((سِمَاتُ وَسُلُوكُ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ فِي ضَوْءِ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((حُبُّ الْوَطَنِ وَمَنْزِلَتُهُ فِي ضَوْءِ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ))
فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- ذَاكِرًا الْأَوْطَانَ وَمَوَاقِعَهَا فِي الْقُلُوبِ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66].
فَسَوَّى -تَعَالَى- بَيْنَ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَالْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ, وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ عَلَى عِبَادِهِ الْأَوَامِرَ الشَّاقَّةَ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ؛ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَالنَّادِرُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246].
فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ أَهْلَ الرَّأْيِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَصْحَابَ الْكَلِمَةِ النَّافِذَةِ تَرَاوَدُوا فِي شَأْنِ الْجِهَادِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْ نَبِيِّهِمْ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ مَلِكًا; لِيَنْقَطِعَ النِّزَاعُ بِتَعْيِينِهِ، وَتَحْصُلَ الطَّاعَةُ التَّامَّةُ، وَلَا يَبْقَى لِقَائِلٍ مَقَالٌ.
وَأَنَّ نَبِيَّهُمْ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُمْ هَذَا مُجَرَّدَ كَلَامٍ لَا فِعْلَ مَعَهُ، فَأَجَابُوا نَبِيَّهُمْ بِالْعَزْمِ الْجَازِمِ، وَأَنَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ الْتِزَامًا تَامًّا، وَأَنَّ الْقِتَالَ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ كَانَ وَسِيلَةً لِاسْتِرْجَاعِ دِيَارِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إِلَى مَقَرِّهِمْ وَوَطَنِهِمْ.
وَقَدْ نَسَبَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الدُّورَ وَالْأَوْطَانَ إِلَى أَهْلِهَا وَأَصْحَابِهَا؛ فَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8]؛ فَنَسَبَ الدِّيَارَ إِلَى مُلَّاكِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40]؛ فَنَسَبَ الدِّيَارَ إِلَى أَهْلِهَا.
وَلَوْ قَنِعَ النَّاسُ بِأَرْزَاقِهِمْ قَنَاعَتَهُمْ بِأَوْطَانِهِمْ مَا اشْتَكَى عَبْدٌ الرِّزْقَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ بِأَوْطَانِهِمْ أَقْنَعُ مِنْهُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ, فَتَرَى الْأَعْرَابَ تَسْتَوْخِمُ الرِّيفَ وَالْحَضَرَ وَتَحِنُّ إِلَى الْبَلَدِ الْجَدْبِ وَالْمَحَلِّ الْقَفْرِ وَالْحَجَرِ الصَّلْدِ, وَتَرَى الْحَضَرِيَّ يُولَدُ بِأَرْضِ وَبَاءٍ وَمَوَتَانٍ وَقِلَّةِ خِصْبٍ؛ فَإِذَا وَقَعَ بِبِلَادٍ أَرْيَفَ مِنْ بِلَادِهِ, وَجَنَابٍ أَخْصَبَ مِنْ جَنَابِهِ, وَاسْتَفَادَ غِنًى؛ حَنَّ إِلَى وَطَنِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ, وَقَدْ قَالُوا فِي ذَلِكَ: الْكَرِيمُ يَحِنُّ إِلَى جَنَابِهِ كَمَا يَحِنُّ الْأَسَدُ إِلَى غَابِهِ.
وَقَدْ دَعَا بِلَالٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى الَّذِينَ أَخْرَجُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَرْضِهِمْ أَنْ يُخْرِجَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ رَحْمَتِهِ كَمَا أَخْرَجُوهُمْ, وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ ذَلِكَ؛ بَلْ دَعَا رَبَّهُ -تَعَالَى- أَنْ يُحَبِّبَ إِلَيْهِمُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبَ إِلَيْهِمْ وَطَنَهُمْ أَوْ أَشَدَّ.
فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَعَكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ, فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ=وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شَرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً=بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ=وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
وَالْإِذْخِرُ: نَوْعٌ مِنَ الْحَشِيشِ, وَالْجَلِيلُ: نَوْعٌ مِنَ النَّبَاتِ, وَمِيَاهُ مَجَنَّةٍ: مَاءٌ عِنْدَ عُكَاظٍ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ, وَشَامَةٌ وَطَفِيلُ: جَبَلَانِ عَلَى نَحْوِ ثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْ مَكَّةَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقَالَ -أَيْ: بِلَالٌ-: ((اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ دِيَارِنَا)).
وَاللَّعْنُ: الطَّرْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْإِبْعَادُ.
فَدَعَا أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِهِ, وَأَنْ يُبْعِدَ اللهُ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ وَطَنِهِ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)).
وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: شَفَقَتُهُ ﷺ مِنْ إِخْرَاجِهِ مِنْ أَرْضِهِ وَوَطَنِهِ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا أَخْبَرَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْوَحْيِ, وَعَلِمَ وَرَقَةُ أَنَّهُ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ, قَالَ لَهُ وَرَقَةُ: ((لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)).
فَقَالَ: ((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟)).
قَالَ: ((نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ)).
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَقُولُ: ((وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: ((وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِليَّ)). وَهَذِهِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((بِسْمِ اللهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا)).
فَبِسْمِ اللهِ رَبِّنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا, بِتُرْبَةِ أَرْضِنَا يُشْفَى مَرِيضُنَا.
((وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ فَيَعْلَقُ بِهَا مِنَ التُّرَابِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الْجَرِيحِ أَوِ الْعَلِيلِ, وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَالِ الْمَسْحِ.
وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِرِيقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتُرْبَةِ الْمَدِينَةِ)). قَالَهُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
وَالْأَصَحُّ: الْعُمُومُ، وَالشِّفَاءُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- يَجْعَلُهُ فِيمَا يَشَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
فَمَعَ مَا لِلْأَنْصَارِ مِنْ عَظِيمِ الرُّتْبَةِ وَجَلِيلِ الْمَنْزِلَةِ قَدَّمَ اللهُ الْمُهَاجِرِينَ وَفَضَّلَهُمْ, وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ عَلَى الْأَنْصَارِ, وَهُوَ مُغَادَرَةُ الْوَطَنِ وَالدِّيَارِ, وَمُفَارَقَةُ الْمَحْبُوبَاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ وَالْأَحِبَّاءِ وَالْخِلَّانِ؛ رَغْبَةً فِي اللهِ، وَنُصْرَةً لِدِينِ اللهِ، وَمَحَبَّةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
قَالَ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيَانِ وَجْهِ تَفْضِيلِ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ: ((وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ)).
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- النَّفْيَ مِنَ الْأَرْضِ فِي عُقُوبَةِ الْمُحَارِبِينَ للهِ وَرَسُولِهِ, الَّذِينَ بَارَزُوهُ بِالْعَدَاوَةِ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَإِخَافَةِ السُّبُلِ.
فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ عُقُوبَتِهِمْ؛ أَنْ يُطْرَدُوا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْقَرَارِ فِي مَوْضِعٍ, وَالتَّغْرِيبُ عَنِ الْأَوْطَانِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ, كَمَا يُفْعَلُ بِالزَّانِي الْبِكْرِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- مَا قَضَى عَلَى بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْوَطَنِ وَالتَّحَوُّلِ عَنْهُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ قَضَاهُ عَلَيْهِمْ وَقَدَّرَهُ بِقَدَرِهِ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ, وَلَوْلَا هَذَا الْجَلَاءُ لَكَانَ لَهُمْ شَأْنٌ آخَرُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَنَكَالِهَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 2].
وَقَالَ -تَعَالَى- عَنْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَمَّا كَانَتْ مُفَارَقَةُ الْإِنْسَانِ وَطَنَهُ وَمَأْلَفَهُ وَأَهْلَهُ وَقَوْمَهُ مِنْ أَشَقِّ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَمِنْهَا انْفِرَادُهُ عَمَّنْ يَتَعَزَّزُ بِهِمْ وَيَتَكَثَّرُ، وَكَانَ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَاعْتَزَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي حَقِّهِ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا} مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ {جَعَلْنَا نَبِيًّا}؛ فَحَصَلَ لَهُ هِبَةُ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى النَّاسِ، الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ، وَاخْتَارَهُمْ لِرِسَالَتِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ)).
فَعَوَّضَ اللهُ الْخَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ ﷺ هَذَا الْخَيْرَ الْعَمِيمَ عَنْ مُفَارَقَةِ قَوْمِهِ, وَاعْتِزَالِهِ إِيَّاهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ.
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ذِكْرُ وِفَادَةِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ, فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً, وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَحِيمًا رَفِيقًا, فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا؛ فَأَخْبَرْنَاهُ، قَالَ: ((ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ, وَعَلِّمُوهُمْ, وَمُرُوهُمْ)).
وَالشَّبَبَةُ: الشَّبَابُ, جَمْعُ شَابٍّ, مُتَقَارِبُونَ؛ أَيْ فِي السِّنِّ.
فَرَاعَى رَسُولُ اللهِ ﷺ اشْتِيَاقَهُمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَلَمَّا رَآنَا قَدِ اشْتَقْنَا إِلَى أَهْلِنَا))؛ فَأَذِنَ لَهُمْ بِالْعَوْدَةِ إِلَى أَهْلِهِمْ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ التَّغْرِيبَ عَنِ الْأَوْطَانِ عُقُوبَةً وَزَجْرًا فِي كَبِيرَةٍ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَهِيَ الزِّنَى؛ فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)): عَنْ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خُذُوا عَنِّي, خُذُوا عَنِّي, قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا, الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ)).
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِنَّ انْتِقَالَهُ عَنْ وَطَنِهِ مِمَّا يُضْعِفُ هِمَّتَهُ وَبَدَنَهُ, وَيُعْلَمُ أَنَّهُ مُعَاقَبٌ)).
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)), وَالْمَقْدِسِيُّ فِي ((الْمُخْتَارَةِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي حَقِّ مَكَّةَ عِنْدَ هِجْرَتِهِ مِنْهَا: ((مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ, وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِي مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)).
وَحَيْثُ أَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ حُبَّ الْمَدِينَةِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ.
وَمِنْ حَنِينِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ إِذَا غَابَ عَنْهَا وَقَدِمَ عَلَيْهِ شَخْصٌ مِنْهَا سَأَلَهُ عَنْهَا يَتَلَمَّسُ أَخْبَارَهَا, وَهَذَا كَلِيمُ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَنَّ إِلَى وَطَنِهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ مُجْبَرًا, قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ((أَحْكَامِ الْقُرْآنِ)): ((قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ وَحَنَّ إِلَى وَطَنِهِ, وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ، وَيَقُولُ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتِ التُّهْمَةُ وَبَلِيَتِ الْقِصَّةُ)).
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْكَبِيرَةُ تُوجَدُ دَاخِلَنَا, وَتَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ فِي صُوَرٍ..
الصُّورَةُ الْأُولَى: إِذَا سَافَرَ الْإِنْسَانُ مِنَّا؛ فَإِنَّنَا مَهْمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَرْضٍ هِيَ أَجْمَلُ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ أَغْنَى مِنْ أَرْضِنَا، فَإِنَّ مَشَاعِرَ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ يَنْفَدُ صَبْرُهَا عَنِ الْكِتْمَانِ, فَتَبُوحُ بِالْحَنِينِ إِلَى الْوَطَنِ, وَالتَّشَوُّقِ إِلَيْهِ فِي عِبَارَاتٍ يَتْلُوهَا الْإِنْسَانُ أَوْ دُمُوعٍ تَذْرِفُهَا الْعَيْنَانِ, وَهَذَا مِنْ عَلَامَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مِنْ أَمَارَةِ الْعَاقِلِ: بِرُّهُ بِإِخْوَانِهِ، وَحَنِينُهُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَمُدَارَاتُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ)).
قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَتَشَوَّقُ إِلَى وَطَنِهِ:
ذَكَرْتُ بِلَادِي فَاسْتَهَلَّتْ مَدَامِعِي=بِشَوْقِي إِلَى عَهْدِ الصِّبَا الْمُتَقَادِمِ
حَنَنْتُ إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي=وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ
وَالتَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيمَةٍ؛ وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى صِبْيَانِهَا يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ -فِي زَعْمِهِمْ- فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ, فَهَذَا يَذْكُرُ مَا كَانَ.
أَخَذَ ابْنُ الرُّومِيِّ هَذَا الْبَيْتَ فَقَالَ:
بَلَدٌ صَحِبْتُ بِهِ الشَّبِيبَةَ وَالصِّبَا=وَلَبِسْتُ فِيهِ الْعَيْشَ وَهْوَ جَدِيدُ
فَإِذَا تَمَثَّلَ فِي الضَّمِيرِ رَأَيْتُهُ=وَعَلَيْهِ أَفْنَانُ الشَّبَابِ تَمِيدُ
فَتَأَمَّلْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً عَلَّلَهَا الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ مَا فِي مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.
فَالتَّعْزِيرُ -مَثَلًا- قَدْ يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنِ الْوَطَنِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالنَّفْسُ تَحِنُّ إِلَى الْوَطَنِ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ بِهِ, أَوْ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ)).
وَأَيْضًا ذَكَرُوا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ: ((أَنَّ مَنْ خُوِّفَ بِالنَّفْيِ عَنِ الْبَلَدِ فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ؛ لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ شَدِيدَةٌ)). ذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
وَفِي حَدِّ الْحِرَابَةِ؛ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]؛ أَيْ: يُخْرَجُونَ مِنْ وَطَنِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ.
قَالَ: يَكْفِيهِ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ وَالْعَشِيرَةِ خِذْلَانًا وَذِلَّةً؛ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ, أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ.
فَالَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْوَطَنِ سَوَاءٌ كَانَ لِسَفَرٍ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ خَرَجَ مُرْغَمًا؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَيْهِ, وَيَتَأَلَّمُ بِالْبُعْدِ عَنْهُ, فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ يَثُورُ التَّعَلُّقُ الْعَاطِفِيُّ بِالْبَلَدِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ, أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ.
وَالصُّورَةُ الْأُخْرَى الَّتِي تَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ لِأَنَّهَا مُسْتَقِرَّةٌ دَاخِلَنَا: أَنَّهُ إِذَا مُسَّتْ بَلَدُكَ بِسُوءٍ صَغِيرًا كَانَ هَذَا السُّوءُ أَوْ كَبِيرًا -مَثَلًا إِذَا سَبَّهَا أَحَدٌ-؛ تَحَرَّكَتْ فِيكَ مَشَاعِرُ الْحُبِّ فَدَافَعْتَ عَنْهَا.
وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا احْتِلَالٌ أَوْ عَبَثَ بِأَمْنِهَا مُفْسِدٌ؛ فَهُنَا تَتَفَجَّرُ جَمِيعُ الْمَشَاعِرِ الْكَامِنَةِ فِيكَ، فَلَا تَرَى نَفْسَكَ الْغَالِيَةَ إِلَّا بِأَرْخَصِ عُهُودِهَا، تَجُودُ بِهَا, تَحْمِلُهَا عَلَى رَاحَتَيْكَ لَعَلَّ وَطَنَكَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يُصَابُ بِأَذًى, وَلَا يَغْصِبُهُ مُغْتَصِبٌ؛ وَفِي هَذَا يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]
وَهَذَا أَمْرٌ مَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَقُولُ ابْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَوْ مَدْحِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:
إِنَّ الْبِلَادَ سِوَى بِلَادِكَ=ضَاقَ عَرْضُ فَضَائِهَا
فَاجْمَعْ بَنِيَّ إِلَى بَنِيكَ=فَأَنْتَ خَيْرُ رِعَائِهَا
نُشْهِدْكَ مِنَّا مَشْهَدًا=ضَنْكًا عَلَى أَعْدَائِهَا
نَحْنُ الْفَوَارِسُ مِنْ قُرَيْشٍ=يَوْمَ جِدِّ لِقَائِهَا
فَانْظُرْ إِلَى التَّضْحِيَةِ الْعَظِيمَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
فَهَذِهِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ خِلَالِهَا مَشَاعِرُ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ فِي صِدْقٍ وَوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَشْهَدُ بِأَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ.
((سِمَاتُ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ فِي ضَوْءِ الشَّرْعِ))
عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ الْوَطَنَ هُوَ مَدْرَسَةُ الْحَقِّ وَالْوَاجِبِ، يَقْضِي الْعُمُرَ فِيهَا الطَّالِبُ، حَقُّ اللهِ وَمَا أَقْدَسَهُ وَأَقْدَمَهُ، وَحَقُّ الْوَالِدَيْنِ وَمَا أَعْظَمَهُ، وَحَقُّ النَّفْسِ وَمَا أَلْزَمَهُ، إِلَى أَخٍ تُنْصِفُهُ، أَوْ جَارٍ تُسْعِفُهُ، أَوْ رَفِيقٍ فِي رِحَالِ الْحَيَاةِ تَتَأَلَّفُهُ، أَوْ فَضْلٍ لِلرِّجَالِ تُزَيِّنُهُ وَلَا تُزَيِّفُهُ.
فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الْوَطَنِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَعْبَاءِ أَمَانَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ صِيَانَةُ بِنَائِهِ، وَالضَّنَانَةُ بِأَشْيَائِهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَبْنَائِهِ، وَالْمَوْتُ دُونَ لِوَائِهِ، قُيُودٌ فِي الْحَيَاةِ بِلَا عَدَدٍ، يَكْسِرُهَا الْمَوْتُ وَهُوَ قَيْدُ الْأَبَدِ.
رَأْسُ مَالِ الْأُمَمِ فِيهِ مِنْ كُلِّ ثَمَرٍ كَرِيمٍ، وَأَثَرٍ ضَئِيلٍ أَوْ عَظِيمٍ، وَمُدَّخَرٍ حَدِيثٍ أَوْ قَدِيمٍ؛ يَنْمُو عَلَى الدِّرْهَمِ كَمَا يَنْمُو عَلَى الدِّينَارِ، وَيَرْبُو عَلَى الرَّذَاذِ كَمَا يَرْبُو عَلَى الْوَابِلِ الْمِدْرَارِ، بَحْرٌ يَتَقَبَّلُ مِنَ السُّحُبِ وَيَتَقَبَّلُ مِنَ الْأَنْهَارِ.
فَيَا خَادِمَ الْوَطَنِ! مَاذَا أَعَدَدْتَ لِلْبِنَاءِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ زِدْتَ فِي الْفِنَاءِ مِنْ شَجَرٍ؟!!
عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ الْجَهْدَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ أَنْ تَبْنِيَ السَّدَّ؛ فَإِنَّمَا الْوَطَنُ كَالْبُنْيَانِ.. فَقِيرٌ إِلَى الرَّأْسِ الْعَاقِلِ، وَالسَّاعِدِ الْعَامِلِ، وَإِلَى الْعَتَبِ الْوَضِيعَةِ، وَالسُّقُوفِ الرَّفِيعَةِ.
وَكَالرَّوْضِ مُحْتَاجٌ إِلَى رَخِيصِ الشَّجَرِ وَثَمِينِهِ، وَنَجِيبِ النَّبَاتِ وَهَجِينِهِ؛ إِذْ كَانَ ائْتِلَافُهُ فِي اخْتِلَافِ رَيَاحِينِهِ».
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
اسْتِقَامَةُ الْعَقِيدَةِ))
إِنَّ أَوَّلَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يُحَصِّلَهَا الْمُحِبُّ لِوَطَنِهِ، الْحَرِيصُ عَلَى مَصَالِحِهِ: اسْتِقَامَةُ الْعَقِيدَةِ، وَسَلَامَةُ الْمَنْهَجِ؛ فَإِنَّ أَمْرَ الْعَقِيدَةِ تَتَمَيَّزُ بِهِ الْأُمَّةُ وَتَقُومُ عَلَيْهِ دَوَافِعُ الْمُلِمَّةِ، أَمْرُ الْعَقِيدَةِ كِتَابٌ وَسُنَّةٌ، أَمْرُ الْعَقِيدَةِ قَصٌّ عَلَى أَثَرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
تَعَلَّمُوا دِينَ اللهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَصْلَ الْإِصْلَاحِ وَالصَّلَاحِ إِنَّمَا هُوَ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ؛ فَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ.
يَجِبُ عَلَى الْمُحِبِّ لِوَطَنِهِ، الْحَرِيصِ عَلَى رِفْعَتِهِ وَالرُّقِيِّ بِهِ أَنْ يَعْلَمَ: أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَ يَقُومُ عَلَى أَصْلَيْنِ؛ هُمَا:
أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.
وَالْإِسْلَامُ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ للهِ وَحْدَهُ، بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ.
فَهُوَ الْخُضُوعُ للهِ تَعَالَى، وَالْعُبُودِيَّةُ لَهُ وَحْدَهُ، فَمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَأَشْرَكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَغَيْرُ مُسْلِمٍ.
وَالتَّوْحِيدُ: هُوَ إِفْرَادُ اللهِ -تَعَالَى- بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
فَيَنْقَسِمُ التَّوْحِيدُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
* تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْخَلْقِ، وَالْمُلْكِ، وَالتَّدْبِيرِ.
* تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ: وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.
فَتَكُونَ عَبْدًا للهِ وَحْدَهُ، تُفْرِدُهُ بِالتَّذَلُّلِ؛ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَتَعْبُدُهُ بِمَا شَرَعَ.
فَيَصْرِفُ الْعَبْدُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ مِنْ: خَوْفٍ وَرَجَاءٍ، وَرَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، وَإِنَابَةٍ وَخَشْيَةٍ، وَتَوَكُّلٍ وَخَوْفٍ، وَذَبْحٍ وَنَذْرٍ، وَدُعَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ.. للهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
* تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- بِمَا سَمَّى بِهِ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، وَذَلِكَ بِإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ وَنَفْيِ مَا نَفَاهُ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
عَقِيدَتُنَا: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.. هَذَا مُجْمَلُ الْعَقِيدَةِ.
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ حَيْثُ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَالَ: ((أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ))، فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ))، فَقَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ وَقَعَ انْحِرَافٌ كَبِيرٌ عَنِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَشَابَ صَفْوَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْكَدَرِ، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهِيَ عَقِيدَةُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَاعْتِقَادُهُمْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ -تَعَالَى- سِوَاهُ.
الْإِنْسَانُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى صَالِحِهِ، وَعَلَى مَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَأَهَمُّ ذَلِكَ وَأَوْلَاهُ وَأَوَّلُهُ: أَنْ يَحْرِصَ عَلَى نَجَاتِهِ مِنَ النَّارِ، أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَحْصِيلِ رِضَا رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ.
أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَسَنِّنًا مُتَّبِعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.
إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتَهُ وَضَعَ أَسَاسَهُ، وَإِذَا لَمْ يَهْتَمَّ بِأَسَاسِ بَيْتِهِ وَلَا بِقَوَاعِدِ بِنَائِهِ؛ فَمَهْمَا شَيَّدَ وَجَمَّلَ، وَحَسَّنَ وَنَمَّقَ.. فَهُوَ عُرْضَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَيَكُونُ خَطِرًا عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ نَزَلَ ذَلِكَ الْمَبْنَى الَّذِي لَمْ يُشَيَّدْ عَلَى أَسَاسٍ.
كَذَلِكَ الدِّينُ؛ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ، وَأَسَاسٍ سَلِيمٍ، وَتَوْحِيدٍ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَتَنْزِيهٍ عَنِ الشِّرْكِ، وَإِبْعَادٍ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ مَوْطِنِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ الْبُنْيَانَ يَكُونُ وَاهِيًا سَرْعَانَ مَا يَتَهَاوَى.
فَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ، وَلَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا.. إِلَّا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِلَّا عَلَى عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ.
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَسَاسُ، الْعَقِيدَةُ رَأْسُ الدِّينِ.
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
حُسْنُ الْخُلُقِ))
إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ صِفَاتِ كُلِّ خَادِمٍ لِوَطَنِهِ بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ: حُسْنُ الْخُلُقِ؛ فَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقرَبِكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبعَدَكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّٰهِ! قَدْ عَلِمنَا الثَّرثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟
قَالَ: ((الْمُتَكَبِّرُونَ)).
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حُسْنُ الْخُلُقِ: طَلَاقَةُ الْوَجْهِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَكَفُّ الْأَذَى)).
وَقَالَ غَيْرُهُ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ قِسْمَانِ؛ أَحَدُهُمَا: مَعَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْكَ يُوجِبُ عُذْرًا، وَكُلَّ مَا يَأْتِي مِنَ اللهِ يُوجِبُ شُكْرًا، فَلَا تَزَالُ شَاكِرًا لَهُ، مُعْتَذِرًا إِلَيْهِ، سَائِرًا إِلَيْهِ بَيْنَ مُطَالَعَةِ مِنَّتِهِ وَشُهُودِ عَيْبِ نَفْسِكَ وَأَعْمَالِكَ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: حُسْنُ الْخُلُقِ مَعَ النَّاسِ؛ وَجِمَاعُهُ أَمْرَانِ: بَذْلُ الْمَعْرُوفِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَكَفُّ الْأَذَى قَوْلًا وَفِعْلًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَقُومُ عَلَى أَرْكَانٍ خَمْسَةٍ: الْعِلْمِ، وَالْجُودِ، وَالصَّبْرِ، وَطِيبِ الْعُودِ، وَصِحَّةِ الْإِسْلَامِ.
أَمَّا الْعِلْمُ؛ فَلِأَنَّهُ يُعَرِّفُ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ وَسَفْسَافَهَا، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذَا وَيَتَحَلَّى بِهِ، وَيَتْرُكَ هَذَا وَيَتَخَلَّى عَنْهُ.
وَأَمَّا الْجُودُ؛ فَسَمَاحَةُ نَفْسِهِ وَبَذْلُهَا، وَانْقِيَادُهَا لِذَلِكَ إِذَا أَرَادَهُ مِنْهَا.
وَأَمَّا الصَّبْرُ؛ فَلِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى احْتِمَالِ ذَلِكَ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ.
وَأَمَّا طِيبُ الْعُودِ؛ فَأَنْ يَكُونَ اللهُ -تَعَالَى- خَلَقَهُ عَلَى طَبِيعَةٍ مُنْقَادَةٍ سَهْلَةِ الْقِيَادِ، وَسَرِيعَةِ الِاسْتِجَابَةِ لِدَاعِي الْخَيْرَاتِ.
وَالطَّبَائِعُ ثَلَاثَةٌ: طَبِيعَةٌ حَجَرِيَّةٌ صُلْبَةٌ قَاسِيَةٌ لَا تَلِينُ وَلَا تَنْقَادُ، وَطَبِيعَةٌ مَائِيَّةٌ هَوَائِيَّةٌ سَرِيعَةُ الِانْقِيَادِ، مُسْتَجِيبَةٌ لِكُلِّ دَاعٍ كَالْغُصْنِ أَيُّ نَسِيمٍ مَرَّ يَعْصِفُهُ، وَهَاتَانِ -يُرِيدُ الطَّبِيعَتَيْنِ- مُنْحَرِفَتَانِ، الْأُولَى لَا تَقْبَلُ وَهِيَ الْحَجَرِيَّةُ، وَالثَّانِيَةُ لَا تَحْفَظُ وَهِيَ الْمَائِيَّةُ الْهَوَائِيَّةُ.
وَطَبِيعَةٌ قَدْ جَمَعَتِ اللِّينَ وَالصَّلَابَةَ وَالصَّفَاءَ؛ فَهِيَ تَقْبَلُ بِلِينِهَا، وَتَحْفَظُ بِصَلَابَتِهَا، وَتُدْرِكُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ بِصَفَائِهَا؛ فَهَذِهِ الطَّبِيعَةُ الْكَامِلَةُ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا كُلُّ خُلُقٍ صَحِيحٍ.
وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ جِمَاعُ ذَلِكَ، وَالْمُصَحِّحُ لِكُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ؛ فَإِنَّهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِهِ بِالْجَزَاءِ وَحُسْنِ مَوْعُودِ اللهِ وَثَوَابِهِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ ذَلِكَ، وَيَلَذُّ لَهُ الِاتِّصَافُ بِهِ)).
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: ((لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، لَا دِينَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ)).
وَقَالَ الْحَسَنُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللهِ)).
وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ لَعَلَى الْخُلُقِ الَّذِي آثَرَكَ اللهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَتْ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)).
فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ فَلَا أَسْأَلَ شَيْئًا.
وَقَدْ جَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعَ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ)).
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا)).
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ)). قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).
وَفِيهِ -أَيْضًا- وَصَحَّحَهُ -أَيْ: عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ: سُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟
فَقَالَ: ((تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ)).
وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟
فَقَالَ: ((الْفَمُ وَالْفَرْجُ)).
((الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ)).
وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ أَحْسَنَ الْخُلُقِ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى)).
وَقِيلَ: ((حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ)).
وَقِيلَ: ((التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ)).
وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَقُومُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ، لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ سَاقِهِ إِلَّا عَلَيْهَا: الصَّبْرُ، وَالْعِفَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدْلُ.
فَالصَّبْرُ يَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ، وَعَدَمِ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ.
وَالْعِفَّةُ تَحْمِلُهُ عَلَى اجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيَاءِ، وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ، وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، وَالْبُخْلِ وَالْكَذِبِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ.
وَالشَّجَاعَةُ تَحْمِلُهُ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ، وَإِيثَارِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، وَعَلَى الْبَذْلِ وَالنَّدَى الَّذِي هُوَ شَجَاعَةُ النَّفْسِ وَقُوَّتُهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْمَحْبُوبِ وَمُفَارَقَتِهِ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْحِلْمِ؛ فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَشَجَاعَتِهَا أَمْسَكَ عِنَانَهَا، وَكَبَحَهَا بِلِجَامِهَا عَنِ التَّسَرُّعِ وَالْبَطْشِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ: الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ، وَهِيَ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا الْعَبْدُ عَلَى قَهْرِ خَصْمِهِ.
وَالْعَدْلُ يَحْمِلُهُ عَلَى اعْتِدَالِ أَخْلَاقِهِ، وَتَوَسُّطِهِ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى خُلُقِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، وَعَلَى خُلُقِ الْحَيَاءِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الذُّلِّ وَالْقِحَةِ، وَعَلَى خُلُقِ الشَّجَاعَةِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ، وَعَلَى خُلُقِ الْحِلْمِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْمَهَانَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ.
وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: الصَّبْرُ، وَالْعِفَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدْلُ)).
إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- مَا أَرْسَلَ رَسُولًا وَلَا بَعَثَ نَبِيًّا إِلَّا وَهُوَ قُدْوَةٌ سُلُوكِيَّةٌ يُجَسِّدُ لِلْمَدْعُوِّينَ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَحَمِيدِ الْخِصَالِ، وَكَرِيمِ الْخِلَالِ، وَحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْظَمَ الْخَلْقِ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، وَاجْتِنَابًا لِنَهْيِهِ، وَقَدْ كَانَ ﷺ يُجَسِّدُ الدِّينَ تَجْسِيدًا، فَمَا أَمَرَ بِشَيْءٍ إِلَّا وَكَانَ أَوَّلَ النَّاسِ إِتْيَانًا لَهُ، وَلَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ النَّاسِ انْتِهَاءً عَنْهُ وَأَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ، فَصَلَّى اللهُ -تَعَالَى- وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
وَالنَّاسُ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْعَمَلِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إِلَى اسْتِمَاعِ الْقَوْلِ، وَقَدِيمًا قِيلَ: فِعْلُ رَجُلٍ أَنْفَعُ لِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ كَلَامِ أَلْفِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ؛ فَالدَّلِيلُ بِالْفِعْلِ أَرْشَدُ مِنَ الدَّلِيلِ بِالْقَوْلِ.
إِنَّ أَكْبَرَ الْأَخْطَارِ الَّتِي تَتَعَرَّضُ لَهَا أُمَّةٌ.. إِنَّ أَعْظَمَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَفْتِكُ بِبُنْيَانِهَا الْحَيِّ حَتَّى يَصِيرَ ضَعِيفًا مَهْدُومًا.. إِنَّ أَكْبَرَ الْأَخْطَارِ وَأَعْظَمَ الْأَمْرَاضِ الِانْهِيَارُ الْخُلُقِيُّ، فَإِذَا انْهَارَتْ أَخْلَاقُ أُمَّةٍ فَكَبِّرْ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبُ النَّكْبَاتِ، وَأَنَّهُ مَا يُصِيبُنَا شَيْءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَأَنَّ النِّعَمَ لَا تُرْفَعُ إِلَّا بِكُفْرَانِهَا وَبِتَغْيِيرِ مَا بِالنَّفْسِ.
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
رِعَايَةُ الْأَهْلِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْجِيرَانِ))
مِنَ الصِّفَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي الْمُحِبِّ لِوَطَنِهِ: رِعَايَةُ أَهْلِهِ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى جِيرَانِهِ؛ فَالْإِنْسَانُ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا وَحْدَهُ؛ فَالْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ بِفِطْرَةٍ مَغْرُوزَةٍ فِيهِ، هِيَ أَنَّهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا وَحْدَهُ، وَلَا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ إِخْوَانِهِ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ.
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّرْعَ الْأَغَرَّ قَدْ حَدَّدَ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ، وَحَدَّدَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَمُجْتَمَعِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ دِينَ رَبِّهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّهُ عَلَيْهِ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ وَاجِبَهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ جَاهِلًا مُتَخَبِّطًا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَإِنَّ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَيُفَرِّطُونَ فِي هَذَا الْحَقِّ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقُونَ لَهُ بَالًا؛ بَلْ يَعْتَدِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْحَقِّ الْمَكِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].
فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.
وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنُمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ، {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
إِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أَبُوكَ)).
فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ الْأُمُّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.
وَكَذَلِكَ رِعَايَةُ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِزَوْرِكَ -أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا, فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).
فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمُ إِذَا الْتَزَمَهُ الْإِنْسَانُ بِبَصِيرَةٍ وَوَعْيٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِدَ نَصَبًا فِي الْأَخْذِ بِهِ، وَفِي الْعَمَلِ بِتَعَالِيمِهِ.
إِنَّ إِطْعَامَكَ زَوْجَتَكَ وَوَلَدَكَ صَدَقَةٌ؛ فَعَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)).
هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ وَابْنٍ وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.
إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ-، وَعَلَى أَهْلِكَ، وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.. صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.
وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا إِلَى النِّيَّةِ، أَيْ: أَنْ تَنْوِيَهُ نِيَّةً عَامَّةً فِي كُلِّ مَا أَنْفَقْتَ مِنْ مَالِكَ فِي وُجُوهِ الْحَلَالِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ وَالْمَسْكَنُ وَالْمَرْكَبُ تَحْتَسِبُهُ، فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.
وَكَذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْجِيرَانِ؛ فَالْجَارُ لَهُ حَقٌّ بِإِطْلَاقٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَانَ كَافِرًا، سَوَاءٌ كَانَ طَائِعًا أَمْ كَانَ عَاصِيًا، سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَمْ كَانَ جَاهِلًا، سَوَاءٌ كَانَ مُصَالِحًا أَمْ كَانَ مُخَاصِمًا.
الْجَارُ -مُطْلَقُ الْجَارِ- لَهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، وَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ يَقُولُ قَوْلًا مُرْسَلًا عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).
قَالُوا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((شَرُّهُ)).
حَقُّ الْجَارِ حَقٌّ لَازِمٌ أَحَقَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، لَيْسَ مِنَّةً مِنْكَ وَلَا تَفَضُّلًا، إِذَا مَا وَصَلْتَ جَارَكَ فَهَذَا لَيْسَ مِنَّةً مِنْكَ، بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى رَقَبَتِكَ، هُوَ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَتِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حِيَاطَتِهِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ وَعَظِيمٌ.
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
رِعَايَةُ حُقُوقِ إِخْوَانِهِ))
مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُحِبِّ لِوَطَنِهِ التَّحَلِّي بِهَا: رِعَايَةُ حُقُوقِ إِخْوَانِهِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَكُمْ بِالتَّوَادِّ؛ قَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).
وَثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).
وَحُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا قَوْلَ الرَّسُولِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ))، فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ اجْتَهَدَ أَنْ يَتَحَرَّى لَهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ مَا يَضُرُّهُ.
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
السَّعْيُ فِي تَحْقِيقِ التَّكَافُلِ الْمُجْتَمَعِيِّ))
إِنَّ الْمُحِبَّ لِدِينِهِ وَوَطَنِهِ حَرِيصٌ عَلَى تَحْقِيقِ التَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، سَاعٍ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَنَا جَائِعٌ وَلَا مَحْرُومٌ وَلَا عَارٍ، وَلَا مُشَرَّدٌ وَلَا مُحْتَاجٌ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ فِي عَلَاقَةِ الْمُسْلِمِ بِأُسْرَتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36].
{وَبِذِي الْقُرْبَى}؛ أَيْ: وَبِذِي الْقُرْبَى إِحْسَانًا، أَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِلَى ذِي الْقُرْبَى، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36].
فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ؛ إِحْسَانِ الْمَرْءِ فِي أُسْرَتِهِ، وَإِحْسَانِ الْمَرْءِ فِي مُجْتَمَعِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].
وَأَعْطَى الْمَالَ عَلَى شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ قَرَابَتِهِ، وَالْيَتَامَى الَّذِينَ تُوُفِّيَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَالْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يَدُلُّ ظَاهِرُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ ذَوُو حَاجَةٍ، وَالْمُسَافِرَ الْمُنْقَطِعَ عَنْ أَهْلِهِ، وَالطَّالِبِينَ الْمُسْتَطْعِمِينَ، وَأَعْطَى الْمَالَ فِي مُعَاوَنَةِ الْمُكَاتَبِينَ حَتَّى يَفُكُّوا رِقَابَهُمْ، أَوْ فِي فَكِّ الْأَسْرَى مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِفِدَائِهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280].
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ))، ذَكَرَ مِنْهُمْ: ((وَرَجَلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ)).
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
حُبُّ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ وَنَفْعُهُمْ))
مِنْ أَهَمِّ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: حُبُّ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ وَنَفْعُهُمْ؛ فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ؛ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ».
قِيلَ: أَرَأيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟
قَالَ: «يَعْتَمِلُ بِيَدَهِ؛ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ».
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ».
قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟
قَالَ: «يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الخَيْرِ».
قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟
قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ».
حَتَّى إِذَا مَا أَمْسَكَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّرِّ فَقَدْ أَتَى بِالصَّدَقَةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُعِينَ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْتَمِلَ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ ذَاتَهُ وَيَتَصَدَّقُ عَلَى خَلْقِ اللهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، فَمَنْ أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ فَقَدْ تَصَدَّقَ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ.
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
الْأَمَانَةُ، وَالِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ))
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ، فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.
وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.
فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَثَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى العَمَلِ، وَطَلَبِ الرِّزْقِ -رِزْقِ اللهِ- بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠]؛ يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ؛ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ.
وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُم؛ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
إِنَّ الْحُبَّ الْحَقِيقِيَّ لِلْوَطَنِ يَدْفَعُ إِلَى الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ.. الْوَطَنِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ بِنَاءٌ لَا هَدْمٌ، وَإِعْمَارٌ لَا تَخْرِيبٌ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً لِلْبَشَرِ، وَسَخَّرَ لَهُمُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ؛ مِنْ أَجْلِ حِرَاثَةِ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا وَتَعْمِيرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ -تَعَالَى- لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
نُصْحُهُ لِبَنِي وَطَنِهِ بِعِلْمٍ وَحِلْمٍ وَرِفْقٍ))
*إِنَّ مِنْ أَهَمِّ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ أَنْ يَكُونَ آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ، نَاهِيًا عَنِ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبَبُ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ وَقُوَّتِهَا وَعِزَّتِهَا، قَالَ تَعَالَى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
أَنْتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرُ أُمَّةٍ أُظْهِرَتْ لِلنَّاسِ، وَحُمِّلَتْ وَظِيفَةَ الْخُرُوجِ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ دِينَ اللهِ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ قَدْ عَلِمَهَا اللهُ فِيكُمْ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَكُمْ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يَشْمَلُ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا سَيَكُونُ.
وَسَبَبُ بَقَاءِ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ فِيكُمْ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ أَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تَأْمُرُونَ دَاخِلَ مُجْتَمَعِكُمُ الْمُسْلِمِ بِمَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَتَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قُبْحُهُ، فَتَحْمُونَ مُجْتَمَعَكُمْ بِهَذَا -أَيْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ- مِنَ الِانْحِرَافِ الْخَطِيرِ، وَالِانْهِيَارِ إِلَى الْحَضِيضِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ.
وَأَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تُصَدِّقُونَ بِاللهِ، وَتُخْلِصُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ مَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْكُمُ النَّكَبَاتُ مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى؛ بُغْيَةَ إِخْرَاجِكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ.
إِنَّ مَسْئُولِيَّةَ الْمُسْلِمِ عَظِيمَةٌ، وَمَعَكَ طَوْقُ النَّجَاةِ، وَالنَّاسُ يَغْرَقُونَ تَحْتَ عَيْنِكَ، وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا تَمُدُّ لَهُمْ يَدًا بِعَوْنٍ!!
دِينُ اللهِ يَسْتَنْقِذُ الْبَشَرِيَّةَ مِمَّا تَرَدَّتْ فِيهِ.
دِينُ اللهِ -وَحْدَهُ- يُنْقِذُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ مِمَّا بَلَغُوهُ مِنْ هَذَا الِانْحِطَاطِ الْهَابِطِ.
دِينُ اللهِ.. عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ خَلْقَ اللهِ، فِي أَرْضِ اللهِ، عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ دَمَارٍ تَبْدُو عَلَائِمُهُ، وَخَرَابٍ تَتَّضِحُ مَعَالِمُهُ.
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
حُبُّ الْوَطَنِ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ))
لَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))-: ((حُبُّ الْوَطَنِ.. إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).
الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.
إِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ لَيْسَ مُجَرَّدَ شِعَارَاتٍ تُرْفَعُ أَوْ عِبَارَاتٍ تُرَدَّدُ، حُبُّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ سُلُوكٌ وَعَطَاءٌ، حُبُّ الْوَطَنِ اسْتِعْدَادٌ دَائِمٌ لِلتَّضْحِيَةِ مِنْ أَجْلِهِ؛ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.
وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا.. يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد شَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الصَّلَاةُ والصِّيَامُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَطْ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ تَدْخُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَاتَّقِ اللهَ فِي عِبَادَةِ مَوْلَاكَ، لَا تُفَرِّطْ فِيهَا، وَاتَّقِ اللهَ فِي إِخْوَانِكَ، لَا تُؤْذِ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَاتَّقِ اللهَ فِي بَلَدِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَلَا تُهْمِلْ فِي صِحَّتِكَ، وَلَا تَتَخَلَّقْ بِسِوَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ».
اتَّقِ اللهَ فِي وَطَنِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَا تَدْفَعْهُ إِلَى الْفَوْضَى وَالشِّقَاقِ.
إِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الْخَائِنُونْ!!
أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهْ؟!!
إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونْ؟!!
وَقَدْ تَضِيقُ أَخْلَاقُ الرَّجُلِ فَيَظُنُّ أَنَّ وَطَنَهُ قَدْ ضَاقَ بِهِ، وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
وَرَبِّكَ مَا ضَاقَتْ بِلَادٌ بِأَهْلِهَا=وَلَكِنَّ أَخْلَاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ
وَحَالُ مَنْ فَارَقَ وَطَنَهُ هُوَ:
شَوْقٌ يَخُضُّ دَمِي إِلَيْهِ، كَأَنَّ كُلَّ دَمِي اشْتِهَاءْ
جُوعٌ إِلَيْهِ.. كَجُوعِ دَمِ الغَرِيقِ إِلَى الهَوَاءْ
شَوْقُ الجَنِينِ إِذَا اشْرَأَبَّ مِنَ الظَّلَامِ إِلَى الْوِلَادَة
إِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الخَائِنُونْ!
أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهْ؟!!
إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونْ؟!!
الشَّمْسُ أَجْمَلُ فِي بِلَادِي مِن سِوَاهَا، وَالظَّلَامْ
حَتَّى الظَّلَامُ هُنَاكَ أَجْمَلُ؛ فَهْوَ يَحْتَضِنُ الكِنَانَة
وَاحَسْرَتَاهُ!! مَتَى أَنَامْ..
فَأُحِسُّ أَنَّ عَلَى الوِسَادَة
مِنْ لَيْلِكِ الصَّيْفيِّ طَلًّا فِيهِ عِطْرُكِ يَا كِنَانَة؟
فَمَا دَامَ الْوَطَنُ إِسْلَامِيًّا فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ الْإِضْرَارُ بِهِ.
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
لُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامِهِمْ))
لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْقَاعِدَةَ الَّتِي إِذَا مَا أَخَذَ بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ عَاشَ فِي تَوَاؤُمٍ وَسَلَامٍ، وَبَعُدَ عَنْهُ شَبَحُ الْفَوْضَى وَالِانْقِسَامِ، وَمَتَى مَا خُولِفَتِ الْقَاعِدَةُ دَبَّتِ الْفَوْضَى فِي أَرْجَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَسُلِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُزْهِقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَقُطِّعَتِ الطُّرُقُ، فَلَا جُمُعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ؛ مِنْ أَثَرِ هَذِهِ الْفَوْضَى الَّتِي تَعُمُّ الدِّيَارَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ -عَلَيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ- وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ)).
فَأَمَرَ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِمَّنْ وَلَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، وَلَكِنْ.. طَاعَتُهُ فِي الْمَعْرُوفِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)).
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
الْحِفَاظُ عَلَى سَفِينَةِ الْوَطَنِ))
قَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وَقَدْ قَرَنَ اللهُ -تَعَالَى- الْأَمْنَ بِالْعِبَادَةِ وَذَلِكَ لِعَظِيمِ قِيمَتِهِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وَالِابْتِدَاءُ بِطَلَبِ نِعْمَةِ الْأَمْنِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَالْخَيْرَاتِ, وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا بِهِ.
فَبَدَأَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي هَذَا الدُّعَاءِ بِطَلَبِ الْأَمْنِ لِلْبَلَدِ الْحَرَامِ, وَسَأَلَ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُجَنِّبَهُ وَبَنِيهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ}.
فَهَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ، وَتَضْيِيعُهُ يُؤَدِّي إِلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ, وَالَّذِينَ يَبْغُونَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي وَلَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْأُصُولَ! وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُونَ مِنْ حَمَاسَةٍ زَائِفَةٍ وَمِنْ مَكْرٍ مُبَيَّتٍ!!
وَهَؤُلَاءِ يَسْعَوْنَ مَا يَسْعَوْنَ مِنْ أَجْلِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ, وَهُمْ يَبْغُونَ عَلَى أَوْطَانِهِمْ, وَيَقْتُلُونَ مُوَاطِنِيهِمْ, وَيَعْتَدُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَبْغُونَ عَلَيْهِمْ.
وَلْنَعْلَمْ جَمِيعًا أَنَّ الْبَغْيَ عَاقِبَتُهُ وَخِيمَةٌ، وَأَنَّهُ أَسْرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً؛ فَبَغْيُ الْبَاغِي سِهَامٌ يَرْمِيهَا مِنْ نَفْسِهِ إِلَى نَفْسِهِ, وَلَوْ رَأَى الْمَبْغِيُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَسَرَّهُ بَغْيُ الْبَاغِي عَلَيْهِ, وَلَكِنْ لِضَعْفِ بَصِيرَتِهِ لَا يَرَى إِلَّا صُورَةَ الْبَغْيِ دُونَ آخِرِهِ وَمَآلِهِ, وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاَقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ} [الحج: ٦٠].
فَإِذَا كَانَ اللهُ -تَعَالَى- قَدْ ضَمِنَ لَهُ النَّصْرَ مَعَ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ أَوَّلًا، فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَسْتَوْفِ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ؟ بَلْ بُغِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ صَابِرٌ, يُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ، وَيَرْفَعُ الشَّكَاةَ إِلَى اللهِ, وَيَسْتَنْزِلُ سَخَطَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْبَاغِي عَلَيْهِ.
مَا مِنَ الذُّنُوبِ ذَنْبٌ أَسْرَعُ عُقُوبَةً مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، قَالَ ﷺ: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ, وَالتِّرْمِذِيُّ, وَابْنُ مَاجَهْ, عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ سَبَقَتْ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى: أَنَّهُ لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَجَعَلَ الْبَاغِيَ مِنْهُمَا دَكًّا؛ فَبَغْيُ الْبَاغِي سِهَامٌ يَرْمِيهَا مِنْ نَفْسِهِ إِلَى نَفْسِهِ.
فَإِذَا كَانَ الدِّفَاعُ عَنِ الْأَوْطَانِ مَشْرُوعًا، وَمَشْرُوعِيَّتُهُ بِحَسَبِ نِيَّةِ الْمُدَافِعِ عَنْ وَطَنِهِ, وَإِذَا كَانَ حُبُّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنَ الْإِيمَانِ؛ فَمَا أَعْظَمَ جَرِيمَةَ مَنْ يَسْعَى لِيَخْرِقَ السَّفِينَةَ لِيُغْرِقَ أَهْلَهَا!!
وَمَا أَشَدَّ جُرْمَ مَنْ يَسْعَى لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَإِطْلَاقِ الْغَرَائِزِ مِنْ قُيُودِهَا!! وَمَا أَكْبَرَ إِثْمَ مَنْ سَعْيُهُ لِإِضَاعَةِ مَكَاسِبِ الْإِسْلَامِ فِي بَلَدٍ يَنْعَمُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ بِهَذَا الدِّينِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ!!
((مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ:
الْحِفَاظُ عَلَى مَرَافِقِ الْوَطَنِ الْعَامَّةِ))
إِنَّ صُوَرَ الْعَدَاءِ لِلْوَطَنِ -وَطَنِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ- كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ فَكُلُّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْسِدَ الْبِلَادَ عَلَى أَهْلِهَا أَوْ يُسِيءَ إِلَيْهَا بِكَلِمَةٍ تُعِينُ عَلَى الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ بِكُلِّ صُورَةٍ -يَعْنِي: سَوَاءً كَانَ هَذَا الْفَسَادُ مِنَ الْمَعَاصِي أَوِ الذُّنُوبِ أَوِ الْمُنْكَرَاتِ, أَوْ كَانَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى؛ وَهِيَ الْغُلُوُّ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-- فَكُلُّ ذَلِكَ عَدَاءٌ لِلدِّينِ وَعَدَاءٌ لِبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَكْرٌ بِبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُ هَذَا -أَيْضًا-: أَحْدَاثُ الْأَحْزَابِ الْخَارِجَةِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامِهِمْ.
وَهَكَذَا عَدَمُ احْتِرَامِ الْمَالِ الْعَامِّ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّضْيِيعِ لَهُ؛ كَإِفْسَادِ الشَّوَارِعِ، أَوْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ الَّتِي غَرَسَهَا الْمُسْلِمُونَ لِلظِّلِّ وَالزِّينَةِ, وَهَذَا يَقَعُ فِي كُلِّ بَلَدٍ تُصَابُ بِالْفَوْضَى وَمَا يُسَمَّى بِالثَّوْرَةِ.
مَا ذَنْبُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُرْزَءُوا فِي أَمْوَالِهِمْ؟!!
مَا ذَنْبُهُمْ حَتَّى تُدَمَّرَ ثَرْوَاتُهُمْ، وَحَتَّى تُخَرَّبَ مُنْشَآتُهُمْ، وَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ؟!!
هَكَذَا عَدَمُ احْتِرَامِ الْمَالِ الْعَامِّ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّضْيِيعِ لَهُ؛ كَإِفْسَادِ الشَّوَارِعِ، أَوْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ الَّتِي غَرَسَهَا الْمُسْلِمُونَ لِلظِّلِّ وَالزِّينَةِ.
وَهَكَذَا نَجِدُ أَنَّ الْإِسْلَامَ رَاعَى حُقُوقَ الْوَطَنِ مَا دَامَ مَحَلًّا لِإِقَامَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَكَانًا لِقِيَامِ الشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ, وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ, وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ الْأَلْبَانِيُّ بِالْحُسْنِ لِغَيْرِهِ.
الطَّرِيقُ جُزْءٌ مِنْ أَرْضِ الْوَطَنِ.. مِنْ تُرَابِهِ، وَهَكَذَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا لَهَا ارْتِبَاطٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا تُسْتَقْصَى.
إِنَّ الْمُحِبَّ لِوَطَنِهِ مُحَافِظٌ عَلَى نَظَافَةِ أَمَاكِنِهِ الْعَامَّةِ؛ فَالْأَمْرُ بِالنَّظَافَةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ الشَّخْصِيَّةِ أَوْ نَظَافَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، بَلْ وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّوْجِيهِ بِتَنْظِيفِ الْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ وَيَتَفَاعَلُ مَعَهَا.
قَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْبِيئَةُ طَرِيقَهُ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، أَوْ مَدْرَسَتَهُ أَوْ جَامِعَتَهُ الَّتِي يَتَعَلَّمُ فِيهَا، أَوْ مَكَانًا عَامًّا يَقْضِي مِنْ خِلَالِهِ مَصَالِحَهُ أَوْ يَتَنَزَّهُ فِيهِ.
وَقَدْ عُنِيَ الْإِسْلَامُ عِنَايَةً خَاصَّةً بِتَنْظِيفِ الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ وَإِزَالَةِ الْأَذَى عَنْهَا، وَجَعَلَهَا بَابًا وَاسِعًا مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ؛ فَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ صَدَقَةٌ.
((عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمْ حُبَّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ))
إِنَّ عَلَى كُلٍّ مِنَّا وَاجِبًا تِجَاهَ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَقُومَ بِهِ، بِدَايَةً مِنَ الْأُسْرَةِ وَالْمَدْرَسَةِ وَالْجَامِعَةِ؛ يَنْبَغِي أَنْ نُعَلِّمَ أَبْنَاءَنَا أَنَّ: حُبَّ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ مِصْرَ دُرَّةُ التَّاجِ عَلَى جَبِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، حَمَلَتْ كِتَابَ اللهِ، وَأَدَّتْهُ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانَ لَهَا مُشَارَكَةٌ جَيِّدَةٌ فِي حِفْظِ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَفِي نَشْرِهَا، وَكَانَتْ حَاضِرَةَ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ لَمَّا انَحْسَرَتْ شَمْسُ الْخِلَافَةِ عَنْ بَغْدَادَ وَدِمَشْقَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْرَقَتْ فِي الْقَاهِرَةِ.
أَلِي فِي الْهَوَى مَا لِي وَلِلَّائِمِ الْعُذْرُ؟!=أَمَا يَعْلَمُ اللُّوَّامُ أَنَّ الْهَوَى مِصْرُ؟!
فَإِنْ يَسْأَلُوا مَا حُبُّ مِصْرَ فَإِنَّهُ=دَمِي وَفُؤَادِي وَالْجَوَانِحُ وَالصَّدْرُ
لِنَفْسِي وَفَائِي إِنْ وَفَيْتُ بِعَهْدِهَا=وَبِي لَا بِهَا إِنْ خُنْتُ حُرْمَتَهَا الْغَدْرُ
أَخَافُ وَأَرْجُو وَهْيَ جَهْدُ مَخَافَتِي=وَمَرْمَى رَجَائِي لَا خَفَاءٌ وَلَا نُكْرُ
هِيَ الْعَيْشُ وَالْمَوْتُ الْمُبَغَّضُ وَالْغِنَى=لِأَبْنَائِهَا وَالْفَقْرُ وَالْأَمْنُ وَالذُّعْرُ
***
وَهَبْتُ الصِّبَى وَالشَّيْبَ وَالشَّوْقَ وَالْهَوَى=لِمِصْرَ وَإِنْ لَمْ أَقْضِ حَقَّ الْهَوَى مِصْرَا
بِلَادٌ حَبَتْنِي أَرْضُهَا وَسَمَاؤُهَا=حَيَاتِي، وَأَجْرَى نِيلُهَا فِي فَمِي الدُّرَّا
وَمَا حَادِثٌ يَوْمًا وَإِنْ رَاعَ وَقْعُهُ=بِمَاحٍ هَوَاهَا أَوْ يُطَاوِلُهَا ذِكْرَا
***
وَطَنِي أَسِفْتُ عَلَيْكَ فِي عِيدِ الْمَلَا=وَبَكَيْتُ مِنْ وَجْدٍ وَمِنْ إِشْفَاقِ
لَا عِيدَ لِي حَتَّى أَرَاكَ بِأُمَّةٍ=شَمَّاءَ رَاوِيَةٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ
ذَهَبَ الْكِرَامُ الْجَامِعُونَ لِأَمرِهِمْ=وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ بِغَيْرِ خَلَاقِ
أَيَظَلُّ بَعْضُهُمُ لِبَعضٍ خَاذِلًا=وَيُقَالُ شَعْبٌ فِي الْحَضَارَةِ رَاقِ؟!
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِشْقَاءَ الْقُرَى=جَعَلَ الْهُدَاةَ بِهَا دُعَاةَ شِقَاقِ
***
يَا أَهْلَ مِصْرَ كِلُوا الْأُمُورَ لِرَبِّكُمْ=فَاللَّهُ خَيْرٌ مَوْئِلًا وَوَكِيلَا
جَرَتِ الْأُمُورُ مَعَ الْقَضَاءِ لِغَايَةٍ=وَأَقَرَّهَا مَنْ يَمْلِكُ التَّحْوِيلَا
أَخَذَتْ عِنَانًا مِنْهُ غَيْرَ عِنَانِهَا=سُبْحَانَهُ مُتَصَرِّفًا وَمُدِيلَا
((رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ مُحِبٍّ لِوَطَنِهِ))
أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! إِنَّ الْوَطَنِيَّةَ تُوجِبُ: ((أَنْ يَبْذُلَ الْمَرْءُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْخِبْرَةِ وَالنُّصْحِ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ لِمَنْفَعَةِ بَنِي وَطَنِهِ؛ فَيَسْتَقِيمُ فِي وَظِيفَتِهِ، وَيَنْصَحُ فِي تِجَارَتِهِ، وَلَا يَغُشُّ فِي حِرْفَتِهِ.
وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي تَحْسِينِ حَالَتِهِ وَلَوْ بِالسَّفَرِ إِلَى الْمَمَالِكِ الْبَعِيدَةِ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ يُفِيدُ بِهِ قَوْمَهُ، أَوْ صَنْعَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا فِي وَطَنِهِ، أَوْ تِجَارَةٍ يَجْلِبُ مِنْهَا لِبِلَادِهِ مَا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ)).
أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ:
رَعَاكُمُ اللهُ وَحَفِظَكُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي كُلِّ زَمَانٍ، يَنْبَغِي أَنْ تَفْهَمُوا مَا تَمُرُّ بِهِ بَلَدُكُمْ مِنْ أَحْوَالٍ، وَأَنْ تُحِيطُوا بِمَا يُدَبَّرُ لَهَا مِنْ مُؤَامَرَاتٍ، اجْعَلُوا الْمَصْلَحَةَ الْخَاصَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، وَتَأَمَّلُوا فِي مَصِيرِ حَرِيمِكُمْ مِنْ أُمَّهَاتِكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ وَعَمَّاتِكُمْ وَخَالَاتِكُمْ.
فَحَافِظُوا عَلَى أَعْرَاضِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي الْأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ؛ حَتَّى لَا تَلْعَنَكُمْ عِنْدَمَا تَذْكُرُكُمْ، وَلَنْ تَنِيَ عَنْ ذِكْرِكُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا إِنْ ضَيَّعْتُمْ وَطَنَهَا وَأَرْضَهَا وَفَرَّطْتُمْ فِي عَقِيدَتِهَا وَدِينِهَا.
أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ:
كُونُوا صَفًّا وَاحِدًا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ الْخَطْبَ عَظِيمٌ، وَإِنَّ الْخَطَرَ جَسِيمٌ، وَكُلُّ مَنْ آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَصِيرَةً يَعْلَمُ هَذَا حَقَّ الْيَقِينِ.
اتَّقُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، أَلَا تُبْصِرُونَ؟!
إِنَّ الْمُؤَامَرَةَ تُحَاكُ أَطْرَافُهَا تَحْتَ أَعْيُنِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ!
فَلِمَاذَا لَا تُبَالُونَ؟!
وَلِمَاذَا لَا تَرْعَوُونَ؟!
وَلِمَاذَا لَا تُفَكِّرُونَ؟!
لِمَاذَا لَا تَنْظُرُونَ؟!
أَمْ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَا تُبْصِرُونَ؟!
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُنَجِّيَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَسُوءٍ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: سِمَاتُ وَسُلُوكُ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ فِي ضَوْءِ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ