((الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مَبْنَى الْحَيَاةِ عَلَى الِابْتِلَاءِ))
فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ أَنَّهَا دَارُمِحْنَةٍ وَابْتِلَاءٍ، لَا دَارُ سَعَادَةٍ وَرَخَاءٍ.
وَاللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِكَيْ يَمْتَحِنَهُمْ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وَلَنُعَامِلَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لَكُمْ، وَنَأْمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الْمُجَاهِدُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ، وَيَتَبَيَّنَ الصَّابِرُونَ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ مِنْ غَيْرِ الصَّابِرِينَ ذَوِي الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ.
وَنُظْهِرَ أَخْبَارَكُمْ وَنَكْشِفَهَا؛ لِيَتَبَيَّنَ مَنْ يَأْبَى الْقِتَالَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْجِهَادِ.
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
وَاللهِ لَتُخْتَبَرُنَّ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فَتَقَعَ عَلَيْكُمُ الْمِحَنُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنُّقْصَانِ مِنْهَا، وَبِالْجَوَائِحِ تَنْزِلُ بِهَا، وَفِي الْأُنْفُسِ بِالْمَصَائِبِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْقَتْلِ وَفَقْدِ الْأَقَارِبِ وَالْأَحِبَّةِ، وَذَلِكَ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ.
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مَا يُؤْذِي أَسْمَاعَكُمْ مِنْ أَلْفَاظِ الشِّرْكِ، وَالِافْتِرَاءِ، وَالتَّهَكُّمِ، وَالطَّعْنِ فِي دِينِكُمْ.
وَإِنْ تَصْبِرُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- عَلَى أَذَاهُمْ، وَتَضْبِطُوا أَنْفُسَكُمْ وَتَحْبِسُوهَا عَنِ الْجَزَعِ، وَتَحْبِسُوهَا -أَيْضًا- مَعَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَتَتَّخِذُوا الْوِقَايَةَ لِطَلَبِ رِضَا اللهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَتَدْفَعُوا الِاعْتِدَاءَ بِالْحَقِّ، وَتَعْمَلُوا عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِحْنَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى إِرَادَةٍ جَازِمَةٍ جَادَّةٍ قَوِيَّةٍ قَادِرَةٍ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأُمُورِ الشَّدِيدَةِ الصَّعْبَةِ عَلَى النُّفُوسِ بِالتَّنْفِيذِ.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].
وَلَنَخْتَبِرَنَّكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْغَمِّ الَّذِي تَضْطَرِبُ بِهِ نُفُوسُكُمْ؛ مِنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ، وَمِنَ الْمَجَاعَةِ بِعَدَمِ كِفَايَةِ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ لِسَدِّ حَاجَاتِكُمْ، وَبِنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ بِالْهَلَاكِ وَالْخُسْرَانِ أَوْ تَعَسُّرِ الْحُصُولِ عَلَيْهَا، وَنَقْصٍ مِنَ الْأُنْفُسِ بِالْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ بِالْجَوَائِحِ أَوْ مَوْتِ الْأَوْلَادِ؛ لِيَكُونَ مِنْ ثَمَرَةِ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَتِي الثَّوَابُ الْعَظِيمُ.
وَبَشِّرْ -يَا رَسُولَ اللهِ- الصَّابِرِينَ عَلَى امْتِحَانِي عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِالسَّكِينَةِ وَالتَّسْلِيمِ بِقَضَاءِ اللهِ.. بَشِّرْهُمْ بِمَا يَسُرُّهُمْ وَيُفْرِحُهُمْ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
صِفَةُ هَؤُلَاءِ الصَّابِرِينَ أَنَّهُمْ إِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ، وَسُلِبَتْ مِنْهُمْ نِعْمَةٌ سَبَقَ أَنْ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهِمْ أَوْ حُرِمُوا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِمِثْلِهَا عَلَى عِبَادِهِ.. صِفَتُهُمْ -حِينَئِذٍ- أَنَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ نُفُوسَهُمْ مَمْلُوكَةٌ للهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ مَمْلُوكُونَ للهِ، وَهُمْ عِبَادُهُ، وَمَصِيرُ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَالِكِهِمْ، وَمَصِيرُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا أَنْ تَعُودَ إِلَى مَالِكِهَا، فَعَلَامَ الْحُزْنُ وَالْأَسَى؟!! وَلِمَ الِاعْتِرَاضُ وَالتَّسَخُّطُ؟!!
وَحِينَمَا يَتَذَكَّرُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّابِرُونَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ يَقُولُونَ: إِنَّا عَبِيدٌ وَمِلْكٌ للهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ وَحْدَهُ صَائِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِينَا عَلَى مَا دَعَانَا إِلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمِ إِلَى قَضَائِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ الَّتِي لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِنَا دَفْعُهَا.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ -أَيِ: الْأَفْضَلُ- فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي ابْتِلَائِهِ)) .
وَيَقُولُ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
قَاعِدَةُ الْحَيَاةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ، لَا السَّعَادَةُ وَالرَّخَاءُ، غَيْرَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ الَّتِي يُهَوِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا الْمُصِيبَةَ عَلَى الْمُصَابِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَيْسَ هُوَ الذِّرْوَةَ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُصِيبَ الْخَلْقَ، وَأَنَّهُ مهمَا يُصَبْ بِهِ مِنْ بَلَاءٍ فَإِنَّ فَوْقَهُ مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا رَبُّ الْخَلْقِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى.
عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ الِابْتِلَاءَ هُوَ قَاعِدَةُ حَرَكَةِ الْحَيَاةِ فِي مُعْطَيَاتِ الْإِسْلَامِ عَنِ الْحَيَاةِ وَعَنِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ أَجْلِهَا سُخِّرَ كُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ لَهُ، وَوُجِدَتِ الرِّسَالَاتُ وَأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَوُجِدَتْ إِرَادَةُ الْإِنْسَانِ الْحُرَّةُ الْفَاعِلَةُ، الْمُلْتَزِمَةُ بِإِعْمَارِ الْأَرْضِ وَبِنَاءِ الْحَضَارَةِ عَلَى أُسُسٍ أَخْلَاقِيَّةٍ لِإِسْعَادِ النَّاسِ جَمِيعًا)) .
((وَالِابْتِلَاءُ وَسِيلَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ وَسَائِلِ التَّدْرِيبِ الْعَمَلِيِّ عَلَى مُمَارَسَةِ مَا يُعْرَفُ بِالْأَخْلَاقِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى أَرْضِ الْوَاقِعِ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ يَصْقُلُ الْإِنْسَانَ وَيَضْبِطُ انْفِعَالَاتِهِ.
وَالِابْتِلَاءُ مَحَكٌّ يَكْشِفُ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِاخْتِبَارِ رَدِّ فِعْلِ الْإِنْسَانِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّكَيُّفِ مَعَ الْمَوَاقِفِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا فِي حَيَاتِهِ.
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنَّ الْمَوَاقِفَ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ كَمًّا وَكَيْفًا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْمَارِ وَالْأَمَاكِنِ وَقُوَّةِ الضُّغُوطِ وَاسْتِمْرَارِهَا.
وَهُنَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ بِالِابْتِلَاءِ خِبْرَةً وَتَجْرِبَةً مَا كَانَتْ لِتَحْدُثَ فِي ضَمِيرِهِ وَتَتَرَكَّزَ فِي نَفْسِهِ لَوْلَا الِابْتِلَاءُ.
وَلَيْسَ مِنَ النَّادِرِ أَنْ يُكْسِبَهُ ذَلِكَ -أَيْ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ وَوَقْعُ الِابْتِلَاءِ عَلَيْهِ- نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ يَتَأَسَّى بِهَا طُولَ حَيَاتِهِ، كَمَا أَنَّ فِي الِابْتِلَاءِ صَقْلًا لِلطَّبْعِ، وَتَهْذِيبًا لِلْعَاطِفَةِ، وَتَنْمِيَةً لِحُبِّ الْخَيْرِ.
((مَفْهُومُ الْحَيَاةِ وَالِابْتِلَاءِ))
الْإِنْسَانُ يَعِيشُ حَيَاتَهُ كُلَّهَا بِجَمِيعِ لَحَظَاتِهَا فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ.. الْإِنْسَانُ يَعِيشُ جَمِيعَ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ؛ إِمَّا بِالْخَيْرِ وَإِمَّا بِالشَّرِّ، إِمَّا بِالطَّاعَةِ وَإِمَّا بِالْمَعْصِيَةِ.
فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَأَنْ يَبْحَثَهُ بَحْثًا مُسْتَفِيضًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ دَارَ حِسَابٍ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ وَابْتِلَاءٍ، يَقُولُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
فَمَا هُوَ الِابْتِلَاءُ؟
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا؟
الْحَيَاةُ الِابْتِلَاءُ، وَالِابْتِلَاءُ الْحَيَاةُ.. بِلَا فَارِقٍ كَبِيرٍ وَلَا صَغِيرٍ، وَالْحَيَاةُ ابْتِلَاءٌ فِي جُمْلَتِهَا وَفِي تَفْصِيلَاتِهَا.
وَالْحَيَاةُ فِي جَمِيعِ لَحَظَاتِهَا وَفِي جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهَا ابْتِلَاءٌ؛ إِمَّا بِالْخَيْرِ وَإِمَّا بِالشَّرِّ، إِمَّا بِالذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَإِمَّا بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ.
الْحَيَاةُ كُلُّهَا ابْتِلَاءٌ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الِابْتِلَاءِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْتَلِيَ الْإِنْسَانَ وَيَمْتَحِنَهُ وَيَخْتَبِرَهُ؛ لِيَعْرِفَ عَزْمَهُ وَصَبْرَهُ، وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَيَسْتَخْرِجَ مَكْنُونَ فُؤَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ، لِيَعْلَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ، وَيَعْلَمَ الْمُؤْمِنَ الطَّائِعَ مِنَ الْمُنْحَرِفِ الْفَاجِرِ؛ لِيُثِيبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ غَيْرِ مَا حَيْفٍ وَلَا ظُلْمٍ، تَعَالَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
مَفْهُومُ الْحَيَاةِ الِابْتِلَاءُ، وَالِابْتِلَاءُ الْحَيَاةُ.
وَلَمَّا كَانَ الِابْتِلَاءُ مُرْتَبِطًا بِعَلَاقَةٍ وَثِيقَةٍ بِالنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَاةِ عَلَاقَةٌ وَثِيقَةٌ لَا تَنْفَصِمُ؛ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَبْحَثَ الْإِنْسَانُ فِي مَعْنَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي وَصْفِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِيمَا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُلَازِمًا لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
الْحَيَاةُ لُغَةً: نَقِيضُ الْمَوْتِ، وَالْحَيُّ: نَقِيضُ الْمَيِّتِ، وَالْحَيَوَانُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ.
فَهَذَا مَعْنَى الْحَيَاةِ.
وَأَمَّا الدُّنْيَا فَهِيَ نَقِيضُ الْآخِرَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِدُنُوِّهَا -أَيْ لِقُرْبِهَا- لِأَنَّهَا دَنَتْ وَتَأَخَّرَتِ الْآخِرَةُ، لِأَنَّهَا اقْتَرَبَتْ وَتَأَخَّرَتِ الْآخِرَةُ.
وَكَذَلِكَ السَّمَاءُ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْقُرْبَى إِلَيْنَا، وَقِيلَ: الدُّنْيَا اسْمٌ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ -سُمِّيَتْ بِذَلِكَ- لِبُعْدِ الْآخِرَةِ عَنْهَا -عَنِ الدُّنْيَا-.
((فَالْحَيَاةُ بِاعْتِبَارِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ضَرْبَانِ: الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَالْحَيَاةُ الْآخِرَةُ)) .
فَهَذَا تَعْرِيفُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ.
وَأَمَّا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَالدُّنْيَا -أَوِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا- هِيَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ الْمَكَانِيُّ وَالزَّمَانِيُّ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْكَوْنَ حَتَّى يَرِثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَرْضَ وَمَا وَمَنْ عَلَيْهَا.
وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِلْآدَمِيِّ أَوْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ تَمْتَدُّ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.
فَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.
الْمَقْصُودُ هُنَا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا: الزَّمَنُ الَّذِي يَحْدُثُ فِيهِ الِابْتِلَاءُ، أَمَّا الْمَكَانُ فَهُوَ الْأَرْضُ الَّتِي نَحْيَا عَلَيْهَا، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَذِهِ الدُّنْيَا بِصِفَاتٍ عَدِيدَةٍ، وَهِيَ ذَاتُ أَحْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
أَهَمُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ:
1- أَنَّ الدُّنْيَا ذَاتُ عُمُرٍ قَصِيرٍ وَمَتَاعٍ قَلِيلٍ، هَذَا وَصْفٌ لَازِمٌ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَخْرُجَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَنْ هَذَا الْوَصْفِ: ذَاتُ عُمُرٍ قَصِيرٍ وَمَتَاعٍ قَلِيلٍ؛ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55].
وَيَقُولُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77].
فَمَتَاعُهَا قَلِيلٌ، وَعُمُرُهَا قَصِيرٌ.
2- وَمِنْ صِفَاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا وَصَفَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذَلِكَ أَنَّهَا دَارُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَزِينَةٍ وَتَفَاخُرٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سِوَى ذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ تَأَمَّلْ قَوْلَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
3- وَهِيَ دَارُ غُرُورٍ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ عَنِ الْمُهِمَّةِ الرَّئِيسَةِ الَّتِي أَوْجَدَكُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ غُرُورٌ فِي غُرُورٍ، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، فَهِيَ دَارُ غُرُورٍ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي هَذَا.
4- وَهِيَ دَارُ تَرَفٍ وَاسْتِمْتَاعٍ: الدَّارُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا -الْحَيَاةُ الدُّنْيَا- إِنَّمَا هِيَ دَارُ تَرَفٍ وَاسْتِمْتَاعٍ، يُؤْتِيهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ يُحِبُّ وَلِمَنْ لَا يُحِبُّ، لَمْ يَخُصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الدُّنْيَا بِأَحِبَّائِهِ وَلَا بِأَعْدَائِهِ، وَلَمْ يُنَحِّهَا عَنْ أَوْلِيَائِهِ قَاطِبَةً وَيُعْطِيهَا لِأَعْدَائِهِ، وَلَا الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُعْطِي الدُّنْيَا لِمَنْ يُحِبُّ وَلِمَنْ لَا يُحِبُّ؛ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَقالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33].
{وَأَتْرَفْنَاهُمْ}؛ تَرَفٌ وَزِينَةٌ وَمَتَاعٌ، فَهِيَ دَارُ تَرَفٍ وَاسْتِمْتَاعٍ.
5- وَدَارُ إِغْوَاءٍ: لِأَنَّهَا هِيَ الْمَيْدَانُ الَّذِي يُحَاوِلُ فِيهِ الشَّيْطَانُ -حَسَدًا مِنْهُ وَكَيْدًا لِلْإِنْسَانِ- أَنْ يُغْوِيَ الْإِنْسَانَ بِالشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْأَهْوَاءِ النَّفْسِيَّةِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ؛ كَمَا قَالَ رَبُّ الْعَالَمِينَ:{قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا* قالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 62-64].
{لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}؛ يَعْنِي: لَأَصْرِفَنَّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ، وَلَيَتَوَرَّطُّنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَفِي الْبُعْدِ عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَهِيَ دَارُ إِغْوَاءٍ -كَمَا تَرَى- وَدَارُ نَصَبٍ وَتَعَبٍ.
6- وَدَارُ ضَلَالٍ وَطُغْيَانٍ لِمَنْ يُفْتَنُ بِهَا: كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي شَأْنِ أُولَئِكَ الْمَفْتُونِينَ بِالدُّنْيَا: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].
فَهِيَ دَارُ ضَلَالٍ.
وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ الطُّغَاةِ: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-39].
فَهَذَا طُغْيَانٌ وَضَلَالٌ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
7- حَقِيقَةُ الدَّارِ الَّتِي نَحْيَا فِيهَا أَنَّهَا خِزْيٌ وَلَعْنَةٌ لِلْمُعَانِدِينَ؛ قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-:{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 26].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42].
فَجَاءَتِ اللَّعْنَةُ لِلْمُعَانِدِينَ، وَجَاءَ الْخِزْيُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
8- وَبَيَّنَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا دَارٌ لِاكْتِسَابِ الْحَسَنَاتِ وَالْمَعِيشَةِ الطَّيِّبَةِ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ فَهِيَ فِي الْمُقَابِلِ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا هِيَ لِلْمُعَانِدِينَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {مَنْ عَمِلَ صالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهَا دَارٌ لِاكْتِسَابِ الْحَسَنَاتِ وَالْمَعِيشَةِ الطَّيِّبَةِ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا.
وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا أَجْمَلَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ تِلْكَ السِّمَاتِ وَجَمَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي مَرَّتْ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ الشَّرِيفَاتِ، جَمَعَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ ابْتِلَاءٍ.
وَهَذَا الْوَصْفُ يَجْمَعُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَهُ وَفَصَّلَهُ، وَأَجْمَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ السِّمَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا عِنْدَمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا دَارُ ابْتِلَاءٍ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1-2].
فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِلِابْتِلَاءِ؛ فَهِيَ دَارُ ابْتِلَاءٍ.
وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
فَبَيَّنَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الِابْتِلَاءِ؛ فَالدُّنْيَا دَارُ ابْتِلَاءٍ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْفَالِحِينَ فِي هَذَا الِابْتِلَاءِ، وَمِنَ النَّاجِحِينَ فِي هَذَا الِاخْتِبَارِ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا دَارَ ابْتِلَاءٍ وَعَمَلٍ، فَإِنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ، وَفِيهَا تَظْهَرُ نَتِيجَةُ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ، وَيُلَقَّى الْإِنْسَانُ جَزَاءَ ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ؛ يَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
فَالدَّارُ الْآخِرَةُ هِيَ دَارُ جَزَاءٍ لِمَا كَانَ فِي دَارِ الِابْتِلَاءِ.
وَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا دَارَ فَنَاءٍ فَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْبَقَاءِ، وَقَدْ وَصَفَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
((وَالْحَيَاةُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَسَمَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْآخِرَةَ حَيَوَانًا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ)) .
{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ}: لَهِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ.
إِنَّ جَوْهَرَ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ عَلَاقَةُ ابْتِلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ وَفِتْنَةٍ.
وَلَفْظُ «الِابْتِلَاءِ» مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (ب ل و) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الِاخْتِبَارِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: بُلِيَ الْإِنْسَانُ وَابْتَلَاهُ اللهُ؛ أَيِ: اخْتَبَرَهُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
بُلِيتُ وَفِقْدَانُ الْحَبِيبِ بَلِيَّةٌ=وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمَّ يَصْبِرُ
وَيَكُونُ الْبَلَاءُ بِالْخَيْرِ، وَيَكُونُ بِالشَّرِّ كَذَلِكَ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبْلِي الْعَبْدَ بَلَاءً حَسَنًا وَبَلَاءً سَيِّئًا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الِاخْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَخْتَبِرُ صَبْرَهُ وَشُكْرَهُ، وَبَلَوْتُهُ: تَأْتِي -أَيْضًا- بِمَعْنَى: جَرَّبْتُهُ، وَتَأْتِي كَذَلِكَ بِمَعْنَى: اسْتَخْبَرْتُهُ، يُقَالُ: بَلَوْتُهُ فَأَبْلَانِي؛ أَيْ اسْتَخْبَرْتُهُ فَأَخْبَرَنِي.
وَالِاسْمُ مِنَ الِابْتِلَاءِ: الْبَلْوَى، وَالْبَلِيَّةُ، وَالْبَلَاءُ، وَالْجَمْعُ مِنْ ذَلِكَ: بَلَايَا.
يُقَالُ: أَبْلَاهُ اللهُ بَلَاءً حَسَنًا؛ إِذَا صَنَعَ بِهِ صُنْعًا جَمِيلًا.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ((يُقَالُ مِنَ الْخَيْرِ: أَبْلَيْتُهُ، وَمِنَ الشَّرِّ: بَلَوْتُهُ)).
وَعَقَّبَ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ ابْنُ مَنْظُورٍ فَقَالَ: ((وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الِابْتِلَاءَ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَبِالشَّرِّ مَعًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ فِعْلَيْهِمَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35])).
وَقَالَ ابْنُ بَرِّي: ((يَأْتِي الِابْتِلَاءُ -أَيْضًا- بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ}؛ أَيْ: إِنْعَامٌ بَيِّنٌ.
وَهَذَا مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي اللُّغَةِ.
وَأَمَّا مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي الِاصْطِلَاحِ؛ فَالِابْتِلَاءُ هُوَ: التَّكْلِيفُ فِي الْأَمْرِ الشَّاقِّ، وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعًا، وَلَكِنَّهُمْ عَادَةً مَا يَقُولُونَ فِي الْخَيْرِ: أَبْلَيْتُهُ إِبْلَاءً، وَفِي الشَّرِّ: بَلَوْتُهُ بَلَاءً.
وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْبَلَاءُ كَالْبَلِيَّةِ: الِامْتِحَانُ، وَسُمِّيَ الْغَمُّ بَلَاءً لِأَنَّهُ يُبْلِي الْجَسَدَ)).
وَيَرْتَبِطُ مَفْهُومُ الِابْتِلَاءِ بِمَفْهُومٍ آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَعَلُّقًا شَدِيدًا وَقَدْ يُرَادِفُهُ أَحْيَانًا، أَلَا وَهُوَ مَفْهُومُ الْفِتْنَةِ» .
((الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ))
هَذِهِ الْحَيَاةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةٍ مَتِينَةٍ هِيَ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ، وَلَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى السُّرُورِ وَالرَّخَاءِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَبْتَلِيَهُمْ وَيَمْتَحِنَهُمْ لِيَرَى صَبْرَهُمْ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ وَجَعَلَهُ فِي مِحْنَةٍ، يَفْقِدُ الْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْوَلَدَ، وَتَذْهَبُ عَنْهُ صِحَّتُهُ حِينًا وَتُرَدُّ إِلَيْهِ حِينًا، وَهُوَ فِي حَالَةٍ مِنَ الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ مُبْتَلًى بِهِمَا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِتْنَةً، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
هَذَا الْأَمْرُ الْكَبِيرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُمْتَحَنًا، يَبْلُوهُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، يُكَلِّفُهُ بِـ (افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ)، وَيَأْتِي الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى وَالنَّفْسُ وَقُرَنَاءُ السُّوءِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُزَيِّنُوا لَهُ الْبَاطِلَ، وَأَنْ يُبَغِّضُوهُ فِي الْحَقِّ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
فَهَذَا الْأَمْرُ مَدَارُ حَرَكَةِ الْإِنْسَانِ فِي هَذَا الْكَوْنِ، مَا دَامَ عَقْلُهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ مُبْتَلًى عَلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ؛ إِمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ، إِمَّا بِنِعْمَةٍ وَإِمَّا بِنِقْمَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ اللهُ -تَعَالَى- مَكْنُونَ صَدْرِهِ.
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الانبياء: 35].
كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ ذَائِقَةٌ طَعْمَ الْمَوْتِ بِالْفَصْلِ الْكُلِّيِّ بَيْنَ الرُّوحِ الْمُمِدَّةِ بِالْحَيَاةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا خَصَائِصُ الْكَائِنِ الْقَابِلِ لِلْحَيَاةِ.
وَنَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْمُؤْلِمَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالنِّعَمِ وَالْأُمُورِ السَّارَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لِنَمْتَحِنَ إِرَادَاتِكُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمَنِ اجْتَازَ الِابْتِلَاءَ بِنَجَاحٍ كَانَتِ الْمَصَائِبُ وَالْمُؤْلِمَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ سَبَبَ خَيْرٍ كَبِيرٍ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَمَنْ تَجَاوَزَ حُدُودَ اللهِ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَمْ تَنْفَعْهُ النِّعَمُ وَالْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَاتُ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا فِي دُنْيَاهُ، بَلْ تَكُونُ عَلَيْهِ وَبَالًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَإِلَيْنَا وَحْدَنَا تُرْجَعُونَ لِلْحِسَابِ، وَفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.
((إِنَّ الِابْتِلَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي مَجَالِ الْأَنْفُسِ؛ فَيَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالسَّقَمِ، بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالضَّعْفِ، بِالسَّعَادَةِ أَوْ بِالشَّقَاوَةِ.
وَيَبْتَلِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَمْوَالِ؛ مِنْ نَحْوِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَالْعَوَزِ وَالرَّفَاهِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُجْرِيهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ)) .
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].
وَلَوْ وَسَّعَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَطَغَوْا وَظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ يُنَزِّلُ مَا يَشَاءُ إِنْزَالَهُ مِنْ رِزْقٍ لِعِبَادِهِ بِمِقْدَارٍ مُحَدَّدٍ مَعْلُومٍ وَفْقَ حِكْمَتِهِ.
إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ وَطَبَائِعِهِمْ وَبِعَوَاقِبِ أُمُورِهِمْ، وَبَصِيرٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فِي كَوْنِهِ، فَيُقَدِّرُ أَرْزَاقَهُمْ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا مَشِيئَتُهُ الْحَكِيمَةُ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِهِمْ.
فَالِابْتِلَاءُ فِي الْمَالِ يَكُونُ بِالسَّعَةِ فِيهِ أَوْ ضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ فِيهِ؛ فَالْأَوَّلُ يُبْتَلَى لِيُنَظَرَ هَلْ يَشْكُرُ وَيُؤَدِّي حَقَّ اللهِ فِي الْمَالِ أَوْ لَا، فَيَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38].
هَا أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْبِرِّ؛ فَمِنْكُمُ الَّذِي يَبْخَلُ بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ إِخْرَاجَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، أَوْ نَدَبَ إِلَى إِنْفَاقِهِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ.
وَمَنْ يَبْخَلْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ مُمْسِكًا الْخَيْرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَاللهُ -تَعَالَى- الْغَنِيُّ عَنْ صَدَقَاتِكُمْ وَطَاعَاتِكُمْ، وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ الْمُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.
وَالْآخَرُ يُبْتَلَى بِقِلَّةِ الْمَالِ وَتَقْلِيلِ الرِّزْقِ؛ لِاخْتِبَارِ صَبْرِهِ وَصَلَابَةِ إِيمَانِهِ، أَوْ جَزَعِهِ وَسَخَطِهِ وَضَعْفِ إِيمَانِهِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 12].
للهِ -سُبْحَانَهُ- جَمِيعُ خَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَمِيعُ مَفَاتِيحِ هَذِهِ الْخَزَائِنِ، يُوَسِّعُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيُضَيِّقُ وَيُقَلِّلُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِحَسَبِ حِكْمَتِهِ؛ لِعِلْمِهِ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ وَمَا هُوَ الْأَحْكَمُ وَالْأَصْلَحُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وَالِابْتِلَاءُ يَكُونُ بِالْهِبَةِ بِالْأَوْلَادِ، وَيَكُونُ بِالْحِرْمَانِ مِنْهُمْ؛ فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَهَبُ لَهُ إِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهَبُ لَهُ ذُكُورًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُزَوِّجُهُ -أَيْ: يَجْمَعُ لَهُ ذُكُورًا وَإِنَاثًا-، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49].
مِنْ خَلْقِ اللهِ خَلْقُ الذُّرِّيَّاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ ضِمْنَ نِظَامِ التَّنَاسُلِ.
يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا فَلَا يُولَدُ لَهُ ذَكَرٌ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ فَلَا يُولَدُ لَهُ أُنْثَى، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَيُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ.
((وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الِابْتِلَاءَ التَّكْلِيفِيَّ بِـ (افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ)؛ فَكَلَّفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ عَلَى الْمُسْتَوَى الْعَامِّ، وَكَلَّفَ جِنْسَ الْإِنْسَانِ بِتَكَالِيفَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ تَعَرَّضَ لِحَمْلِ الْأَمَانَةِ، فَمَهْمَا أَتَى مِنْهُ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُسْتَوَى الْحَمْلِ لِلْأَمَانَةِ الَّذِي قَدِ ارْتَضَاهُ سَابِقًا» .
إِنَّ التَّشْرِيعَ مَبْنِيٌّ فِي جُمْلَتِهِ عَلَى الِابْتِلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، وَالْحَيَاةُ الِابْتِلَاءُ وَالِابْتِلَاءُ الْحَيَاةُ، وَالْإِنْسَانُ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ مَا دَامَ حَيًّا.. فَمَا دَامَ الْمَرْءُ حَيًّا فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ؛ إِمَّا بِالْإِيجَابِ وَإِمَّا بِالسَّلْبِ، إِمَّا بِالْعَطَاءِ وَإِمَّا بِالْمَنْعِ، إِمَّا بِالرَّفْعِ وَإِمَّا بِالْخَفْضِ، إِمَّا بِالْغِنَى وَإِمَّا بِالْفَقْرِ، إِمَّا بِالسَّعَادَةِ وَإِمَّا بِالشَّقَاوَةِ، هُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ دَائِمًا وَأَبَدًا.
الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ!!
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ زِينَةُ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ يَحْمِلُكُمْ عَلَى كَسْبِ الْمُحَرَّمِ، وَمَنْعِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى، فَلَا تُطِيعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ.
فَأَمَرَ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الرِّبْحَ وَالْفَلَاحَ، وَالْخَيْرَاتِ الْكَثِيرَةَ.
وَنَهَاهُمْ أَنْ تَشْغَلَهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَنْ ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ وَالْأَوْلَادِ مَجْبُولَةٌ عَلَيْهَا أَكْثَرُ النُّفُوسِ، فَتُقَدِّمُهَا عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ الْخَسَارَةُ الْعَظِيمَةُ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].
الْمَالُ الْكَثِيرُ الْوَفِيرُ، وَالْبَنُونَ الْكَثِيرُونَ.. زِينَةُ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ الْمَرْضِيَّاتُ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ذَاتُ الْآثَارِ الْبَاقِيَاتِ الْمُسْعِدَاتِ لِفَاعِلِهَا هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا مِنْ كُلِّ مَا فِي الدُّنْيَا مِمَّا هُوَ زِينَةٌ لَهُ، وَهِيَ خَيْرٌ أَمَلًا.
وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].
مَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ إِلَّا بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ، وَشُغْلٌ عَنِ الْآخِرَةِ، فَلَا تُبَاشِرُوا الْمَعَاصِيَ بِسَبَبِ أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تُؤْثِرُوهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ رَبِّكُمْ، وَاللهُ عِنْدَهُ ثَوَابٌ عَظِيمٌ فِي الْجَنَّةِ لِمَنْ آثَرَ طَاعَتَهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى طَاعَةِ غَيْرِهِ.
((مَظَاهِرُ الِابْتِلَاءِ))
((اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِي الْإِنْسَانَ بِالسَّرَّاءِ وَيَبْتَلِيهِ بِالضَّرَّاءِ، فَيَبْتَلِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالسَّيِّئَاتِ وَيَبْتَلِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالطَّاعَاتِ.
1- الِابْتِلَاءُ بِالضَّرَّاءِ أَوِ الشَّرِّ:
يَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ بِالضَّرَّاءِ وَيَبْتَلِيهِ بِالشَّرِّ، وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِالِابْتِلَاءِ أَوِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ يَعْنِي عِنْدَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ مُبْتَلًى؛ فَهُوَ مُبْتَلًى بِالضَّرَّاءِ أَوْ مُبْتَلًى بِالشَّرِّ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ تَخْفَى حِكْمَةُ هَذَا النَّوْعِ عَلَى الْكَثِيرِينَ؛ إِذْ قَدْ يُرَادُ بِهِ اخْتِبَارُ الصِّدْقِ فِي الْإِيمَانِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبارَكُمْ}؛ لِنَسْتَخْرِجَ الْمَكْنُونَ مِنْ ذَاتِ صُدُورِكُمْ.
وَقَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ-: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ}.
وَقَدْ يُرَادُ بِالِابْتِلَاءِ بِالضَّرَّاءِ وَالشَّرِّ التَّمْهِيدُ وَالتَّدْرِيبُ عَلَى التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ؛ لِمَا يَعْقُبُ هَذَا الِابْتِلَاءَ مِنَ الصَّبْرِ فِي الشَّدَائِدِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَالْيَقِينِ بِأَنَّ للهِ -تَعَالَى- حِكْمَةً فِي كُلِّ مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
{لَمَّا صَبَرُوا} عَلَى الِابْتِلَاءِ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا الِابْتِلَاءُ وَصَبَرُوا عَلَيْهِ مَكَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.
وَلِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ إِنَّ جَزَاءَ الصَّابِرِينَ عَلَى الِابْتِلَاءِ بِالضَّرَّاءِ هُوَ الْجَنَّةُ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَقُولُ الْمَوْلَى -عَزَّ وَجَلَّ-: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ -يَعْنِي بِعَيْنَيْهِ- فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ عَنْهُمَا الْجَنَّةَ»؛ يَعْنِي يُرِيدُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُعَوِّضَهُ عَلَى صَبْرِهِ بِفَقْدِ بَصَرِهِ.. بِفَقْدِ عَيْنَيْهِ؛ فَلَا يُعَوِّضُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا بِالْجَنَّةِ.
هَذَا الْمَظْهَرُ مِنْ مَظَاهِرِ الِابْتِلَاءِ أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
فَهَذَا كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ بَيَّنَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالضَّرَّاءِ يَقَعُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَبِمَا يَسُوءُهُ وَمَا يَكْرَهُهُ)) .
* وَلَا يُضَافُ الشَّرُّ إِلَى اللهِ قَصْدًا؛ قَالَ ﷺ: ((وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((الشَّرُّ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ إِفْرَادًا وَقَصْدًا، فَلَا يُقَالُ: يَا خَالِقَ الشَّرِّ، أَوْ يَا مُقَدِّرَ الشَّرِّ.
وَلِهَذَا لَمَّا أَرَادَ الْخَضِرُ ذِكْرَ الْعَيْبِ نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ، مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ، قَالَ: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ عَيْبٌ هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِهِ هُوَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ بِأَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا ذَكَرَ الْعَيْبَ نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا}، وَلَمْ يَقُلْ: فَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَعِيبَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي مِنَ اللهِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا فِي مَرْأَى النَّظَرِ وَعَلَى حَسَبِ مَا يَكُونُ ظَاهِرًا فَهَذَا عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ يَخْلَعُ لَوْحًا مِنَ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَهَؤُلَاءِ مَسَاكِينُ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ حَمَلُوا الْخَضِرَ وَمُوسَى بِغَيْرِ نَوْلٍ -أَيْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ وَأَجْرٍ- وَكَانُوا -أَعْنِي أَهْلَ السَّفِينَةِ- مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَمِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، فَأَرَادَ الْخَضِرُ أَنْ يَعِيبَ السَّفِينَةَ ظَاهِرًا، وَلَكِنْ.. هَذَا يُفْضِي إِلَى مَاذَا؟!!
يُفْضِي إِلَى خَيْرٍ سَيَأْتِي بَعْدُ؛ وَهُوَ أَنَّ الْمَلِكَ إِذَا رَأَى أَنَّ السَّفِينَةَ مَعِيبَةٌ لَمْ يَأْخُذْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، فَأَخَذَ الْخَضِرُ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَخَلَعَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، حَتَّى إِذَا رَأَى الْمَلِكُ وَجُنُودُهُ السَّفِينَةَ مَعِيبَةً تَرَكُوهَا، قَالُوا: هَذِهِ لَا نُرِيدُهَا.
إِذَنْ؛ هَذَا خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ؟!!
هَذَا خَيْرٌ.
هَذَا الْعَيْبُ الظَّاهِرُ الَّذِي أُحْدِثَ فِي السَّفِينَةِ إِنَّمَا أَنْتَجَ وَأَثْمَرَ خَيْرًا عَظِيمًا؛ وَهُوَ أَنَّ السَّفِينَةَ لَمْ تُغْتَصَبْ مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْخَضِرَ لَمَّا ذَكَرَ الْعَيْبَ نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَلَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ الْخَيْرِ نَسَبَهُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَقَالَ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الكهف: 82].
لَمَّا ذَكَرَ الْخَيْرَ نَسَبَهُ إِلَى اللهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَيْبَ نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ.
وَكَذَلِكَ فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمِنْ نِعَمِهِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمَرَضَ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى اللهِ؛ فَقَالَ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، وَلَمْ يَقُلْ: وَإِذَا أَمْرَضَنِي فَهُوَ يَشْفِينِ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ يَنْسُبُ الْفِعْلَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَلَمَّا جَاءَ الْمَرَضُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )) .
((نَفْسُ قَضَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيْسَ فِيهِ شَرٌّ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ رَحْمَةٍ وَحِكْمَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الشَّرُّ فِي الْمَقْضِيَّاتِ، فَأَمَّا الْقَضَاءُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَهُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ لَا شَرَّ فِيهِ، وَأَمَّا الْمَقْضِيَّاتُ فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي تَكُونُ شَرًّا أَوْ تَكُونُ خَيْرًا.
وَمَعَ ذَلِكَ.. فَالشَّرُّ فِي الْمَقْضِيَّاتِ لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا؛ يَعْنِي مَا قَدَّرَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الْمَرَضِ مَثَلًا، هَذَا مِنْ حَيْثُ هُوَ قَضَاءُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُهُ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا قَضَاهُ هَذَا خَيْرٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ مَا قَضَى اللهُ وَقَدَّرَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ شَرٌّ أَبَدًا مِنْ حَيْثُ هُوَ قَضَاؤُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَأَمَّا الْمَقْضِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ.. أَمَّا الْمَرَضُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ؛ فَهَذَا يَكُونُ شَرًّا وَيَكُونُ خَيْرًا، وَمَعَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ شَرًّا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَرًّا مَحْضًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ مَرِضَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَكَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَصَابَ مِنْهُ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((يُصَبْ مِنْهُ)) .
لِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُوعَكُ -يَمْرَضُ مَرَضًا شَدِيدًا- وَيَقُولُ: ((أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ الرَّجُلَانِ مِنْكُمْ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
الشَّرُّ لَا يُضَافُ إِلَى اللهِ إِفْرَادًا وَقَصْدًا؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَدَّبَ مَعَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نُرَاعِيَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْعَقَائِدِ)) .
2- وَأَمَّا الِابْتِلَاءُ بِالْمَعَاصِي أَوِ السَّيِّئَاتِ:
((فَهَذَا الْمَظْهَرُ لَا يَقِلُّ عَنِ الْمَظْهَرِ الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ الِابْتِلَاءُ بِالضَّرَّاءِ أَوِ الشَّرِّ مِنْ حَيْثُ الْخَطَرُ وَالتَّأْثِيرُ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ.
آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ هُوَ أَوَّلُ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الِابْتِلَاءِ عِنْدَمَا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهَا.
فَهَذَا ابْتِلَاءٌ بِالْمَعَاصِي.. ابْتِلَاءٌ بِالسَّيِّئَاتِ، نَهَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَسَجَّلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلى حِينٍ}.
وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ إِلَى ثَمَرَةِ هَذَا الِابْتِلَاءِ عِنْدَمَا قَالَ: ((لَوْ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ أَحَبَّ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَا ابْتَلَى بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الْمَخْلُوقَاتِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ، فَالتَّوْبَةُ هِيَ غَايَةُ كُلِّ كَمَالٍ آدَمِيٍّ، وَقَدْ كَانَ كَمَالُ أَبِينَا آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِهَا)).
لَمَّا تَابَ عَلَيْهِ رَبُّهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- اجْتَبَاهُ وَاصْطَفَاهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ.
3- الِابْتِلَاءُ بِالسَّرَّاءِ أَوِ الْخَيْرِ:
يَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَى شُكْرَهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ النِّعَمِ؛ فَيُبْتَلَى الْإِنْسَانُ عَلَى الْمُسْتَوَى الشَّخْصِيِّ بِالنَّعْمَاءِ أَوِ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَتَمْحِيصًا.
يُعْطِيهِ اللهُ الْمَالَ.. الْجَاهَ.. الْعَافِيَةَ.. الْمَنْصِبَ.. الْأَوْلَادَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا يَعْقُبُ هَذَا الْعَطَاءَ مِنْ شُكْرٍ لِلنِّعْمَةِ أَوْ كُفْرٍ بِهَا.
حَكَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
وَشُكْرُ النِّعْمَةِ يَعْقُبُهُ زِيَادَتُهَا، وَأَمَّا الْجُحُودُ وَالْكُفْرُ بِهَا، وَالْعِصْيَانُ، وَالْكِبْرُ، وَالْعُجْبُ، وَالْخُيَلَاءُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ.. فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَهَا مَاحِقَةً لِلنَّعْمَاءِ مُذْهِبَةً لَهَا؛ يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
هَذِهِ الْأَمْوَالُ وَهَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ فِتْنَةٌ وَاخْتِبَارٌ وَمِحْنَةٌ وَابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
{مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ}: مِنْ جِنْسِ مَا يُقَالُ لَهُ زَوْجٌ، وَمِنْ جِنْسِ مَا يُقَالُ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّبْعِيضِ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَالْآخَرُونَ يَكُونُونَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ.
فَهَذَا الِابْتِلَاءُ بِالنَّعْمَاءِ وَبِالسَّرَّاءِ، ابْتِلَاءٌ لِأَجْلِ أَنْ يَرَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَدَّ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى قَدَرِ اللهِ فِيهِ بِالنِّعْمَةِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِ؛ أَيَشْكُرُ تِلْكَ النِّعْمَةَ فَيَشْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَوْصَلَهَا إِلَيْهِ؟! أَمْ يَكْفُرُ وَيَجْحَدُ؟!
وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ؛ الِابْتِلَاءِ بِالشَّرِّ، وَالِابْتِلَاءِ بِالْخَيْرِ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
4- الْمَظْهَرُ الرَّابِعُ مِنْ مَظَاهِرِ الِابْتِلَاءِ: الِابْتِلَاءُ بِالطَّاعَاتِ؛ كَمَا يَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ بِالْمَعْصِيَةِ لِتُتَاحَ لَهُ فُرْصَةُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، يَبْتَلِيهِ -أَيْضًا- بِالطَّاعَاتِ لِيَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَى مَا هَدَاهُ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الطَّاعَاتِ.
يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}.
الطَّاعَةُ الَّتِي وَفَّقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِبْرَاهِيمَ إِلَيْهَا جَلِيلَةٌ جِدًّا، لَمَّا هَمَّ بِذَبْحِ وَلَدِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّهِ، ثُمَّ صَدَّقَ الرُّؤْيَا: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا}؛ يَعْنِي: هَذَا الَّذِي كَانَ مِنْ تَوْفِيقِكَ وَإِحْسَانِكَ فِي الْعَمَلِ {لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}.
فَابْتَلَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالطَّاعَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَى شُكْرَهُ عَلَى تَوْفِيقِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهُ إِلَى طَاعَتِهِ.
وَهَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ الِابْتِلَاءِ -الِابْتِلَاءُ بِالْمَعْصِيَةِ أَوِ السَّيِّئَةِ، وَالِابْتِلَاءُ بِالطَّاعَةِ أَوِ الْحَسَنِةِ- أَشَارَتْ إِلَيْهِمَا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
يَخْتَبِرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْحَسَنَةِ كَمَا يَخْتَبِرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالسَّيِّئَةِ؛ { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مِنْ مُحَادَّةِ أَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمُجَانَبَةِ أَمْرِهِ.
وَضَرَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَثَلًا، وَسَاقَ قِصَّةً فِيهَا أَرْوَعُ مَثَلَيْنِ لِلِابْتِلَاءِ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ مَعًا؛ وَهِيَ قِصَّةُ وَلَدَيْ آدَمَ، فَابْتَلَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا بِالطَّاعَةِ، وَابْتَلَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ بِالْمَعْصِيَةِ، وَثَبَتَ هَذَا، وَزَلَّ هَذَا، وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقِصَّةَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
هَذِهِ الْمَظَاهِرُ الْأَرْبَعَةُ لِلِابْتِلَاءِ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تُرْجِعَهَا جَمِيعَهَا إِلَى مَظْهَرَيْنِ اثْنَيْنِ، الْأَوَّلُ: ابْتِلَاءُ التَّكْلِيفِ؛ وَيَشْمَلُ الِابْتِلَاءَ بِالْحَسَنَاتِ أَوِ السَّيِّئَاتِ، بِالطَّاعَاتِ أَوِ الْمَعَاصِي، يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى- فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا النَّوْعِ الْأَوَّلِ: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: ابْتِلَاءُ الْفِتْنَةِ؛ وَيَشْمَلُ الِابْتِلَاءَ بِالسَّرَّاءِ أَوِ الضَّرَّاءِ: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ})).
((الْحِكْمَةُ مِنَ الِابْتِلَاءِ))
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِي النَّاسَ فِي الْحَيَاةِ لِيَرَى صَبْرَهُمْ، وَلِيَرَى صِدْقَهُمْ، جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفِتْنَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ كَالنَّارِ بِالنِّسْبَةِ لِلذَّهَبِ، يَدْخُلُ الذَّهَبُ النَّارَ حَتَّى يَخْرُجَ خَالِصًا مُخَلَّصًا مِنْ شَوَائِبِهِ وَمَا عَلِقَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يَبْتَلِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْفِتَنِ، وَيُدْخِلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَارَ الْمِحَنِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْ شَوَائِبِهِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَصِيرَ إِلَى كَمَالِ الْعَقْلِ وَالصَّبْرِ حَتَّى يَدْفَعَ فِتْنَةَ الشَّهْوَةِ، وَحَتَّى يَصِيرَ إِلَى كَمَالِ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ حَتَّى يَدْفَعَ فِتْنَةَ الشُّبْهَةِ.
فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ هَذَا الْمَحَكَّ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِدْقَ الْإِنْسَانِ وَصَبْرَهُ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].
أَظَنَّ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِاللهِ، وَهُمْ لَا يُخْتَبَرُونَ وَيُمْتَحَنُونَ بِمَشَاقِّ التَّكَالِيفِ وَوَظَائِفِ الطَّاعَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْمَصَائِبِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ؟!!
كَلَّا.. لَنَخْتَبِرَنَّهُمْ؛ لِنُبَيِّنَ الْمُخْلِصَ مِنَ الْمُنَافِقَ، وَالصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ، وَالصَّابِرَ مِنَ الْجَزُوعِ.
وَنُؤَكِّدُ مُقْسِمِينَ أَنَّنَا اخْتَبَرْنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ بِضُرُوبِ الْفِتَنِ وَأَنْوَاعِ الْمِحَنِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ نُشِرَ بِالْمِنْشَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ.. فَصَبَرُوا، فَمَا لَهُمْ لَا يَصْبِرُونَ مِثْلَهُمْ؟!!
فَلَيُظْهِرَنَّ اللهُ الصَّادِقِينَ فِي الْإِيمَانِ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيهِ بِاخْتِبَارِهِمُ اخْتِبَارًا عَمَلِيًّا يَكْشِفُ صِدْقَ الصَّادِقِينَ وَكَذِبَ الْكَاذِبِينَ.
((يَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ عَلَى الْمُسْتَوَى الشَّخْصِيِّ فِيمَا يُصِيبُهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِيمَنْ يُهِمُّهُ، فَيُنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النَّاسِ مَا يَشَاءُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ضُرُوبِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْتَلِيَ صَبْرَهُمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْلَمَ صِدْقَهُمْ.
وَيَأْتِي الِابْتِلَاءُ الِاجْتِمَاعِيُّ فِي هَذَا التَّفَاعُلِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْكَوَائِنِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْأُخْرَى مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي يُعَاشِرُهَا وَيُعَالِجُهَا وَيُخَالِطُهَا، فَيَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْبَشَرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ.
ثُمَّ يَأْتِي الِابْتِلَاءُ الْجَمَاعِيُّ الْأُمَمِيُّ عِنْدَمَا يُنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى بَعْضِ الْأُمَمِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ تَجَمُّعَاتِ الْبَشَرِ.. يُنْزِلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ نِقْمَتَهُ وَسَخَطَهُ عِنْدَمَا يَخْرُجُونَ عَنْ أَمْرِهِ؛ لِيَرُدَّهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى الْحَقِّ، أَوْ لِيُعَاقِبَهُمْ عَلَى مَا أَسْلَفُوا مِنَ الْإِسَاءَةِ.
إِنَّ حِكْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي خَلْقِهِ اقْتَضَتْ أَنْ يَبْتَلِيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ بِالضَّرَّاءِ وَالسَّرَّاءِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَمَا يَبْتَلِي الْإِنْسَانَ بِالضُّرِّ وَالشَّرِّ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَقْوِيَةً لِلْإِيمَانِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.
وَيَكُونُ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ جِسْرًا يُوصِلُ إِلَى أَكْمَلِ الْغَايَاتِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ تَمْحِيصٌ لِلْمُؤْمِنِ وَتَخْلِيصٌ لَهُ مِنَ الشَّوَائِبِ الْمُنَافِيَةِ لِلْإِيمَانِ.
وَهُوَ رَدْعٌ وَتَحْذِيرٌ مِنَ الْغُرُورِ، وَهُوَ رَحْمَةٌ بِالْعُصَاةِ وَتَخْفِيفٌ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيْضًا هُوَ إِقَامَةُ حُجَّةِ الْعَدْلِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ وَعَلَى الْعِبَادِ)) .
((دَوْرُ الِابْتِلَاءِ فِي تَرْبِيَةِ النُّفُوسِ))
((إِنَّ لِلِابْتِلَاءِ قِيمَةً تَرْبَوِيَّةً عَظِيمَةً جِدًّا؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ وَمَظَاهِرِهِ الْعَدِيدَةِ لَهُ دَوْرٌ عَظِيمٌ فِي تَرْبِيَةِ النُّفُوسِ، وَفِي تَدْرِيبِهَا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَتَهْيِئَتِهَا لِمُوَاجَهَةِ أَيِّ ظَرْفٍ طَارِئٍ أَوْ مُحْتَمَلٍ.
كَمَا أَنَّ فِي الِابْتِلَاءِ بِأَنْوَاعِهِ وَمَظَاهِرِهِ تَدْرِيبًا لِلْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالذِّهْنِيَّةِ، وَتَوْجِيهًا لَهَا كَيْ تَسِيرَ عَلَى الْمَنْهَجِ السَّوِيِّ الَّذِي يُحَقِّقُ الْغَايَةَ الْمَرْجُوَّةَ مِنْهَا، كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ حِمَايَةً لَهَا مِنَ الزَّيْغِ وَالِانْحِرَافِ.
وَهَذِهِ بَعْضُ الثِّمَارِ التَّرْبَوِيَّةِ لِعَمَلِيَّةِ الِابْتِلَاءِ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَاقَةً بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَاةِ:
* الِابْتِلَاءُ تَرْبِيَةٌ بِالْخِبْرَةِ: فَيُرَبِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَبْتَلِيهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ وَبِأَيِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ الْعَدِيدَةِ، يَجْعَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الِابْتِلَاءَ تَرْبِيَةً؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُفِيدَ الْإِنْسَانَ مِنْ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّةِ خِبْرَةً تُمَكِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مُعَالَجَةِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ مُعَالَجَةً صَحِيحَةً.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الْمُبْتَلَى بِالذَّنْبِ يُصْبِحُ كَالطَّبِيبِ الْمُجَرِّبِ الَّذِي عَرَفَ الْمَرَضَ مُبَاشَرَةً، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ يَعْرِفُ كَيْفَ يُعَالِجُهُ عِلَاجًا صَحِيحًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَعْرَفُ النَّاسِ بِالْآفَاتِ أَكْثَرُهُمْ آفَاتٍ)).
وَهَذِهِ قِيمَةٌ مَعْرِفِيَّةٌ أَوَّلًا، وَهِيَ قِيمَةٌ عَمَلِيَّةٌ ثَانِيًا؛ فَهِيَ تُفِيدُ فِي مُعَالَجَةِ الْحَالَاتِ الْمُمَاثِلَةِ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ تَرْبِيَةٌ بِالْخِبْرَةِ.
* وَالِابْتِلَاءُ تَدَرُّبٌ عَلَى الْحَذَرِ وَأَخْذِ الْحَيْطَةِ:
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((مِنْ فَوَائِدِ الِابْتِلَاءِ تَحَرُّزُ الْمُبْتَلَى مِنْ مَصَائِدِ الْعَدُوِّ وَمَكَامِنِهِ، وَمَعْرِفَةُ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطُّرُقِ؟ وَأَيْنَ تَقَعُ مَكَامِنُهُمْ؟ وَمِنْ أَيْنَ يَخْرُجُونَ عَلَيْهِ؟ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ؟
وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُمْ، وَتَأَهَّبَ لِلِقَائِهِمْ، وَعَرَفَ كَيْفَ يَدْفَعُ شَرَّهُمْ وَكَيْدَهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِمْ عَلَى غِرَّةٍ وَطُمْأَنِينَةٍ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَظْفَرُوا بِهِ وَيَجْتَاحُوهُ -أَيْ: يَسْتَأْصِلُوهُ وَيَذْهَبُوا بِذَاتِهِ- جُمْلَةً)).
* وَالِابْتِلَاءُ يُكْسِبُ الْعَبْدَ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ فِي مُوَاجَهَةِ الْأَعْدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ دَاءِ الْغَفْلَةِ، وَيُؤَدِّي إِلَى اسْتِجْمَاعِ وَاسْتِنْفَارِ الْقُوَى، وَالتَّشَجُّعِ لِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
((فَقَدْ يَنْشَغِلُ الْإِنْسَانُ عَنْ عَدُوِّهِ اللَّدُودِ؛ وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَبِطَانَةُ الشَّرِّ، فَإِذَا أَصَابَهُ مِنْهُمْ سَهْمٌ اسْتَجْمَعَ قُوَّتَهُ وَحَمِيَّتَهُ، وَطَالَبَ بِثَأْرِهِ إِنْ كَانَ قَلْبُهُ حُرًّا كَرِيمًا؛ كَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ إِذَا جُرِحَ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَهَا حَتَّى تَرَاهُ هَائِجًا مِقْدَامًا.
أَمَّا الْقَلْبُ الْجَبَانُ الْمَهِينُ فَإِنَّهُ إِذَا جُرِحَ فَهُوَ كَالرَّجُلِ الضَّعِيفِ، إِذَا جُرِحَ وَلَّى هَارِبًا، فَيَفْقِدُ بِذَلِكَ مُرُوءَتَهُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا مُرُوءَةَ لَهُ يَطْلُبُ بِهَا الثَّأْرَ مِنْ عَدُوِّهِ، وَلَا عَدُوَّ أَعْدَى لِلْإِنْسَانِ مِنَ الشَّيْطَانِ)).
* وَالِابْتِلَاءُ -أَيْضًا- لَهُ قِيمَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ؛ وَهِيَ: الْمَعْرِفَةُ الْمُبَاشِرَةُ بِأَمْرَاضِ النَّفْسِ وَكَيْفِيَّةُ عِلَاجِهَا.
كَمَا أَنَّ لِلِابْتِلَاءِ أَثَرَهُ الْفَعَّالَ فِي مُقَاوَمَةِ آفَاتِ الْجَسَدِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ لَهُ -أَيْضًا- دَوْرَهُ الْفَعَّالَ فِي مَعْرِفَةِ أَمْرَاضِ النُّفُوسِ وَكَيْفِيَّةِ مُعَالَجَتِهَا.
((وَهَذِهِ هِيَ حَالُ الْمُؤْمِنِ يَكُونُ فَطِنًا حَاذِقًا أَعْرَفَ النَّاسِ بِالشَّرِّ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ، فَإِذَا تَكَلَّمَ فِي الشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ ظَنَنْتَهُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ، فَإِذَا خَالَطْتَهُ رَأَيْتَهُ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ بُلِيَ بِالْآفَاتِ صَارَ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِطُرُقِهَا، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَسُدَّهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْآخَرِينَ)) .
* الِابْتِلَاءُ لَهُ قِيمَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ أُخْرَى؛ وَهِيَ: تَدْرِيبُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَتَنْشِيطُهَا لِلْقِيَامِ بِمَهَامِّهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ.
وَهَذَا يَتَمَثَّلُ فِي الْيَقَظَةِ؛ لِأَنَّ صَدْمَةَ الِابْتِلَاءِ -خَاصَّةً بِالضَّرَّاءِ- هِيَ بِمَثَابَةِ صَيْحَةِ النَّذِيرِ لِقَوْمٍ نِيَامٍ تُنَبِّهُهُمْ مِنْ سُبَاتِ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَسَكْرَةِ أَحْلَامِ الْيَقَظَةِ، يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى- وَاصِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ غَرِقُوا فِي مَجْرَى الْغَفْلَةِ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
وَهَذِهِ الْيَقَظَةُ هِيَ -كَمَا يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ-: ((أَوَّلُ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعْنِي -أَيِ الْيَقَظَةُ- انْزِعَاجَ الْقَلْبِ لِرَوْعَةِ الِانْتِبَاهِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ.
وَيَا لَلَّهِ..! مَا أَنْفَعَ هَذِهِ الرَّوْعَةَ! وَمَا أَعْظَمَ قَدْرَهَا! وَمَا أَقْوَى إِعَانَتَهَا عَلَى السُّلُوكِ! وَمِنَ الْيَقَظَةِ يَنْتَقِلُ الْإِنْسَانُ إِلَى مَنْزِلَةِ الْعَزْمِ -وَهُوَ الْعَقْدُ الْجَازِمُ عَلَى الشَّيْءِ-، وَبِحَسَبِ كَمَالِ انْتِبَاهِهِ وَيَقَظَتِهِ تَكُونُ عَزِيمَتُهُ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ عَزْمِهِ يَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ، وَبِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ يَكُونُ تَذَكُّرُهُ)).
تَدْرِيبُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَتَنْشِيطُهَا لِلْقِيَامِ بِمَهَامِّهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ يَكُونُ بِالْيَقَظَةِ، وَيَكُونُ بِالْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالِاعْتِبَارِ:
إِذَا ابْتُلِيَ الْإِنْسَانُ وَاسْتَيْقَظَ بَدَأَ مَرْحَلَةَ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ وَإِعْمَالِ الْخَاطِرِ فِي تَجْرِبَةِ الِابْتِلَاءِ.
إِذَا ابْتُلِيَ بِالْفَاحِشَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا مَا ابْتُلِيَ بِالضُّرِّ وَالشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ إِذَا مَا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ مَرْحَلَةَ الْفِكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ وَإِعْمَالِ الْخَاطِرِ فِي تَجْرِبَةِ الِابْتِلَاءِ، وَرَدَّدَهَا قَلْبُهُ مُعْتَبِرًا.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : «أَصْلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قِبَلِ التَّفَكُّرِ؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ مَبْدَأُ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ، وَأَنْفَعُ الْفِكْرِ الْفِكْرُ فِي مَصَالِحِ الْمَعَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، وَفِي طُرُقِ اجْتِلَابِهَا، وَفِي دَفْعِ مَفَاسِدِ الْمَعَادِ، وَفِي طُرُقِ اجْتِنَابِهَا.
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَفْكَارٍ هِيَ أَجَلُّ الْأَفْكَارِ، وَيَلِيهَا أَرْبَعَةٌ: فِكْرٌ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَطُرُقِ تَحْصِيلِهَا، وَفِكْرٌ فِي مَفَاسِدِ الدُّنْيَا، وَطُرُقِ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا)).
إِنَّ أَعْظَمَ الْفِكْرِ فِكْرٌ يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيُؤَدِّي إِلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّأَمُّلِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَجَائِبِ صُنْعِ اللهِ سُبْحَانَهُ.
وَمِنْ تَدْرِيبِ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ: التَّذَكُّرُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الِابْتِلَاءِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ وَفَضْلٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُذَكِّرُ الْإِنْسَانَ وَيُثَبِّتُهُ عَلَى صِرَاطِ رَبِّهِ الْمُسْتَقِيمِ: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَذَكَّرَ مَصِيرَهُ لَوْ أَنَّهُ تُرِكَ لِهَوَاهُ بِدُونِ تَذْكِرَةٍ؛ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وَعِنْدَ الِابْتِلَاءِ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَحَالَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؛ أَنْ يُبْتَلَى هُنَا أَمْ هُنَاكَ، {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى}، {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.
وَعِنْدَ سَاعَةِ الِاضْطِرَارِ وَالِابْتِلَاءِ يَعْرِفُ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَنْ يَكْشِفَ السُّوءَ إِلَّا اللهُ؛ {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}.
إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا أَفْلَحَ فِي الْوُصُولِ بِالتَّذَكُّرِ بَعْدَ النِّسْيَانِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مِنَ التَّدَرُّجِ وَالِارْتِقَاءِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَقَدْ أُوتِيَ حِكْمَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَعَرَفَ حِكْمَةَ هَذَا الِابْتِلَاءِ؛ {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ}.
وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْمَعْنَى لِلِابْتِلَاءِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ}.
فَالتَّذَكُّرُ يُورِثُ الْبَصِيرَةَ: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}؛ وَالْمَقْصُودُ بِهِ هُنَا - كَمَا يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ-: ((أَنَّهُمْ تَذَكَّرُوا عِقَابَ اللهِ وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ، وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، فَتَابُوا وَأَنَابُوا، وَاسْتَعَاذُوا بِاللهِ، وَرَجَعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ)).
* وَأَيْضًا.. الِابْتِلَاءُ هُوَ تَمْحِيصٌ لِلْقَلْبِ وَتَزْكِيَةٌ لَهُ: وَفِيهِ اسْتِنْفَارُ تِلْكَ الطَّاقَاتِ الَّتِي تَكُونُ كَامِنَةً فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَيَسْتَخْرِجُهَا الْبَلَاءُ رَائِعَةً مُتَوَهِّجَةً؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَقْلُ مَنَاطَ التَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخُشُوعِ وَالْخَشْيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُسَمَّى أَعْمَالَ الْقُلُوبِ.
فَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ مَتَى مَا صَلُحَ الْعَقْلُ وَالْقَلْبُ صَلُحَتِ الْجَوَارِحُ وَصَلُحَ اللِّسَانُ، وَبِذَلِكَ تَصْلُحُ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ، وَثَمَرَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ صَلَاحُ الْأَحْوَالِ فِي الدَّارَيْنِ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ.
إِنَّ الِابْتِلَاءَ يُمَحِّصُ الْقَلْبَ وَيُخَلِّصُهُ مِنَ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ؛ مِثْلِ: الْغَفْلَةِ، وَالْغِلِّ، وَالْغَيْظِ، وَالْغَضَبِ، وَالْكِبْرِ، وَالنِّفَاقِ، وَاللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ، وَالْحَسَدِ، وَالْحِقْدِ، وَالْوَسْوَسَةِ، وَالشَّكِّ، وَالرِّيبَةِ، وَالْقَسْوَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْفَظَاظَةِ، وَالْغَيِّ، وَالِابْتِدَاعِ، وَالزَّيْغِ» اهـ .
فَالِابْتِلَاءُ لَهُ قِيمَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَمَنْ لَمْ تَحْتَرِقْ لَهُ بِدَايَةٌ فَلَنْ تُشْرِقَ لَهُ نِهَايَةٌ.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِي الْعَبْدَ لِكَيْ يُرَبِّيَهِ، وَلِكَيْ يَسْتَخْرِجَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ قَلْبِهِ تِلْكَ الْآفَاتِ الَّتِي إِذَا ابْتُلِيَ بِهَا قَلْبٌ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا.
وَيَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ -أَيِ: الْأَفْضَلُ- فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي ابْتِلَائِهِ)) .
يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُمَحِّصَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ سَخِيمَتَهُ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَلَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ قَلْبِهِ مَا يَنْخَرُ فِيهِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ طَلَاحُهُ إِذَا مَا نَمَا فِيهِ وَزَكَا.
وَلَكِنْ يُزَكِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقُلُوبَ بِأَمْثَالِ تِلْكَ الْخِصَالِ الطَّيِّبَةِ؛ لِيَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى الْمَحَكِّ دَائِمًا وَأَبَدًا.
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَبِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَبِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَمَهْمَا كَانَ حَالُ الْعَبْدِ فِي حَالِ ابْتِلَاءٍ، وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَالِ الِابْتِلَاءِ أَبَدًا، ((فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ اللهِ، رَاجِيًا لَهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا.
إِنْ نَظَرَ إِلَى ذُنُوبِهِ، وَعَدْلِ اللهِ، وَشِدَّةِ عِقَابِهِ؛ خَشِيَ رَبَّهُ وَخَافَهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى فَضْلِهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَعَفْوِهِ الشَّامِلِ؛ رَجَا وَطَمِعَ.
إِنْ وُفِّقَ لِطَاعَةٍ رَجَا مِنْ رَبِّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ بِقَبُولِهَا، وَخَافَ مِنْ رَدِّهَا بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَتِهِ رَجَا مِنْ رَبِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَمَحْوَهَا، وَخَشِيَ بِسَبَبِ ضَعْفِ التَّوْبَةِ وَالِالْتِفَاتِ لِلذَّنْبِ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهَا.
وَعِنْدَ النِّعَمِ وَالْيَسَارِ يَرْجُو اللهَ دَوَامَهَا وَالزِّيَادَةَ مِنْهَا، وَالتَّوْفِيقَ لِشُكْرِهَا، وَيَخْشَى بِإِخْلَالِهِ بِالشُّكْرِ مِنْ سَلْبِهَا.
وَعِنْدَ الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ يَرْجُو اللهَ دَفْعَهَا، وَيَنْتَظِرُ الْفَرَجَ بِحَلِّهَا، وَيَرْجُو -أَيْضًا- أَنْ يُثِيبَهُ اللهُ عَلَيْهَا حِينَ يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ، وَيَخْشَى مِنَ اجْتِمَاعِ الْمُصِيبَتَيْنِ؛ فَوَاتِ الْأَجْرِ الْمَحْبُوبِ، وَحُصُولِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ إِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْقِيَامِ بِالصَّبْرِ الْوَاجِبِ» .
((نَمَاذِجُ مِنْ مِحَنِ وَابْتِلَاءَاتِ خَيْرِ الْبَشَرِ))
إِنَّ مِنَ الْجَهْلِ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْإنْسَانِ مُرَادُ التَّكْلِيفِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى عَكْسِ الأَغْرَاضِ، فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْنَسَ بِانْعِكَاسِ الْأَغْرَاضِ، فَإِنْ دَعَا وَسَأَلَ بُلُوغَ غَرَضِهِ تَعَبَّدَ اللهَ بِالدُّعَاءِ، فَإِنْ أُعْطِيَ مُرَادَهُ شَكَرَ، وَإِنْ لَّمْ يَنَلْ مُرَادَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُلِحَّ فِي الطَّلَبِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لِبُلُوغِ الْأغْرَاضِ، وَلْيَقُلْ لِنَفْسِهِ: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].
وَمِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ أَن يَمْتَعِضَ فِي بَاطِنِهِ لِانْعِكَاسِ أغْرَاضِهِ، وَرُبَّمَا اعْتَرَضَ فِي الْبَاطِنِ، أَوْ رُبَّمَا قَالَ: حُصُولُ غَرَضِي لَا يَضُرُّ، وَدُعَائِي لَمْ يُسْتَجَبْ! وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ وَقِلَّةِ إِيمَانِهِ وَتَسْلِيمِهِ لِلْحِكْمَةِ، وَمَنِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ غَرَضٌ ثُمَّ لَمْ يُكَدَّرْ؟!!
((فَإِذَا تَأَمَّلْتَ حِكْمَتَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيمَا ابْتَلَى بِهِ عِبَادَهُ وَصَفْوَتَهُ بِمَا سَاقَهُمْ بِهِ إِلَى أَجَلِّ الْغَايَاتِ وَأَكْمَلِ النِّهَايَاتِ، الَّتِي لَمْ يَكُونُوا يَعْبُرُونَ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى جِسْرٍ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.
وَكَانَ ذَلِكَ الْجِسْرُ لِكَمَالِهِ كَالْجِسْرِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى عُبُورِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَيْنَ الْمَنْهَجِ فِي حَقِّهِمْ وَالْكَرَامَةِ.
فَصُورَتُهُ صُورَةُ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، وَبَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالنِّعْمَةُ وَالْمِنَّةُ، فَكَمْ للهِ مِنْ نِعْمَةٍ جَسِيمَةٍ وَمِنَّةٍ عَظِيمَةٍ تُجْنَى مِنْ قُطُوفِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.
فَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا آدَمَ -عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ، وَالتَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ.
وَلَوْلَا تِلْكَ الْمِحْنَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ؛ لَمَا وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ، فَكَمْ بَيْنَ حَالَتِهِ الْأُولَى وَحَالَتِهِ الثَّانِيَةِ فِي نِهَايَتِهِ.
وَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّانِي نُوحٍ ﷺ وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى قَوْمِهِ تِلْكَ الْقُرُونَ كُلَّهَا، حَتَّى أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ وَأَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ، وَجَعَلَ الْعَالَمَ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.
وَجَعَلَهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَصْبِرَ كَصَبْرِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالشُّكْرِ؛ فَقَالَ: {إنه كان عبدا شكورا} [الإسراء: 3]، وَوَصَفَهُ بِكَمَالِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّالِثِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، وَشَيْخِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَمُودِ الْعَالَمِ، وَخَلِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ.
وَتَأَمَّلْ مَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ وَبَذْلُهُ نَفْسَهُ للهِ تَعَالَى، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ آلَ بِهِ بَذْلُهُ للهِ نَفْسَهُ وَنَصْرُهُ دِينَهُ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا لِنَفْسِهِ، وَأَمَرَ رَسُولَه وَخَلِيلَهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ.
وَأُنَبِّهُكَ عَلَى خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ فِي مِحْنَتِهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَازَاهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَدَهُ لِأَمْرِ اللهِ بِأَنْ بَارَكَ فِي نَسْلِهِ وَكَثَّرَهُ حَتَّى مَلَأَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، فَمَنْ تَرَكَ لِوَجْهِهِ أَمْرًا أَوْ فَعَلَهُ لِوَجْهِهِ بَذَلَ اللهُ لَهُ أَضْعَافَ مَا تَرَكَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَجَازَاهُ بِأَضْعَافِ مَا فَعَلَهُ لِأَجْلِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.
فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَبَادَرَ بِأَمْرِ اللهِ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ أَبَاهُ، رِضًا مِنْهُمَا وَتَسْلِيمًا، وَعَلِمَ اللهُ مِنْهُمَا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ؛ فَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَأَعْطَاهُمَا مَا أَعْطَاهُمَا مِنْ فَضْلِهِ.
وَكَانَ مِنْ بَعْضِ عَطَايَاهُ أَنْ بَارَكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا حَتَّى مَلَئُوا الْأَرْضَ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ التَّنَاسُلُ وَتَكْثِيرُ الذُّرِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: {رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 100]، وَقَالَ: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} [إبراهيم: 40].
فَغَايَةُ مَا كَانَ يَحْذَرُ وَيَخْشَى مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ، فَلَمَّا بَذَلَ وَلَدَهُ للهِ، وَبَذَلَ الْوَلَدُ نَفْسَهُ، ضَاعَفَ اللهُ النَّسْلَ وَبَارَكَ فِيهِ، وَكَثُرَ حَتَّى مَلَئُوا الدُّنْيَا، وَجَعَلَ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فِي ذُرِّيَّتِهِ خَاصَّةً، وَأَخْرَجَ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْكَلِيمِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ، حَتَّى كَلَّمَهُ اللهُ مِنْهُ إِلَيْهِ تَكْلِيمًا، وَكَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ إِلَى أَعْلَى السَّمَاوَاتِ.
وَاحْتَمَلَ لَهُ مَا لَا يَحتَمِلُ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ رَمَى الْأَلْوَاحَ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخَذَ بِلِحْيَةِ نَبِيِّ اللهِ هَارُونَ وَجَرَّهُ إِلَيْهِ، وَلَطَمَ وَجْهَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، وَخَاصَمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَرَبُّهُ يُحِبُّهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سَقَطَ شَيْءٌ مِنْهُ مِنْ عَيْنِهِ، وَلَا سَقَطَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدُهُ، بَلْ هُوَ الْوَجِيهُ عِنْدَ اللهِ، الْقَرِيبُ.
وَلَوْلَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ السَّوَابِقِ، وَتَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ الْعِظَامِ فِي اللهِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا آذَوْهُ بِهِ وَمَا صَبَرَ عَلَيْهِمْ للهِ.. لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْمَسِيحِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَبْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَاحْتِمَالَهُ فِي اللهِ مَا تَحَمَّلَهُ مِنْهُمْ، حَتَّى رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَانْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَقَطَّعَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَمَزَّقَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَسَلَبَهُمْ مُلْكَهُمْ وَفَخْرَهُمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
فَإِذَا جِئْتَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَتَأَمَّلْتَ سِيرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ، وَصَبْرَهُ فِي اللهِ، وَاحْتِمَالَهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وَتَلَوُّنَ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ مِنْ سِلْمٍ وَحَرْبٍ, وَغِنَى وَفَقْرٍ, وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ، وَإِقَامَةٍ فِي وَطَنِهِ وَظَعْنٍ عَنْهُ وَتَرْكِهِ للهِ، وَقَتْلِ أَحِبَّائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَذَى الْكُفَّارِ لَهُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالسِّحْرِ وَالْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ وَالْبُهْتَانِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ عَلَى أَمْرِ اللهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ، فَلَمْ يُؤْذَ نَبِيٌّ مَا أُوذِيَ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ فِي اللهِ مَا احْتَمَلَهُ، وَلَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مَا أُعْطِيَ.
فَرَفَعَ اللهُ لَهُ ذِكْرَهُ، وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَجَعَلَهُ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَسِيلَةً، وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَهُ جَاهًا، وَأَسْمَعَهُمْ عِنْدَهُ شَفَاعَةً، وَكَانَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ وَالِابْتِلَاءَاتُ عَيْنَ كَرَامَتِهِ، وَهِيَ مِمَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا شَرَفًا وَفَضْلًا، وَسَاقَهُ بِهَا إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ.
وَهَذَا حَالُ وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، كُلٌّ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْمِحْنَةِ يَسُوقُهُ اللهُ بِهِ إِلَى كَمَالِهِ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ، وَمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَحَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا حَظُّ مَنْ خُلِقَ لَهَا وَخُلِقَتْ لَهُ، وَجُعِلَ خَلَاقُهُ وَنَصِيبُهُ فِيهَا، فَهُوَ يَأْكُلُ مِنْهَا رَغَدًا، وَيَتَمَتَّعُ فِيهَا حَتَّى يَنَالَهُ نَصِيبُهُ مِنَ الْكِتَابِ.
يُمْتَحَنُ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَهُوَ فِي دَعَةٍ وَخَفْضِ عَيْشٍ، وَيَخَافُونَ وَهُوَ آمِنٌ، وَيَحْزَنُونَ وَهُوَ وَأَهْلُهُ فِي سُرُورٍ، لَهُمْ شَأْنٌ وَلَهُ شَأْنٌ، وَهُوَ فِي وَادٍ وَهُمْ فِي وَادٍ، هَمُّهُ مَا يُقِيمُ بِهِ جَاهَهُ، وَيَسْلَمُ بِهِ مَالُهُ، وَتُسْمَعُ بِهِ كَلِمَتُهُ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَزِمَ، وَرَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ.
وَهَمُّهُمْ إِقَامَةُ دِينِ اللهِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ، وَإِعْزَازُ أَوْلِيَائِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ الْمَعْبُودَ لَا غَيْرُهُ، وَرَسُولُهُ الْمُطَاعَ لَا سِوَاهُ.
فَلِلَّهِ -سُبْحَانَهُ- مِنَ الْحِكَمِ فِي ابْتِلَائِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَتَقَاصَرُ عُقُولُ الْعَالَمِينَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهَلْ وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْمَحْمُودَةِ، وَالنِّهَايَاتِ الْفَاضِلَةِ.. إِلَّا عَلَى جِسْرِ الْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ؟!
كَذَا الْمَعَالِي إِذَا مَا رُمْتَ تُدْرِكُهَا=فَاعْبُرْ إِلَيْهَا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ » .
((الْوَسَائِلُ الْمُعِينَةُ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ))
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي بَيَانِ الْأُمُورِ الَّتِي إِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ بِهَا حَصَّلَ الصَّبْرَ عِنْدَ الْبَلَاءِ، قَالَ: ((وَالصَّبْرُ عَلَى الْبَلَاءِ يَنْشَأُ مِنْ أَسْبَابٍ عَدِيدَةٍ:
أَحَدُهَا: شُهُودُ جَزَائِهَا وَثَوَابِهَا.
الثَّانِي: شُهُودُ تَكْفِيرِهَا لِلسَّيِّئَاتِ وَمَحْوِهَا لَهَا.
الثَّالِثُ: شُهُودُ الْقَدَرِ السَّابِقِ الْجَارِي بِهَا، وَأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْهَا، فَجَزَعُهُ عِنْدَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ عَلَيْهِ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا بَلَاءً.
الرَّابِعُ: شُهُودُهُ حَقَّ اللهِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْبَلْوَى، وَوَاجِبُهُ فِيهَا الصَّبْرُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ، أَوِ الصَّبْرُ وَالرِّضَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ حَقِّ اللهِ وَعُبُودِيَّتِهِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْبَلْوَى، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَإِلَّا تَضَاعَفَتِ الْبَلْوَى عَلَيْهِ.
الْخَامِسُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْشَأُ مِنَ الْأَخْذِ بِهَا الصَّبْرُ عِنْدَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ: شُهُودُ تَرَتُّبِهَا عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
فَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مُصِيبَةٍ دَقِيقَةٍ وَجَلِيلَةٍ، فَشُغْلُهُ شُهُودُ هَذَا السَّبَبِ بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِى هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ فِي دَفْعِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ.
َالوسائل المعينة على الصبر عند البلاء))(المحاضرة الأولى: مفهوم الحياة والابتلاء) -
السَّادِسُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ قَدِ ارْتَضَاهَا لَهُ وَاخْتَارَهَا وَقَسَمَهَا، وَأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ تَقْتَضِي رِضَاهُ بِمَا رَضِيَ بِهِ سَيِّدُهُ وَمَوْلَاهُ؛ فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ قَدْرَ الْمَقَامِ حَقَّهُ فَهُوَ لِضَعْفِهِ، فَلْيَنْزِلْ إِلَى مَقَامِ الصَّبْرِ عَلَيْهَا، فَإِنْ نَزَلَ عَنْهُ نَزَلَ إِلَى مَقَامِ الظُّلْمِ وَتَعَدِّي الْحَقِّ.
السَّابِعُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ هِيَ دَوَاءٌ نَافِعٌ سَاقَهُ إِلَيْهِ الطَّبِيبُ الْعَلِيمُ بِمَصْلَحَتِهِ، الرَّحِيمُ بِهِ، فَلْيَصْبِرْ عَلَى تَجَرُّعِ هَذَا الدَّوَاءِ، وَلَا يَتَقَيَّأْهُ بِتَسَخُّطِهِ وَشَكْوَاهُ فَيَذْهَبَ نَفْعُهُ بَاطِلًا.
الثَّامِنُ مِنَ الْأَسْبَابِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِي عُقْبَى هَذَا الدَّوَاءِ مِنَ الشِّفَاءِ وَالْعَافِيَةِ وَالصِّحَّةِ وَزَوَالِ الْأَلَمِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ ذَلِكَ الدَّوَاءِ الْمُرِّ، فَإِذَا طَالَعَتْ نَفْسُهُ كَرَاهَةَ هَذَا الدَّوَاءِ وَمَرَارَتَهُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى عَاقِبَتِهِ وَحُسْنِ تَأْثِيرِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُم وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] وَفِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ:
لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُهُ=وَرُبَّمَا صَحَّتِ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ
التَّاسِعُ مِنَ الْأَسْبَابِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمُصِيبَةَ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَهُ وَتَقْتُلَهُ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَتَبْتَلِيَهُ، فَيَتَبَيَّنُ -حِينَئِذٍ- هَلْ يَصْلُحُ لِاسْتِخْدَامِهِ وَجَعْلِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ أَمْ لَا؟
فَإِنْ ثَبَتَ اصْطَفَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعَ الْإِكْرَامِ، وَأَلْبَسَهُ مَلَابِسَ الْفَضْلِ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ، وَجَعَلَهُمْ لَهُ خَدَمًا وَأَعْوَانًا لَهُ، وَإِنِ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ طُرِدَ وَصُفِعَ قَفَاهُ وَأُقْصِيَ، وَتَضَاعَفَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيبَةُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فِي الْحَالِ بِتَضَاعُفِهَا وَزِيَادَتِهَا، وَلَكِنْ سَيَعْلَمُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُصِيبَةَ فِي حَقِّهِ صَارَتْ مَصَائِبَ، كَمَا يَعْلَمُ الصَّابِرُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ فِي حَقِّهِ صَارَتْ نِعَمًا عَدِيدَةً.
وَمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ الْمُتَبَايِنَتَيْنِ إِلَّا صَبْرُ سَاعَةٍ، وَتَشْجِيعُ الْقَلْبِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ.
وَالْمُصِيبَةُ لَا بُدَّ أَنْ تُقْلِعَ عَنْ هَذَا وَهَذَا -عَنِ الْجَازِعِ وَعَنِ الصَّابِرِ مَعًا-، وَلَكِنْ.. تُقْلِعُ عَنْ هَذَا بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ وَالْخَيْرَاتِ، وَعَنِ الْآخَرِ بِالْحِرْمَانِ وَالْخِذْلَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَفَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
الْعَاشِرُ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَتَى أَخَذَ الْعَبْدُ بِهَا آتَاهُ اللهُ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ عِنْدَ الْبَلَاءِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يُرَبِّي عَبْدَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالنِّعْمَةِ وَالْبَلَاءِ، فَيَسْتَخْرِجُ مِنْهُ عُبُودِيَّتَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
فَإِنَّ الْعَبْدَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَنْ قَامَ بِعُبُودِيَّةِ اللهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا عَبْدُ السَّرَّاءِ وَالْعَافِيَةِ الَّذِي يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَيْسَ مِنْ عَبِيدِهِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ لِعُبُودِيَّتِهِ.
فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِى يَثْبُتُ عَلَى مَحَكِّ الِابْتِلَاءِ وَالْعَافِيَةِ هُوَ الْإِيمَانُ النَّافِعُ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا إِيمَانُ الْعَافِيَةِ فَلَا يَكَادُ يَصْحَبُ الْعَبْدَ وَيُبَلِّغُهُ مَنَازِلَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا يَصْحَبُهُ إِيمَانٌ يَثْبُتُ عَلَى الْبَلَاءِ وَيَثْبُتُ عَلَى الْعَافِيَةِ.
فَالِابْتِلَاءُ كِيرُ الْعَبْدِ وَمَحَكُّ إِيمَانِهِ؛ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ تِبْرًا أَحْمَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ زَغَلًا مَحْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ مَادَّتَانِ ذَهَبِيَّةٌ وَنُحَاسِيَّةٌ، فَلَا يَزَالُ بِهِ الْبَلَاءُ حَتَّى يُخْرِجَ الْمَادَّةَ النُّحَاسِيَّةَ مِنْ ذَهَبِهِ، وَيَبْقَى ذَهَبًا خَالِصًا.
فَلَوْ عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ فِي الْبَلَاءِ لَيْسَتْ بِدُونِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ فِي الْعَافِيَةِ لَشَغَلَ قَلْبَهُ بِشُكْرِهِ وَلِسَانَهُ بِقَوْلِهِ: ((اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) .
وَكَيْفَ لَا يَشْكُرُ مَنْ قَيَّضَ لَهُ مَا يَسْتَخْرِجُ خَبَثَهُ وَنُحَاسَهُ وَصَيَّرَهُ تِبْرًا خَالِصًا يَصْلُحُ لِمُجَاوَرَتِهِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي دَارِهِ؟!!
فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ وَنَحْوُهَا تُثْمِرُ الصَّبْرَ عَلَى الْبَلَاءِ، فَإِنْ قَوِيَتْ أَثْمَرَتِ الرِّضَا وَالشُّكْرَ.
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَسْتُرَنَا بِعَافِيَتِهِ، وَلَا يَفْضَحْنَا بِابْتِلَائِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، وَهُوَ الْمَنَّانُ الْكَرِيمُ)).
مَبْنَى الْأَمْرِ -إِذَنْ- عَلَى الْمَشَقَّةِ وَالِاخْتِبَارِ وَالْمِحْنَةِ.
((وَمَنْ فَكَّرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنَالُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إِلَّا بِمَشَقَّةٍ)) .
فَلْيَتَحَمَّلِ الْمَشَقَّةَ لِخَيْرِهِمَا وَأَبْقَاهُمَا.
((فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَن يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ، وَأَن يَعْلَمَ أنَّ مَا حَصَلَ مِنَ الْمُرَادِ فَلُطْفٌ، وَمَا لَمْ يَحْصُلْ فَعَلَى أَصْلِ الْخَلْقِ وَالْجِبِلَّةِ لِلدُّنْيَا؛ كَمَا قِيلَ:
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا=صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَاءِ وَالْأكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا=مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ
وَهَاهُنَا تَتَبَيَّنُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ وَضَعْفُهُ، فَلْيَسْتَعْمِلِ الْمُؤْمِنُ مِنْ أَدْوِيَةِ هَذَا الْمَرَضِ التَّسْلِيمَ لِلْمَالِكِ وَالتَّحْكِيمَ لِحِكْمَتِهِ، وَلْيَقُلْ: قَدْ قِيلَ لِسَيِّدِ الْكُلِّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، ثُمَّ لِيُسَلِّ نَفْسَهُ بِأَنَّ الْمَنْعَ لَيْسَ عَنْ بُخْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَصْلَحَةٍ لَا يَعْلَمُهَا، وَلِيُؤْجَرَ الصَّابِرُ عَنْ أغْرَاضِهِ، وَلْيَعْلَمَ اللهُ الَذِينَ سَلَّمُوا وَرَضُوا، وَأَنَّ زَمَنَ الِابْتِلَاءِ مِقْدَارٌ يَسِيرٌ، وَأَنَّ الْأَغْرَاضَ مُدَّخَرَةٌ تُلْقَى بَعْدَ قَلِيلٍ، وَكَأَنَّهُ بِالظُّلْمَةِ قَدِ انْجَلَتِ، وَبِفَجْرِ الْأَجْرِ قَدْ طَلَعَ.
وَمَتَى ارْتَقَى فَهْمُهُ إِلَى أَنَّ مَا جَرَى مُرَادُ الْحَقِّ -سُبْحَانَهُ- اقْتَضَى إِيمَانُهُ أَنْ يُرِيدَ مَا يُرِيدُ وَيَرْضَى بِمَا يُقَدِّرُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ خَارِجًا عَنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَةِ فِي الْمَعْنَى، وَهَذَا أَصْلٌ يَنْبَغِي أَن يُتَأَمَّلَ وَيُعْمَلَ بِهِ فِي كُلِّ غَرَضٍ انْعَكَسَ)) .
((وَاجِبُ الْعَبْدِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ))
عِبَادَ اللهِ! لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا فَقَدْ وَجَبَ الْحَذَرُ وَتَأَكَّدَتِ الْحَيْطَةُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ عَائِشًا بِهَذِهِ النَّفْسِيَّةِ.. نَفْسِيَّةِ الْمُحِسِّ الْمُدْرِكِ الْمُتَيَقِّنِ بِأَنَّهُ مُبْتَلًى بِكُلِّ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِهِ فِي الْحَيَاةِ، فَإِذَا أُصِيبَ بِالسَّرَّاءِ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالسَّرَّاءِ، وَإِذَا أُصِيبَ بِالضَّرَّاءِ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالضَّرَّاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا مَا وَاقَعَ الْمَعْصِيَةَ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَإِذَا وَفَّقَهُ اللهُ إِلَى الطَّاعَةِ فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ بِالطَّاعَاتِ وَالْحَسَنَاتِ.
الْإِنْسَانُ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ دَائِمًا، لَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ حَالَةِ الِابْتِلَاءِ إِلَّا إِذَا تَوَفَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ:
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي عَافِيَةٍ وَنِعْمَةٍ وَسِتْرٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ الشُّكْرُ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِلَاءٍ وَشِدَّةٍ وَمِحْنَةٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ الصَّبْرُ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ؛ فَحَقُّ ذَلِكَ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.
وَمَقَادِيرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّتِي يُجْرِيهَا عَلَى عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُلَائِمَةً لِلْعَبْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُلَائِمَةٍ لِلْعَبْدِ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِي بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيَبْتَلِي اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالنِّعْمَةِ وَالنِّقْمَةِ، وَيَبْتَلِي اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَيَبْتَلِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ.
وَلَا يَخْلُو الْعَبْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي طَبَقَةٍ مِنَ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ، فَإِذَا كَانَ فِي نِعْمَةٍ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَطَاءٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا آتَاهُ.
وَشُكْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ:
بِأَنْ يَعْتَرِفَ بِالنِّعْمَةِ بِالْقَلْبِ بَاطِنًا.
وَأَنْ يَلْهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا.
وَأَنْ يُصَرِّفَ النِّعْمَةَ فِي شُكْرِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا وَفِي طَاعَتِهِ.
فَأَمَّا الْقَلْبُ وَاعْتِرَافُ الْقَلْبِ بِالنِّعْمَةِ.. فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ بَاطِنَةٍ اعْتَرَفُوا بِقُلُوبِهِمْ لِلْمُنْعِمِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ؛ فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُثْنِي عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةٍ ظَاهِرَةٍ أَوْ بَاطِنَةٍ.
وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَخَلَّفُ هُوَ تَصْرِيفُ النِّعْمَةِ فِي مَرْضَاةِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ بِهَا، فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَشْكُرُ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النِّعْمَةِ بِقَلْبِهِ مُعْتَرِفًا بِهَا إِذَا آتَاهُ اللهُ -تَعَالَى- الْمَالَ.
وَكَذَلِكَ يَلْهَجُ لِسَانُهُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ الَّذِي وَسَّعَ عَلَيْهِ وَانْتَشَلَهُ مِنَ الْفَقْرِ، فَيُثْنِي عَلَى رَبِّهِ بِاللَّفْظِ ظَاهِرًا، وَلَكِنْ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى تَصْرِيفِهِ لِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِهِ مِنَ الْمَالِ؛ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ يُصَرِّفُ مَالَهُ فِي مَرْضَاةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَبِذَا لَا يَكُونُ شَاكِرًا؛ لِأَنَّ الشُّكْرَ لَا يَكُونُ شُكْرًا شَرْعِيًّا إِلَّا إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ: أَنْ تَعْتَرِفَ بِالنِّعْمَةِ بِالْقَلْبِ بَاطِنًا، وَأَنْ تَلْهَجَ بِلِسَانِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُنْعِمِ لَفْظًا ظَاهِرًا، وَأَنْ تُصَرِّفَ النِّعْمَةَ فِي مَرْضَاةِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِهَا وَأَسْدَاهَا إِلَيْكَ.
لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ، فَإِذَا تَخَلَّفَ رُكْنٌ فَلَيْسَ بِشَاكِرٍ، وَهُوَ حِينَئِذٍ يُعَرِّضُ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ صَيْدٌ وَالشُّكْرَ قَيْدٌ، فَإِذَا اصْطَادَ الْإِنْسَانُ ظَبْيًا مَثَلًا وَحَصَّلَهُ عِنْدَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ لَدَيْهِ فَإِنَّهُ سَرْعَانَ مَا يَذْهَبُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ نِعَمُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ النِّعْمَةَ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تَزُولَ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِتَحْقِيقِ أَرْكَانِ الشُّكْرِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا.
فَهَذِهِ هِيَ الطَّبَقَةُ الْأُولَى مِنَ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي لَا يَخْلُو الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَوْ فِي إِحْدَاهَا.
وَقَدْ يَكُونُ الْعَبْدُ فِي الطَّبَقَةِ الثَّانِيَةِ فِي بَلَاءٍ وَشِدَّةٍ وَمِحْنَةٍ، وَحَقُّ ذَلِكَ الصَّبْرُ، وَالصَّبْرُ لَا يَكُونُ صَبْرًا شَرْعِيًّا إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ:
أَنْ يَحْبِسَ الْقَلْبَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمَقْدُورِ اعْتِرَاضًا بَاطِنًا.
وَأَنْ يُمْسِكَ اللِّسَانَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَقْدُورِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَفْظًا ظَاهِرًا.
وَأَنْ يَحْبِسَ الْجَوَارِحَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُغْضِبُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَمْثَالِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ؛ مِنْ شَقِّ الْجُيُوبِ، وَلَطْمِ الْخُدُودِ، وَنَتْفِ الشُّعُورِ، وَشَقِّ الثِّيَابِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
فَإِذَا جَاءَ قَدَرٌ غَيْرُ مُوَاتٍ وَأَرَادَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُخْرِجَ عِلْمَهُ فِي عَبْدِهِ مِنْ عِلْمِهِ بِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- السِّابِقِ إِلَى وَاقِعٍ مَشْهُودٍ، بِحَيْثُ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ، وَلَكِنْ لَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يَأْتِيَ مِنْهُ فِي عَالَمِ الشُّهُودِ مَا يَأْتِي مِنَ الْخَلْقِ فِي عَالَمِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُحَاسِبُنَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ فِينَا، وَإِنَّمَا يُحَاسِبُنَا عَلَى مَا قَدَّمَتْ أَيْدِينَا.
فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ الْجَاحِدَ مِنَ الشَّاكِرِ، وَيَعْلَمُ الْجَازِعَ الْجَزُوعَ مِنَ الصَّابِرِ، وَيَعْلَمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّيِّبَ مِنَ الْخَبِيثِ، وَلَكِنْ.. هَذَا الْعِلْمُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِي عَالَمِ الشُّهُودِ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحَاسِبُ الْعَبْدَ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا، وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا مَا أَتَاهُ قَدَرٌ غَيْرُ مُوَاتٍ، غَيْرُ مُلَائِمٍ؛ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ فَقْدِ حَبِيبٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ غَمٍّ، أَوْ كَرْبٍ، أَوْ وَجَدَ فِي وَلَدِهِ مَا يَسُوءُهُ، أَوْ فَقَدَ بَعْضًا مِنْ مَالِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَخْلُو مِنْهَا الْحَيَاةُ؛ لِأَنَّ اللهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ، وَلَمْ يَخْلُقِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ فِي هَذَا الْكَوْكَبِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُنَعِّمَهُمْ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ.
فَوَاهِمٌ جِدًّا وَمُخْطِئٌ خَطَأً تَامًّا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ سَيَتَنَعَّمُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ!!
مَا مِنْ لَذَّةٍ إِلَّا وَلَهَا مَا يُنَغِّصُهَا مَهْمَا كَانَتْ، ثُمَّ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، بَلْ إِنَّهَا تَلْمَعُ فِي أُفُقِ الْحَيَاةِ كَلَمْعِ الْبَرْقِ فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ رَدُّ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى قَدَرِ اللهِ فِيهِ.
فَإِذَا جَاءَ الْإِنْسَانَ قَدَرٌ غَيْرُ مُوَاتٍ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُحَقِّقَ أَرْكَانَ الصَّبْرِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا: أَنْ يَحْبِسَ الْقَلْبَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الرَّبِّ بَاطِنًا، وَأَنْ يُمْسِكَ اللِّسَانَ عَنِ الْكَلَامِ بِأَمْرٍ يُغْضِبُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِلَفْظٍ ظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَكْرُوهِ وَنُزُولِ الْمُصِيبَةِ، فَيَقُولَ: ((إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:((فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُخْلِفُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا)) ؛ أَيْ مِنَ الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ.
وَالصَّبْرُ لَا يَكُونُ صَبْرًا إِلَّا عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، فَإِذَا جَاءَ الْإِنْسَانَ مَا يَكْرَهُ ثُمَّ اعْتَرَضَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ، ثُمَّ فَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سِلْوَانٍ كَصَبْرِ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّ الْكِرَامَ يَصْبِرُونَ، وَاللِّئَامُ -أَيْضًا- يَصْبِرُونَ.
وَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَصْبِرَ صَبْرَ الْكِرَامِ لَا صَبْرَ اللِّئَامِ، فَأَمَّا صَبْرُ الْكِرَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ تَبْكِي، فَمَرَّ بِهَا فَقَالَ:((يَا أَمَةَ اللهِ! اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي)).
وَلَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ النَّبِيَّ ﷺ، وَغَشَّى الْحُزْنُ عَلَى عَيْنَيْهَا فَلَمْ تَرَ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ الْإِنْسَانُ تَحْقِيقًا لَعَلِمَهُ عِنْدَمَا يَرَاهُ؛ لِمَا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ مِنْ آثَارِ النُّبُوَّةِ.
فَقَالَتْ: ((إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمِثْلِ مُصِيبَتِي!))؛ تُرِيدُ أَنْ الَّذِي تَكُونُ يَدُهُ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ لَا كَالَّذِي يَكُونُ قَابِضًا عَلَى الْجَمْرِ!!
قَالَتْ: ((إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمِثْلِ مُصِيبَتِي!)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا ﷺ، فَلَمْ يُرَاجِعْهَا، وَمَضَى لِطِيَّتِهِ ﷺ، فَقَالَ لَهَا بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: ((وَيْحَكِ! إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ!!)).
فَقَامَتْ تَشْتَدُّ فِي أَثَرِهِ ﷺ، فَكَانَ قَدْ دَخَلَ حُجْرَتَهَ.. دَخَلَ بَيْتَهُ؛ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ، قَالَتْ: ((لَمْ أَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ))؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا، وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﷺ.
فَأَذِنَ لَهَا بِالدُّخُولِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَمْ أَعْرِفْكَ!))، فَجَاءَتْ تَعْتَذِرُ إِلَيْهِ عَنْ جَوَابِهَا الَّذِي وَاجَهَتْ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ كِفَاحًا: ((إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمِثْلِ مُصِيبَتِي!)).
قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ؛ لَمْ أَعْرِفْكَ!)).
فَقَالَ: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى)) ؛ يَعْنِي إِذَا جَاءَ أَمْرٌ يَسُوءُ وَوَقَعَ قَدَرٌ غَيْرُ مُلَائِمٍ وَلَا مُوَاتٍ، فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ عِنْدَ تَلَقِّيهِ أَنْ يُظْهِرَ رِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَكِينًا خَاضِعًا لِرَبِّهِ وَمَوْلَاهُ؛ {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ الْمُصِيبَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْكَرِيمِ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْكَرِيمُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا أُخْبِرَ بِفَقْدِ يُوسُفَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 8]، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ لَقَالَهَا، فَجَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَوْلَهَا بِيَقِينٍ وَإِخْلَاصٍ وَإِقْبَالٍ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَإِخْبَاتٍ.. جَعَلَهَا مُحَوِّلَةً بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّقْمَةَ إِلَى نِعْمَةٍ، وَالْمِحْنَةَ إِلَى مِنْحَةٍ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَقَالَ: ((إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا! إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ خَيْرًا مِنْهَا)) .
فَإِذَا جَاءَ قَدَرٌ لَا يُلَائِمُ فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَعْتَرِضَ بِقَلْبِهِ عَلَى قَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ لِسَانُهُ بِمَا يُرْضِي اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَحْبِسَ الْجَوَارِحَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَمْرٍ يُغْضِبُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَا يَرْضَاهُ، وَلَا يَرْضَاهُ رَسُولُهُ الْكَرِيمُ ﷺ.
وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا يَقَعُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَدَّ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى قَدَرِ الرَّبِّ فِيهِ، فَلَيْسَ مَا يَقَعُ بِالْإِنْسَانِ مِمَّا لَا يُلَائِمُهُ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ.
يَعْنِي إِذَا أَغْنَى اللهُ عَبْدًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا لِيَبْتَلِيَهُ بِحَالِ الْغِنَى، وَكَذَلِكَ إِذَا أَفْقَرَ عَبْدًا فَإِنَّهُ لَا يُفْقِرُهُ لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ يُفْقِرُهُ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرَى رَدَّ فِعْلِهِ عَلَى قَدَرِ اللهِ فِيهِ فِي تِلْكِ الْحَالِ.
وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، وَكَذَلِكَ الْعَطَاءُ وَالْمَنْعُ، إِلَى آخِرِ مَا يَجْرِي عَلَى الْإِنْسَانِ مِمَّا يَكْرَهُهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نُقَابِلَ قَدَرَهُ فِينَا وَمَا قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيْنَا.. أَنْ يَرَى قَبُولَنَا الْحَسَنَ لِمَا قَدَّرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِنَا وَلَنَا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أُمَّهَاتِنَا، وَأَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا الَّتِي بَيْنَ جُنُوبِنَا، وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.
فَمَا يَنْزِلُ بِالْعَبْدِ مِنْ شَيْءٍ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُحَقِّقَ فِيهِ الْأَرْكَانَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي لَا يَكُونُ الصَّبْرُ صَبْرًا إِلَّا بِتَحَقُّقِهَا، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: ((مَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ، سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ!!)) .
وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجِدُ النَّاسَ فِي جَهْلٍ جَاهِلٍ عِنْدَمَا يُصِيبُهُمْ مَا قَدَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَقْدَارِ الَّتِي لَا تُلَائِمُهُمْ، فَكَأَنَّمَا وَقَفَتِ الدُّنْيَا وَانْتَهَى الْأَمْرُ عِنْدَ حُدُوثِ مَا أُصِيبُوا بِهِ!!
بَلْ يُصَرِّحُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَنْ يَفْرَحَ بَعْدُ حَتَّى يَأْتِيَهُ قَدَرُهُ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ يَسْلُو الْإِنْسَانُ مَا كَانَ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَتَذَكَّرْ مَا كَانَ إِلَّا عَلَى فَتَرَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ قَدْ تَبْلُغُ السَّنَوَاتِ!!
فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ، سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ.
الْمُسْلِمُ الَّذِي يُبْتَلَى بِالضَّرَّاءِ وَالشَّرِّ فِي بَدَنِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ وَفْقَ الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ؛ لِمُوَاجَهَةِ هَذِهِ الْحَالِ.
هُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ مُحَدَّدَةٍ بِالضَّرَّاءِ وَالشَّرِّ، وَهُنَاكَ إِذَا مَا أُصِيبَ الْمَرْءُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ دَوَاءٌ يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَاطَاهُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ ذَلِكَ الدَّاءِ.
فَإِذَا مَا أَصَابَ هَذَا الدَّوَاءَ، فَأَصَابَ الدَّوَاءُ الدَّاءَ.. بَرِئَ بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَانَتْ مُعَافَاتُهُ مُؤَكَّدَةً، وَكَانَتْ حَالُهُ بَعْدَ هَذَا الِابْتِلَاءِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَهُ، حَتَّى إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيُعَافِيَ قَلْبَهُ بِعَافِيَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْيَقِينِ.
وَأَمَّا الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ طَبَقَةُ الذَّنْبِ، طَبَقَةُ الْمَعْصِيَةِ؛ أَنْ يَعْصِيَ الْإِنْسَانُ رَبَّهُ، وَأَنْ يُجْرِمَ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ؛ فَحَقُّ هَذَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ.
وَمَقَامُ التَّوْبَةِ لَا يُفَارِقُ الْعَبْدَ كَمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ)) .
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مُقْسِمًا مُؤَكِّدًا حَقِيقَةً ظَاهِرَةً مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- وَبِرَحْمَتِهِ الْغَامِرَةِ وَنِعْمَتِهِ الشَّامِلَةِ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ:((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا فَتَسْتَغْفِرُوا، لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَأَتَى بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ اللهُ -تَعَالَى- لَهُمْ)) ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْغَفُورُ، وَهُوَ الرَّحِيمُ، وَهُوَ الرَّحْمَنُ الْكَرِيمُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ خَيْرُ مَنْ حَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ فِي نَفْسِهِ؛ فَهُوَ الْعَبْدُ حَقًّا، وَإِذَا أُطْلِقَ هَذَا اللَّقَبُ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَدْ كَانَ عَبْدًا للهِ حَقًّا وَصِدْقًا، وَحَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَدَلَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى مَا نُحَقِّقُ بِهِ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى قَدْرِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتُوبُ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُهُ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، يَقُولُ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) ، مَعَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللهِ، وَهُوَ خَلِيلُ اللهِ ﷺ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَأْتِي بِهَذَا الِاسْتِغْفَارِ وَبِطَلَبِ التَّوْبَةِ مِنَ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ.
وَكُلُّ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ فِي نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَرُوحِهِ عَلَى أَتَمِّ مَا تَكُونُ الْعُبُودِيَّةُ للهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، وَلِيُعَلِّمَنَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ، فَمَا حَالُنَا نَحْنُ؟! وَمَا شَأْنُنَا نَحْنُ مَعَ مَا نَأْتِي بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ وَالْخَطَايَا؟!!
وَقَدْ شَكَى رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ ذَرَبَ لِسَانِهِ؛ أَيْ حِدَّةً فِي قَوْلِهِ وَانْدِفَاعًا فِي مَنْطِقِهِ، فَاشْتَكَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَدَلَّهُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى مَا يَنْزِعُ بِهِ الْأَذَى مِنْ لِسَانِهِ؛ فَقَالَ: ((أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ؟! إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِائَةَ مَرَّةٍ)) .
فَدَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَغْفَرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْرَمَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا}.
فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اسْتَغْفَرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَجَعَ بِهَذِهِ الْعَطَاءَاتِ كُلِّهَا، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَغْفِرُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَإِذَا غَفَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَنْبَهُ فَقَدْ رَحِمَهُ، وَإِذَا رَحِمَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَقَدْ فَازَ دُنْيَا وَآخِرَةً.
وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- -لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَنَا وَيَعْلَمُ ضَعْفَنَا، وَيَعْلَمُ مَا نَتَوَرَّطُ فِيهِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ اجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ وَالْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ- بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِنَا أَنَّهُ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ، حَتَّى الْكُفْرُ، فَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ خَذَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَكَفَرَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ، وَإِذَا وَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي شِرْكٍ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ.
وَمَهْمَا أَتَى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ ذَنْبٍ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَغْمُرُهُ، فَعَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا مَا كَانَ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ فَوَقَعَ فِي ذَنْبٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَالتَّوْبَةُ لَا تَكُونُ تَوْبَةً إِلَّا إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهَا شُرُوطٌ:
فَيَنْبَغِي أَنْ يَتُوبَ الْإِنْسَانُ بِإِخْلَاصٍ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا أَنْ يُقْلِعَ عَنْ ذَنْبِهِ وَيَتُوبَ مِنْهُ لِأَجْلِ غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا.
فَهَذَا هُوَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَيْسَ مَقْبُولًا وَلَا مَنْطِقِيًّا أَنْ يَدَّعِيَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ، بَلْ يَنْبَغِي عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُخْلِصَ النِّيَّةَ فِي تَوْبَتِهِ إِلَى اللهِ أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الذَّنْبِ.
ثُمَّ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِي تَوْبَتِهِ وَعَلَى إِخْلَاصِهِ فِي نُزُوعِهِ عَنْ ذَنْبِهِ؛ وَهُوَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى مَا فَاتَ.
ثُمَّ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ بِالْعَزْمِ عَلَى أَلَّا يَعُودَ.
فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِهِ.
وَلَكِنْ هُنَاكَ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادِ وِبِحُقُوقِ الْخَلْقِ، فَالتَّوْبَةُ لَا تَكُونُ تَوْبَةً -حِينَئِذٍ- إِلَّا بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَصْحَابِهَا، فَالْإِنْسَانُ إِذَا مَا ارْتَكَبَ ذَنْبًا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْعِبَادِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ إِلَّا بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَالًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ، وَإِنْ كَانَتْ دُورًا أَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَ مِنْهُ صَاحِبَهُ.
وَأَمَّا إِذَا مَا كَانَتْ غِيبَةً -مَثَلًا- فَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَقَّدُ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ؛ لِأَنَّ الْغِيبَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِّ الْآخَرِ، وَالْآخَرُ لَا بُدَّ أَنْ يُسَامِحَ فِي حَقِّهِ أَوْ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، فَإِذَا مَا أَرَدْنَا مِنْهُ أَنْ يُسَامِحَ فِي حَقِّهِ فَعَلَى الْمُغْتَابِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَنِ اغْتَابَهُ وَأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ.
وَلَا يَخْفَى -خَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَانِ- مَا فِي النَّاسِ مِنْ زَعَارَةِ الْخُلُقِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَالْعَقْلِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَذْهَبَ إِنْسَانٌ إِلَى أَخِيهِ وَيَقُولَ: سَامِحْنِي وَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ؛ لِأَنِّي كُنْتُ قَدْ جَلَسْتُ مَجْلِسًا وَتَكَلَّمْتُ فيِ حَقِّكَ بِبَعْضِ الْكَلَامِ.. ثُمَّ يَجِدُ مِنْ هَذَا الَّذِي قَدِ اغْتَابَهُ صَدْرًا فَسِيحًا، وَبَالًا رَائِقًا، وَسَمَاحَةً وَافِدَةً، فَيَقُولُ لَهُ: جَعَلْتُكَ فِي حِلٍّ.. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْلِمَهُ عَمَّا قَالَهُ فِي حَقِّهِ!
فَهَاهُنَا أَمْرَانِ؛ إِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ فَلَنْ يُسَامِحَهُ، وَإِنْ أَعْلَمَهُ رُبَّمَا أَدَّى الْأَمْرُ إِلَى إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُسَامِحَهُ وَأَنْ يَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ، وَالْآخَرُ يَقُولُ: قُلْتَ وَقُلْتَ! وَتَنْشَبُ مَعْرَكَةٌ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى الْقَتْلِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ!
فَيَتَوَرَّطُ الْإِنْسَانُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ يُوَرِّطُ نَفْسَهُ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِمَّا تَوَرَّطَ فِيهِ.
فَحَقُّ الْغَيْرِ لَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَوْ بِأَنْ تُعْطِيَهُ مَالًا؛ يَعْنِي مَنِ اغْتَبْتَهُ، فَذَهَبْتَ إِلَيْهِ لِتَسْتَحِلَّهُ فَلَمْ يَقْبَلْ إِلَّا بِأَنْ تُعْطِيَهُ مَالًا فَأَعْطِهِ، قَبْلَ أَلَّا يَكُونَ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ؛ وَإِنَّمَا هِيَ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟».
قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ.
فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».
فَقَبْلَ أَلَّا يَكُونَ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ يَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا تَتَعَاظَمَنَّ ذَنْبًا؛ فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ كَانَتْ شِرْكًا، وَهَذَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ.
وَأَمَّا مَنْ مَاتَ بِذُنُوبٍ دُونَ الشِّرْكِ مُصِرًّا عَلَيْهَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، فَهَذَا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ النَّارَ فَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ مَعَهُ أَصْلُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَأَمَّا إِذَا مَاتَ مُشْرِكًا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا كَانَ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ، وَمَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا، فَكُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ، مَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، مَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ إِثْمٍ وَعَيْبٍ، وَكُلُّنَا كَذَلِكَ مِنْ مُقِلٍّ وَمُسْتَكْثِرٍ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَأْتِيَ بِشُرُوطِ التَّوْبَةِ؛ بِالْإِخْلَاصِ، وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالنَّدَمِ عَلَيْهَا، وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْمُعَاوَدَةِ، ثُمَّ بِرَدِّ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا.
وَأَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقْبَلُ التَّوْبَةُ فِيهِ، وَالْوَقْتُ الَّذِي تُقْبَلُ التَّوْبَةُ فِيهِ عَامٌّ وَخَاصٌّ؛ فَالْعَامٌّ لِعُمُومِ الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَقَدِ انْقَطَعَ أَوَانُ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِعُمُومِ الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ، وَخَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، فَإِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ فَقَدِ انْقَطَعَ أَوَانُ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْتَضَرِ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتُوبَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، أَوْ حَتَّى فِي حَالِ مَرَضِهِ قَبْلَ أَنْ تُغَرْغِرَ الرُّوحُ فِي حَلْقِهِ، وَقَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الْحُلْقُومَ، وَحِينَئِذٍ لَا تَوْبَةَ لَهُ.
فَهَذِهِ شُرُوطُ التَّوْبَةِ، وَلَا يَتَعَاظَمَنَّ إِنْسَانٌ ذَنْبَهُ؛ فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ