: وَاللهِ! لَا تَدْفَعُ شَيْئًا، أَنَا أَدْفَعُ هَذَا الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَدْفَعَهُ، قُلْتُ لَهُ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، قَالَ: لَا وَاللهِ!
فَدِينُ الْوَلَدِ يَظْهَرُ فِي لَحْظَتِهِ، وَأَمَّا عِلْمُهُ الدُّنْيَوِيُّ فَقَدْ تُحَصِّلُهُ أَوْ لَا تُحَصِّلُهُ!
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
((أُمَّهَاتٌ صَنَعْنَ عُلَمَاءَ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذَا حَالُ أُسْرَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأُسَرِ الَّتِي أَخْرَجَتْ لِلْعَالَمِ أَئِمَّةً؛ إِنَّهَا رِسَالَةُ ابْنِ تَيْمِيَةَ إِلَى أُمِّهِ لَمَّا غَابَ عَنْهَا؛ دَعْوَةً وَجِهَادًا وَجِلَادًا، فَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ لَهَا فِيهَا عَنْ بُعْدِهِ عَنْهَا لِمُدَّةٍ مِنَ الزَّمَنِ، وَإِقَامَتِهِ فِي مِصْرَ لِبَعْضِ شُؤُونِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَالدَّعْوَةِ، فَلَمَّا وَصَلَتْهَا الرِّسَالَةُ؛ مَا الَّذِي رَدَّتْ بِهِ؟!!
انْظُرْ لِتَتَعَلَّمَ!
انْظُرْ لِتَرْتَفِعَ هِمَّتُكَ!
انْظُرْ لِتَخْرُجَ مِنْ أَرْضِكَ وَطِيَّتِكَ!
لَمَّا وَصَلَتْهَا الرِّسَالَةُ رَدَّتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ، وَقَالَتْ: ((وَلَدِي الْحَبِيبُ! أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَةَ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَإِنَّهُ -وَاللهِ- لِمِثْلِ هَذَا رَبَّيْتُكَ، وَلِخِدْمَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ نَذَرْتُكَ، وَعَلَى شَرَائِعِ الدِّينِ عَلَّمْتُكَ، وَلَا تَظُنَّنَّ يَا -وَلَدِي- أَنَّ قُرْبَكَ مِنِّي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قُرْبِكَ مِنْ دِينِكَ وَخِدْمَتِكَ لِإِسْلَامِكَ، بَلْ -يَا وَلَدِي- إِنَّ غَايَةَ رِضَائِي عَلَيْكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَدْرِ مَا تُقَدِّمُهُ لِدِينِكَ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنِّي -يَا وَلَدِي- لَنْ أَسْأَلَكَ غَدًا أَمَامَ اللهِ عَنْ بُعْدِكَ عَنِّي؛ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَيْنَ وَفِيمَ أَنْتَ، وَلَكِنْ -يَا أَحْمَدُ- سَأَسْأَلُكَ أَمَامَ اللهِ وَأُحَاسِبُكَ إِنْ قَصَّرْتَ فِي خِدْمَةِ دِينِ اللهِ، وَخِدْمَةِ أَتْبَاعِهِ مِنْ إِخْوَانِكَ الْمُسْلِمِينَ، رَضِيَ اللهُ عَنْكَ، وَأَنَارَ بِالْخَيْرِ دَرْبَكَ، وَسَدَّدَ خُطَاكَ، وَجَمَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكَ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)).
عِبَادَ اللهِ! عَلَى قَدْرِ الْبَذْلِ وَالْجَهْدِ تَأْتِي الْعَطَايَا، فَابْذُلُوا -عِبَادَ اللهِ-؛ ابْذُلُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ!
ابْذُلُوا مِنْ أَوْقَاتِكُمْ!
ابْذُلُوا أَبْنَاءَكُمْ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَعْلُوَ أَوْطَانُكُمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أُمَّتُكُمْ، مِنْ أَجْلِ أَنْ تَسْعَدُوا بِأَمْوَالِكُمْ، وَتَسْعَدُوا بِنِسَائِكُمْ، وَتَسْعَدُوا بِأَبْنَائِكُمْ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَمَنْ أَحْسَنَ أُحْسِنَ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَسَاءَ أُسِيءَ إِلَيْهِ، مَنْ صَفَّى صُفِّيَ لَهُ، وَمَنْ كَدَّرَ كُدِّرَ عَلَيْهِ، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
فاللهم أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.
اللهم اجْعَلْنَا بِأَبْنَائِنَا إِلَى الْمَعَالِي دَافِعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ