((مَفْهُومُ الشَّهَادَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مَفْهُومُ الْجِهَادِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ))
فَلَقَدْ تَلَاعَبَتْ بَعْضُ الْفِئَاتِ الْمُعَاصِرَةِ بِمَعْنَى الْجِهَادِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَطْلَقَتْهُ عَلَى أَفْعَالٍ إِجْرَامِيَّةٍ شَنِيعَةٍ مُنَافِيَةٍ لِمَعَانِي الْجِهَادِ وَالْإِسْلَامِ وَشِيَمِ أَهْلِهِ، حَتَّى صَارَتْ الِانْتِحَارَاتُ وَالتَّفْجِيرَاتُ -الَّتِي وَقَعَتْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَهَبَ ضَحِيَّتَهَا الْكَثِيرُ مِنَ الْأَبْرِيَاءِ مَعْصُومِي الدِّمَاءِ مُسْلِمِينَ وَمُعَاهَدِينَ، مَعَ إِتْلَافِ الْأَمْوَالِ، وَتَرْوِيعِ الْآمِنِينَ- صَارَتْ تُبَرَّرُ عَلَى أَنَّهَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْجِهَادِ!!
وَغُرِّرَ بِبَعْضِ الشَّبَابِ فَانْزَلَقَ فِي هَذَا الْمُنْزَلَقِ الْخَطِيرِ، وَأُوهِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْرَعِ الطُّرُقِ لِنَيْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْفَوْزِ بِالْحُورِ الْعِينِ!!
بَيْنَمَا هَذِهِ الْأَعْمَالُ الْمُنْكَرَةُ الشَّنِيعَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ أَسْرَعِ الطُّرُقِ لِدُخُولِ النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-؛ إِذْ إِنَّ طَرِيقَ الْجَنَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْتِزَامِ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَتَرْكِ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ -تَعَالَى- وَأَمْرِ رَسُولِهِ ﷺ، وَالْبُعْدِ عَمَّا يُغْضِبُ اللهَ وَيُسْخِطُهُ.
وَالْعَمَلِيَّاتُ التَّفْجِيرِيَّةُ وَالِانْتِحَارِيَّةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي بِلَادِنَا -حَفِظَهَا اللهُ- وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ يُعْتَبَرُ مَعْصِيَةً للهِ، وَمُحَادَّةً ظَاهِرَةً لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَفْعَالِهِ وَسِيرَتِهِ، فَقَدْ حَرَّمَ قَتْلَ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَحَرَّمَ قَتْلَ النَّفْسِ الْمُعَاهَدَةِ، وَحَرَّمَ الْكَذِبَ وَالْغَدْرَ وَالْخِيَانَةَ، وَحَرَّمَ الْخُرُوجَ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَتَرْكَ طَاعَتِهِ فِي الْمَعْرُوفِ، وَحَرَّمَ الِانْتِحَارَ.
وَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلُوهُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-؛ بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى فِي الْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ مَعَ الْكُفَّارِ عَنْ قَتْلِ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْقِتَالِ؛ كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالشُّيُوخِ، وَالْأُجَرَاءِ، وَالرُّهْبَانِ وَنَحْوِهِمْ.
فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ مُسْلِمِينَ آمِنِينَ أَوْ مُعَاهَدِينَ أُعْطُوا الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؟!!
إِنَّ قَتْلَ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَرْكَ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِي الْمَعْرُوفِ، وَالْخُرُوجَ عَلَيْهِ، وَالْغَدْرَ، وَالْخِيَانَةَ، مِمَّا تَوَاتَرَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بِتَحْرِيمِهِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ حِلِّهِ، وَتَجْرِيمِ فَاعِلِهِ، وَكُفْرِهِ إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ جِهَادًا؟!!
وَكَيْفَ يَكُونُ طَرِيقًا لِلْجَنَّةِ؟!!
إِنَّ مَنْ قَامُوا بِتِلْكَ الْجَرَائِمِ هُمْ عَلَى مَنْهَجِ وَطَرِيقَةِ مَنْ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -: ((سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ: أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَإِنَّ سَلَفَهُمْ هُمُ الَّذِينَ ثَارُوا عَلَى عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَتَلُوهُ، وَكَفَّرُوا عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَتَلُوهُ، ثُمَّ تَتَابَعَ خُرُوجُهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَمْكِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَإِنَّ سَلَفَهُمْ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُفِيدُوا مِنْ عِلْمِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَفَّرُوهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ وَسَمُّوا ذَلِكَ جِهَادًا!!
فَهَؤُلَاءِ سَلَفُهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُفِيدُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ الصَّالِحِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ رَمَوْهُمْ بِالْعَظَائِمِ، وَنَفَّرُوا النَّاسَ مِنْهُمْ، وَتَرَكُوا طَاعَةَ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ، وَحَمَلُوا السِّلَاحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِمَّا يَنْدَى لَهُ الْجَبِينُ.
وَإِنَّ الْخَطَرَ لَيَكْمُنُ فِيمَنْ يُغَذِّي هَؤُلَاءِ التَّكْفِيرِيِّينَ بِالْفِكْرِ الْمُنْحَرِفِ، وَيُحَرِّفُ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ عَنْ مَعَانِيهَا الْأَصْلِيَّةِ، وَدَلَالَاتِهَا الصَّحِيحَةِ؛ لِيُبَرِّرَ بِهَا تِلْكَ الْأَفْعَالَ الْإِجْرَامِيَّةَ.
وَقَدِيمًا كَانَ يُسَمَّى مَنْ يُغَذِّي الْخَوَارِجَ بِالْفِكْرِ وَلَا يُقَاتِلُ مَعَهُمْ (قَعَدَةَ الْخَوَارِجِ) أَوِ (الْخَوَارِجَ الْقَعَدَةُ)؛ أَيْ يَكْتَفُونَ بِالْفِكْرِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الْخُرُوجِ، وَيَتَوَلَّى الْأَتْبَاعُ مِنَ الشَّبَابِ مُهِمَّةَ الْقَتْلِ وَالتَّدْمِيرِ وَالِاغْتِيَالِ بِاسْمِ الْجِهَادِ، فَلْيُنْتَبَهْ لِلْخَوَارِجِ الْقَعَدَةِ؛ فَهُمْ كَثِيرٌ -لَا كَثَّرَهُمُ اللهُ-، وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُمْ وَفِتْنَتَهُمْ.
وَمِمَّا يَجْدُرُ ذِكْرُهُ أَنَّ الْجَمَاعَاتِ الْمُسَلَّحَةَ الْمُعَاصِرَةَ الَّتِي تُكَفِّرُ مُخَالِفِيهَا، وَتَرْضَى لِنَفْسِهَا بِالْخُرُوجِ عَلَى وُلَاةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَالشُّذُوذِ عَمَّا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتُهُمْ بِاسْتِحْلَالِ الدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ بِاسْمِ الْجِهَادِ، وَتَسْلُكُ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ طُرُقَ التَّفْجِيرِ وَالتَّدْمِيرِ الَّتِي شَوَّهَتْ صُورَةَ الْإِسْلَامِ، هَذِهِ الْجَمَاعَاتُ الْمُنْحَرِفَةُ الْمُعَاصِرَةُ الْمُسَلَّحَةُ تَرْتَكِزُ فِي أَفْكَارِهَا عَلَى أَفْكَارِ الْخَوَارِجِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَالرَّدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ رَدٌّ عَلَيْهِمْ.
فَمَفْهُومُ الْجِهَادِ فِي الْإِسْلَامِ شُوِّهَ، وَتَلَاعَبَ بِهِ مَنْ تَلَاعَبَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، حَتَّى صَارَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَصَارَ التَّدْمِيرُ وَالتَّفْجِيرُ وَإِشَاعَةُ الْفَوْضَى فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.. صَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَزُعِمَ أَنَّهُ أَقْصَرُ طَرِيقٍ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالتَّمَتُّعِ بِمَلَذَّاتِهَا وَبِالْحُورِ الْعِينِ!!
فَكَانَ لَا بُدَّ أَنْ يُصَحَّحَ هَذَا الْمَفْهُومُ؛ بِمَعْنَى أَنْ يُعَادَ إِلَى أَصْلِهِ الَّذِي قَرَّرَهُ اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ وَقَرَّرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي سُنَّتِهِ.
فِي كِتَابِ ((الْجِهَادُ فِي الْإِسْلَامِ)) : ((الْجِهَادُ فِي اللُّغَةِ: ((مَصْدَرُ جَاهَدَ جِهَادًا وَمُجَاهَدَةً، وَجَاهَدَ فَاعَلَ مِنْ جَهَدَ إِذَا بَالَغَ فِي قَتْلِ عَدُوِّهِ وَغَيْرِهِ، وَيُقَالُ: جَهَدَهُ الْمَرَضُ وَأَجْهَدَهُ إِذَا بَلَغَ بِهِ الْمَشَقَّةَ، وَجَهَدَتِ الْفَرَسُ وَأَجْهَدْتُهُ إِذَا اسْتَخْرَجْتُ جَهْدَهُ، وَالْجَهْدُ -بِالْفَتْحِ-: الْمَشَقَّةُ، وَ-بِالضَّمِّ-: الطَّاقَةِ، وَقِيلَ: يُقَالُ: بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ، فَمَادَّةُ (الْجِيمِ وَالْهَاءِ وَالدَّالِ) حَيْثُ وُجِدَتْ فَفِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ)) .
فَالْجِهَادُ فِي اللُّغَةِ: يَشْمَلُ كُلَّ جَهْدٍ يَبْذُلُهُ الْإِنْسَانُ، وَخُصُوصًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ.
وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَالْجِهَادُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالْآخَرُ خَاصٌّ:
فَأَمَّا الْعَامُّ: فَيَشْمَلُ الْعَمَلَ بِالْإِسْلَامِ، وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ، وَالدِّفَاعَ عَنْهُ وَإِعْزَازَهُ بِكُلِّ مُمْكِنٍ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الْجِهَادُ هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ -وَهُوَ الْقُدْرَةُ- فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ وَدَفْعِ مَا يَكْرَهُهُ الْحَقُّ)).
وَقَالَ -أَيْضًا-: ((الْجِهَادُ مِنْهُ مَا هُوَ بِالْيَدِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ بِالْقَلْبِ، وَالدَّعْوَةِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ وَالرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ وَالصِّنَاعَةِ، وَيَجِبُ بِغَايَةِ مَا يُمْكِنُهُ، وَيَجِبُ عَلَى الْقَعَدَةِ أَنْ يَخْلُفُوا الْغُزَاةَ فِي أَهْلِيهِمْ وَمَالِهِمْ)).
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: ((الْجِهَادُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَهْدِ وَهُوَ التَّعَبُ؛ فَمَعْنَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ: الْمُبَالَغَةُ فِي إِتْعَابِ النَّفْسِ فِي ذَاتِ اللهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَسَبِيلًا إِلَيْهَا، قَالَ -تَعَالَى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78])).
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((فَجَعَلَ اللهُ لِأَهْلِ مَحَبَّتِهِ عَلَامَتَيْنِ؛ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ، وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِنْ دَفْعِ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ)).
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَعْرِيفِ الْجِهَادِ: ((هُوَ بَذْلُ الْجَهْدِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَيُطْلَقُ -أَيْضًا- عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَالْفُسَّاقِ وَالشَّيْطَانِ)).
وَقَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ: ((وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى- إِنَّمَا هُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي إِذْلَالِ النَّفْسِ وَتَذْلِيلِهَا فِي سُبُلِ الشَّرْعِ، وَالْحَمْلِ عَلَيْهَا بِمُخَالَفَةِ الْهَوَى وَمِنَ الرُّكُونِ إِلَى الدَّعَةِ وَاللَّذَّاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ)) .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ -أَيْ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ لِلْجِهَادِ- قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}.
وَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].
وَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9].
وَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وَقَوْلُ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) - عِنْدَمَا سَأَلَ الرَّجُلُ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْجِهَادِ، فَقَالَ مُجِيبًا: ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)).
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)).
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: (( ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ))؛ أَيْ خُصَّهُمَا بِجِهَادِ النَّفْسِ فِي رِضَاهُمَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُتْعِبُ النَّفْسَ يُسَمَّى جِهَادًا، وَفِيهِ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ)).
فَهَذَا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى الْخَاصُّ لِلْجِهَادِ؛ فَيُرَادُ بِهِ جِهَادَ الْكُفَّارِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْجِهَادِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: ((فَكُلُّ مَنْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللهِ فَقَدْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ إِذَا أُطْلِقَ فَلَا يَقَعُ بِإِطْلَاقِهِ إِلَّا عَلَى مُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)).
وَقَدْ جَمَعَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- الْمَعْنَيَيْنِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَقَالَ: ((الْجِهَادُ هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ -وَالْوُسْعُ: الْقُدْرَةُ- فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ، وَدَفْعِ مَا يَكْرَهُهُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجِهَادَ حَقِيقَتُهُ الِاجْتِهَادُ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِنْ دَفْعِ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ)).
فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْجِهَادِ فِي اللُّغَةِ وَفِي الشَّرْعِ بِمَعْنَيَيْهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ)).
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((قِوَامُ الدِّينِ بِالْعِلْمِ وَالْجِهَادِ، وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ نَوْعَيْنِ: جِهَادٌ بِالْيَدِ وَالسِّنَانِ؛ وَهَذَا الْمُشَارِكُ فِيهِ كَثِيرٌ.
وَالثَّانِي: الْجِهَادُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ؛ وَهَذَا جِهَادُ الْخَاصَّةِ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، وَهُوَ جِهَادُ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْجِهَادَيْنِ؛ لِعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ، وَشِدَّةِ مَؤُونَتِهِ، وَكَثْرَةِ أَعْدَائِهِ، قَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيرًا}، فَهَذَا جِهَادٌ لَهُمْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْجِهَادَيْنِ)).
وَهُوَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا -أَيْ: جِهَادُ الْمُسْلِمِينَ لِلْمُنَافِقِينَ-؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا مَعُهُمْ فِي الظَّاهِرِ، وَرُبَّمَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ عَدُوَّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ بِالْحُجَّةِ وَالْقُرْآنِ)).
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ)) قَوْلَ بَعْضِهِمْ:
(وَمِدَادُ مَا تَجْرِي بِهِ أَقْلَامُهُمْ = أَزْكَى وَأَفْضَلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ)
(يَا طَالِبِي عِلْمَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ = مَا أَنْتُمُ وَسِوَاكُمُ بِسَوَاءِ)
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَمِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ سُلُوكُ طَرِيقِ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ؛ فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِذَلِكَ لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لَا يُوَازِنُهُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِحْيَاءِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَإِرْشَادِ الْجَاهِلِينَ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الشَّرِّ، وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي الْعِبَادُ عَنْهُ)).
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ- : «إِنَّ الْمُتَفَقِّهِينَ فِي دِينِ اللهِ يُوَازُونَ تَمَامًا الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ.
فَالْمُتَفَقِّهُ فِي دِينِ اللهِ وَهُوَ يَتَصَفَّحُ كُتُبَهُ، وَيَحْضُرُ إِلَى مَجَالِسِ الْعِلْمِ هُوَ كَالَّذِي يَتَفَقَّدُ قَوْسَهُ وَرُمْحَهُ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَالَّذِي يُعَرِّضُ بَصَرَهُ وَفِكْرَهُ وَقَلْبَهُ لِإِدْرَاكِ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ كَالَّذِي يُعَرِّضُ رَقَبَتَهُ لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ لِيُقَاتِلَهُمْ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا.
قَالَ: وَلَسْتُ أَقُولُ ذَلِكَ مُجَازَفَةً أَوْ مُحَابَاةً لَكُمْ، وَلَكِنِّي أَقُولُ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
فَتَأَمَّلْ أَخِي الطَّالِب -يَقُولُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-- قَوْلَ رَبِّكَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}؛ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} لَيْسَتْ تَعْلِيلًا لِلْفِرْقَةِ النَّافِرَةِ، وَلَكِنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلْفِرْقَةِ الْبَاقِيَةِ {لِيَتَفَقَّهُوا}؛ أَيْ الْقَاعِدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَنْفِرُوا لِلْجِهَادِ، {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
فَأَنْتُمُ الْآنَ -يَقُولُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ- لِطُلَّابِ الْعِلْمِ- فَأَنْتُمُ الْآنَ وَمَنْ فِي مَيْدَانِ الْقِتَالِ سَوَاءٌ)).
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ الرَّعِيَّةُ مِنْ وَجْهِ وَالرُّعَاةِ مِنْ وَجْهٍ؛ تَنَاقَصَتْ الْأُمُورُ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الرَّاعِي فِي إصْلَاحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ رُوِيَ: ((يَوْمٌ مِنْ إمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً)) .
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهُ ﷺ ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ)). الْحَدِيثَ، وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) : عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٍ، وَرَجُلٌ رَحِيمُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ غَنِيٌّ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ)) )).
فَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ مَفْهُومَ الْجِهَادِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَإِذَا جَاءَ مَنْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَيَجْعَلُ النَّاسَ عَلَى غَيْرِ صِرَاطٍ فَهَذَا لَا نَقُولُ فِيهِ إِلَّا اللهُ حَسِيبُهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
((مَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفَضَائِلُ الشُّهَدَاءِ))
لَقَدِ اقْتَضَتْ سُنَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ فَيَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ، وَيُعْلِي مِنْ شَأْنِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ بِعَطَايَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَقَامَ الشَّهَادَةِ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ الَّتِي يَمْتَنُّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ دَوَامًا فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَيُطِعِ الرَّسُولَ فِي السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا؛ فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ ذَوِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ، الْمُطِيعُونَ للهِ وَرَسُولِهِ فِي صُحْبَةِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَبِدُخُولِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ النَّبِّيِّينَ الَّذِينَ أَنْبَأَهُمُ اللهُ وَاخْتَارَهُمْ لِيُخْبِرُوا عَنْهُ -سُبْحَانَهُ- وَيُبَلِّغُوا شَرْعَهُ.
وَمَعَ كَثِيرِي الصِّدْقِ فِي إِيمَانِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِكُلِّ الدِّينِ.
وَالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقَّ وَعَلِمُوهُ كَعِلْمِ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَاسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ صَلَحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ.
وَنِعْمَتُ الصُّحْبَةُ صُحْبَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ النَّبِّيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي مَنَازِلِ الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الشَّهِيدُ: هُوَ الَّذِي قُتِلَ بَاذِلًا دَمَهُ وَنَفْسَهُ مِنْ أَجْلِ اللهِ، يُعَوِّضُهُ اللهُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْبَرْزَخِ -أَيْ قَبْلَ الْقِيَامَةِ-، وَفِي الْجَنَّةِ بَعْدَ الْقِيَامَةِ.
وَلَقَدْ خَصَّ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ الشُّهَدَاءَ بِمَنَاقِبَ عَدِيدَة؛ مِنْهَا:
*شَرَفُ مَكَانِهِمْ وَجِوَارِهِمْ، وَعَظِيمُ أَجْرِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19].
وَالشُّهَدَاءُ هُمُ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَبَذَلُوا أَنْفُسُهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَقُتِلُوا، لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَجْرٌ جَزِيلٌ وَنُورٌ عَظِيمٌ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَتَفَاوَتُونَ بِحَسَبِ مَا كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ الْأَعْمَالِ.
فَهَذِهِ الْمَكَانَةُ لِلشُّهَدَاءِ خَاصَّةً، وَلَا أَدَّلَ عَلَى عِظَمِ هَذَا الشَّرَفِ وَالْمَكَانَةِ مِنْ حِرْصِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِيُكْتَبَ لَهُ أَجْرُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْعَالِيَةِ؛فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:((لَوْلا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
*وَمِنْ فَضَائِلِ الشُّهَدَاءِ وَمَنَاقِبُهُمْ: أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنِ الشُّهَدَاءِ بِأَنَّهُمْ وَإِنْ قُتِلُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ حَيَّةٌ مَرْزُوقَةٌ فِي دَارِ الْقَرَارِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
وَلَا تَظُنَّنَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أُمَّتِهِ، أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ، يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَنَعَّمُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتُحَفِهَا.
إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانُوا رِجَالًا صَابِرِينَ، إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَوْنَهَا يَشْعُرُونَ بِسَعَادَةٍ عَظِيمَةٍ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 170].
وَهُمْ يَفْرَحُونَ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْهَجِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ الله مُخْلِصِينَ لَهُ لَحِقُوا بِهِمْ، وَنَالُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مِثْلَ الَّذِينَ نَالُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.
*وَمِنْ فَضَائِلِ الشُّهَدَاءِ: أَنَّ اللهَ بَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
إِنَّ اللهَ اشْتَرَى شِرَاءً جَازِمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمُ الَّتِي خَلَقَهَا، وَأَمْوَالَهُمُ الَّتِي رَزَقَهُمْ إِيَّاهَا، بِأَنْ يَبْذُلُوا طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ الْمَالَ؛ لِإِعْدَادِ وَسَائِلِ الْجِهَادِ، وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَرْضِ، وَيَبْذُلُوا النُّفُوسَ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَقَمْعِ الْكَفَرَةِ الْمُحَارِبِينَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، مُقَابِلَ ثَمَنٍ يَدْفَعُهُ لَهُمْ جَزْمًا هُوَ الْجَنَّةُ.
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، فَيَقْتُلُونَ أَعْدَاءَ اللهِ، وَيُسْتَشْهَدُونَ فِي سَبِيلِهِ، ذَلِكَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينِ فِي سَبِيلِهِ قَدْ أَثْبَتَهُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَفِي الْإِنْجِيلِ الْمُنَزَّلِ عَلَى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَلَا أَحَدَ أَوْفَى بِالْعَهْدِ مِنَ اللهِ لِمَنْ وَفَّى بِمَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ، فَافْرَحُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُبَايِعُونَ، وَاسْتَمْتِعُوا بِالسُّرُورِ الَّذِي يَنْزِلُ بِكُمْ؛ بِسَبَبِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي الْجَنَّةِ الَّذِي تَنَالُونَهُ عِوَضًا عَمَّا تَبْذُلُونَهُ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ رَبَّكُمْ.
وَذَلِكَ الْعِوَضُ الرَّفِيعُ الْمَنْزِلَةِ هُوَ وَحْدَهُ الرِّبْحُ الْكَبِيرُ، وَالظَّفَرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ وَلَا يَفُوقُهُ فَوْزٌ آخَرُ.
*وَمِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ إِكْرَامِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُمْ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ رِيحَ دَمِ الشَّهِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحُ الْمِسْكِ؛ ((فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: ((مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)) .
((مَا مِنْ مَكْلُومٍ)): مَجْرُوحٍ، ((يُكْلَمُ)): يُجْرَحُ، ((فِي سَبِيلِ اللهِ)): يَعْنِي بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ للهِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ.
((إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى)): أَيْ وَجُرْحُهُ يَثْعُبُ مِنْهُ الدَّمُ، وَيَسِيلُ كَهَيْئَتِهِ حِينَ جُرِحَ.
((اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)): اللَّوْنُ أَحْمَرُ كَلَوْنِ الدَّمِ، وَلَكِنَّ الرِّيحَ رِيحُ الْمِسْكِ وَلَيْسَ بِرِيحِ دَمٍ.
أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ، بِأَنْ كَانَ مُخْلِصًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، بَاذِلًا نَفْسَهُ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، طَائِعًا رَاجِيًا مِنَ اللهِ ثَوَابَهُ، خَائِفًا مِنْ عِقَابِهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَدْمَى -يَسِيلُ مِنْهُ الدَّمُ- كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ جُرِحَ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ.
وَهَذَا فِيهِ فَضِيلَةُ مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّ رَائِحَةَ دَمِهِ تَنْتَشِرُ فِي الْمَوْقِفِ، فَيَشُمُّهَا النَّاسُ جَمِيعًا كَأَنَّهَا رَائِحَةُ الْمِسْكِ.
فَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَمَا مَعْنَى فِي سَبِيلِ اللهِ؟
أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا للهِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي أَوْجَبَ جُرْحَهُ، وَأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ صَوَابًا عَلَى مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
فَإِذَا كَانَتِ النِّيَّةُ مَدْخُولَةً، أَوْ كَانَ الْعَمَلُ عَلَى غَيْرِ صَوَابٍ عَلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَلْمُهُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ)) .
يُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَا يُسَمُّونَهُ بِالْعَمَلِيَّاتِ الِاسْتِشْهَادِيَّةِ -وَهِيَ لَيْسَتْ بِاسْتِشْهَادِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ عَمَلِيَّاتٌ انْتِحَارِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ مَا يَأْتِي بِهِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ؛ بِإِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ الْبَرِيئَةِ، وَسَفْكِ الدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ، وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا هُدًى- يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ عَمَلَهُمْ بَاطِلٌ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِغَضَبِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ لِرِضَاهُ -كَمَا زَعَمُوا-.
وَلِهَذَا فَلْيَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلْيَتَّقِ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِينَ يُفْتُونَهُمْ بِجَوَازِ مَا عَمِلُوا مِنَ الْإِفْسَادِ، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِخَافٍ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.
قَالَ ﷺ: ((إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى)): يَنْزِلُ مِنْهُ الدَّمُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ جُرِحَ.
فَمَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَغَيُّرِ رَائِحَةِ الدَّمِ -وَإِنْ كَانَ اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ؟
السَّبَبُ طِيبُ النِّيَّةِ، فَكَمَا طَيَّبَ نِيَّتَهُ طَيَّبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَائِحَةَ دَمِهِ، فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَامْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَكَانَتْ نِيَّتُهُ طَيِّبَةً، فَطَيَّبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَائِحَةَ الدَّمِ، وَتِلْكَ الرَّائِحَةُ الْحَسَنَةُ يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ شَمَّهَا عَلَى حُسْنِ عَمَلِ صَاحِبِهَا، وَطِيبِ نِيَّتِهِ، وَإِخْلَاصِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
يُرِيدُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُظْهِرَ شَرَفَ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ الدَّمَ بِلَوْنِهِ، وَجَعَلَ الرَّائِحَةَ رَائِحَةَ الْمِسْكِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَوْقِفِ)) .
((الشَّهَادَةُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ))
إِنَّ الْمَكَانَةَ السَّامِيَةَ وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِلشُّهَدَاءِ لَا يَنَالُهَا إِلَّا شَهِيدُ الْحَقِّ، فَهُنَاكَ شَهِيدُ الْحَقِّ، وَقَتِيلُ الْبَاطِلِ، فَالشَّهِيدُ الْحَقُّ هُوَ مَنْ دَافَعَ عَنْ دِينِهِ وَوَطَنِهِ ضِدَّ كُلِّ مُعْتَدٍ، وَبَذَلَ رُوحَهُ؛ فِدَاءً لِدِينِهِ، وَتَضْحِيَةً مِنْ أَجْلِ وَطَنِهِ، وَحِمَايَةً لِتُرَابِهِ، وَدِفَاعًا عَنْ أَهْلِهِ.
إِنَّ بِلَادَنَا بِلَادٌ إِسْلَامِيَّةٌ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَمَا دَامَتْ بِلَادُنَا إِسْلَامِيَّةً فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِاسْتِقْرَارِهَا, وَاكْتِمَالِ أَمْنِهَا, وَيَجِبُ حِيَاطَتُهَا بالرِّعَايَةِ، وَالْحِفَاظِ وَالْبَذْلِ.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))-: ((حُبُّ الْوَطَنِ: إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).
الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.
أَمَّا قَتِيلُ الْبَاطِلِ -الَّذِي يَسْفِكُ دِمَاءَ الْأَبْرِيَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيُرَوِّعُ أَبْنَاءَ الْوَطَنِ، وَيُهَدِّدُ أَمْنَهُمْ وَأَمَانَهُمْ، وَيَسْعَى إِلَى نَشْرِ الْفَسَادِ وَالْفَوْضَى فِي الْأَرْضِ، وَيُرَوِّعُ الْآمِنِينَ بِعَمَلِيَّاتٍ انْتِحَارِيَّةٍ، وَتَفْجِيرَاتٍ إِرْهَابِيَّةٍ لَا يُقِرُّهَا دِينٌ، وَلَا يَقْبَلُهَا عَقْلٌ- لَا يُعَدُّ شَهِيدًا، وَوَصْفُهُ بِالشَّهِيدِ ادِّعَاءٌ كَاذِبٌ لَا صِحَّةَ لَهُ، وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَمَرَ بِجِهَادِ الكُفَّارِ تَحْتَ وِلَايَةٍ مِنْ وِلَايَاتِ المُسْلِمِينَ، أَمَّا التَّفْجِيرُ وَالتَّدْمِيرُ وَالقَتْلُ وَالتَّخْرِيبُ, وَالتَّفْزِيعُ وَالتَّرْوِيعُ؛ فَهَذَا مِمَّا يَنْهَى عَنْهُ الإِسْلَامُ؛ لِأَنَّهُ يُسَبِّبُ شَرًّا عَلَى المُسْلِمِينَ قَبْلَ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّهُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ بِدُونِ فَائِدَةٍ.
وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- حَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الأَنْفُسِ المَعْصُومَةِ وَالأَمْوَالِ المُحْتَرَمَةِ، وَحَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا، وَنَهَاهُمْ -تَعَالَى- أَنْ يَتَظَالَمُوا.
وَالوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَاوَنُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الأَمْنَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ، كَمَا أَنَّ فَقْدَهُ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ العَذَابِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَلَمْ تَشْكُرِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ أَذَاقَهَا اللهُ لِباسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ.
قَالَ تَعَالَى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
إِنَّ احْتِرَامَ دِمَاءِ النَّاسِ وَاحْتِرَامَ أَمْوَالِهِمْ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ شَرِيعَةُ الإِسْلَامِ، وَحُرْمَةُ الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ شَرَائِعُ اللهِ كُلُّهَا، وَأَكْمَلُهَا شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍﷺ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ القَتْلِ، وَبَيَانُ خَطَرِهِ فِي الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ:
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30].
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-:{مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
وَقَالَﷺ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ-أَيْ: نَصِيبٌ-مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ رَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَىﷺأَنَّهُ قَالَ لِلخَضِرِ: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [الكهف: 74].
وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 15- 16].
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»: عن سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ، سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِﷺيَقُولُ: «إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ، وَأَنْتُمْ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً، فَقَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]».
وَقَوْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ:«مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَمَا أَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ» يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى مَا جَاءَ عَنْ أَبِيهِ فِي «صَحِيحِ البُخَارِيِّ» أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ عَنْ دَمِ البَعُوضِ؛ فَقَالَ: «انْظُرُوا إِلَى هَذَا! يَسْأَلُنِي عَن دَمِ البَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّﷺ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّﷺيَقُولُ: «هُمَا-يَعْنِي الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا».
وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84].
وَقَالَ تَعَالَى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].
بَلْ إِنَّ اللهَ-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَرَّمَ تَحْرِيمًا أَكِيدًا أَنْ يَقْتُلَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ, وَقَدْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَفِي سُنَّةِ نَبِيِّهِﷺمَا هُوَ كَافٍ شَافٍ.
قَالَ اللهُ-جَلَّ وَعَلَا-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29- 30].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ -أَيْضًا-: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِﷺقَالَ: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فيه خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».
وَعِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّﷺ: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ».
وَكَذَلِكَ مَنْ فَجَّرَ نَفْسَهُ يُفَجِّرُهَا فِي النَّارِ, مَنْ أَدَّى عَمَلُهُ إِلَى شَيْءٍ يُذْهِبُ حَيَاتَهُ؛ فَهُوَ بِذَلِكَ يَفْعَلُهُ فِي النَّارِ؛ كَمَا قَالَ المُخْتَارُﷺ.
وَفِي هَذَا الحَدِيثِ فِي «مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ» وَغَيْرِهِ زِيَادَةٌ: «وَالَّذِي يَتَقَحَّمُ فِيهَا يَتَقَحَّمُ فِي النَّارِ».
وَفِي «صَحِيحَيِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ»: عَنِ الحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا جُنْدُبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي هَذَا المَسْجِدِ، فَمَا نَسِينَا، وَمَا نَخَافُ أَنْ نَنْسَى، وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدُبٌ عَلَى النَّبِيِّﷺ قَالَ: «كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ, فَقَالَ اللهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ؛ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ اْلجَنَّةَ».
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:«أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ بِهِ جِرَاحَةٌ فَأَتَى قَرْنًا لَهُ، فَأَخَذَ مِشْقَصًا فَذَبَحَ بِهِ نَفْسَهُ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّﷺ». وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.
يَقُولُ رَبُّنَا-جَلَّ وَعَلَا-: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}، وَهَذَا يَشْمَلُ قَتْلَ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ وَقَتْلَهُ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ, فَلَا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ, بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى نَفْسِهِ غَايَةَ المُحَافَظَةِ, وَلَا يَمْنَعُ هَذَا أَنَّهُ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَوْ تَعَرَّضَ لِلقَتْلِ وَالشَّهَادَةِ, أَمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَ نَفْسِهِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَفِي عَهْدِ النَّبِيِّﷺفِي بَعْضِ الغَزَوَاتِ كَانَ أَحَدُ الشُّجْعَانِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَعَ الرَّسُولِﷺ، فَقَالَ النَّاسُ مُثْنِينَ عَلَيْهِ: مَا أَبْلَى مِنَّا أَحَدٌ مِثْلَ مَا أَبْلَى فُلَانٌ, فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ ذَلِكَ الوَصْفِ: «هُوَ فِي النَّارِ»!!
هَذَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ, فَصَعُبَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ, كَيْفَ بِمِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يُقَاتِلُ وَلَا يَتْرُكُ مِنَ الكُفَّارِ أَحَدًا إلَّا تَبِعَهُ وَقَاتَلَهُ؛ كَيْفَ يَكُونُ فِي النَّارِ؟!!
فَتَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرَاقَبَهُ وَتَتَّبَعَهُ، فَجُرِحَ الرَّجُلُ, وَفِي النِّهَايَةِ رَآهُ وَضَعَ غِمْدَ السَّيْفِ عَلَى الأَرْضِ، وَجَعَلَ ذُبَابَةَ السَّيْفِ تَحْتَ ثَدْيِهِ الأَيْسَرِ، ثُمَّ اتَّكَأَ مُتَحَامِلًا عَلَى سَيْفِهِ، فَدَخَلَ السيفُ مِنْ صَدْرِهِ، وَخَرَجَ مِن ظَهْرِهِ؛ فَمَاتَ؛ فَقَالَ الصَّحَابيُّ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِﷺ, وَعَرَفُوا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى .
لِمَاذَا دَخَلَ النَّارَ مَعَ هَذَا العَمَلِ؟! وَكَانَ يُجَاهِدُ, لَا يَدَعُ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً, وَلَمْ يُبْلِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا أَبْلَاهُ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا انْتَحَرَ-فَلَمَّا قَتَلَ نَفْسَهُ-؛ دَخَلَ النَّارَ -وَالعِيَاذُ بِالعَزِيزِ الغَفَّارِ-, قَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَم يَصْبِرْ!!
فَلَا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ بِحُجَّةِ الجِهَادِ، بِحُجَّةِ البَحْثِ عَنِ الشَّهَادَةِ، بِحُجَّةِ أَنَّهَا مِنَ العَمَلِيَّاتِ الِاسْتِشْهَادِيَّةِ، بَلْ هِيَ عَمَلِيَّاتٌ انْتِحَارِيَّةٌ، وَلَا تَجُوزُ فِي أَيِّ دِينٍ، هَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ.
وَالَّذِي يَمْلكُ تَفْنِيدَ الأَدِلَّةِ مِنَ الإِثْخَانِ فِي العَدُوِّ وَالتُّرْسِ وَمَا أَشْبَهَ، الَّذِي يَمْلِكُ الجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ هُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَحْمِلُ الحَمْلَةَ الشَّعْوَاءَ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ جَوَابًا عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ.
فَخَلُّوا -عِبَادَ اللهِ- عَنْ أَهْلِ العِلْمِ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا مَعَ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ المَعْرَكَةَ مَعْرَكَةُ عَقِيدَةٍ، لَا يُفْلِحُ فِي خَوْضِهَا الزَّائِغُونَ، وَلَا المُنْحَرِفُونَ، وَلَا المُتَحَلِّلُونَ، وَلَا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الدِّينَ، وَلَا الَّذِينَ يَنْسِفُونَ تُرَاثَ المُسْلِمِينَ، هَؤُلَاءِ يَزِيدُونَ النَّارَ اشْتِعَالًا؛ لِأَنَّ الشَّابَّ إِذَا رَأَى مَنْ يُهَرْطِقُ فِي دِينِ اللهِ، وَيُجَدِّفُ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُكَفِّرُهُ.
ثُمَّ كَمَا هِيَ القَاعِدَةُ عِنْدَ التَّكْفِيرِيِّينَ: يَسْحَبُ ذَيْلَ التَّكْفِيرِ فَيَقُولُ: إِنَّ السُّلْطَةَ الَّتِي لَا تَمْنَعُ هَذَا الزِّنْدِيقَ المُهَرْطِقَ المُجَدِّفَ الَّذِي يَحْمِلُ عَلَى دِينِ اللهِ، وَيَنْسِفُ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَصْفُهَا كوَصْفِهِ!!
ثُمَّ يَقُولُ: وَالمُجْتَمَعُ الَّذِي يَسْكُتُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ وَصْفُهُ كَوَصْفِ السُّلْطَةِ وَوَصْفِ المُهَرْطِقِ!! وَمِنْ هُنَا انْسَحَبَ ذَيْلُ التَّكْفِيرِ عَلَى المُجْتَمَعِ كُلِّهِ!!
اتَّقُوا اللهَ!
اتَّقُوا اللهَ فِي هَذَا البَلَدِ!
اتَّقُوا اللهَ فِي مُسْتَقْبَلِ الإِسْلَامِ فِيهِ!
اتَّقُوا اللهَ فِي الدِّمَاءِ!
إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
يَقُولُ المَأْمُونُﷺ:«لَا يَزَالُ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا».أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
فَاحْتِرَامُ الأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَالسَّعْيُ فِي زَعْزَعَةِ أَمْنِ الأُمَّةِ إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ أُنَاسٍ فَهِمُوا الإِسْلَامَ عَلَى غَيْرِ فَهْمِهِ الشَّرْعِيِّ، وَجَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ وَزَيَّنَ لَهُمُ البَاطِلَ؛ فَظَنُّوهُ حَقًّا، وَذَلِكَ مِنْ قُصُورِ الإِيمَانِ وَالعِلْمِ، قَالَ-جَلَّ وَعَلَا-: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].
وَمَا أَرَادُوهُ إِلَّا لِكَيْدِ الأُمَّةِ وَالنَّيْلِ مِنْهَا، وَزَعْزَعَةِ دَوْلَةِ الإِسْلَامِ، وَمَحَبَّةِ إِظْهَارِ الفَوْضَى فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَهَؤُلَاءِ جَهَلَةٌ خُدِعُوا وَغُرِّرَ بِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى اتِّقَاءِ هَذِهِ المَصَائِبِ العَظِيمَةِ، وَأَعْدَاءُ الأُمَّةِ سَاعُونَ فِي الإِضْرَارِ بِالأُمَّةِ بِكُلِّ مَا أُوتُوا؛ بِالمَكَائِدِ مِنْ قِيلَ وَقَالَ، وَأَرَاجِيفَ وَإِشَاعَاتٍ بَاطِلَةٍ، وَمِنْ إِيحاءٍ لِضِعَافِ البَصَائِرِ؛ لِيَسْتَغِلُّوهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ وَلِيَجْعَلُوهُمْ سَبَبًا لِحُصُولِ مَا يَحْصُلُ مِنَ النَّكَبَاتِ لِلأُمَّةِ.
فَاليَقَظَةُ وَالِانْتِبَاهُ وَاجِبَانِ لِمَعْرِفَةِ مُخَطَّطَاتِ أَعْدَاءِ الإِسْلَامِ، وَلْيَكُنِ المُسْلِمُونَ عَلَى حَذَرٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ، فَإِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ لَا يُرِيدُونَ لَنَا نُصْحًا، وَإِنَّمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُوقِعُوا بَيْنَنَا العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ.
فَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ أَنْ يَكُونَ مَطِيَّةً لِأَعْدَائِهِ؛ يُوَجِّهُهُ الأَعْدَاءُ كَيْفَ شَاءُوا، وَلْيَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ بِدِينِهِ، وَلْيَسْتَقِمْ عَلَى الخَيْرِ، وَلْيَتَعَاوَنِ المُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى.
وَلْيَحْذَرِ المُسْلِمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا لِكُلِّ مُجْرِمٍ وَلِكُلِّ مُفْسِدٍ، فَإِنَّهَا تُخِلُّ بِالأَمَانَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَأَمْنُ هَذَا البَلَدِ عُمُومًا مَسْئُولِيَّةُ كُلِّ فَرْدٍ مِنَّا، حَمَى اللهُ بِلَادَ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَجَنَّبَهَا المَهَالِكَ، وَكَفَاهَا شَرَّ الأَعْدَاءِ، وَبَصَّرَ الأُمَّةَ فِي دِينِهَا.
((التَّحْذِيرُ مِنْ خُطَّةِ رَدِّ الِاعْتِدَاءِ الْقُطْبِيَّةِ الْإِخْوَانِيَّةِ))
عِبَادَ اللهِ! مَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ صَاحِبِ عَقِيدَةٍ يَحْرِصُ عَلَى بَثِّهَا، وَالْإِعْلَانِ بِهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَابَةُ بِـ«لَا»، فَمَا حُكْمُ قَتْلِ الْأَبْرِيَاءِ، وَمَا السِّرُّ فِي إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ؟!!
خُطَّةُ رَدِّ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَمَا وَضَعَهَا سَيِّدُ قُطْبٍ، قَالَ: ((كَمَا تَقَدَّمَ كُنَّا قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى عَدَمِ اسْتِخْدَامِ الْقُوَّةِ لِقَلْبِ نِظَامِ الْحُكْمِ، وَفَرْضِ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ أَعْلَى، وَاتَّفَقْنَا فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ عَلَى مَبْدَأِ رَدِّ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَنْهَجُهَا إِذَا وَقَعَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهَا بِالْقُوَّةِ، وَكَانَ أَمَامَنَا الْمَبْدَأُ الَّذِي يُقَرِّرُهُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وَكَانَ الِاعْتِدَاءُ قَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا بِالْفِعْلِ، فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ، وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ؛ بِالِاعْتِقَالِ وَالتَّعْذِيبِ، وَإِهْدَارِ كُلِّ كَرَامَةٍ آدَمِيَّةٍ فِي أَثْنَاءِ التَّعْذِيبِ، ثُمَّ بِالْقَتْلِ، وَتَخْرِيبِ الْبُيُوتِ، وَتَشْرِيدِ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَلَكِنَّنَا كُنَّا قَرَّرْنَا أَنَّ هَذَا الْمَاضِيَ قَدِ انْتَهَى أَمْرُهُ، فَلَا تَفَكُّرَ فِي رَدِّ الِاعْتِدَاءِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْأَلَةُ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْنَا الْآنَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقَرَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِ إِذَا وَقَعَ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ لَمْ نَكُنْ نَمْلُكُ أَنْ نَرُدَّ بِالْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ ذَاتَهُ لَا يُبِيحُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُعَذِّبَ أَحَدًا، وَلَا أَنْ يُهْدِرَ كَرَامَةَ الْآدَمِيِّ، وَلَا أَنْ يَتْرُكَ أَطْفَالَهُ وَنِسَاءَهُلِلْجُوعِ، وَحَتَّى الَّذِينَ تُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحُدُودُ فِي الْإِسْلَامِ وَيَمُوتُونَ تَتَكَفَّلُ الدَّوْلَةُ بِنِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِينَا مِنْ وَسَائِلِ رَدِّ الِاعْتِدَاءِ الَّتِي يُبِيحُهَا لَنَا دِينُنَا إِلَّا الْقِتَالَ وَالْقَتْلَ!!
أَوَّلًا: لِرَدِّ الِاعْتِدَاءِ حَتَّى لَا يُصْبِحَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَهْلِهَا سَهْلًا يُزَاوِلُهُ الْمُعْتَدُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ.
وَثَانِيًا: لِمُحَاوَلَةِ إِنْقَاذِ وَإِفْلَاتِ أَكْبَرِ عَدَدٍ مُمْكِنٍ مِنَ الشَّبَابِ الْمُسْلِمِ النَّظِيفِ الْمُتَمَاسِكِ الْأَخْلَاقِ فِي جِيلٍ كُلُّهُ إِبَاحِيَّةٌ، وَكُلُّهُ انْحِلَالٌ، وَكُلُّهُ انْحِرَافٌ فِي التَّعَامُلِ وَالسُّلُوكِ، كَمَا هُوَ دَائِرٌ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَشَائِعٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَلَامٍ.
لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مُجْتَمِعَةً فَكَّرْنَا فِي خُطَّةٍ وَوَسِيلَةٍ تَرُدُّ الِاعْتِدَاءَ.
وَالَّذِي قُلْتُهُ لَهُمْ -يَعْنِي لِأَفْرَادِ التَّنْظِيمِ الَّذِي أَنْشَأَهُ- لِيُفَكِّرُوا فِي الْخُطَّةِ وَالْوَسِيلَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ سَيَقُومُونَ بِهَا بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ إِمْكَانِيَّاتٍ لَا أَمْلِكُ أَنَا مَعْرِفَتَهَا بِالضَّبْطِ وَلَا تَحْدِيدَهَا، الَّذِي قُلْتُهُ لَهُمْ أَنَّنَا إِذَا قُمْنَا بِرَدِّ الِاعْتِدَاءِ عِنْدَ وُقُوعِهِ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي ضَرْبَةٍ رَادِعَةٍ تُوقِفُ الِاعْتِدَاءَ، وَتَكْفُلُ سَلَامَةَ أَكْبَرِ عَدَدٍ مِنَ الشَّبَابِ الْمُسْلِمِ.
وَوَفْقًا لِهَذَا جَاءُوا فِي اللِّقَاءِ التَّالِي وَمَعَ أَحْمَدَ عَبْدِ الْمَجِيدِ قَائِمَةٌ بِاقْتِرَاحَاتٍ تَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَكْفِي لِشَلِّ الْجِهَازِ الْحُكُومِيِّ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِخْوَانِ فِي حَالَةِ مَا إِذَا وَقَعَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ كَمَا وَقَعَ فِي الْمَرَّاتِ السَّابِقَةِ، لِأَيِّ سَبَبٍ، إِمَّا بِتَدْبِيرِ حَادِثٍ كَحَادِثِ الْمَنْشِيَّةِ الَّذِي كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْإِخْوَانَ لَمْ يُدَبِّرُوهُ، أَوْ مَذْبَحَةِ طُرَةَ الَّتِي كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا دُبِّرَتْ لِلْإِخْوَانِ تَدْبِيرًا، أَوْ لِأَيِّ أَسْبَابٍ أُخْرَى تَجْهَلُهَا الدَّوْلَةُ أَوْ تُدَسُّ عَلَيْهَا وَتَجِيءُ نَتِيجَةَ مُؤَامَرَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَحَلِّيَّةٍ.
وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ هِيَ الرَّدُّ فَوْرَ وُقُوعِ اعْتِقَالَاتٍ لِأَعْضَاءِ التَّنْظِيمِ، بِإِزَالَةِ رُؤُوسٍ فِي مُقَدِّمَتِهَا رَئِيسُ الْجُمْهُورِيَّةِ، وَرَئِيسُ الْوِزَارَةِ، وَمُدِيرُ مَكْتَبِ الْمُشِيرِ، وَمُدِيرُ الْمُخَابَرَاتِ، وَمُدِيرُ الْبُولِيسِ الْحَرْبِيِّ!!
ثُمَّ بِنَسْفٍ لِبَعْضِ الْمُنْشَآتِ الَّتِي تَشُلُّ حَرَكَةَ مُوَصِّلَاتِ الْقَاهِرَةِ؛ لِضَمَانِ عَدَمِ تَتَبُّعِ بَقِيَّةِ الْإِخْوَانِ فِيهَا وَفِي خَارِجِهَا، كَمَحَطَّةِ الْكَهْرُبَاءِ، وَالْكَبَارِي!!
وَقَدِ اسْتَبْعَدْتُ فِيمَا بَعْدُ نَسْفَ الْكَبَارِي كَمَا سَيَجِيءُ، وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا إِذَا أَمْكَنَ سَيَكُونُ كَفِيلًا كَضَرْبَةٍ رَادِعَةٍ وَرَدٍّ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَرَكَةِ، وَهُوَ الِاعْتِدَاءُ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي الِاعْتِقَالِ وَالتَّعْذِيبِ وَالْقَتْلِ وَالتَّشْرِيدِ، كَمَا حَدَثَ مِنْ قَبْلُ، وَلَكِنْ مَا هِيَ الْإِمْكَانِيَّاتُ الْعَمَلِيَّةُ عِنْدَكُمْ لِلتَّنْفِيذِ؟
قَالَ: وَظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَدَيْهِمُ الْإِمْكَانِيَّاتُ اللَّازِمَةُ)).
كَانَ هَذَا قَدِيمًا فِي مُنْتَصَفِ السِّتِّينِيَّاتِ، فَلَعَلَّ الْإِمْكَانِيَّاتُ قَدْ تَوَفَّرَتِ الْآنَ وَصَارَتْ بَيْنَ الْأَيْدِي؟!!
قَالَ: ((إِنَّ بَعْضَ الشَّخْصِيَّاتِ كَرَئِيسِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَرَئِيسِ الْوِزَارَةِ، وَرُبَّمَا غَيْرُ هَذَيْنِ عَلَيْهِمْ حِرَاسَةٌ قَوِيَّةٌ لَا تَجْعَلُ التَّنْفِيذَ مُمْكِنًا، فَضْلًا عَنْ أَنَّ مَا لَدَيْهِمْ مِنَ الرِّجَالِ المُدَرَّبِينَ وَالْأَسْلِحَةِ اللَّازِمَةِ غَيْرَ كَافٍ لِمِثْلِ هَذِهِ الْعَمَلِيَّاتِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اتُّفِقَ عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي التَّدْرِيبِ، بَعْدَمَا كُنْتُ مِنْ قَبْلُ أَرَى تَأْجِيلَهُ وَلَا أَتَحَمَّسُ لَهُ، بِاعْتِبَارِهِ الْخُطْوَةَ الْأَخِيرَةَ فِي خَطِّ الْحَرَكَةِ وَلَيْسَ الْخُطْوَةَ الْأُولَى، ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ هُنَاكَ نُذُرٌ مُتَعَدِّدَةٌ تُوحِي بِأَنَّ هُنَاكَ ضَرْبَةً لِلْإِخْوَانِ مُتَوَقَّعَةً، وَالضَّرْبَةُ كَمَا جَرَّبْنَاهَا مَعْنَاهَا التَّعْذِيبُ وَالْقَتْلُ وَخَرَابُ الْبُيُوتِ، وَتَشَرُّدُ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ)).
ثُمَّ ذَكَرَ تَدْمِيرَ الْقَنَاطِرِ الْخَيْرِيَّةِ الْجَدِيدَةِ، وَكَذَا ذَكَرَ تَدْمِيرَ بَعْضِ الْجُسُورِ وَالْكَبَارِي كَعَمَلِيَّةِ تَعْوِيقٍ.
وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَصِّلَاتِ، مَعَ قَطْعِ الطُّرُقِ بِوَسَائِلَ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِشَلِّ مَفَاصِلِ الْبَلَدِ، وَشَلِّ مَفَاصِلِ الْجِهَازِ الْحُكُومِيِّ.
قَالَ: ((وَلَكِنِّي اسْتَبْعَدْتُ ذَلِكَ.
قَالَ: وَكَانَ حَدِيثِي مَعَهُمْ عَنْ أَهْدَافِ الصُّهْيُونِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مِنْ تَدْمِيرِ الْمَنْطِقَةِ:
أَوَّلًا: مِنْ نَاحِيَةِ الْعُنْصُرِ الْبَشَرِيِّ، بِإِشَاعَةِ الِانْحِلَالِ الْعَقِيدِيِّ وَالْأَخْلَاقِيِّ.
ثَانِيًا: مِنْ نَاحِيَةِ تَدْمِيرِ الِاقْتِصَادِ.
وَأَخِيرًا: بِالتَّدْمِيرِ الْعَسْكَرِيِّ))؛ بِتَدْمِيرِ الْجَيْشِ، وَتَفْكِيكِهِ، وَهِيَ خُطَّةٌ أَمْرِيكِيَّةٌ مَعْلُومَةٌ الْآنَ لِكُلِّ أَحَدٍ إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَيْنَ بَصِيرَتِهِ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَحْوِيلَ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ إِلَى جَيْشٍ مُقَاوِمٍ لِلْإِرْهَابِ، لَا يَعْدُو ذَلِكَ وَلَا يَتَجَاوَزُهُ، فَلَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى صَدِّ اعْتِدَاءٍ، وَلَا عَلَى بَدْءِ هُجُومٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ -فَقَطْ- مِنْ أَجْلِ مُحَارَبَةِ التَّطَرُّفِ؛ مِنْ أَجْلِ مُكَافَحَةِ الْإِرْهَابِ، الَّذِي يُشِيعُونَهُ فِي هَذَا الْقُطْرِ الْآمِنِ، ثُمَّ يُحَوِّلُونَ الْجَيْشَ إِلَى مُحَارِبٍ لِذَلِكَ الْإِرْهَابِ حَتَّى يَتَفَكَّكَ، وَحَتَّى يَحْدُثَ فِيهِ مَا يَحْدُثُ مِنَ التَّمَزُّقِ، ثُمَّ مَاذَا بَعْدُ؟!!
ثُمَّ تَأْتِي الْهَيْمَنَةُ الصُّهْيُوصَلِيبِيَّةُ عَلَى الْمَنْطَقَةِ كُلِّهَا لِتَحْقِيقِ الْحُلْمِ الْمَنْشُودِ.
قَالَ: ((قَالَ الْأَخُ عَلِيُّ عَشْمَاوِيٍّ: أَلَا يُخْشَى أَنْ نَكُونَ فِي حَالَةِ تَدْمِيرِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ وَالْكَبَارِي مُسَاعِدِينَ عَلَى تَنْفِيذِ الْمُخَطَّطَاتِ الصُّهْيُونِيَّةِ مِنْ حَيْثُ لَا نَدْرِي وَلَا نُرِيدُ؟!!
قَالَ: وَنَبَّهَتْنَا هَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ إِلَى خُطُورَةِ الْعَمَلِيَّةِ، فَقَرَّرْنَا اسْتِبْعَادَهَا، وَالِاكْتِفَاءَ بِأَقَلِّ قَدْرٍ مُمْكِنٍ مِنْ تَدْمِيرِ الْمُنْشَآتِ فِي الْقَاهِرَةِ؛ لِشَلِّ حَرَكَةِ الْأَجْهِزَةِ الْحُكُومِيَّةِ عَنِ الْمُتَابَعَةِ؛ إِذْ إِنَّ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الْهَدَفُ مِنَ الْخُطَّةِ.
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ فِي هَذَا كُلِّهِ سَوَاءً فِي الْقَضَاءِ عَلَى أَشْخَاصٍ أَوْ مُنْشَآتٍ)).
لَمْ يَتَعَدَّ التَّذْكِيرَ النَّظِيرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَكِنَّهُ يَتَعَدَّاهُ فِي أَوْقَاتٍ أُخْرَى!!
فَمِنْ هَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ حَقِيقَةَ مَا يَدُورُ، وَمِنْ هَذَا كُلِّهِ وَمِنَ التَّأَمُّلِ الْوَاعِي فِي خُطَّةِ رَدِّ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَعَ اعْتِبَارِ مَا وَقَعَ اعْتِدَاءً صَارِخًا وَانْتِهَاكًا حَقِيقِيًّا لِهَذِهِ الْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، يُبِيحُ لِلْحَرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تَسْتَخْدِمَ جَمِيعَ الْوَسَائِلِ مِنْ مَشْرُوعٍ وَغَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَالْحَصِيلَةُ النِّهَائِيَّةُ فَوْضَى عَارِمَةٌ، وَتَفَكُّكٌ لِأَوَاصِرِ الدَّوْلَةِ حَتَّى تَنْهَارَ الدَّوْلَةُ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الْأُمُورِ إِلَى أُصُولِهَا، وَأَنْتَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَفْهَمَ ظَاهِرَةً فَلْتَعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَةَ لَا تَكُونُ ظَاهِرَةً تُبْصِرُهَا الْأَعْيُنُ، وَتَلْمَسُهَا الْأَيْدِي، وَتُحِسُّهَا الْأَنْفُسُ بِيَقِينٍ إِلَّا بَعْدَ أَزْمِنَةٍ مُتَفَاوِتَةٍ، تَطُولُ وَتَقْصُرُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَةَ إِنَّمَا تَبْدَأُ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَيْثُ لَا تُرَى، فَإِذَا مَا ظَهَرَتْ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ جُذُورَهَا فِي الْأَرْضِ قَدْ ضَرَبَتْ وَتَغَلْغَلَتْ وَبَعُدَتْ، فَحِينَئِذٍ تَبْدُو لَكَ الظَّاهِرَةُ، فَإِذَا مَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا عَلَى أَنَّهَا مَا يَبْدُو لَكَ فَقَدْ أَخْطَأْتَ الْخَطَأَ الْفَادِحَ الْقَاتِلَ الَّذِي لَا دَوَاءَ لَهُ.
أَلَا إِنَّ مَا يَحْدُثُ هُوَ كَكُرَةِ الثَّلْجِ الْمُتَدَحْرِجَةِ؛ فَإِنَّهَا تَمْضِي فِي طَرِيقِهَا تَزْدَادُ كُتْلَةً وَحَجْمًا، حَتَّى تَقَرَّ عَلَى قَرَارِهَا الْهَابِطِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ، وَإِذَا لَمْ يُتَدَارَكْ هَذَا الْأَمْرُ مَعَ تَقْوَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ مِنْ أَوْخَمِ مَا يَكُونُ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُسَلِّمَ بِلَادَنَا وَجَمِيعَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
((تَجْرِيمُ الْأَعْمَالِ الْإِرْهَابِيَّةِ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ))
الشَّرْعُ وَالعَقْلُ وَالفِطْرَةُ؛ كُلُّ ذَلِكَ رَافِضٌ لِلْأَعْمَالِ الإِجْرَامِيَّةِ؛ رَافِضٌ لِلتَّدْمِيرِ وَلِلتَّفْجِيرِ وَلِلتَّخْرِيبِ وَلِإِشَاعَةِ الفَوْضَى فِي البِلَادِ.
* فَالنُّصُوصُ القُرْآنِيَّةُ وَالنُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ:دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ احْتِرَامِ المُسْلِمِينَ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ عَهْدٌ وَأَمَانٌ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ بَيْنَهُمْ؛ فَأَمْوَالُهُم مُحَرَّمَةٌ، وَدِمَاؤُهُمْ كَذَلِكَ وَأَعْرَاضُهُمْ.
احْتِرَامُ هَؤُلَاءِ المُعَاهَدِينَ وَالمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ غَيْرِ المُسْلِمِينَ دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلَامِيِّ العَظِيمِ، وَهُوَ مِنَ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
* وَأَمَّا العَقْلُ:فَقَدْ دَلَّ عَلَى رَفْضِ وَمَقْتِ الأَعْمَالِ الإِجْرَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ العَاقِلَ لَنْ يَتَصَرَّفَ أَبَدًا فِي شَيْءٍ مُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ سُوءَ النَّتِيجَةِ وَالعَاقِبَةِ، يَعْلَمُ الإِنْسَانُ العَاقِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مُبَاحٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ مَا نَتِيجَتُهُ، وَمَاذَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُحَرَّمًا؟!!
* وَأَمَّا مُخَالَفَتُهَا لِلفِطْرَةِ:فَإِنَّ كُلَّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ يَكْرَهُ العُدْوَانَ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَرَاهُ مِنَ المُنْكَرِ.
مَا ذَنْبُ المُصَابِينَ فِي الْحَوَادِثِ الْإِرْهَابِيَّةِ؟!!
مَا ذَنْبُ الآمِنِينَ؟!!
مَا ذَنْبُ المُصَابِينَ مِنَ المُعَاهَدِينَ وَالمُسْتَأْمَنِينَ وَغَيْرِهِمْ؟!!
مَا ذَنْبُ الأَطْفَالِ؟!!
مَا ذَنْبُ الأَشْيَاخِ؟!!
مَا ذَنْبُ العَجَائِزِ؟!!
لِمَاذَا يَقْتُلُونَ النِّسَاءَ، وَيَقْتُلُونَ الصِّبْيَانَ، وَيَقْتُلُونَ المَرْضَى وَالشُّيُوخَ؟!!
لِمَاذَا يُدَّمِّرُونَ وَيُخَرِّبُونَ، وَيَعِيثُونَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا؟!!
كُلُّ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي حَالِ الحَرْبِ وَالقِتَالِ، فَكَيْفَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الحَالِ؟!!
النبيُّ ﷺ بُعِثَ بِدِينِ السَّلَامِ، بِدِينِ الرَّحْمَةِ، بِالدِّينِ العَظِيمِ الَّذِي يُؤَلِّفُ وَيُجَمِّعُ، وَلَا يُنَفِّرُ وَلَا يُفَرِّقُ، هُوَ دِينُ الحَقِّ دِينُ اللهِ، فَإِذَا مَا جَعَلَهُ أَبْنَاؤُهُ بِهَذِهِ المَثَابَةِ؛ فَإِلَى اللهِ المُشْتَكَى، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيلُ.
إِنَّ هَذَا الدِّينَ العَظِيمَ لَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ قَطُّ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى أَحَدٍ وَلَوْ فِي مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يُوَفَّ حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّمَا هُوَ القِصَاصُ فِي الآخِرَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَبْعَثُ الخَلَائِقَ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَقْضِي بَيْنَهَا؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي خِطَابِهِ، يَبْعَثُ اللهُ -تَعَالَى- الخَلَائِقَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَقْضِي رَبُّنَا بَيْنَهَا بِالحَقِّ وَالعَدْلِ وَالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ.
حَتَّى لَيَفْصِلَ رَبُّكَ بَيْنَ الشَّاةِ الجَلْحَاءِ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا وَالشَّاةِ القَرْنَاءِ الَّتِي لَهَا قَرْنٌ، فَنَطَحَتْ بِهِ ضَرْبًا الجَلْحَاءَ، وَلَمْ يُقْتَدْ وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهَا هَاهُنَا، يَقْتَصُّ اللهُ -تَعَالَى- لَهَا، يَقْتَصُّ مِنَ القَرْنَاءِ لِلجَلْحَاءِ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَالحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي «الصَّحِيحِ»؛ فيُنشئُ للجَلْحَاءِ قَرْنَيْنِ، فَتَضْرِبُ الأُخْرَى كَمَا ضَرَبَتْهَا، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا.
إِنَّهُ العَدْلُ الَّذِي لَا عَدْلَ فَوْقَهُ.
إِنَّهُ الحَقُّ الَّذِي لَا حَقَّ بَعْدَهُ.
وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ دِينًا أَهَانَهُ أَهْلُهُ، وَظَلَمَهُ أَبْنَاؤُهُ كَالإِسْلَامِ العَظِيمِ، فَمَا أَكْثَرَ مَا شَوَّهَهُ بَعْضُ مَنِ انْتَمَى إِلَيْهِ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِ ظُلْمًا وَزُورًا وَبُهْتَانًا.
لَا يُعْلَمُ دِينٌ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَرَّطَ فِيهِ أَقْوَامٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ كَهَذَا الدِّينِ العَظِيمِ، كَأَنَّمَا يَسْعَوْنَ جَاهِدِينَ لِتَشْوِيهِ الدِّينِ العَظِيمِ، الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، يُشَوِّهُونَهُ فِي أَعْيُنِ المُسْلِمِينَ الجَاهِلِينَ، وَغَيْرِ المُسْلِمِينَ.
إِنَّ اللهَ رَفَعَ عَنْ أُمَّةِ الإِسْلَامِ العَنَتَ وَالحَرَجَ، وَإِنَّ نُصْرَةَ دِينِ اللهِ -تَعَالَى- وَإِعْزَازَ شَرِيعَتِهِ؛ لَا تَكُونُ بِبَثِّ الخَوْفِ وَالرُّعْبِ أَوِ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، وَلَا تَكُونُ بِإِلْقَاءِ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَلَا تَكُونُ بِالتَّضْحِيَةِ بِالنَّفْسِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، فَكُلُّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ دِينُ الإِسْلَامِ الحَنِيفِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الإِسْلَامُ لِيَحْمِيَ لِلنَّاسِ ضَرُورَاتِهِمْ، وَيَعْمَلَ عَلَى حِفْظِهَا، وَيَنْشُرَ الأَمْنَ وَالعَدْلَ وَالسَّعَادَةَ وَالسَّلَامَ فِي صُفُوفِ مُجْتَمَعَاتِهِ.
((التَّضْحِيَةُ بِالرُّوحِ دِفَاعًا عَنِ الْوَطَنِ))
أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! إِنَّ بُلُوغَ الْأَهْدَافِ الْكُبْرَى وَنَيْلَ الْغَايَاتِ الْعُظْمَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ يَسْتَلْزِمُ مِنَ التَّضْحِيَاتِ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ سُمُوِّ الْأَهْدَافِ وَشَرَفِ الْمَقَاصِدِ وَنُبْلِ الْغَايَاتِ، وَيَأْتِي فِي ذَرْوَةِ التَّضْحِيَاتِ التَّضْحِيَةُ بِالنَّفْسِ، وَبَذْلُ الرُّوحِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ دِفَاعًا عَنِ الدِّينِ وَالْوَطَنِ وَعِزَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ.
إِنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ يُحَارِبُ الْعَالَمَ كُلَّهُ فِي سَيْنَاءَ, تَجَمَّعَ عَلَيْهِ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا، وَلَنْ يَضُرُّوهُ شَيئًا -إِنْ شَاءَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا-, وَلَكِنْ تَجَمَّعَ عَلَيهِ مَنْ بِأَقْطَارِهَا فِي سَينَاءَ.
العَالَمُ كُلُّهُ يُحَارِبُ الجَيْشَ المِصْرِيَّ فِي سَينَاءَ!!
وَالمُقَاتِلُ الْمِصْرِيُّ, عَقِيدَتُهُ: «النَّصْرُ أَوِ الشَّهَادَةُ», لَا يَعْرِفُ سِوَى هَذَا.
يُقَتَّلُونَ، فِي سَبِيلِ اللهِ يَمْضُونَ, تُزْهَقُ أَرْوَاحُهُمْ, تُكْلَمُ قُلُوبُ أُمَّهَاتِهِمْ، يَتَيَتَّمُ أَطْفَالُهُمْ, تَتَرَمَّلُ نِسَاؤُهُمْ, يَبْكِيهِمْ كُلُّ جَارٍ وَحَبِيبٍ، وَهُمْ يَتَسَاقَطُونَ لَا يُبَالُونَ, عَقِيدَتُهُم: النَّصْرُ أَوِ الشَّهَادَةُ.
لِمَاذَا يُقْتَلُونَ؟!!
إِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ, مِنْ أَجْلِ وَأْدِ المُؤَامَرَةِ.
الجَيْشُ المِصْرِيُّ يُعَانِي مُعَانَاةً شَدِيدَةً فِي سَيْنَاءَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ هُنَالِكَ فِي غَايَةِ التَّعْقِيدِ, لَيْسَ كَمَا يَبْدُو لِلنَّظْرَةِ الأُولَى, وَالنَّظْرَةُ الْأُولَى حَمْقَاءُ.
الْوَضْعُ مُعَقَّدٌ غَايَةَ التَّعْقِيدِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَالْبَوَاسِلُ مِنَ الرِّجَالِ يُوَاجِهُونَ بِصُدُورٍ مَكْشُوفَةٍ, وَسَوَاعِدَ مَفْتُولَةٍ, وَعَقَائِدَ قَائِمَةٍ, لَا يُبَالُونَ, يَمُوتُونَ, يَتَسَاقَطُونَ..
لَا بَأْسَ.. إِنَّ المَجْدَ لَا يُصْنَعُ إِلَّا بِالتَّضْحِيَّاتِ الْغَالِيَةِ, بِالدِّمَاءِ النَّازِفَةِ, بِالأَرْوَاحِ الزَّاهِقَةِ, إِنَّ الْقِيَمَ وَالمُثُلَ لَا يُؤَسَّسُ لَهَا وَلَا تُعْلَى إِلَّا بِالتَّضْحِيَّاتِ الْعَظِيمَةِ, إِنَّ المَجْدَ العَظِيمَ لَا يُصْنَعُهُ إِلَّا الْتَضْحِيَّةُ العَظِيمَةُ، وَلَا يُصْنَعُ إِلَّا بِتَضْحِيَّةٍ عَظِيمَةٍ..
لِمَاذَا يُرِيدُ الخَوَنَةُ تَفْكِيكَ الجَيْشِ المِصْرِيِّ ؟!
إِنَّ عَقِيدَةَ التَّكْفِيرِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الجَيْشَ وَالشُّرْطَةَ فِي سَيْنَاءَ وَغَيْرِهَا أَنَّ المُسْلِمِينَ مُرْتَدُّونَ, وَهُمْ أَكْفَرُ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى!!
وَمِنْ عَقِيدَتِهِمْ: أَنَّهُ إِذَا قَاتَلَ الْيَهُودُ الجَيْشَ الْمِصْرِيَّ، فَهَؤُلَاءِ التَّكْفِيرِيُّونَ مَعَ اليَهُودِ ضِدَّ الجَيْشِ المِصْرِيِّ؛ لِأَنَّ اليَهُودَ عِنْدَهُم -وَكَذِلَكَ النَّصَارَى- أَهْلُ كِتَابٍ, وَأَمَّا الجَيْشُ عِنْدَهُمْ فَكَافِرٌ مُرْتَدٌّ, وَالمُرْتَدُّ أَشَدُّ كُفْرًا مِنَ الكِتَابِيِّ!!
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ هَؤُلَاءِ التَّكْفِيرِيِّينَ، وَأَنْ يَجْعَلَ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَنْ يَهْدِيَ شَبَابَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
لَقَدْ أَبْقَى اللهُ لَنَا الجَيْشَ المِصْرِيَّ، فَحَفِظَ اللهُ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهُ فِيمَا يَبْقَى؛ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
*عَلَى الْجَيشِ تَقْوَى الْبِلَادُ، وَبِالْعِلْمِ تَشْتَدُّ أَرْكَانُهَا :
أَرَى مِصْرَ يَلْهُو بِحَدِّ السِّلَاحِ = وَيَلْعَبُ بِالنَّارِ وِلْدَانُهَا
وَرَاحَ بِغَيْرِ مَجَالِ الْعُقُولِ = يُجِيلُ السِّيَاسَةَ غِلْمَانُهَا
وَمَا الْقَتْلُ تَحْيَا عَلَيْهِ الْبِلَادُ = وَلَا هِمَّةُ الْقَوْلِ عُمْرَانُهَا
وَلَا الْحُكْمُ أَنْ تَنْقَضِي دَوْلَةٌ = وَتُقْبِلَ أُخْرَى وَأَعْوَانُهَا
وَلَكِنْ عَلَى الْجَيشِ تَقْوَى الْبِلَادُ = وَبِالْعِلْمِ تَشْتَدُّ أَرْكَانُهَا
إِنَّ وَاجِبَنَا فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا وَطَنُنَا الْعَزِيزُ أَنْ نَسْعَى جَمِيعًا لِحِمَايَتِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ مِنْ أَيِّ عَدُوٍّ أَوْ خَطَرٍ يُهَدِّدُ أَمْنَهُ وَاسْتِقْرَارَهُ، وَالْعَمَلُ بِكُلِّ مَا أُوتِينَا مِنْ قُوَّةٍ فِي مُوَاصَلَةِ مَسِيرَةِ الْبِنَاءِ وَالتَّعْمِيرِ.
اتَّقُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي حَرِيمِكُمْ!
اتَّقُوا اللهَ فِي أَرْضِكُمْ!
اتَّقُوا اللهَ فِي مُسْتَقْبَلِكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ أَمْنَ مِصْرَ مِنْ أَمْنِ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، بِذَلِكَ قَضَى اللهُ فِيمَا تَرَاهُ كُلُّ عَيْنٍ نَاظِرَةٍ، وَيجِدُهُ كُلُّ قَلْبٍ مُوقِنٍ، وَتُحِسُّهُ كُلُّ بَصِيرَةٍ نَافِذَةٍ.
أَمْنُ مِصْرَ هُوَ أَمْنُ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ.
لَمْ تَبْقَ إِلَّا هَذِهِ الصَّخْرَةُ الْعَاتِيَةُ الَّتِي يَنْحَطُّ عَنْهَا السَّيْلُ، لَمْ تَبْقَ إِلَّا هَذِهِ الصَّخْرَةُ الْعَاتِيَةُ الَّتِي تُضِيءُ كَالْمَنَارَةِ فِي اللَّيْلِ، تَنْحَسِرُ عِنْدَ أَقْدَامِهَا مَوْجَاتُ كُلُّ خَارِجِيٍّ ضَالٍّ، وَكُلُّ كَافِرٍ أَثِيمٍ، وَكُلُّ مُشْرِكٍ مُعْتَدٍ، وَكُلُّ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، كَمَا انْحَسَرَتْ أَمْوَاجُ التَّتَارِ مِنْ قَبْلُ، وَكَمَا انْحَسَرَتْ أَمْوَاجُ الصَّلِيبِيِّينَ.
اتقوا الله فيها؛ إنها أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ، وَإِسْلَامُهَا أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ، هَذَا قَدَرُكُمْ قَدْ خُلِقْتُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فِي هَذَا الزَّمَانِ، أَنْ جَعَلَكُمْ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تَشْهَدُونَ هَذِهِ الْمَلْحَمَةَ الْعُظْمَى بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، اعْرِفُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ عَلَيْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ، وَكَبِّرُوهُ، وَوَحِّدُوهُ، وَهَلِّلُوهُ، وَارْجِعُوا إِلَيْهِ، وَمُرُوا مَنْ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ بِالْتِزَامِ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
عَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -تَعَالَى- فِي دِينِنَا، وَفِي بَلَدِنَا، فِي إِسْلَامِنَا، وَفِي أَرْضِنَا.
عَلَيْنَا أَنْ نَتَّقيَ اللهَ-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَمِيعًا فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، وَفِي بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنْ وَرَائِهَا.
يَنْبَغِي عَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ يُمْسِكَ لِسَانَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ، وَأَلَّا يَتَطَوَّعَ المُفْسِدُونَ الفَسَدَةُ بِنَثْرِ الِاتِّهَامَاتِ عَلَى البُرَآءِ، وَبِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَبِالتَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السُّلُطَاتِ، فَإِنَّهُمْ زِمامُ الأَمْنِ لِهَذَا الوَطَنِ.
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُشْعِلُونَ الفِتَنَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَهَا فَوْضَى، تَنْطَلِقُ فِيهَا الغَرَائِزُ مِنْ مَكَامِنِهَا، وَتَشْرَئِبُّ فِيهَا النَّزَوَاتُ بِأَعْنَاقِهَا، يُرِيدُونَهَا فَوْضَى، لَا يُرِيدُونَهَا دِينًا بِـ«افْعَلْ، وَلَا تَفْعَلْ»؛ مِنْ أَجْلِ الحَقِّ وَالخَيْرِ وَالسَّلَامِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُمَّ الخَيْرُ رُبُوعَ الدَّوْلَةِ، لَا يُرِيدُونَهَا هَكَذَا، هَؤُلَاءِ مَنْسُوبُونَ إِلَى غَيْرِ أَبْنَائِهَا، عَامِلُونَ عَلَى غَيْرِ أَجِنْدَةِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ، هُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى أَجِنْدَاتٍ لَا نَعْلَمُهَا.
يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَحْذَرَهُمْ، وَأَلَّا نُلْقِيَ بِأَسْمَاعِنَا إِلَى مَا يَهْرِفُونَ بِهِ، وَإِلَى مَا يُلْقُونَهُ مِنَ الأَسْمَاعِ إِلَى القُلُوبِ مِنَ السُّمِّ الزُّعَافِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَفْتَكُ بِالقُلُوبِ وَالأَبْدَانِ وَالحَيَاةِِ مِن سُمِّ الأَفَاعِي، مِنْ سُمِّ الأَسَاوِدِ.
فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ، وَأَنْ نُحَدِّدَ مَوْقفَنَا: مَعَ هَذَا الدِّينِ مَعَ هَذَا الوَطَنِ، أَمْ ضِدَّ هَذَا الدِّينِ وَضِدَّ هَذَا الوَطَنِ؟!!
وَلْيَمْضِ كُلٌّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَرِيقِهِ.
وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:مَفْهُومُ الشَّهَادَةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِادِّعَاءِ