((خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
((الْأَمْرُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))
فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
وَتَعَاوَنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَرْتَبَةِ الْبِرِّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْقِيَامِ بِمُقْتَضَيَاتِ مَرْتَبَةِ التَّقْوَى الَّتِي تَتَحَقَّقُ لَكُمْ بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَلَا يُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى تَرْكِ مَا أَمَرَ اللهُ بِفِعْلِهِ، وَفِعْلِ مَا أَمَرَ بِتَرْكِهِ، وَمُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللهِ، وَاتَّقُوا اللهَ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَتْرُكُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، أَوْ تَرْتَكِبُوا مَا نَهَاكُمُ اللهُ عَنْهُ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ.
وَالْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، مِنَ التَّحَقُّقِ بِعَقَائِدِ الدِّينِ وَأَخْلَاقِهِ، وَالْعَمَلِ بِآدَابِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، مِنَ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا؛ فَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ.
وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى التَّقْوَى: التَّعَاوُنُ عَلَى اجْتِنَابِ وَتَوَقِّي مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ؛ بَلْ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
((خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ وَالْكِفَائِيِّ))
((الْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ هُوَ: مَا يَنْظُرُ فِيهِ الشَّارِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَاعِلِ; كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ تَلْزَمُهُ بِعَيْنِهِ طَاعَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56])) .
((فَالْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ: هُوَ مَا تَوَجَّهَ فِيهِ الطَّلَبُ اللَّازِمُ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ؛ أَيْ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَا يَكْفِي فِيهِ قِيَامُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ, وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُكَلَّفِ مِنْهُ إِلَّا بِأَدَائِهِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي هَذَا الْوَاجِبِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا فَعَلَهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ, وَمِن ثَمَّ يَأْثَمُ تَارِكُهُ وَيَلْحَقُهُ الْعِقَابُ, وَلَا يُغْنِي عَنْهُ قِيَامُ غَيْرِهِ بِهِ، وَمِثَالُهُ: الصَّلَاةُ, وَالصِّيَامُ, وَالْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ, وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
* وَالْوَاجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُكَلَّفِينَ, لَا مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ حُصُولُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْبَعْضُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَعْضِ يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ؛ فَكَانَ التَّارِكُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَاعِلًا, وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ الْقَادِرِينَ.
وَقَدْ يَئُولُ وَاجِبُ الْكِفَايَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَيْنِيًّا, فَلَوْ كَانَتِ الْبَلَدُ مُضْطَرَّةً إِلَى قَاضِيَيْنِ, وَكَانَ هُنَاكَ عَشْرَةٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ؛ فَإِنَّ تَوَلِّيهِ وَاجِبٌ كِفَائِيٌّ عَلَى الْعَشْرَةِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ اثْنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاجِبًا عَيْنِيًّا عَلَيْهِمَا)) .
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِ «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» -بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ ذَكَرَهَا-: «قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ, وَمِنْهُ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ, وَاخْتَلَفُوا فِي تَلْخِيصِ ذَلِكَ.
وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمِيعَ فَرْضُهُ مِنْ ذَلِكَ: مَا لَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ جَهْلُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرَائِضِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ)).
* وَمِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ الْعَيْنِيَّةِ لِخِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ: تَعَلُّمُ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقُهُ؛ فَإِصْلَاحُ الْعَقِيدَةِ هُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ فِي أَخْذٍ بِأَسْبَابِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ.
يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أُمُورَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ نَلْتَزِمَ بِالتَّوْحِيدِ فِي كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَلَّغَنَا عَنْ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فَضْلَ التَّوْحِيدِ، وَعَظِيمَ أَثَرِهِ فِي النَّفْسِ، وَفِي الْمَآلِ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَعَثَ رَسُولَهُ ﷺ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِخْوَانَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِهِ، بَعَثَهُمْ جَمِيعًا بِرِسَالَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِتَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ، وَكُلُّهُمْ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وَالرَّسُولُ ﷺ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
لَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَاهَا، وَتَحْقِيقِهَا، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِيهَا.
عِبَادَ اللهِ! بَالتَّوحِيدِ يُقْبَلُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمِنْ غَيْرِ التَّوْحِيدِ لَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ تَوْحِيدٍ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [المائِدَة: 36].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 56].
فَقَبُولُ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّوْحِيدِ.
التَّوْحِيدُ فِيهِ الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}؛ أَيْ بِشِرْكٍ، {أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
بِالتَّوْحِيدِ تَكُونُ الْعِزَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَتَكُونُ عِزَّةُ الْمَرْءِ فِي الْآخِرَةِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 139].
فَالْعِزَّةُ وَالنَّصْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً لَا يَتَحَقَّقَانِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلْعَزِيزِ المَجِيدِ.
وَالْمَصْلَحَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].
فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.
* وَمِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوضِ الْعَيْنِيَّةِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهِ صَلَاحُ الْمُجْتَمَعِ وَفَلَاحُهُ، وَفَوْزُهُ وَنَجَاحُهُ، وَأَمْنُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ: الصَّلَاةُ؛ فَالصَّلَاةُ هِيَ آكَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَقَدْ فَرَضَهَا اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ خَاتَمِ الرُّسُلِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي السَّمَاءِ بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّرَائِعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَظَمَتِهَا، وَتَأَكُّدَ وُجُوبِهَا، وَمَكَانَتِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]؛ أَيْ: مَفْرُوضًا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهِ وَبِفِعْلِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31].
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ...))، وَذَكَرَ بَاقِيَ الْأَرْكَانِ.
وَقَدْ تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا؛ تَرْغِيبًا فِيهَا, وَحَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ...} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1-11].
* وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّ بِهَا قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، وَرَاحَةَ النَّفْسِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي (سُنَنِهِ)) ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَكَانَ يَقُولُ: ((قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَنَصُّهُ عِنْدَهُ: ((يَا بِلَالُ! أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا)) . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ، وَبِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَصِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، يَقُومُ الْمُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا ذَلِيلًا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَسْأَلُهُ حَاجَاتِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَالصَّلَاةُ رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
* وَمِنْ فَوَائِدِهَا أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إِذَا صَلَّاهَا الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].
* وَمِنْ فَوَائِدِهَا أَنَّهَا عَوْنٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى))؛ أَيْ أَهَمَّهُ أَمْرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).
* وَمِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ: مَا يَحْصُلُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَحُصُولِ التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ بَيْنَهُمْ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ، وَتَنْبِيهِ الْغَافِلِ، وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيعَابِ، وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ.
* وَمِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوضِ الَّتِي تُحَقِّقُ السَّلَامَ الِاجْتِمَاعِيَّ، وَالتَّرَابُطَ وَالْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ: الزَّكَاةُ؛ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّهَا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كُفْرِ مَنْ جَحَدَ الزَّكَاةَ، وَأَجْمَعُوا -أَيْضًا- عَلَى قِتَالِ مَنْ مَنَعَ إِخْرَاجَهَا.
* وَلِلزَّكَاةِ أَهَمِّيَّةٌ عُظْمَى فِي الْإِسْلَامِ, وَلِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِهَا تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا, وَهَذِهِ بَعْضُ حِكَمِ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ :
1ـ تَطْهِيرُ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالشَّرَهِ وَالطَّمَعِ.
2ـ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ, وَسَدُّ حَاجَاتِ الْمُعْوِزِينَ وَالْبُؤَسَاءِ وَالْمَحْرُومِينَ.
3ـ إِقَامَةُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا حَيَاةُ الْأُمَّةِ وَسَعَادَتُهَا.
4ـ الْحَدُّ مِنْ تَضَخُّمِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ, وَبِأَيْدِي التُّجَّارِ وَالْمُحْتَرِفِينَ، كَيْ لَا تُحْصَرَ الْأَمْوَالُ فِي طَائِفَةٍ مَحْدُودَةٍ، أَوْ تَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ.
مِنْ حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ :
5ـ أَنَّهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كَأَنَّهُ أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ؛ يَعْطِفُ فِيهَا الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَالْغَنِيُّ عَلَى الْمُعْسِرِ.
6ـ وَأَنَّهَا تُطْفِئُ حَرَارَةَ ثَوْرَةِ الْفُقَرَاءِ وَحِقْدِهِمْ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ.
7ـ وَتَمْنَعُ الْجَرَائِمَ الْمَالِيَّةَ؛ كَالسَّرِقَاتِ، وَالنَّهْبِ، وَالرِّشْوَةِ، وَالِاخْتِلَاسِ، وَالسَّطْوِ.
8ـ وَتُزَكِّي الْمَالَ؛ أَيْ: تُنَمِّيهِ.
9ـ وَهِيَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْخَيْرَاتِ.
الزَّكَاةُ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِالْمُسَاوَاةِ وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالتَّعَاوُنِ، وَقَطْعِ دَابِرِ كُلِّ شَرٍّ يُهَدِّدُ الْفَضِيلَةَ وَالْأَمْنَ وَالرَّخَاءَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْبَقَاءِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُزَكِّي وَالْمُزَكَّى عَلَيْهِ، وَلِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ.
فَهِيَ تُطَهِّرُ الْمُزَكِّيَ وَتُنَمِّي مَالَهُ، وَتَنْزِلُ بِسَبَبِهَا الْبَرَكَةُ فِيهِ، وَيَنْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا الْمُسْلِمِينَ.
فَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ طُهْرَةً لِصَاحِبِهَا مِنْ رَذَائِلَ نَفْسِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَتَنْمِيَةً حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً مِنْ آفَةِ النَّقْصِ، وَجَعَلَهَا رَبُّنَا مُسَاوَاةً بَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَخَوَّلَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَجَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِعَانَةٍ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ لِإِخْوَانِهِمُ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَا يُقِيمُ أَوْدَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَلَيْسَتْ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى عَمَلٍ.
جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّكَاةِ تَحْقِيقًا لِلسَّلَامِ وَالْأَمْنِ، الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ بِوُجُودِ طَائِفَةٍ جَائِعَةٍ تَرَى الْمَالَ وهي مَحْرُومَةٌ مِنْهُ، وَجَعَلَهَا اللهُ تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ، وَجَمْعًا لِلْكَلِمَةِ؛ يَجُودُ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنَصِيبٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِسَبَبِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، فَيُؤْتِيهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَحَبَّةَ، وَيَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ مُجْتَمَعًا مُتَوَادًّا مُتَحَابًّا، لَا حِقْدَ فِيهِ وَلَا أَثَرَةَ.
وَأَمَّا مِنْ أَمْثِلَةِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ: فَكُلُّ عِلْمٍ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي قِوَامِ أُمُورِ الدُّنْيَا؛ كَالطِّبِّ، إِذْ هُوَ ضَرُورِيٌّ فِي حَاجَةِ بَقَاءِ الْأَبْدَانِ عَلَى الصِّحَّةِ, وَالْحِسَابِ؛ فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا.
فَهَذِهِ الْعُلُومُ لَوْ خَلَا الْبَلَدُ عَمَّنْ يَقُومُ بِهَا حَرِجَ أَهْلُ الْبَلَدِ, وَإِذَا قَامَ بِهَا وَاحِدٌ كَفَى وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ)).
* وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الَّتي يَجِبُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَدَاؤُهَا: تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ، وَحَمْلُ جِنَازَتِهِ، واتِّبَاعُهَا، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ؛ فَإِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ وَجَبَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى غَسْلِهِ.
وُجُوبُ الْغَسْلِ لِأَمْرِهِ ﷺ بِهِ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ.
هَذَا الْوُجُوبُ -وُجُوبُ غَسْلِ الْمَيِّتِ- عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ؛ يَعْنِي هَذَا وَاجِبٌ كِفَائيٌّ؛ فَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ حَضَرَ سَقَطَ فَرْضُ طَلَبِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنْ إِذَا مَا تَرَكُوا ذَلِكَ جَمِيعًا أَثِمُوا؛ يَعْنِي مَنْ كَانَ حَاضِرًا.
((إِسْهَامَاتُ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِي فِي خِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ))
لَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ فِي عَلَاقَةِ الْمُسْلِمِ بِأُسْرَتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36].
{وَبِذِي الْقُرْبَى}؛ أَيْ: وَبِذِي الْقُرْبَى إِحْسَانًا، أَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِلَى ذِي الْقُرْبَى، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36].
فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ؛ إِحْسَانِ الْمَرْءِ فِي أُسْرَتِهِ، وَإِحْسَانِ الْمَرْءِ فِي مُجْتَمَعِهِ.
وَجَاءَ الْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ بِإِحْسَانِ الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ، بِإِحْسَانِ الْأَفْعَالِ وَإِحْسَانِ الْأَقْوَالِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
فَكَمَا أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْإِحْسَانِ فِي الْأَفْعَالِ، أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْأَقْوَالِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ جُمْلَةً مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْبَذْلِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].
وَأَعْطَى الْمَالَ عَلَى شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ قَرَابَتِهِ، وَالْيَتَامَى الَّذِينَ تُوُفِّيَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَالْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يَدُلُّ ظَاهِرُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ ذَوُو حَاجَةٍ، وَالْمُسَافِرَ الْمُنْقَطِعَ عَنْ أَهْلِهِ، وَالطَّالِبِينَ الْمُسْتَطْعِمِينَ، وَأَعْطَى الْمَالَ فِي مُعَاوَنَةِ الْمُكَاتَبِينَ حَتَّى يَفُكُّوا رِقَابَهُمْ، أَوْ فِي فَكِّ الْأَسْرَى مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِفِدَائِهِمْ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصَّدَقَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَتُشْرَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِإِطْلَاقِ الْحَثِّ عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلتَّرْغِيبِ فِيهَا؛ قَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280].
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ))، ذَكَرَ مِنْهُمْ: ((وَرَجَلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ)).
وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُ الْمُتَصَدِّقِ، غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهَا عَلَى الْمُحْتَاجِ؛ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].
* وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْأَبْعَدِينَ؛ فَقَدْ أَوْصَى اللهُ بِالْأَقَارِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى قَرِيبِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26].
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ)). رَوَاهُ سَلْمَانُ الضَّبِّيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)).
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَالِ حُقُوقًا سِوَى الزَّكَاةِ:
* نَحْوَ مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ، وَصِلَةِ إِخْوَانِكَ، وَإِعْطَاءِ سَائِلٍ، وَإِعَارَةِ مُحْتَاجٍ، وَإِنْذَارِ مُعْسِرٍ، وَإِقْرَاضِ مُقْتَرِضٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].
* وَيَجِبُ إِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَكُسْوَةُ الْعَارِي، وَسَقْيُ الظَّمْآنِ، بَلْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا.
هَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، دِينُ التَّعَاوُنِ وَالتَّآخِي فِي اللهِ، فَمَا أَجْمَلَهُ! وَمَا أَجَلَّهُ! وَمَا أَحْكَمَ تَشْرِيعَهُ!
إِنَّ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ الْعَظِيمَةِ: التَّطَوُّعَ.
وَالتَّطَوُّعُ: النَّافِلَةُ، وَكُلُّ مُتَنَفِّلٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} [البقرة: 184].
وَالتَّطَوُّعُ: مَا تَبَرَّعَ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُهُ.
وَالتَّطَوُّعُ يُكَمِّلُ الْفَرَائِضَ وَيَجْبُرُ نَقْصَهَا؛ فَفِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَتَمَّهَا كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكَمِّلُونَ بِهَا فَرِيضَتَهُ، ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
((الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ التَّطَوُّعِي فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ السِّرِّيَّةِ الَّتِي تَكُونُ دَاخِلَ الْمُجْتَمَعَاتِ بَعِيدًا عَنْ عِلْمِ وَمُرَاقَبَةِ الْقِيَادَةِ الْمُؤْمِنَةِ الْمُسْلِمَةِ؛ إِلَّا فِي نَجْوَى الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالصَّدَقَةِ لِذِي حَاجَةٍ مُتَعَفِّفٍ يَكْرَهُ أَنْ تُفْتَضَحَ حَاجَتُهُ؛ مُحَافَظَةً عَلَى مَكَانَتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ.
أَوْ مَجْلِسٍ تَكُونُ فِيهِ نَجْوَى قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ أَوْ أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ؛ فَوَاجِبُ النَّصِيحَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تَكُونَ سِرًّا لَا حَدِيثًا مُعْلَنًا، وَإِلَّا كَانَ فَضِيحَةً لَا نَصِيحَةً، وَرُبَّمَا جَرَّأَتْهُ الْفَضِيحَةُ عَلَى التَّمَادِي فِي الْغَيِّ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْإِثْمِ مَعَ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ.
أَوْ مَجْلِسٍ تَكُونُ فِيهِ نَجْوَى قَائِمَةٌ عَلَى مُحَاوَلَةِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ؛ لِيَتَرَاجَعَا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ.
وَمَنْ يَفْعَلْ تِلْكَ الْأُمُورَ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللهِ وَخَالِصَةً لِوَجْهِهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا لَا يَعْلَمُ قَدْرَهُ إِلَّا اللهُ.
((وَقَدْ حَضَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْإِيثَارِ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْجُودِ، وَهُوَ الْإِيثَارُ بِمَحَابِّ النَّفْسِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَبَذْلُهَا لِلْغَيْرِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، بَلْ مَعَ الضَّرُورَةِ وَالْخَصَاصَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ خُلُقٍ زَكِيٍّ))؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
الْأَنْصَارُ الَّذِينَ تَوَطَّنُوا الْمَدِينَةَ وَاتَّخَذُوهَا سَكَنًا، وَأَسْلَمُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَأَخْلَصُوا فِي الْإِيمَانِ، وَتَمَكَّنُوا فِيهِ مِنْ قَبْلِ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِمْ؛ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُنْزِلُونَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَزَازَةً وَغَيْظًا وَحَسَدًا مِمَّا أُعْطِيَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْفَيْءِ دُونَهُمْ؛ عِفَّةً مِنْهُمْ، وَشُعُورًا بِحَقِّ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَصَابَهُمُ الْفَقْرُ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ.
ويُؤثِرُ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى مَا يُؤْثِرُونَ بِهِ.
وَمَن يَكْفِهِ اللهُ الْحَالَةَ النَّفْسَانِيَّةَ الَّتِي تَقْتَضِي مَنْعَ الْمَالِ حَتَّى يُخَالِفَهَا فِيمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخْلِ وَالْحِرْصِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَدْفَعُ إِلَى ارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، فَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى- فِي الْمَصَارِفِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِالْإِنْفَاقِ فِيهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ؛ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ رَفِيعُوا الدَّرَجَةِ هُمْ وَحْدَهُمُ الظَّافِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
يُصْرَفُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، الَّذِينَ أُجْبِرُوا عَلَى تَرْكِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَرْجُونَ أَنْ يَتَفَضَّلَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَبِالرِّضْوَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ، وَيَنْصُرُونَ رَسُولَهُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ هُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْإِيمَانِ حَقًّا، وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ مِن قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَارُوا الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، يُحِبُّونَ مِنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِمْ غَيْظًا وَلَا حَسَدًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللهِ إِذَا مَا أُعْطُوا شَيْئًا مِنَ الْفَيْءِ وَلَمْ يُعْطَوْا هُمْ.
وَيُقَدِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَوْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ.
وَمَن يَقِهِ اللهُ حِرْصَ نَفْسِهِ عَلَى الْمَالِ، فَيَبْذُلُهُ في سَبِيلِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِنَيْلِ مَا يَرْتَجُونَهُ، وَالنَّجَاةِ مِمَّا يَرْهَبُونَهُ.
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ نَدَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمُسَارَعَةِ، وَتَرْكِ التَّبَاطُؤِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ؛ حَتَّى نَلْقَى جَزَاءَ ذَلِكَ وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ.
يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]؛ يَعْنِي: يُسَابِقُونَ مَنْ سَابَقَهُمْ إِلَيْهَا، فَهُمْ يَتَسَابَقُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَكُلٌّ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ سَابِقًا.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُخْبِرُنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُسَارِعَ إِلَى الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ.
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133]: سَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، وَإِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، أَوِ الْإِخْلَاصِ، أَوِ التَّوْبَةِ مِنَ الرِّبَا، أَوِ الثَّبَاتِ فِي الْقِتَالِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ آيَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.
لَقَدْ حَضَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرِ، وَأَمَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذَلِكَ؛ فَقَالَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.
فأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ؛ يَعْنِي: بِتَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ، وَهِيَ الطَّاعَةُ.
وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113-114].
وَذَكَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا كَانَ مِنْ زَكَرِيَّا وَآلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90-89].
وذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57-61].
وَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148].
فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا بِالْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا، وَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ التَّوَانِيَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ لَيْسَ بِالْخَيْرِ، وَأَنَّ الْإِسْرَاعَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ هُوَ الْخَيْرُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُسَارِعًا فِي تَحْصِيلِ الْمَغْفِرَةِ بِأَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا، وَإِلَّا كَانَ مِنَ الْمُقَصِّرِينَ.
لَقَدْ حَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عُمُومِ الْخَيْرِ وَأَفْعَالِهِ؛ فَقَالَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَأَعْطُوا الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ، وَتَصَدَّقُوا فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ؛ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ.
وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ عَمَلٍ إِرَادِيٍّ؛ سَوَاءٌ كَانَ عَمَلًا قَلْبِيًّا أَمْ نَفْسِيًّا أَمْ جَسَدِيًّا، تَلْقَوْا أَجْرَهُ وَثَوَابَهُ عِنْدَ اللهِ، تَجِدُوا ذَلِكَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ مِنَ الَّذِي ادَّخَرْتُمُوهُ وَلَمْ تُقَدِّمُوهُ.
وَاطْلُبُوا الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللهِ لِذُنُوبِكُمْ وَتَقْصِيرِكُمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ، إِنَّ اللهَ كَثِيرُ السَّتْرِ وَعَظِيمُهُ، دَائِمُ الرَّحْمَةِ وَعَظِيمُهَا.
((حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ، وَمَا أَمَرَ ﷺ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ الْآتِينَ بِهِ وَالْمُسْرِعِينَ إِلَى تَحْصِيلِهِ، وَمَا نَهَى عَنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الشَّرِّ إِلَّا وَكَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ ﷺ.
لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَمْرًا جَعَلَ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ مُشَارَطَةً، فَكَمَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عَبْدِهِ؛ يَنْبَغِي عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يُنعِمَ عَلَى خَلْقِهِ، وَكَمَا أَكْرَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَبْدَهُ؛ يَنْبَغِي عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يُكْرِمَ خَلْقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِلسَّلْبِ مِنْ بَعْدِ الْعَطَاءِ.
الرَّسُولُ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى أَخِيهِ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَا سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقْضِي حَوَائِجَهُ.
وَإِذَا مَا شَفَعَ لِأَخٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهَا عَلَى نَفْعٍ، أَوْ يَسْتَدْفِعُ بِهَا ضُرًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَصَّلَ مِنْ أَخِيهِ عَلَى نَفْعٍ وَلَوْ بِهَدِيَّةٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ، فَإِذَا شَفَعَ لِأَخِيهِ فَأَهْدَى أَخُوهُ إِلَيْهِ بَعْدَ الشَّفَاعَةِ الْمَقْبُولَةِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ وَلَجَ فِي بَابٍ مِنْ أَوْسَعِ أَبْوَابِ الرِّبَا.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ؛ فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
«فَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ فَضَحَ مُسْلِمًا أَوْ سَعَى فِي فُضُوحِهِ؛ فَضَحَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الدُّنْيَا وَعَلى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ؛ كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».
النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ فِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: إِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ؛ «كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».
وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَاجَةَ مُنَكَّرَةً؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ حَاجَةٍ قَضَيْتَ، قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً بِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ.
وَذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، لَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِيهِ تَأمُّلًا صَحِيحًا لَعَلِمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمْ يَجْعَلِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَقْصُورَةً عَلَى أُمُورٍ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْخَيْرَ شَائِعًا فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ.
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ؛ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».
((مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ:
إِطْعَامُ الْفُقَرَاءِ، وَقَضَاءُ دُيُونِهِمْ))
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ أَنَّ إِطْعَامَ أَحْوَجِ النَّاسِ مِنْ صِفَاتِ الْأَبْرَارِ مِنْ عِبَادِ اللهِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8-9].
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}؛ أَيْ: وَهُمْ فِي حَالٍ يُحِبُّونَ فِيهَا الْمَالَ وَالطَّعَامَ، لَكِنَّهُمْ قَدَّمُوا مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّةِ نُفُوسِهِمْ، وَيَتَحَرَّوْنَ فِي إِطْعَامِهِمْ أَوْلَى النَّاسِ وَأَحْوَجَهُمْ: {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.
وَيَقْصِدُونَ بِإِنْفَاقِهِمْ وَإِطْعَامِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَقُولُونَ بِلِسَانِ الْحَالِ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}؛ أَيْ: لَا جَزَاءً مَالِيًّا، وَلَا ثَنَاءً قَوْلِيًّا.
((وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟
قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اعْبُدُوا الرَّحْمَنَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا».
فَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْكَبِيرِ»، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا -أَيْ: مَنْ يَكُونُ بِدَاخِلِهَا يَرَى ظَاهِرَهَا، وَمَنْ يَكُونُ خَارِجَهَا يَرَى بَاطِنَهَا-، أَعَدَّهَا اللهُ -تَعَالَى- لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ.
وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِصُهَيْبٍ: فِيكَ سَرَفٌ فِي الطَّعَامِ.
فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ».
يُعَاتِبُهُ عُمَرُ فِي كَثْرَةِ إِطْعَامِهِ النَّاسَ، وَفِي كَثْرَةِ مَا يُنْفِقُ عَلَى ذَلِكَ.
فَقَالَ: سَمِعْتُ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: «خِيَارُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ».
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَوَّلَ مَا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَكُنْتُ فَيمَنْ جَاءَهُ، فَلَمَّا تَأَمَّلْتُ وَجْهَهُ وَاسْتَثْبَتُّهُ؛ عَلِمْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ.
قَالَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
أَوَّلُ بَيَانٍ فِي الْمَدِينَةِ عِنْدَمَا انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ عِنْدَ قُدُومِهِ مُهَاجِرًا ﷺ هَذَا الْبَيَانُ: «أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَيُرَبِّي لِأَحَدِكُمُ التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ, حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ.
قَالَ: «إِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ، فَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ؛ أَعْتِقِ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ؛ فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي».
قَالَ: يَا رَبِّ! وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!!
قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟!
يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي».
قَالَ: يَا رَبِّ! كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟
قَالَ: «اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: ((إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ؛ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً)). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوْعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا». وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ)) .
((مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ:
رِعَايَةُ الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلِ))
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]؛ فِيهَا الْوِلَايَةُ عَلَى الْيَتِيمِ، وَإِحْسَانُ تَدْبِيرِ مَالِهِ.
وَقَدْ أَمَرَ بِاخْتِبَارِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ، فَإِذَا عُلِمَ رُشْدُهُ -وَهُوَ حِفْظُ مَالِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ لِلتَّصَرُّفِ وَالتَّصْرِيفِ- دُفِعَ لَهُ مَالُهُ.
إِنَّ فِي السَّعْيِ عَلَى الْيَتِيمِ أَجْرًا، وَفِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ أَجْرًا، لَا سِيَّمَا مَنْ وَجَدَ يَتِيمًا فِي بَيْتِهِ -سَوَاءٌ لِقَرَابَتِهِ أَوْ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ- وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَعَلَّمَهُ وَأَدَّبَهُ حَتَّى بَلَغَ الْحِنْثَ، فَكَمْ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-!
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ»، وَجَمَعَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ؛ يَعْنِي أَنَّهُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ؛ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ بِسَبَبِ عَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمَهُ فِي الدُّنْيَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا»، وَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : «حُقَّ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ لِيَكُونَ رَفِيقَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْجَنَّةِ، وَلَا مَنْزِلَةَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ».
فَكَفَالَةُ الْيَتِيمِ جَزَاؤُهَا عَظِيمٌ جِدًّا، فَلْيَحْرِصِ الْإِنْسَانُ عَلَى أَنْ يُصِيبَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمَسَاكِينِ كَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَكَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ»، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» .
«السَّاعِي»: الَّذِي يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فِي تَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُ الْأَرْمَلَةَ وَالْمِسْكِينَ.
«الْأَرْمَلَةُ»: الَّتِيْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، سُمِّيَتْ أَرْمَلَةً لِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ الْإِرْمَالِ، وَالْإِرِمَالُ: الْفَقْرُ وَذَهَابُ الزَّادِ لِفَقْدِ الزَّوْجِ، يُقَالُ: أَرْمَلَ الرَّجُلُ إِذَا فَنِيَ زَادُهُ.
«الْمَسَاكِينُ»: جَمْعُ مِسْكِينٍ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَهُ بَعْضُ شَيْءٍ.
مِنْ مَزَايَا دِينِ الْإِسْلَامِ كَثْرَةُ الْأُجُورِ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ، فَهَذَا السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ؛ أَيِ الْمَرْأَةِ الَّتِي بِجَانِبِهِ، سَوَاءٌ فَقَدَتِ الزَّوْجَ، أَمْ أَنَّهَا فِي جَانِبِ وَلِيِّ أَمْرِهَا، وَهُوَ يَسْعَى عَلَيْهَا لِيُؤَمِّنَ حَاجَاتِهَا الضَّرُورِيَّةَ، مُحْتَسِبًا الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ.
وَالسَّاعِي عَلَى الْمِسْكِينِ، سَوَاءٌ مِنْ قَرَابَتِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ قَرَابَتِهِ، يَسْعَى لِيُؤَمِّنَ قُوتَهُ الضَّرُورِيَّ، وَيَكْفِيَهُ مُؤْنَةَ الْعَيْشِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَمَسْكَنٍ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ.
وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَيْتَامُ، وَهُمْ أَحْوَجُ الْأَصْنَافِ إِلَى الْعِنَايَةِ بِهِمْ، وَالْيَتِيمُ هُوَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ مِنْ بَنِي آدَمَ؛ لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ الْمُرَبِّي التَّرْبِيَةَ الدِّينِيَّةَ، فَيَكُونُ أَحْرَصَ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
فَالسَّاعِي عَلَيْهِ -عَلَى الْيَتِيمِ- كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفَضْلُ الْجِهَادِ مَعْلُومٌ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، بِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبَوِّئُ الْمُجَاهِدَ الْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ فِي الْجَنَّةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» .
فَالسَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ كَأَنَّهُ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، صَائِمِ النَّهَارِ تَنَفُّلًا وَتَطَوُّعًا، وَالْقَائِمِ بِاللَّيْلِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ تَطَوُّعًا، وَكَمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَجْرِ!
فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: بَيَانُ أَنَّ السَّعْيَ عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ، وَالْقِيَامَ عَلَى أُمُورِهِمْ، جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ.
وَفِيهِ: أَنَّ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ يَتَحَصَّلُ الْمَرْءُ مِنْهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئا.
وَيَنْبَغِي عَلَيهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَوْصِيلِ الْخَيْرَاتِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَيْتَامِ وَالْمُعْوِزِينَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ، حَتَّى جَعَلَهُ ﷺ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَصِيَامِ النَّهَارِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ.
((مِنْ أَبْوَابِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ:
زِرَاعَةُ الْأَشْجَارِ، وَسَقْيُ الْمَاءِ))
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.
هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»، وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَوَاتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.
((وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي أَنْزِعُ في حَوْضِي، حَتَّى إِذَا مَلَأْتُهُ لِإِبَلِي وَرَدَ عَلَيَّ الْبَعِيرُ لِغَيْرِي فَسَقَيْتُهُ، فَهَلْ لِي في ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! الضَّالَّةُ تَرِدُ عَلَى حَوْضِي؛ فَهَلْ لِي فِيهَا مِنْ أَجْرٍ إِنْ سَقَيْتُهَا؟
قَالَ: «اسْقِهَا؛ فَإِنَّ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرًا». رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
سَقْيُ الْمَاءِ حَتَّى وَلَوْ لِلْكِلَابِ! حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلْكَلْبِ الضَّالِّ؛ فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ, فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ -أَيْ: صَعِدَ- فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟
قَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ».
«فَشَكَرَ اللهُ لَهُ؛ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ». فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
«فَشَكَرَ اللهُ؛ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ»؛ لِأَنَّهُ سَقَى كَلْبًا كَانَ يَلْهَثُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ؛ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ عَطَشِهِ -وَالثَّرَى: التُّرَابُ الْمُنَدَّى-.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَبْعٌ تَجْرِي لِلْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ». رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
«لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ.
يَحْفِرُ بِئْرًا، يَجْعَلُ لِلنَّاسِ صُنْبُورًا فِي سَبِيلٍ، يَبْذُلُ الْمَاءَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَالْعَطْشَانِ؛ «لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ مَاءٍ».
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟
قَالَ: «نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ» بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
فَاخْتَارَ لَهُ الْمَاءَ؛ أَنْ يَحْفِرَ لَهَا بِئْرًا، أَنْ يَجْعَلَ لَهَا سَبِيلًا؛ «وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ».
عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «الْمَاءُ».
فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ».
عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ حَفَرَ مَاءً؛ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ حَرَّى مِنْ جِنٍّ وَلَا إِنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إِلَّا آجَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» » .
سَقْيُ الْمَاءِ.. وَالنَّاسُ يُعَانُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ شُحِّ الْمَاءِ؛ حَتَّى لِرَيِّ زُرُوعِهِمْ، فَمَنْ جَعَلَ لَهُمْ وَسِيلَةً إِلَى رَيِّ زُرُوعِهِمْ بِمَا يَتَّخِذُهُ النَّاسُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ وَسَائِلَ، فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ أَفْضَلِ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ وَيُثِيبُ عَلَيْهِ.
تَلَوُّثُ الْمِيَاهِ شَائِعٌ ذَائِعٌ لَا يَخْفَى، وَتَدِبُّ بِسَبَبِهِ أَمْرَاضٌ تَفْتِكُ بِالْأَجْسَادِ وَتَفْرِيهَا فَرْيًا، فَمَنْ شَارَكَ أَوْ صَنَعَ لَهُمْ صَنِيعًا يَكُونُ مَاؤُهُ بَعِيدًا عَنْ هَذَا التَّلَوُّثِ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ عَبْدٌ إِلَى اللهِ.
((مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ النَّبِيلِ:
زِيَارَةُ الْمَرْضَى، وَمُوَاسَاتُهُمْ))
لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ فَضْلَ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ؛ فَعَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
((((وَالْخُرْفَةُ)): مَا يُخْتَرَفُ مِنَ النَّخْلِ حِينَ يُدْرَكَ)) .
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِسَبْعٍ, وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ؛ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي -إِلَى وَلِيمَةٍ وَنَحْوِهَا-، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ, وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالْحَرِيرِ، وَالْمَيَاثِرِ -وَهِيَ: جَمْعُ مِئْثَرَةٍ, وَهِيَ غِطَاءٌ كَانَتِ النِّسَاءُ يَضَعْنَهُ لِأَزْوَاجِهِنَّ عَلَى السُّرُوجِ, وَكَانَ مِنْ مَرَاكِبِ الْعَجَمِ؛ فَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ-، وَالدِّيبَاجِ -وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ-، وَالْقَسِّيِّ -وَهِيَ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ بِالْحَرِيرِ تُعْمَلُ بِالْقَسِّ؛ مَوْضعٍ بِمِصْرَ-، وَالِاسْتَبْرَقِ -وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ-)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَمْرُ النَّبِيِّ ﷺ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ, فَمَرِضَ, فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ, فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ, فَقَالَ لَهُ: ((أَسْلِمْ!)).
فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ, فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ, فَأَسْلَمَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
((مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ:
الْعِنَايَةُ بِالْمَسَاجِدِ وَتَطْهِيرُهَا))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِتَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ وَأَفْنِيَةِ الْبُيُوتِ، وَأَمَرَ بِتَطْهِيرِهَا؛ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ.
وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقَالُوا: مَاتَتْ.
فَقَالَ ﷺ: ((أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي)).
فَدَلُّوهُ عَلَى قَبْرِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ.
((مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ:
((نَظَافَةُ الشَّوَارِعِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَمْرَ بِالنَّظَافَةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ الشَّخْصِيَّةِ أَوْ نَظَافَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، بَلْ وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّوْجِيهِ بِتَنْظِيفِ الْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ وَيَتَفَاعَلُ مَعَهَا.
قَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْبِيئَةُ طَرِيقَهُ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، أَوْ مَدْرَسَتَهُ أَوْ جَامِعَتَهُ الَّتِي يَتَعَلَّمُ فِيهَا، أَوْ مَكَانًا عَامًّا يَقْضِي مِنْ خِلَالِهِ مَصَالِحَهُ أَوْ يَتَنَزَّهُ فِيهِ.
وَقَدْ عُنِيَ الْإِسْلَامُ عِنَايَةً خَاصَّةً بِتَنْظِيفِ الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ وَإِزَالَةِ الْأَذَى عَنْهَا، وَجَعَلَهَا بَابًا وَاسِعًا مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ؛ فَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ صَدَقَةٌ.
عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» .
وَ((الرَّاكِدُ)): السَّاكِنُ الَّذِي لَا يَجْرِي.
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَسَائِرِ مَسَائِلِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ مِنْ مَحَاسِنِهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ مَعَ الْمَاءِ الْجَارِي، الْإِنْسَانُ لَا يُلَوِّثُ الْمَوَارِدَ، وَكَمَا سَيَأْتِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَاعِنِ الَّتِي يَتَّقِيهَا الْإِنْسَانُ مِنْ ظِلِّ النَّاسِ وَطَرِيقِهِمْ وَمَوَارِدِهِمْ -مَوَاضِعِ شُرْبِهِمْ-.
هَذَا شَيْءٌ مُهِمٌّ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالنَّظَافَةِ الْعَامَّةِ، وَمُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالثِّقَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ، فَالْمَرْأَةُ مَثَلًا مَسْئُولَةٌ عَنْ إِعْدَادِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهِيَ لَا تُتَابَعُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ وَحْدَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى دَرَجَةٍ بِوَعْيٍ يَقِظٍ فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَمْ تُؤْمَنْ أَنْ تُبَاشِرَ النَّجَاسَةَ ثُمَّ تَضَعَ يَدَهَا الَّتِي بَاشَرَتِ النَّجَاسَةَ فِي طَعَامِ أَوْلَادِهَا وَزَوْجِهَا، وَهَلْ يَرَاهَا مِنْ أَحَدٍ سِوَى اللهِ؟!
وَأَمَّا الْتِزَامُ السُّنَّةِ فَشَيْءٌ آخَرُ.. هَذَا مُهِمٌّ!
يَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الظِّلِّ، أَوْ فِي الْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ، أَوْ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، أَوْ مَوَارِدِ الْمِيَاهِ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ)) .
مَا الَّذِي أَتَى بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ؟!!
نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النَّظَافَةَ..
وَنَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النِّظَامَ..
وَمَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنَّا..
نَحْنُ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا النَّظَافَةَ وَالنِّظَامَ..
وَعَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ..
((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ -وَهِيَ طُرُقُ الْمَاءِ-، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ -قَارِعَةُ الطَّرِيقِ: وَسَطُهَا-، وَالظِّلِّ)).
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ)).
قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
اللَّاعِنَانِ: الْأَمْرَانِ الْمُوجِبَانِ لِلَّعْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا لُعِنَ وَشُتِمَ، فَصَارَ هَذَا سَبَبًا، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ فَكَانَا كَأَنَّهُمَا اللَّاعِنَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا مُسْتَجْلِبَانِ لِلَّعْنِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لُعِنَ وَشُتِمَ.
((قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!))؛ وَمَا الْأَمْرَانِ الْمُسْتَجْلِبَانِ لِلَعْنِ مَنْ فَعَلَهُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟!!
قَالَ ﷺ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى -أَيْ يَقْضِي حَاجَتَهُ- فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ)) ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ لَعَنُوا فَاعِلَهُ وَشَتَمُوهُ وَسَبُّوهُ.
فَيَأْتِي الْإِنْسَانُ لِكَيْ يَمُرَّ عَلَى الْأَذَى وَالْقَذَرِ، رُبَّمَا وَهُوَ يَدْرِي وَرُبَّمَا لَا يَدْرِي، وَيُصِيبُهُ مَا يُصِيبُهُ إِنْ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ فِي بَدَنِهِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ وَبِغَيْرِ حَاجَةٍ!!
الرَّسُولُ ﷺ يَنْهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ.
هُنَاكَ نَصٌّ -أَيْضًا- عَنِ التَّبَوُّلِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْبَرَازِ فِي مَوَارِدِ النَّاسِ، مَوَارِدِ النَّاسِ فِي شِرْعَاتِهِمْ، فِي مَوَارِدِهِمُ الْمَائِيَّةِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ يَنْهَى أَنْ يُبَالَ أَوْ يُتَغَوَّطَ فِي الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَوَارِدِ أَوْ فِيهَا.
الرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي بِالْفِطْرَةِ دِينًا، يَأْتِي بِدِينِ الْفِطْرَةِ، بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَيَنْهَى أَنْ يُتَبَوَّلَ أَوْ يُتَغَوَّطَ فِي هَذِهِ الْمَوَارِدِ وَفِي الطُّرُقَاتِ وَتَحْتَ الظِّلَالِ، فِي مَقِيلِ النَّاسِ يَفْزَعُونَ إِلَى الظِّلِّ عِنْدَ الْحَرِّ.. عِنْدَ السَّفَرِ، عِنْدَمَا يُرِيدُونَ أَنْ يُرِيحُوا الْأَجْسَادَ الْمَكْدُودَةَ وَالْأَبْدَانَ الْمُتْعَبَةَ وَالْأَرْوَاحَ الْمُنْهَكَةَ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِالظِّلِّ الظَّلِيلِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ النَّمِيرِ فِي وَهَجِ الشَّمْسِ وَفِي شِدَّةِ حَرِّهَا، فَمَاذَا يَجِدُونَ؟!!
بَوْلًا وَغَائِطًا..!!
قِلَّةُ ذَوْقٍ، وَانْعِدَامُ أَدَبٍ.. وَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ!
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ.. دِينُ مَشَاعِرَ، دِينُ ذَوْقٍ، دِينُ أَحَاسِيسَ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ حِسٍّ حَسَنٍ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ ذَوْقٍ عَالٍ؛ فَسَتَجِدُ أَصْلَهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آيَةً تُتْلَى وَسُنَّةً تُرْوَى وَتُحْكَى، وَأَنَا لَكَ بِذَلِكَ زَعِيمٌ إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَأَمَّا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ)) . مُتَّفَقُّ عَلَيْهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: ((كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ))، فَلَا يَذْهَبَنَّ أَحَدٌ إِلَى شَجَرَةٍ لَهَا ظِلٌّ يَفِيِءُ إِلَيْهِ النَّاسُ، ثُمَّ يَقُولُ: لَئِنْ قَطَعْتُ هَذِهِ فَلَأَتَحَصَّلَنَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ! بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ آثِمًا!
((الْبَذْلُ وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ عِنْدَ سَادَةِ الْبَشَرِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبِهَذِهِ الْخِصَالِ بَلَغَ الذُّرَى مَنْ بَلَغَ.
سَلَامَةُ الصَّدْرِ، سَخَاوَةُ النَّفْسِ، النَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوِزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينِ.
يَبْذُلُ ﷺ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ .
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا حَكَتْ عَائِشَةُ، وَلَمْ تَبْلُغْ بِهِ السُّنُونَ مَبَالِغَهَا، فَإِنَّهُ ﷺ قَبَضَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ وَشَيْبُهُ مَعْدُودٌ، شَيَّبَتْهُ هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا؛ خَوْفًا مِنَ اللهِ وَقِيَامًا بِأَمْرِ اللهِ.
وَصَفَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَعَ ذَلِكَ وَمَا عَلَتْ بِهِ السُّنُونَ، قَالَتْ: لَمَّا كَانَ قَدْ أَصَابَهُ وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ -حَطَمَهُ النَّاسُ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَطُغْيَانِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَصِرَاعِهِمْ مَعَ الْحَقِّ، وَمُحَاوَلَاتِهِمْ لِطَمْسِ نُورِهِ، وَتَحَمَّلَ مَا تَحَمَّلَ رَاضِيًا فِي ذَاتِ اللهِ ﷺ، حَتَّى أُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَمِنْ دَارِهِ، مِنْ بَلَدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ-.
وَحُرِمَ مِنْ جِوَارِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَمِنَ السُّجُودِ عِنْدَهُ؛ تَبَتُّلًا لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَصُدَّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَهُ فِي نُسُكٍ مُحْرِمًا مُعْتَمِرًا، قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَحُبِسَ الْهَدْيُ فِي مَحِلِّهِ حَتَّى أَكَلَ وَبَرَهُ!
فَصُدَّ وَمَنْ مَعَهُ عَنِ البَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ بَنَاهُ أَبُوهُ وَجَدُّهُ، بَنَاهُ إِسْمَاعِيلُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ، حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ بِكَيْدِهِمُ الرَّخِيصِ، بِتَصَوُّرَاتِهِمُ الْهَزِيلَةِ، بِنَزَوَاتِهِمُ الْوَضِيعَةِ، وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ، وَسُوءِ قَصْدِهِمْ، وَعَدَمِ إِلْمَامِهِمْ بِجَنَبَاتِ نُفُوسِهِمْ فِي اتِّسَاعِ أُفُقِهَا الْوَضِيءِ، بِوُقُوفِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ رَغَبَاتِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، مَعَ اتِّبَاعِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُصَارِعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، يَتَحَمَّلُ الْأَذَى فِيهِ وَالْمَكْرُوهَ، رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ، وَأَعَزَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جُنْدَهُ وَنَصَرَهُمْ، وَأَعْلَى شَأْنَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمُ الْبِلَادَ وَقُلُوبَ الْعِبَادِ، وَمَكَّنَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْ رِقَابِ الْخَلْقِ.
فَسَارُوا فِي ذَلِكَ سِيرَةَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَظْلِمُوا وَلَمْ يَحِيفُوا، وَكَانَ مَا كَانَ، وَوَقَعَتْ أُمُورٌ، وَكَانَ فِي حَاجَةِ إِخْوَانِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، فِي حَرْبِهِ وَسِلْمِهِ، فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَعلَى جَنْبٍ ﷺ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ مُعَلِّمًا.
كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي حَلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، فِي قِيَامِهِ وَفِي ظَعْنِهِ، كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، فِي ضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ، فِي مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.
كَانَ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ.. حَاشَاهُ! ﷺ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77].
فَانْطَلَقَا -مُوسَى وَالْخَضِرُ- يَمْشِيَانِ حَتَّى أَتِيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ؛ طَلَبَا مِنْهُمْ طَعَامًا عَلَى سَبِيلِ الضِّيَافَةِ، فَامْتَنَعَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ الْبُخَلَاءُ عَنْ ضِيَافَتِهِمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا مَائِلًا يُريدُ -كَعَجُوزٍ مِنَ النَّاسِ هَرِمٍ- أَنْ يَنْهَدِمَ وَيَسْقُطَ إِلَى الْأَرْضِ كَانْقِضَاضِ الطَّائِرِ، فَسَوَّاهُ الْخَضِرُ بِيَدِهِ.
فَلَمَّا أَقَامَ الْجِدَارَ لَمْ يَتَمَالَكْ مُوسَى -لِمَا رَأَى مِنَ الْحِرْمَانِ وَمَسَاسِ الْحَاجَةِ- أَنْ قَالَ لِلْخَضِرِ: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَى إِصْلَاحِ الْجِدَارِ أَجْرًا؛ لِنَسُدَّ بِالْأَجْرِ جُوعَنَا، فَقَدْ بَلَغَ الْجُوعُ مِنَّا مَبْلَغًا مُضْنِيًا.
قَالَ صَاحِبُ مُوسَى بَعْدُ: سُأُخْبِرُكَ بِمَا أَنْكَرْتَ عَلَيَّ، وَأُنْبِئُكَ بِمَا لِي فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَآرِبِ، وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ... وَمِنْ ذَلِكَ: الْجِدَارُ الَّذِي أَقَمْتُهُ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ؛ حَالُهُمَا تَقْتَضِي الرَّأْفَةَ بِهِمَا وَرَحْمَتَهُمَا؛ لِكَوْنِهِمَا صَغِيرَيْنِ عُدِمَا أَبَاهُمَا، وَحَفِظَهُمَا اللهُ -أَيْضًا- بِصَلَاحِ وَالِدِهِمَا، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].
يَقُولُ -تَعَالَى- ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ صَاحِبِ مُوسَى: وَأَمَّا الْجِدَارُ الَّذِي عَدَّلْتُ مَيْلَهُ حَتَّى صَارَ مُسْتَوِيًا؛ فَهُوَ مِلْكُ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تَحْتَ الْجِدَارِ مَالٌ مَدْفُونٌ مُخَبَّأٌ لَهُمَا.
وَكَانَ أَبُوهُمَا رَجُلًا صَالِحًا مِنَ الْأَتْقِيَاءِ، فَأَرَادَ رَبُّكَ بِسَبَبِ صَلَاحِ وَالِدِهِمَا أَنْ يَبْلُغَا قُوَّتَهُمَا وَكَمَالَ عَقْلِهِمَا، وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا إِذَا بَلَغَا وَعَقَلَا وَقَوِيَا؛ رَحْمَةً وَعَطَاءً مِنْ رَبِّكَ لَهُمَا.
* وَنَبِيُّ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أُسْوَةٌ فِي الْمُرُوءَةِ وَالْبَذْلِ؛ فقد قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص: 22-24].
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}؛ أَيْ: قَصَدَ نَحْوَهَا مَاضِيًا إِلَيْهَا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ خَرَجَ خَائِفًا بِلَا ظَهْرٍ وَلَا حِذَاءٍ وَلَا زَادٍ، وَكَانَتْ مَدْيَنُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ مِصْرَ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ أَيْ: قَصْدَ الطَّرِيقِ إِلَى مَدْيَنَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ أَوَّلُ ابْتِلَاءٍ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}؛ وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهَا مَوَاشِيَهُمْ، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً}؛ أَيْ: جَمَاعَةً {مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} مَوَاشِيَهُمْ، {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ}؛ يَعْنِي: سِوَى الْجَمَاعَةِ {امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ}؛ يَعْنِي: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمُ الْبِئْرُ.
{قَالَ}-يَعْنِي: مُوسَى- لِلْمَرْأَتَيْنِ: {مَا خَطْبُكُمَا}؟ مَا شَأْنُكُمَا لَا تَسْقِيَانِ مَوَاشِيَكُمَا مَعَ النَّاسِ؟
{قَالَتَا لَا نَسْقِي} أَغْنَامَنَا {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}؛ أَيْ: حَتَّى يَصْرِفُوا هُمْ مَوَاشِيَهُمْ عَنِ الْمَاءِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا نَسْقِي مَوَاشِيَنَا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ؛ لِأَنَّا امْرَأَتَانِ لَا نُطِيقُ أَنْ نَسْقِيَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ، فَإِذَا صَدَرُوا سَقَيْنَا مَوَاشِيَنَا مَا أَفْضَلَتْ مَوَاشِيهِمْ فِي الْحَوْضِ، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْقِيَ مَوَاشِيَهُ، فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا نَحْنُ إِلَى سَقْيِ الْغَنَمِ.
فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى قَوْلَهُمَا رَحِمَهُمَا، فَاقْتَلَعَ صَخْرَةً مِنْ رَأْسِ بِئْرٍ أُخْرَى كَانَتْ بِقُرْبِهِمَا لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَجَلَسَ فِي ظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ جَائِعٌ، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} طَعَامٍ، {فَقِيرٌ}، يَقُولُ: {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ}؛ أَيْ: طَعَامٍ.. فَقِيرٌ مٌحْتَاجٌ، كَانَ يَطْلُبُ الطَّعَامَ لِجُوعِهِ.
* الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَكْثَرُ النَّاسِ بَذْلًا بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا -يَعْنِي: عِنْدِي؛ عِنْدَ عُمَرَ-، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا.
يَتَسَابَقُونَ فِي الْخَيْرِ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي الْبِرِّ، وَكُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا لِأَخِيهِ مِنْ غَيْرِ مَا حَسَدٍ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْآخِرَةِ يَسَعُ الْخَلْقَ جَمِيعًا، وَأَمَّا طَرِيقُ الدُّنْيَا فَلَا يَسَعُ مِنَ الْمُتَنَافِسِينَ إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ نَعِيمٌ مُقِيمٌ، وَعَطَاءٌ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ كَرِيمٍ، وَهَذَا مُتَّسِعٌ لِلْعَامَّةِ.
وَأَمَّا طَرِيقُ الدُّنْيَا؛ فَالتَّنَافُسُ يَكُونُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، عَلَى تَحْصِيلِ مَالٍ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا تَنَافَسَ النَّاسُ فِي تَحْصِيلِهِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِوَاحِدٍ؛ عَلَى مَنْصِبٍ بِذَاتِهِ، لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِوَاحِدٍ، فَيَتَنَافَسُ فِيهِ الْكَثِيرُ، فَلَا يُحَصِّلُهُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَادَوْنَ، وَيَتَبَاغَضُونَ، وَيَتَحَارَبُونَ، وَيَتَقَاتَلُونَ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْآخِرَةِ فَوَاسِعٌ يَتَّسِعُ لِلْجَمِيعِ.
أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضْلًا عَظِيمًا، وَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَقُولُ عِنْدَمَا أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِالصَّدَقَةِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللهِ مَالًا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: «الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا! قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي»، وَظَنَّ عُمَرُ أَنَّهُ صَنَعَ صَنِيعًا عَظِيمًا، وَأَتَى بِنِصْفِ الْمَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».
قُلْتُ: مِثْلَهُ، أَوْ مِثْلُهُ؛ يَعْنِي: أَبْقَيْتُ مِثْلَهُ، أَوْ: مِثْلُهُ أَبْقَيْتُهُ لِأَهْلِي.
فَقُلْتُ: مِثْلُهُ؛ يَعْنِي: مِثْلُ الَّذِي جِئْتُكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْقَيْتُهُ لِأَهْلِي، أَنَا قَسَمْتُ الْمَالَ نِصْفَيْنِ، فَهَذَا نِصْفُهُ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ يَدَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهُوَ لِلْأَوْلَادِ وَلِلْأَهْلِ.
وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، لَمْ يَسْتَبْقِ شَيْئًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟».
قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ.
قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.
هَذَا الرَّجُلُ لَا يُسَابَقُ، أَبُو بَكْرٍ أَقَرَّ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِسَبْقِهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا أَبَدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .
((ثَمَرَاتُ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْمُسَارَعَةَ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَغْضَبَةٌ لِلشَّيْطَانِ.
* وَالْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ تَرْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ وَالْفَضْلُ الْعَظِيمُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا...} [الإنسان: 8-12].
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِمْ لِلطَّعَامِ وَقِلَّتِهِ، وَتَعَلُّقِ شَهْوَتِهِمْ بِهِ، وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ.. يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَصَغِيرًا لَا أَبَ لَهُ يَكْتَسِبُ لَهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَأَسِيرًا بِيَدِ الْأَعْدَاءِ أَوْ مَسْجُونًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ.
يَقُولُونَ لِمَنْ أَطْعَمُوهُمْ: مَا نُطْعِمُكُمْ إِلَّا لِأَجْلِ وَجْهِ اللهِ -تَعَالَى- وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ، لَا نُرِيدُ مُكَافَأَةً وَلَا طَلَبَ حَمْدٍ وَثَنَاءٍ مِنْكُمْ.
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا شَدِيدًا تَعْبَسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنْ هَوْلِهِ وَشِدَّتِهِ، كَرِيهًا تَتَقَطَّبُ فِيهِ الْجِبَاهُ مِنْ فَظَاعَةِ أَمْرِهِ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ.
فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَخَافُونَهُ، وَأَعْطَاهُمْ بَدَلَ عُبُوسِ الْكُفَّارِ وَحُزْنِهِمْ حُسْنًا فِي وُجُوهِهِمْ وَسُرُورًا فِي قُلُوبِهِمْ، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ جَنَّةً عَظِيمَةً، وَأَلْبَسَهُمْ حَرِيرًا نَاعِمًا مِنَ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ.
((وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا.
قَالَ: «مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
قَالَ: «مَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
فَقَالَ: «مَنْ عَادَ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ قَطُّ فِي رَجُلٍ فِي يَوْمٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)) .
* وَالسَّبْقُ إِلَى الْخَيْرَاتِ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ! ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا فِي صَلَاتِكُمْ، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَاكْسَبُوا بِإِرَادَاتِكُمْ كُلَّ عَمَلٍ قَلْبِيٍّ أَوْ جَسَدِيٍّ يُحَقِّقُ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا بَاقِيًا وَسَعَادَةً خَالِدَةً وَثَوَابًا حَسَنًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ شَاقًّا أَوْ مُضْنِيًا أَوْ مُؤْلِمًا؛ رَغْبَةً مِنَّا فِي أَنْ تَسْعَدُوا وَتَفُوزُوا بِالْجَنَّةِ.
* وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ تُوجِبُ نَوْعًا مِنَ التَّنَافُسِ الْحَمِيدِ الَّذِي يَرْقَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي مُجْتَمَعِهِمْ.
* وَالسَّابِقُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ يُدْرِكُونَ مَقَاصِدَهُمْ وَلَا يَرْجِعُونَ خَائِبِينَ أَبَدًا، وَيَدْخُلُونَ إِذَا مَا سَابَقُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، الْمُسَارَعَةُ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ وَالذَّهَابُ إِلَيْهَا فِي السَّاعَةِ الْأُولَى يُعَظِّمُ الْأَجْرَ وَيُجْزِلُ الثَّوَابَ.
* وَالْمُبَادَرَةُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْفِتَنِ؛ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ، وَكَذَلِكَ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَشْغَلُ الْإِنْسَانَ وَتُلْهِيهِ؛ مِثْل: الْمَرَضِ، وَالْفَقْرِ، وَالْغِنَى الْمُطْغِي، أَوِ الْهَرَمِ -يَعْنِي بُلُوغَ أَقْصَى الْعُمُرِ-.
وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَعَدَمُ التَّخَلُفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ الْأُولَى يَجْعَلُ صَاحِبَهَا فِي فَضِيلَةٍ يَسْبِقُ بِهَا المُتَخَلِّفِينَ فِي أَبْعَدَ مِمَّا هُوَ بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ.
* مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ: شَرْحُ الصَّدْرِ؛ فَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: ((الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنَّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ.
فَإِنَّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا، وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ همًّا وَغَمًّا.
وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ضَارِبًا المَثَلَ لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -: ((كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ؛ حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ)). فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدِّقِ، وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ، وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ، وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ)) .
* وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ: أَنَّ اللهَ لَا يُخْزِي الْقَائِمَ بِهِ، وَيَقِيهِ مَصَارِعَ السُّوءِ؛ فَالنَّبيُّ ﷺ عِنْدَمَا رَجَعَ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، قَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ!».
قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا» .
عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:
* الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ- جَعَلَهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وَالتَّعْبِيرُ بِـ «عَلَى» وَهِيَ الِاسْتِعْلَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ فِي بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.
* وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ، فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ.
قَالَتْ: «لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا»، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: «إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ»؛ إِذَنْ.. مَا دُمْتَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ ﷺ.
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ: تَقْيِيدُ النِّعَمِ عِنْدَ الْعَبْدِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِلهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُمْ -يَعْنِي: جَعَلَهَا ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ- مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ» .
وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ».
وَهُوَ حَدِيثٌ مُهِمٌّ جِدًّا: «إِنَّ لِلهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُمْ؛ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ».
فَهَذِهِ النِّعَمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ أَقْوَامٍ إِنَّمَا جَعَلَهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْضُوا بِهَا حَوَائِجَ الْمُسْلِمِينَ، بِشَرْطِ: أَلَّا يَمَلُّوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ طَلَبِهِمْ، وَألَّا يُصِيبَهُمُ الْمَلَلُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ إِخْوَانِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ الَّتِي عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَعَلَ تِلْكَ النِّعَمَ عِنْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْضُوا بِهَا حَوَائِجَ الْمُسْلِمِينَ «مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ».
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِلهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالنِّعَمِ لِيَكُونُوا سَاعِينَ فِي مَنَافِعِ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ، وَيُقِرُّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي تِلْكَ النِّعَمِ مَا بَذَلُوهَا لِعِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ، فَإِذَا مَنَعُوا النِّعَمَ أَنْ تُبْذَلَ لِأَصْحَابِ الْحَاجَاتِ وَفِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ؛ نَزَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّعَمَ عَنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ.
وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَشِيئَتِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُعْطَى الْيَوْمَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْطِيًا غَدًا، وَالَّذِي يَأْخُذُ الْيَوْمَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْطِيًا فِي غَدٍ، وَالَّذِي يَكُونُ لَهُ الْيَدُ الْعُلْيَا فِي يَوْمٍ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ السُّفْلَى فِي يَوْمٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُعِزُّ وَيُذِلُّ.
وَلَيْسَ أَحَدٌ بِمُسْتَحِقٍّ لِنِعْمَةٍ يُوَصِّلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ جُودٍ لَا بَذْلُ مَجْهُودٍ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الَّذِي يُعْطِي، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتِي الْبِرَّ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ الْخَيْرَ عِنْدَ أَقْوَامٍ، فَإِنْ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ زَادَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنْعَامًا، وَثَبَّتَ النِّعَمَ لَدَيْهِمْ.
وَإِذَا مَا جَحَدُوهَا فَلَمْ يَبْذُلُوهَا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُرَاعُوا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يَخْتَصَّهُمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ لِأُمُورٍ جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَعَلِّقَةً بَالْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَرْضِهِ، إِذَا لَمْ يُرَاعُوا ذَلِكَ وَظَنُّوا أَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِاسْتِحْقَاقٍ عِنْدَهُمْ؛ فَشَأْنُهُمْ كَشَأْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي ظَنَّ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا آتَاهُ وَأَعْطَاهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ بِقُدُرَاتِهِ قَدْ تَحَصَّلَ عَلَى مَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ، فَنَزَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ النِّعْمَةَ، وَخَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَيُحَذِّرُ النَّبِيُّ ﷺ وَيُنذِرُ، وَيُبَيِّنُ لَنَا ﷺ هَذَا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، فَيَقُولُ ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَأَسْبَغَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَتَبَرَّمَ؛ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ»
يَتَبَرَّمُ مِنَ النَّاسِ وَيَرُدُّهُمْ، وَلَا يُحْسِنُ اسْتِقْبَالَهُمْ، وَإِنَّمَا يُصِيبُهُ الْمَلَلُ، فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ، وَيُغْلِظُ فِي الْكَلَامِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِمْ، وَيَخْشُنُ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ الْخَلْقِ فِي أَرْضِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا جَعَلَهُ مُوَصِّلًا لِلنِّعْمَةِ إِلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ.
وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ الْأَمْرَ مَحْضَ بَذْلٍ لِلجُّودِ مِنْ لَدُنْهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ صَاحِبُ الْبِرِّ، فَإِذَا تَبَرَّمَ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَإِذَا مَا تَمَلْمَلَ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِ الْخَلْقِ؛ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ.
* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْقَائِمِ بِالْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ، السَّاعِي فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ اللهَ يُعِينُهُ، وَيُيَسِّرُ لَهُ أُمُورَهُ، وَيَسْتُرُهُ، وَيُفَرِّجُ هَمَّهُ، وَيَرْفَعُ كَرْبَهُ، وَيَكْشِفُ غَمَّهُ؛ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ» .
وَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ، فَيَقُولُ: «وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ» .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ-: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
فَنَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُسَارَعَةَ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالْمُسَابَقَةَ فِي تَحْصِيلِ الْحَسَنَاتِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى الرُّشْدِ، وَأَنْ يُخْلِصَ نِيَّاتِنَا وَقَصْدَنَا، وَأَنْ يُحَسِّنَ أَقْوَالَنَا وَأَعْمَالَنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمَقْبُولِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ