((مَعِيَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مَعْنَى الْمَعِيَّةِ وَأَقْسَامُهَا))
فَإِنَّ مَعْرِفَةُ اللهِ جَلَا نُورُهَا كُلَّ ظُلْمَةٍ، وَكَشَفَ سُرُورُهَا كُلَّ غُمَّةٍ؛ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ أَحَبَّهُ وَلَا بُدَّ، وَمَنْ أَحَبَّهُ انْقَشَعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الظُّلُمَاتِ، وَانْكَشَفَتْ عَنْ قَلْبِهِ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ، وَعَمُرَ قَلْبُهُ بِالسُّرُورِ وَالْأَفْرَاحِ، وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ التَّهَانِي وَالْبَشَائِرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ فَإِنَّهُ لَا حَزَنَ مَعَ اللهِ أَبَدًا.
وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا- حِكَايَةً عَنْ صَفِيِّهِ وَنَجِيِّهِ وَصَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلِهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة 40].
فَلَا حَزَنَ مَعَ اللهِ أَبَدًا.
غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَتْهُ أَسْبَابُ تَحْصِيلِ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَبُّهُ بِنُصْرَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ؛ حَلَّ الْحَزَنُ بِسَاحَتِهِ، وَنَزَلَتْ سَحَائِبُ الْأَتْرَاحِ هَتَّانَةً عَلَى وَادِيهِ، فَإِذَا آبَ أُخِذَ بِيَدِهِ، وَصُرِفَ عَنْهُ، وَكَشَفَ اللهُ مَا بِهِ، {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}؛ فَلَا حَزَنَ مَعَ اللهِ أَبَدًا.
فَدَلَّ أَنَّهُ لَا حَزَنَ مَعَ اللهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ فَمَا لَهُ وَلِلْحَزَنِ!!
وَالْفَرَحُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ تَبَعٌ لِلْفَرَحِ بِهِ سُبْحَانَهُ، فَالْمُؤْمِنُ يَفْرَحُ بِرَبِّهِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَفْرَحُ بِهِ؛ مِنْ حَبِيبٍ، أَوْ حَيَاةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نِعْمَةٍ، أَوْ مُلْكٍ.
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُ بِرَبِّهِ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَلَا يَنَالُ الْقَلْبُ حَقِيقَةَ الْحَيَاةِ حَتَّى يَجِدَ طَعْمَ هَذِهِ الْفَرْحَةِ وَالْبَهْجَةِ، فَيَظْهَرُ سُرُورُهَا فِي قَلْبِهِ، وَنَضْرَتُهَا فِي وَجْهِهِ، فَيَصِيرُ لَهُ حَالٌ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ حَيْثُ لَقَّاهُمُ اللهُ -سُبْحَانَهُ- نَضْرَةً وَسُرُورًا.
فَلِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ.
مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَظِيمَةِ: صِفَةُ الْمَعِيَّةِ.
وَمَعِيَّةُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَوْعَانِ: مَعِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَمَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ.
وَالْخَاصَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُقَيَّدَةٌ بِشَخْصٍ، وَمُقَيَّدَةٌ بِوَصْفٍ.
أَمَّا الْعَامَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تَشْمَلُ كُلَّ أَحَدٍ؛ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَبَرٍّ وَفَاجِرٍ.
وَالْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108].
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4].
وَالشَّاهِدُ فِيهَا قَوْلُهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}.
وَهَذِهِ مِنَ الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ بِالْخَلْقِ عِلْمًا، وَقُدْرَةً، وَسُلْطَانًا، وَسَمْعًا، وَبَصَرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
مَا مِنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ يَتَنَاجَيَانِ بِأَيِّ مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ؛ إِلَّا وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مَعَهُمْ.
وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ عَامَّةٌ؛ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ كُلَّ أَحَدٍ: الْمُؤْمِنَ، وَالْكَافِرَ، وَالْبَرَّ، وَالْفَاجِرَ.. وَمُقْتَضَاهَا: الْإِحَاطَةُ بِهِمْ عِلْمًا، وَقُدْرَةً، وَسَمْعًا، وَبَصَرًا، وَسُلْطَانًا، وَتَدْبِيرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَعِيَّةَ تَقْتَضِي إِحْصَاءَ مَا عَمِلُوهُ؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَبَّأَهُمْ بِمَا عَمِلُوا؛ يَعْنِي: أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَحَاسَبَهُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَ الْمُرَادَ بِالْإِنْبَاءِ لَازِمُهُ، وَهُوَ الْمُحَاسَبَةُ، لَكِنْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُحْصِي أَعْمَالَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: ((سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ)).
{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ {كُلِّ شَيْءٍ} مَوْجُودٍ أَوْ مَعْدُومٍ.
هَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ تَقْتَضِي عِلْمَهُ -تَعَالَى- وَاطِّلَاعَهُ وَمُرَاقَبَتَهُ لِأَعْمَالِ خَلْقِهِ.
لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4].
فَذَكَرَ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَفِي الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُلُوِّ الذَّاتِيِّ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَلَهُ عُلُوُّ الذَّاتِ، كَمَا لَهُ عُلُوُّ الشَّأْنِ، كَمَا لَهُ عُلُوُّ الْقَهْرِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، وَقَالَ بَعْدُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}؛ فَذَكَرَ الْعُلُوَّ -وَالْعُلُوُّ مِنْ صِفَاتِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-- وَذَكَرَ الْمَعِيَّةَ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ.
قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}، قَالَ: ((هُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ)).
وَقَالَ مَعْدَانُ: ((سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}.
قَالَ: عِلْمُهُ)) .
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: ((اللهُ فِي السَّمَاءِ، وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ)) .
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ -وَهُوَ شَيْخُ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ-: ((قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ -يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ-: اللهُ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَقُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ بِكُلِّ مَكَانٍ؟
قَالَ: نَعَمْ؛ هُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ عِلْمِهِ)) . هَذَا أَخْرَجَهُ الذَّهَبِيُّ فِي ((الْعُلُوِّ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((مُخْتَصَرِ الْعُلُوِّ)).
((فَتَفْسِيرُ بَعْضِ السَّلَفِ لِلْمَعِيَّةِ بِالْعِلْمِ وَنَحْوِهِ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ.
وَاخْتَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْوَاسِطِيَّةِ)) وَفِي غَيْرِهَا أَنَّهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَأَنَّ كَوْنَهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لَكِنْ لَيْسَتْ مَعِيَّتُهُ كَمَعِيَّةِ الْإِنْسَانِ لِلْإِنْسَانِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مَعَ الْإِنْسَانِ فِي مَكَانِهِ؛ لِأَنَّ مَعِيَّةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ثَابِتَةٌ لَهُ وَهُوَ فِي عُلُوِّهِ؛ فَهُوَ مَعَنَا وَهُوَ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُمْكِنُ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ مَعَنَا فِي الْأَمْكِنَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا.
فَلَيْسَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ تَعَارَضٌ أَصْلًا؛ إِذْ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ عَالِيًا وَهُوَ مَعَكَ، وَمِنْهُ مَا يَقُولُهُ الْعَرَبُ: الْقَمَرُ مَعَنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ، وَالشَّمْسُ مَعَنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ، وَالْقُطْبُ مَعَنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ، مَعَ أَنَّ الْقَمَرَ وَالشَّمْسَ وَالْقُطْبَ كُلَّهَا فِي السَّمَاءِ؛ فَإِذَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُ الْعُلُوِّ وَالْمَعِيَّةِ فِي الْمَخْلُوقِ، فَاجْتِمَاعُهُمَا فِي الْخَالِقِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا عَلَى جَبَلٍ عَالٍ، وَقَاَل لِلْجُنُودِ: اذْهَبُوا إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَأَنَا مَعَكُمْ.. وَهُوَ وَاضِعٌ الْمِنْظَارَ عَلَى عَيْنَيْهِ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَعِيدٍ، فَصَارَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ يُبْصِرُ كَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُمْ، فَالْأَمْرُ مُمْكِنٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، فَكَيْفَ لَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْخَالِقِ؟!!
وَلَوْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ، لَمْ يَكُنْ مُتَعَذِّرًا فِي حَقِّ الْخَالِقِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَاسَ صِفَاتُ الْخَالِقِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، لِظُهُورِ التَّبَايُنِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.
إِذَنْ؛ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اللهُ مَعَنَا حَقًّا وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فِي السَّمَاءِ حَقًّا، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ، إِلَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُمَثِّلَ اللهَ بِخَلْقِهِ، وَيَجْعَلَ مَعِيَّةَ الْخَالِقِ كَمَعِيَّةِ الْمَخْلُوقِ.
أَمَّا الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِوَصْفٍ؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128])) .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي -أَوْ قَالَ: إِذَا ذَكَرَنِي-)) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا مَجْزُومًا بِهِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مَوْصُولًا، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.
هَذِهِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِلنَّصْرِ، وَالتَّأْيِيدِ، وَالْحِفْظِ، وَالْعِنَايَةِ، وَالْكِلَاءَةِ، وَالرِّعَايَةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالتَّوْفِيقِ، وَالْكِفَايَةِ، وَالْقُرْبِ، وَالتَّسْدِيدِ، وَالْهِدَايَةِ.. فَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مَا تَقْتَضِيهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- قَرِيبٌ مِنْ دَاعِيهِ، وَقَرِيبٌ مِنْ عَابِدِهِ.
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا مُجِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)). هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
هَذَا قُرْبٌ خَاصٌّ بِالدَّاعِي.. بِالدَّاعِي دُعَاءَ الْعِبَادَةِ وَالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ.
وَهُوَ الْقَرِيبُ وَقُرْبُهُ الْمُخْتَصُّ بِالدْ=دَاعِي وَعَابِدِهِ عَلَى الْإِيمَانِ.
عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ)) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ)).
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
((وَأَمَّا الْخَاصَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ؛ فَمِثْلُ قَوْلِهِ -تَعَالَى- عَنْ نَبِيِّهِ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة 40].
وَقَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
وَهَذِهِ أَخَصُّ مِنَ الْمُقَيَّدَةِ بِوَصْفٍ.
فَالْمَعِيَّةُ دَرَجَاتٌ: عَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَخَاصَّةٌ مُقَيَّدَةٌ بِوَصْفٍ، وَخَاصَّةٌ مُقَيَّدَةٌ بِشَخْصٍ.
فَأَخَصُّ أَنْوَاعِ الْمَعِيَّةِ مَا قُيِّدَ بِشَخْصٍ، ثُمَّ مَا قُيِّدَ بِوَصْفٍ، ثُمَّ مَا كَانَ عَامًّا.
فَالْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِحَاطَةَ بِالْخَلْقِ عِلْمًا، وَقُدْرَةً، وَسَمْعًا، وَبَصَرًا، وَسُلْطَانًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَالْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ بِنَوْعَيْهَا تَسْتَلْزِمُ مَعَ ذَلِكَ النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ)) .
((نَمَاذِجُ دَالَّةٌ عَلَى الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ))
النَّبِيُّ ﷺ قَالَ لِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا حَزِنَ وَاشْتَدَّ قَلَقُهُ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}؛ بِعَوْنِهِ وَنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}؛ أَيِ: الثَّبَاتَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، وَالسُّكُونَ الْمُثَبِّتَ لِلْفُؤَادِ، وَلِهَذَا لَمَّا قَلِقَ صَاحِبُهُ سَكَّنَهُ وَقَالَ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
هَذِهِ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَصَاحِبِهِ -يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ- كَمَا أَنَّهُ مَعَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ وَقَفُوا عَلَى بَابِ الْغَارِ وَكَانُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَكِنْ هَذَا مِنْ حَيْثُ الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ.
فَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا الْمَعِيَّةَ الْعَامَّةَ مَا أَفَادَ هَذَا شَيْئًا، وَتَعَالَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ.
إِذَنْ؛ هَذِهِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، شَيْءٌ فَوْقَ الْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ.
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
((الْخِطَابُ لِأَبِي بَكْرٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
أَوَّلًا: نَصَرَهُ حِينَ الْإِخْرَاجِ؛ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
ثَانِيًا: وَعِنْدَ الْمُكْثِ فِي الْغَارِ؛ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}.
ثَالِثًا: عِنْدَ الشِّدَّةِ حِينَمَا وَقَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى فَمِ الْغَارِ؛ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ}.
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَوَاقِعَ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهَا نَصْرَهُ لِنَبِيِّهِ.
وَهَذَا الثَّالِثُ حِينَ وَقَفَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ؛ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ إِلَى قَدَمِهِ لَأَبْصَرَنَا)).
يَعْنِي: إِنَّنَا عَلَى خَطَرٍ! كَقَوْلِ أَصْحَابِ مُوسَى لَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْبَحْرِ: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، وَهُنَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. فَطَمْأَنَهُ وَأَدْخَلَ الْأَمْنَ فِي نَفْسِهِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
وَقَوْلُهُ: {لَا تَحْزَنْ}.. نَهْيٌ يَشْمَلُ الْهَمَّ مِمَّا وَقَعَ وَمَا سَيَقَعُ؛ فَهُوَ صَالِحٌ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْحُزْنُ: تَأَلُّمُ النَّفْسِ وَشِدَّةُ هَمِّهَا.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}؛ وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ خَاصَّةٌ، مُقَيَّدَةٌ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ، وَتَقْتَضِي مَعَ الْإِحَاطَةِ الَّتِي هِيَ الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ: النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ.
وَلِهَذَا وَقَفَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْغَارِ وَلَمْ يُبْصِرُوهُمَا! أَعْمَى اللهُ أَبْصَارَهُمْ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ: مَعِيَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَاصَّةُ لِمُوسَى وَهَارُونَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
هَذَا الْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِمُوسَى وَهَارُونَ، لَمَّا أَمَرَهُمَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ؛ قَالَ: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46].
فَقَوْلُهُ: {أَسْمَعُ وَأَرَى}.. جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِبَيَانِ مُقْتَضَى هَذِهِ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ السَّمْعُ وَالرُّؤْيَةُ، وَهَذَا سَمْعٌ وَرُؤْيَةٌ خَاصَّانِ يَقْتَضِيَانِ النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ وَالْحِمَايَةَ مِنْ فِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَا عَنْهُ: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى}.
وَمِنْ ذَلِكَ مَعِيَّةُ اللهِ الْخَاصَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي جِهَادِهِمُ الْكَافِرِينَ؛ قَالَ تَعَالَى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
{كَمْ}: خَبَرِيَّةٌ تُفِيدُ التَّكْثِيرَ؛ يَعْنِي: فِئَةٌ قَلِيلَةٌ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً عِدَّةَ مَرَّاتٍ، أَوْ فِئَاتٌ قَلِيلَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ غَلَبَتْ فِئَاتٍ كَثِيرَةً مُتَعَدِّدَةً، لَكِنْ لَا بِحَوْلِهِمْ وَلَا بِقُوَّتِهِمْ، بَلْ بِإِذْنِ اللهِ؛ أَيْ: بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَصْحَابُ طَالُوتَ؛ غَلَبُوا عَدُوَّهُمْ وَكَانُوا كَثِيرِينَ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَصْحَابُ بَدْرٍ؛ خَرَجُوا لِغَيْرِ قِتَالٍ، بَلْ لِأَخْذِ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبُو سُفْيَانَ لَمَّا عَلِمَ بِهِمْ أَرْسَلَ صَارِخًا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُ: أَنْقِذُوا عِيرَكُمْ؛ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ خَرَجُوا إِلَيْنَا يُرِيدُونَ أَخْذَ الْعِيرِ!
وَالْعِيرُ فِيهَا أَرْزَاقٌ كَثِيرَةٌ لِقُرَيْشٍ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِأَشْرَافِهَا وَأَعْيَانِهَا وَخُيَلَائِهَا وَبَطَرِهَا، يُظْهِرُونَ الْقُوَّةَ وَالْفَخْرَ وَالْعِزَّةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْدَمَ بَدْرًا فَنُقِيمَ فِيهَا ثَلَاثًا؛ نَنْحَرُ الْجَزُورَ، وَنَسْقِي الْخُمُورَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ.. فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا)).
فَالْحَمْدُ للهِ.. غَنَّوْا عَلَى قَتْلِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ!!
كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مَا بَيْنَ تِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ، كُلَّ يَوْمٍ يَنْحَرُونَ مِنَ الْإِبِلِ تِسْعًا إِلَى عَشْرٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا وَفَرَسَانِ فَقَطْ يَتَعَاقَبُونَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ قَتَلُوا الصَّنَادِيدَ الْعُظَمَاءَ لِقُرَيْشٍ حَتَّى جَيَّفُوا وَانْتَفَخُوا مِنَ الشَّمْسِ، وَسُحِبُوا إِلَى قَلِيبٍ مِنْ قُلُبِ بَدْرٍ خَبِيثَةٍ.
فَـ {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}؛ لِأَنَّ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ صَبَرَتْ، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}؛ صَبَرَتْ كُلَّ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ؛ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَعَلَى مَا أَصَابَهَا مِنَ الْجَهْدِ وَالتَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ فِي تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الْجِهَادِ، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ})).
*وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَعِيَّةِ اللهِ لِأَوْلِيَائِهِ: تَبْرِئَتُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِمَّا اتُّهِمَتْ بِهِ ظُلْمًا وَزُورًا؛ فَفِي تَارِيخِ المُسلِمِينَ، بَلْ وَفِي سِيرَةِ النَّبِيِّ الكَرِيمِ ﷺ حَادِثَةٌ عَظِيمَةٌ لهَا ثِقَلُهَا الكَبِيرُ، وَآثَارُهَا الحَمِيدَةُ فِي نَتَائِجِهَا؛ وَهِيَ حَادِثَةُ الْإِفْكِ.
وَلَسْنَا مُبَالِغِينَ حِينَ نَقُولُ إِنَّ مَا وَاجَهَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، هُوَ حَدَثُ الْأَحْدَاثِ فِي تَارِيخِهِ ﷺ، فَلَمْ يُمْكَرْ بِالْمُسْلِمِينَ مَكْرٌ أَشَدُّ مِنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ.
وَهِيَ مُجَرَّدُ فِرْيَةٍ وَإِشَاعَةٍ مُخْتَلَقَةٍ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- كَذِبَهَا، لَكِنَّهَا لَوْلَا عِنَايَةُ اللهِ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى أَنْ تَعْصِفَ بِالْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، وَلَا تُبْقِي عَلَى نَفْسٍ مُسْتَقِرَّةٍ مُطْمَئِنَّةٍ.
وَلَقَدْ مَكَثَ مُجتَمَعُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِأَكْمَلِهِ شَهْرًا كَامِلًا وَهُوَ يَصْطَلِي نَارَ تِلْكَ الْفِرْيَةِ، وَيَتَعَذَّبُ ضَمِيرُهُ، وَتَعْصُرُهُ الْإِشَاعَةُ الْهَوْجَاءُ وَالْفِرْيَةُ الصَّلْعَاءُ، حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ؛ لِيَضَعَ حَدًّا لِتِلْكَ الْمَأْسَاةِ الْمُفْظِعَةِ، وَلِيَكُونَ دَرْسًا تَرْبَوِيًّا رَائِعًا لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَلِكُلِّ مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ]النور: 11[.
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَوَائِلِ ((سُورَةِ النُّورِ)) آيَاتٍ فِي تَعْظِيمِ الرَّمْيِ بِالزِّنَا عُمُومًا، وَصَارَ ذَلِكَ كَأنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَى أَشْرَفِ النِّسَاءِ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ الْمَشْهُورَةِ الثَّابِتَةِ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ.
وَحَاصِلُهَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ وَمَعَهُ زَوْجُهُ عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، فَانْقَطَعَ عِقْدُهَا، فَانْحَبَسَتْ فِي طَلَبِهِ وَرَحَلُوا، وَقَدْ رَحَّلُوا جَمَلَهَا وَهَوْدَجَهَا، وَلَمْ يَفْقِدُوهَا؛ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ الْجَيْشُ رَاحِلًا، وَجَاءَتْ مَكَانَهُمْ، وَعَلِمَتْ أَنَّهُمْ إِذَا فَقَدُوهَا رَجَعُوا إِلَيْهَا، فَاسْتَمَرُّوا فِي مَسِيرِهِمْ.
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعْطَّلِ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، قَدْ عَرَّسَ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ وَنَامَ، فَرَأَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَعَرَفَهَا، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَرَكِبَتْهَا مِنْ دُونِ أَنْ يُكَلِّمَهَا أَوْ تُكَلِّمَهُ، ثُمَّ جَاءَ يَقُودُ بِهَا بَعْدَمَا نَزَلَ الْجَيْشُ فِي الظَّهِيرَةِ.
فَلَمَّا رَأَى بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ -الَّذِينَ فِي صُحْبَةِ الْأَمِينِ ﷺ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ- مَجِيءَ صَفوَانَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، أَشَاعَ مَا أَشَاعَ، وَوَشَى الْحَدِيثُ، وَتَلَقَّفَتْهُ الْأَلْسُنُ، حَتَّى اغْتَرَّ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَارُوا يَتَنَاقَلُونَ هَذَا الْكَلَامَ.
وَانْحَبَسَ الْوَحْيُ مُدَّةً طَوِيلَةً عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَائشَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، فَحَزِنَتْ حُزْنًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ ((سُورَةِ النُّورِ))، وَوَعَظَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْظَمَ ذَلِكَ، وَوَصَّاهُمْ بِالْوَصَايَا النَّافِعَةِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ}؛ أَيْ: بِالْكَذِبِ الشَّنِيعِ، وَهُوَ رَمْيُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
{عُصْبَةٌ مِّنكُمْ}؛ أَيْ: جَمَاعَةٌ مُنْتَسِبُونَ إِلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ فِي إِيمَانِهِ، لَكِنَّهُ اغْتَرَّ بِتَروِيجِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنْهُمُ الْمُنَافِقُ.
{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُم}؛ لِمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ تَبْرِئَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَزَاهَتَهَا، وَالتَّنْوِيهَ بِذِكْرِهَا، حَتَّى تَنَاوَلَ عُمُومُ الْمَدْحِ سَائِرَ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلِمَا تَضَمَّنَ مِنْ بَيَانِ الْآيَاتِ الْمُضْطَرِّ إِلَيْهَا الْعِبَادُ، الَّتِي مَا زَالَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّ هَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ، لَوْلَا مَقَالَةُ أَهْلِ الْإِفْكِ لَمْ يَحصُلْ ذَلِكَ.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا جَعَلَ لَهُ سَبَبًا، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْخِطَابَ عَامًّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَدْحَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ كَقَدْحٍ فِي أَنْفُسِهِمْ.
فَفِيهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ.. كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ.
وَالْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكَمَا أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَقْدَحَ أَحَدٌ فِي عِرْضِهِ، فَلْيَكْرَهْ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْدَحَ فِي أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، وَمَا لَمْ يَصِلِ الْعَبْدُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَإنَّهُ مِنْ نَقْصِ إِيمَانِهِ وَعَدَمِ نُصْحِهِ.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}؛ وَهَذَا وَعِيدٌ لِلَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ، وَأَنَّهُمْ سَيُعَاقَبُونَ عَلَى مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ حَدَّ النَّبِيُّ ﷺ مِنْهُمْ جَمَاعَةً؛ أَيْ: أَقَامَ عَلَيْهِمْ حَدَّ الْقَذْفِ.
{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ}؛ أَيْ: مُعْظَمَ الْإِفْكِ، وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْخَبِيثُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ -لَعَنَهُ اللهُ-، {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ أَلَا وَهُوَ الْخُلودُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ عِبَادَهُ عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}؛ أَيْ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ بَعضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا، وَهُوَ السَّلَامَةُ مِمَّا رُمُوا بِهِ، وَأَنَّ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الْمَعْلُومِ يَدْفَعُ مَا قِيلَ فِيهِمْ مِنَ الْإِفْكِ الْبَاطِلِ.
{وَقَالُوا} بِسَبَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ.
{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}؛ أَيْ: هَذَا كَذِبٌ وَبَهْتٌ مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وَأَبْيَنِهَا، فَهَذَا مِنَ الظَّنِّ الْوَاجِبِ حِينَ سَمَاعِ الْمُؤْمِنِ عَنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَنْ يُبَرِّئَهُ بِلِسَانِهِ، وَيُكَذِّبَ الْقَائِلَ فِيمَا افْتَرَاهُ.
((أَسْبَابُ تَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَاصَّةِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ مَعِيَّةَ اللهِ هَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي يُنْعِمُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، وَلَكِنْ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هِيَ السَّبَبُ الَّذِي تُنَالُ بِهِ.
وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- سَمِيعٌ لِتِلْكَ الْأَقْوَالِ، عَلِيمٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، وَهُو عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَيَشْكُرُهَا، وَيَعْرِفُ قَدْرَهَا، وَيُحِبُّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهَا، فَتَصْلُحُ عِنْدَهُ هَذِهِ النِّعْمَةُ، وَيَصْلُحُ هُوَ بِهَا؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
فَإِذَا فَاتَتِ الْعَبْدَ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ رَبِّهِ فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}؛ لِأَنَّ اللهَ لَوْ عَلِمَ أَنَّكَ تَشْكُرُهُ عَلَى نِعْمَتِهِ لَأَفَاضَ عَلَيْكَ بِهَا، وَأَجْزَلَ لَكَ بِهَا الْعَطَاءَ، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا}.
كَانَ الطُّغَاةُ يَنْظُرُونَ إِلَى أَتْبَاعِ الْمُرْسَلِينَ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الزِّرَايَةِ وَالِاحْتِقَارِ، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءِ أَنْ يَطْرُدَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ وَلَا جَاهَ حَتَّى يَكُونُوا عِنْدَهُ وَحَتَّى يَجْلِسُوا إِلَيْهِ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ!
{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا}: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ وَلَا جَاهَ وَلَا حَسَبَ وَلَا نَسَبَ وَلَا قِيمَةَ فِي الْحَيَاةِ وَلَا خَطَرَ؛ {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا}: اخْتَارَ هَؤُلَاءِ وَتَرَكَنَا! يَقُولُ -تَعَالَى- مُعَقِّبًا عَلَى قَوْلِهِمْ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
فَإِذَا فَاتَتِ الْعَبْدَ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ رَبِّهِ فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ.
وَمِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَحَصَّلُ الْعَبْدُ بِهَا عَلَى مَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ: التَّقْوَى وَالْإِحْسَانُ؛ فَإِذَا وُجِدَتِ التَّقْوَى أَوْ غَيْرُهَا مِنْ أَسْبَابِهَا فِي شَخْصٍ كَانَ اللهُ مَعَهُ.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}.
وَالتَّقْوَى هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
التَّقْوَى: هِيَ أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ بِفِعْلِ المَأْمُورِ وَتَرْكِ المَحْظُورِ.. فَهَذِهِ تَقْوَى اللهِ.
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي فِعْلِ أَمْرِهِ=وَتَجْتَنِبُ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَتَبْعُدُ
وَكُنْ مُخْلِصًا للهِ وَاحْذَرْ مِنَ الرِّيَا=وَتَابِعْ رَسُولَ اللهِ إِنْ كُنْتَ تَعْبُدُ
تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ حَقًّا وَثِقْ بِهِ=لِيَكْفِيكَ مَا يُغْنِيكَ حَقًّا وَتَرْشُدُ
تَصَبَّرْ عَنِ الْعِصْيَانِ وَاصْبِرْ لِحُكْمِهِ=وَصَابِرْ عَلَى الطَّاعَاتِ عَلَّكَ تَسْعَدُ
وَالْإِحْسَانُ مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ بِمَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ؛ وَهُوَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
وَالْإِحْسَانُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ:
إِحْسَانٌ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ.
وَإِحْسَانٌ فِي حُقُوقِ الْخَلْقِ؛ وَهُوَ نَوْعَانِ:
- إِحْسَانٌ وَاجِبٌ: وَهُوَ أَنْ تَقُومَ بِحُقُوقِهِمُ الْوَاجِبَةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْإِنْصَافِ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ، ويَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْبَهَائِمِ، ثُمَّ الْإِحْسَانُ فِي الْقَتْلِ كَذَلِكَ، وفِي الذَّبْحِ كَذَلِكَ، كَمَا أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِأَمْرِ اللهِ.
- وَالْإِحْسَانُ الْمُسْتَحَبُّ: هُوَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ مِنْ بَذْلِ نَفْعٍ مَالِيٍّ، أَوْ بَدَنِيٍّ، أَوْ نَفْعٍ عِلْمِيٍّ.
وَمِنْ أَجَلِّ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ: الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْإِحْسَانُ ضِدُّ الْإِسَاءَةِ؛ وَهُوَ أَنْ يَبْذُلَ الْإِنْسَانُ الْمَعْرُوفَ وَيَكُفَّ الْأَذَى، فَيَبْذُلُ الْمَعْرُوفَ لِعِبَادِ اللهِ فِي مَالِهِ، وَجَاهِهِ، وَعِلْمِهِ، وَبَدَنِهِ.
فَأَمَّا الْمَالُ: فَأَنْ يُنْفِقَ وَيَتَصَدَّقَ وَيُزَكِّيَ، وَأَفْضَلُ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ بِالْمَالِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِيهِ الْعِظَامِ، وَلَا يَتِمُّ إِسْلَامُ الْمَرْءِ إِلَّا بِهَا، وَهِيَ أَحَبُّ النَّفَقَاتِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيَلِي ذَلِكَ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ نَفَقَةٍ لِزَوْجَتِهِ، وَأُمِّهِ، وَأَبِيهِ، وَذُرِّيَّتِهِ، وَإِخْوَانِهِ، وَبَنِي إِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، وَأَعْمَامِهِ، وَعَمَّاتِهِ، وَخَالَاتِهِ... إِلَى آخِرِ هَذَا، ثُمَّ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُمْ أَهْلٌ لِلصَّدَقَةِ؛ كَطُلَّابِ الْعِلْمِ مَثَلًا.
وَأَمَّا بَذْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْجَاهِ: فَهُوَ أَنَّ النَّاسَ مَرَاتِبُ؛ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ ذَوِي السُّلْطَانِ، فَيَبْذُلُ الْإِنْسَانُ جَاهَهُ، يَأْتِيهِ رَجُلٌ فَيَطْلُبُ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ؛ إِمَّا بِدَفْعِ ضَرَرٍ عَنْهُ، أَوْ بِجَلْبِ خَيْرٍ لَهُ.
وَأَمَّا بِعِلْمِهِ: فَأَنْ يَبْذُلَ عِلْمَهُ لِعِبَادِ اللهِ؛ تَعْلِيمًا فِي الْحَلْقَاتِ وَالْمَجَالِسِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، حَتَّى لَوْ كُنْتَ فِي مَجْلِسِ قَهْوَةٍ، فَإِنَّ مِنَ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ أَنْ تُعَلِّمَ النَّاسَ.
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ بِالْبَدَنِ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «...، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ.. صَدَقَةٌ»، فَهَذَا رَجُلٌ تُعِينُهُ تَحْمِلُ مَتَاعَهُ مَعَهُ، أَوْ تَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِحْسَانِ إِلَى عِبَادِ اللهِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِحْسَانِ فِي عِبَادَةِ اللهِ: فَأَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَهَذَا يَبْعَثُكَ عَلَى أَمْرَيْنِ:
عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ.
وَعَلَى الْإِتْقَانِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ الَّتِي تَتَعَبَّدُ بِهَا لِرَبِّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
عِبَادَ اللهِ! أَهْلُ الْإِحْسَانِ هُمُ الصَّفْوَةُ، وَهُمُ الْخُلَّصُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
الْآيَةُ فِيهَا بَيَانُ فَضْلِ الْمُحْسِنِينَ، وَبَيَانُ الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَكُونُ لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ.
وَالْمَعِيَّةُ هُنَا خَاصَّةٌ مُقَيَّدَةٌ بِصِفَةٍ: كُلُّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ الْمُحْسِنِينَ فَاللهُ مَعَهُ.
وَهَذَا يُثْمِرُ لَنَا الْحِرْصَ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالتَّقْوَى؛ فَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ اللهُ مَعَهُ.
وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ لِتَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ: الصَّبْرُ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وَالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَحَبْسُهَا عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحَبْسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ؛ سَوَاءٌ بِاللِّسَانِ، أَوْ بِالْقَلْبِ، أَوْ بِالْجَوَارِحِ.
وَأَفْضَلُ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا اخْتِيَارًا: إِنْ شَاءَ الْإِنْسَانُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْمُحَرَّمَ وَإِنْ شَاءَ مَا تَرَكَهُ، ثُمَّ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ؛ لِأَنَّ أَقْدَارَ اللهِ وَاقِعَةٌ شِئْتَ أَمْ أَبَيْتَ، فَإِمَّا أَنْ تَصْبِرَ صَبْرَ الْكِرَامِ، وَإِمَّا أَنْ تَسْلُوَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ.
وَالصَّبْرُ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ لَا تُنَالُ إِلَّا بِشَيْءٍ يُصْبَرُ عَلَيْهِ، أَمَّا مَنْ فُرِشَتْ لَهُ الْأَرْضُ وُرُودًا، وَصَارَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا يُرِيدُ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّعَبِ النَّفْسِيِّ أَوِ الْبَدَنِيِّ الدَّاخِلِيِّ أَوِ الْخَارِجِيِّ.
وَلِهَذَا جَمَعَ اللهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ بَيْنَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ.
فَالشُّكْرُ: كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ؛ فَيَقُولُ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!)).
وَالصَّبْرُ: صَبْرٌ عَلَى مَا أُوذِيَ، فَقَدْ أُوذِيَ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ صَابِرٌ.
*وَمِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ بِمَعِيَّةِ اللهِ -تَعَالَى- الْخَاصَّةِ: نَصْرُهُ -سُبْحَانَهُ- بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عنِ الْمُنْكَرِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
مَا دَامَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْصُرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ يَنْصُرُهُ لَا مَحَالَةَ.
{الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
وَمِنَ الْأَسْبَابِ -أَيْضًا-: الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ لَهُ سُبْحَانَهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
مَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الَّذِي يُجِيبُ الْمَكْرُوبَ الْمَجْهُودَ إِذَا دَعَاهُ، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ النَّازِلَ بِهِ؟!!
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي -أَوْ قَالَ: إِذَا ذَكَرَنِي-)).
عِبَادَ اللهِ!عَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ أَشْرَفُ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ، يَتَعَبَّدُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ».
فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَوَجَّهَ دَائِمًا وَأَبَدًا إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نُخْلِصَ الْقُلُوبَ لَهُ، وَأَنْ نَكُونَ مُوَحِّدِينَ؛ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَنَا رَبُّنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَمِنَ الْوَسَائِلِ لِنَيْلِ مَعِيَّةِ اللهِ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى اللَّهِ فِي جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَيَثِقَ بِهِ فِي تَسْهِيلِ ذَلِكَ، فَهُوَ كَافِيهِ الْأَمْرَ الَّذِي تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي كَفَالَةِ الْغَنِيِّ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2-3].
وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ فَيَعْمَلْ بِمَا أَمَرَهُ وَيَجْتَنِبْ مَا نَهَاهُ عَنْهُ؛ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ مَخْرَجًا وَمَخْلَصًا مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَرْزُقْهُ دَوَامًا، وَيُيَسِّرْ لَهُ أَسْبَابَ الرِّزْقِ مِنْ حَيْثُ لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِ وَلَا يَكُونُ فِي حُسْبَانِهِ.
وَمَنْ يَكِلْ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ، فَهُوَ كَافِيهِ مَا أَهَمَّهُ فِي الدَّارَيْنِ.
وَمِنْ وَسَائِلِ تَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْخَاصَّةِ: تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟ بَلَى كَافٍ!
وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَبِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ الْفَوْزِ بِمَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ؛ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87-88].
وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِ رَبِّكَ- قِصَّةَ يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- صَاحِبِ الْحُوتِ، حِينَ انْصَرَفَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لَهُمْ؛ مِنْ أَجْلِ دِينِ رَبِّهِ، ضَائِقًا صَدْرُهُ بِعِصْيَانِهِمْ، دُونَ أَنْ نَأْمُرَهُ بِفِرَاقِهِمْ.
وَظَنَّ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ؛ عِقَابًا لَهُ عَلَى تَرْكِ قَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، فَابْتَلَاهُ اللهُ بِشِدَّةِ الضِّيقِ وَالْحَبْسِ، وَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ.
فَنَادَى رَبَّهُ فِي الظُّلُمَاتِ -ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ جَوْفِ فَمِ الْحُوتِ- تَائِبًا مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ بِتَرْكِهِ الصَّبْرَ عَلَى قَوْمِهِ؛ قَائِلًا: لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ إِلَّا أَنْتَ، تَنَزَّهْتَ عَنْ كُلِّ شَرِيكٍ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِكَ وَإِلَاهِيَّتِكَ.
أُؤَكِّدُ اعْتِرَافِي بِذَنْبِي؛ إِذْ ذَهَبْتُ مُغَاضِبًا قَوْمِي الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِي قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي بِانْصِرَافِي عَنْهُمْ.
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، وَخَلَّصْنَاهُ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَقَدَّرْنَا أَنْ يَلْفِظَهُ الْحُوتُ عَلَى الْيَابِسَةِ قَرِيبًا مِنْ شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَفَعَلَ.
وَمِثْلُ هَذَا التَّخْلِيصِ مِنَ الْغَمِّ، نُخَلِّصُ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ كَامِلِي الْإِيمَانِ مِنَ الْكُرُوبِ، ضِمْنَ سُنَّتِنَا فِي تَصَارِيفِنَا بِعِبَادِنَا إِذَا دَعَوْنَا وَاسْتَغَاثُوا بِنَا.
هَذِهِ الدَّعْوَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي دَعَا بِهَا يُونُسُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَرَّجَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ بِهَا.
وَكَذَلِكَ يُفَرِّجُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ عِنْدَ الْكَرْبِ الْتِفَاتًا خَاصًّا، فَإِنَّهُ إِذَا دَعَا بِهَا ثُمَّ لَمْ يُفَرَّجْ عَنْهُ وَلَمْ يُنَجِّهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ طَوِيلًا مَعَ إِيمَانِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ نَجَاةَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخَذُوا بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّالِحَةِ الْمُبَارَكَةِ.. جَعَلَ هَذِهِ النَّجَاةَ كَنَجَاةِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا دَعَا بِهَا وَهُوَ فِي بَاطِنِ الْحُوتِ.
((الْإِيمَانُ يُنَجِّي مِنَ الْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88].
أَيْ: إِذَا وَقَعُوا فِي الشَّدَائِدِ؛ لِإِيمَانِهِمْ بِرَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَمِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ تَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ الْخَاصَّةِ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ؛ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَهُمْ، وَبَذَلُوا مَجْهُودَهُمْ فِي اتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، لَنَهْدِيَنَّهُمُ الطُّرُقَ الْمُوصِلَةَ إِلَيْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ، وَاللَّهُ مَعَ الْمُحْسِنِينَ بِالْعَوْنِ وَالنَّصْرِ وَالْهِدَايَةِ.
دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ أَحْرَى النَّاسِ بِمُوَافَقَةِ الصَّوَابِ أَهْلُ الْجِهَادِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ فِيمَا أُمِرَ بِهِ أَعَانَهُ اللَّهُ وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَ الْهِدَايَةِ.
وَعَلَى أَنَّ مَنْ جَدَّ وَاجْتَهَدَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ أُمُورٌ إِلَهِيَّةٌ، خَارِجَةٌ عَنْ مُدْرَكِ اجْتِهَادِهِ، وَتُيَسِّرُ لَهُ أَمْرَ الْعِلْمِ، فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَلْ هُوَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْجِهَادِ الَّذِي لَا يَقُومُ بِهِ إِلَّا خَوَاصُّ الْخَلْقِ؛ وَهُوَ الْجِهَادُ بِالْقَوْلِ وَاللِّسَانِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَالْجِهَادُ عَلَى تَعْلِيمِ أُمُورِ الدِّينِ، وَعَلَى رَدِّ نِزَاعِ الْمُخَالِفِينَ لِلْحَقِّ، وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ أَجْلِنَا بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَجَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَاتِّخَاذِ السُّبُلِ لِلْهِجْرَةِ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ؛ لَنُوَفِّقَنَّهُمْ إِلَى سُبُلِ نَجَاتِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَتَيْسِيرِ طُرُقِ هِجْرَةٍ آمِنَةٍ مَعَهَا تَأْمِينُ رِزْقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}: مُصَاحِبٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ.
((ثَمَرَاتُ مَعِيَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-))
عِبَادَ اللهِ! ((مَا هِيَ الثَّمَرَاتُ الَّتِي نَسْتَفِيدُهَا بِأَنَّ اللهَ مَعَنَا؟
إِنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ مَعِيَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: الْإِيمَانَ بِإِحَاطَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ مَعَ عُلُوِّهِ فَهُوَ مَعَ خَلْقِهِ، لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَبَدًا.
وَأَنَّنَا إِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَآمَنَّا بِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لَنَا كَمَالَ مُرَاقَبَتِهِ بِالْقِيَامِ بِطَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ؛ بِحَيْثُ لَا يَفْقِدُنَا حَيْثُ أَمَرَنَا، وَلَا يَجِدُنَا حَيْثُ نَهَانَا، وَهَذِهِ ثَمَرَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَنْ آمَنَ بِهَذِهِ الْمَعِيَّةِ.
هَذِهِ الْمَعِيَّةُ إِذَا آمَنَّا بِهَا، تُوجِبُ لَنَا خَشْيَةَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَتَقْوَاهُ)) .
صِفَةُ الْمَعِيَّةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ وَهِيَ نَوْعَانِ: مَعِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَمَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ.. إِذَا آمَنَ الْعَبْدُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَرَفَ أَنَّ اللهَ مَعَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ يُرَاقِبُ اللهَ، يَعْرِفُ أَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ.
فَإِذَا آمَنَ بِأَنَّ اللهَ مَعَهُ؛ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِهِ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، رَقِيبٌ عَلَى أَعْمَالِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ، وَعَلَى خَوْفِهِ مِنَ اللهِ، وَعَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَتِهِ، وَعَدَمِ ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِيهِ، تَقُولُ لَهُ نَفْسُهُ وَيَقُولُ لَهُ قَلْبُهُ: كَيْفَ تَتَجَرَّأُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَهُوَ مُرَاقِبٌ لَكَ وَلِأَعْمَالِكَ؟!!
وَيَحْمِلُهُ هَذَا عَلَى إِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ وَعَدَمِ إِفْسَادِهَا، وَعَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالْبُعْدِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، فَهَذِهِ فَائِدَةٌ مِنْ فَوَائِدِ الْإِيمَانِ بِمَعِيَّةِ اللهِ الْعَامَّةِ.
إِذَا آمَنَ الْإِنْسَانُ بِمَعِيَّةِ اللهِ الْعَامَّةِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مُرَاقِبُهُ، وَأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَالِمٌ بِهِ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، رَقِيبٌ عَلَى أَعْمَالِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَلَى خَوْفِهِ، فَهَذِهِ ثَمَرَةٌ مِنْ ثِمَارِ الْإِيمَانِ بِالْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَزَكَّى عَبْدٌ نَفْسَهُ)).
فَقَالَ رَجُلٌ: وَمَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ مَعَهُ حَيْثُمَا كَانَ)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((التَّارِيخِ الْكَبِيرِ)) وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الصَّغِيرِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((السُّنَنِ)) وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
فَحَصَلَتِ التَّزْكِيَةُ بِالْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْمَعِيَّةِ، وَأَيُّ تَزْكِيَةٍ أَعْظَمُ مِنْهَا؟!!
هَذِهِ ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ بِالْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ، ((وَزَكَّى عَبْدٌ نَفْسَهُ؛ أَيْ عَلِمَ أَنَّ اللهَ مَعَهُ حَيْثُمَا كَانَ)).
الْإِيمَانُ بِمَعِيَّةِ اللهِ الْعَامَّةِ يُثْمِرُ الْخَوْفَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ أَثْنَى -سُبْحَانَهُ- عَلَى أَقْرَبِ عِبَادِهِ إِلَيْهِ بِالْخَوْفِ مِنْهُ؛ فَقَالَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ بَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَمَدَحَهُمْ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].
فَالرَّغَبُ: الرَّجَاءُ وَالرَّغْبَةُ.
وَالرَّهَبُ: الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ.
وَقَالَ عَنْ مَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ قَدْ أَمَّنَهُمْ مِنْ عَذَابِهِ: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي أَعْلَمُكُمْ بِاللهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً».
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنِّي أَخْوَفُكُمْ للهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِمَا أَتَّقِي».
وَكَانَ ﷺ يُصَلِّي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
فَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ بِاللهِ أَعْلَمَ كَانَ لَهُ أَخْوَفَ؛ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَكَفَى بِخَشْيَةِ اللهِ عِلْمًا».
وَنُقْصَانُ الْخَوْفِ مِنَ اللهِ إِنَّمَا هُوَ لِنُقْصَانِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِهِ، فَأَعْرَفُ النَّاسِ بِاللهِ أَخْشَاهُمْ لَهُ، وَمَنْ عَرَفَ اللهَ اشْتَدَّ حَيَاؤُهُ مِنْهُ وَخَوْفُهُ لَهُ وَحُبُّهُ لَهُ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ مَعْرِفَةً ازْدَادَ حَيَاءً وَخَوْفًا وَحُبًّا.
فَالْخَوْفُ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَخَوْفُ الْخَاصَّةِ أَعْظَمُ مِنْ خَوْفِ الْعَامَّةِ، وَهُمْ إِلَيْهِ أَحْوَجُ، وَهُمْ بِهِ أَلْيَقُ، وَهُمْ لَهُ أَلْزَمُ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَسْتَقِيمًا أَوْ مَائِلًا عَنْ الِاسْتِقَامَةِ، فَإِنْ كَانَ مَائِلًا عَنْ الِاسْتِقَامَةِ فَخَوْفُهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَيْلِهِ، وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهَذَا الْخَوْفِ.
وَالْخَوْفُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- يَكُونُ مَحْمُودًا، وَيَكُونُ غَيْرَ مَحْمُودٍ.
الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ: مَا كَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللهِ.
الْخَوْفُ مِنَ اللهِ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللهِ بِحَيْثُ يَحْمِلُكَ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَهَذَا خَوْفٌ مِنَ اللهِ مَحْمُودٌ، فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْغَايَةُ سَكَنَ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْفَرَحُ بِنِعْمَةِ اللهِ، وَالرَّجَاءُ لِثَوَابِهِ؛ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
فَهَذَا هُوَ الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَأَمَّا الْخَوْفُ غَيْرُ الْمَحْمُودِ: فَهُوَ مَا يَحْمِلُ الْعَبْدَ عَلَى الْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَسَّرُ الْعَبْدُ وَيَنْكَمِشُ، وَيَتَمَادَى فِي الْمَعْصِيَةِ بِقُوَّةِ يَأْسِهِ؛ {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
فَالْخَوْفُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْيَأْسِ لَيْسَ مَحْمُودًا.
اسْتِشْعَارُ الْمَعِيَّةِ يُثْمِرُ الْخَوْفَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالْخَوْفُ يَمْنَعُكَ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فإنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَخَفْ مِنَ اللهِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ طَالِبًا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، وَهُوَ يَطْلُبُ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ وَلَمْ يُحَصِّلْهُ، وَلَا يَخَافُ رَبَّهُ فِي طَلَبِهِ، وَيَتَّبِعُ هَوَاهُ.
هَذَا تَبْقَى نَفْسُهُ طَالِبَةً لِمَا تَسْتَرِيحُ بِهِ، وَتَدْفَعُ بِهِ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ عَنْهَا، وَلَيْسَ عِنْدَهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ مَا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ وَبِهِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ حِينَئِذٍ مِنْ فِعْلِ الْفَوَاحِشِ، وَشُرْبِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-.
الْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يَخَفْ رَبَّهُ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَأَمَّا إِذَا خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى؛ كَمَا قَالَ اللهُ.
وَالزُّهَّادُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ شَفِيفَ الْبَصِيرَةِ جِدًّا، وَكَانَ لَهُ فِي الدَّعْوَةِ بَاعٌ لَا يُنْكَرُ.. إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَإِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ جَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ: إِنِّي قَدْ أَسْرَفْتُ عَلَى نَفْسِي، فَعِظْنِي بِمَوْعِظَةٍ لَعَلَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَنْفَعَنِي بِهَا.
فَقَالَ: نَعَمْ، هِيَ خَمْسَةُ أُمُورٍ، إِنْ أَخَذْتَ بِهَا وَقَدِرْتَ عَلَيْهَا؛ نَفَعَكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا.
قَالَ: هَاتِ يَا أَبَا إِسْحَاقَ!
قَالَ إِبْرَاهِيمُ -رَحِمَهُ اللهُ-: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْصِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَلَا تَأْكُلْ رِزْقَهُ.
قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، وَكُلُّ مَا فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا هُوَ رِزْقُهُ؟!!
قَالَ: أَوَيَجْمُلُ أَنْ تَأْكُلَ رِزْقَهُ وَتَعْصِيَ أَمْرَهُ؟!!
قَالَ: لَا.. هَاتِ الثَّانِيَةَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ!
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ -رَحِمَهُ اللهُ-: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْصِيَ أَمْرَهُ فَلَا تَسْكُنْ أَرْضَهُ، وَلَا تَكُنْ مُقِيمًا فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِهِ.
قَالَ: هَذِهِ أَعْسَرُ مِنَ الْأُولَى يَا أَبَا إِسْحَاقَ، وَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ وَمَا دُونَهُ إِنَّمَا هُوَ مُلْكُهُ!!
قَالَ إِبْرَاهِيمُ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَوَيَجْمُلُ أَنْ تَأْكُلَ رِزْقَهُ وَتَسْكُنَ أَرْضَهُ وَتَعْصِيَ أَمْرَهُ؟!!
قَالَ: لَا.. هَاتِ الثَّالِثَةَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ!
قَالَ: إِنْ أَرَدْتَ إِلَّا أَنْ تَأْكُلَ رِزْقَهُ وَتَسْكُنَ بَلَدَهُ وَتَعْصِيَ أَمْرَهُ؛ فَاعْصِهِ فِي مَكَانٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْكَ فِيهِ.
قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى الْبَوَاطِنِ، وَيَعْلَمُ الْهَوَاجِسَ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ؟!!
قَالَ: يَا هَذَا أَوَيَجْمُلُ بِكَ أَنْ تَأْكُلَ رِزْقَهُ، وَتَسْكُنَ أَرْضَهُ، ثُمَّ تَأْتِيَ بِالْمَعْصِيَةِ كِفَاحًا بِحَيْثُ يَطَّلِعُ عَلَيْكَ؟!!
قَالَ: لَا وَاللهِ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، هَاتِ الرَّابِعَةَ!
فَقَالَ: إِذَا أَتَاكَ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقُلْ لَهُ: أَجِّلْنِي حَتَّى أَتُوبَ.
قَالَ: إِنَّهُ لَا يُمَكِّنُنِي يَا أَبَا إِسْحَاقَ!
قَالَ: فَأَيْنَ النَّجَاةُ إِذَنْ إِذَا كَانَ لَا يُؤَجِّلُكَ؟!!
قَالَ: هَاتِ الْخَامِسَةَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ!
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ -رَحِمَهُ اللهُ-: إِذَا مَا أَخَذَ الزَّبَانِيَةُ بِيَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ لِكَيْ يُلْقُوكَ فِي النَّارِ؛ فَاسْتَعْصِ عَلَيْهِمْ وَلَا تُطَاوِعْهُمْ.
قَالَ: وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ؟!!
حَسْبِي؛ فَقَدْ فَطِنْتُ!.
((مِنْ ثَمَرَاتِ الخَوْفِ: أَنَّهُ يَقْمَعُ الشَّهَوَاتِ وَيُكَدِّرُ اللَّذَاتِ؛ فَتَصِيرُ الْمَعَاصِي الْمَحْبُوبَةُ عِنْدَهُ مَكْرُوهَةً كَمَا يَصِيرُ الْعَسَلُ مَكْرُوهًا عِنْدَ مَنْ يَشْتَهِيهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهِ سُمًّا، فَتَحْتَرِقُ الشَّهَوَاتُ بِالْخَوْفِ، وَتَتَأَدَّبُ الْجَوَارِحُ بِهِ، وَيَذِلُّ الْقَلْبُ وَيَسْتَكِينُ، وَيُفَارِقُهُ الْكِبْرُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ، وَيَصِيرُ مُسْتَوعِبَ الْهَمِّ لِخَوْفِهِ، وَالنَّظَرَ فِي خَطَرِ عَاقِبَتِهِ، فَلَا يَتَفَرَّغُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ شُغْلٌ إِلَّا الْمُرَاقَبَةَ وَالْمُحَاسَبَةَ وَالْمُجَاهَدَةَ وَالضِّنَّةَ بِالْأَنْفَاسِ وَاللَّحَظَاتِ، وَمُؤَاخَذَةَ النَّفْسِ فِي الْخَطَرَاتِ وَالْخُطُوَاتِ وَالْكَلِمَاتِ)).
((آثَارُ الْمَعِيَّةِ فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ))
الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ.. إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَرَفَ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ يَحْظَى أَهْلُهُ بِمَعِيَّةِ اللهِ؛ حَرَصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَمَلِ، فَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَإِنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، وَمَعَ أَهْلِ الْإِحْسَانِ وَأَهْلِ الصَّبْرِ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَيُكْثِرُ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَأَيُّ فَضِيلَةٍ تُدَانِي فَضِيلَةَ مَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ؟!!
وَأَيُّ مَزِيَّةٍ تُوَازِي مَزِيَّةَ مَنْ هُوَ أَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْمَنْزِلَةِ السَّامِيَةِ؟!!
((فَمَتَى حَظِيَ الْعَبْدُ بِمَعِيَّةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- الْخَاصَّةِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ، وَانْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي حَقِّهِ أَمَانًا، فَبِاللهِ يَهُونُ كُلُّ صَعْبٍ، وَيَسْهُلُ كُلُّ عَسِيرٍ، وَيَقْرُبُ كُلُّ بَعِيدٍ.
وَبِاللهِ تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ، فَلَا هَمَّ مَعَ اللهِ وَلَا غَمَّ وَلَا حَزَنَ)) .
وَإِنَّمَا الْحُزْنُ كُلُّ الْحُزْنِ لِمَنْ فَاتَهُ اللهُ؛ فَمَنْ حَصَلَ اللهُ لَهُ فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَحْزَنُ؟! وَمَنْ فَاتَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَفْرَحُ؟!!
وَإِذَا كَانَ اللهُ مَعَكَ.. فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَخَافُ؟!!
وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ.. فَمَنْ تَرْجُو؟!!
صِفَةُ الْمَعِيَّةِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَالْإِيمَانُ بِهَا يُثْمِرُ فِي حَيَاةِ مَنْ آمَنَ بِهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يَعْلَمُ مِقْدَارَهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَجْزَلَهُ لِلْعَبْدِ وَمَنَّ عَلَيْهِ بِهِ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا آمَنَ بِالْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ رَاقَبَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَخَافَهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ، وَهُوَ مُرَاقِبٌ لَهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ فَلَهَا أَسْبَابٌ؛ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالتَّقْوَى... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَكَرَهُ الرَّسُولُ.
بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَهُ مَرَضٌ فَإِنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ)) .
وَهَذِهِ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ إِذَا كَانَ رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ، مُفَوِّضًا إِلَيْهِ أَمْرَهُ، مُتَبَرِّئًا مِنْ حِيلَتِهِ وَحَوْلِهِ، مُقْبِلًا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَابِرًا، لَا يَشْكُو رَبَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، بَلْ يَشْكُو نَفْسَهُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.. إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ؛ كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَهُ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر: 10].
قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ مِنْ أُمَّتِهِ! إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي شَرَّفَكُمْ بِعُبُودِيَّتِكُمْ لَهُ يُنَادِيكُمْ قَائِلًا لَكُمْ: يَا عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ! اتَّقُوا عِقَابَ رَبِّكُمُ الَّذِي يُمِدُّكُمْ دَوَامًا بِعَطَاءَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ لَكُمْ؛ بِالْتِزَامِ حُقُوقِ مَرْتَبَةِ التَّقْوَى بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُونُوا أَبْرَارًا بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ يَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
وَأَحْسَنُوا.. لِلَّذِينَ عَبَدُوا اللهَ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ عَطَايَا وَمِنَحٌ حَسَنَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَحَسَنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الصِّحَّةُ وَالرِّزْقُ وَالتَّأْيِيدُ وَالنَّصْرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
عِبَادَ اللهِ! أَيْنَ يَجِدُ الْمَرْءُ رَاحَةَ قَلْبِهِ؟
وَأَيْنَ يَجِدُ الْمَرْءُ صَلَاحَ بَالِهِ، وَانْشِرَاحَ صَدْرِهِ، وَرَاحَةَ بَدَنِهِ؟
كُلُّ ذَلِكَ فِي طَاعَةِ اللهِ، «وَتَحْتَ هَذَا سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَا يَطْمَئِنُّ وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِمَّا يُحَبُّ وَيُرَادُ فَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ إِلَّا وَاحِدًا إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى.
وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَهَى إِلَى اثْنَيْنِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ اثْنَيْنِ.
فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ إِلَّا وَاحِدًا إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى.
وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَهَى إِلَى اثْنَيْنِ؛ كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ اثْنَيْنِ.
فَمَنْ كَانَ انْتِهَاءُ مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ، بَطَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَزَالَ عَنْهُ، وَفَارَقَهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ
وَمَنْ كَانَ انْتِهَاءُ مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَرَهْبَتِهِ وَطَلَبِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ؛ ظَفِرَ بِنَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ وَبَهْجَتِهِ وَسَعَادَتِهِ أَبَدَ الْآبَادِ.
وَالْعَبْدُ دَائِمًا مُتَقَلِّبٌ بَيْنَ أَحْكَامِ الْأَوَامِرِ وَأَحْكَامِ النَّوَازِلِ.
[وَالْمُؤْمِنُ الْحَقُّ يَقُولُ عِنْدَ الْأَمْرِ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَعِنْدَ الْخَبَرِ: سَمِعْنَا وَصَدَّقْنَا] فَهُوَ مُحْتَاجٌ -بَلْ مُضْطَرٌّ- إِلَى الْعَوْنِ عِنْدَ الْأَوَامِرِ، وَإِلَى اللُّطْفِ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَعَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ بِالْأَوَامِرِ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللُّطْفِ عِنْدَ النَّوَازِلِ.
فَإِنْ كَمَّلَ الْقِيَامَ بِالْأَوَامِرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ نَالَهُ اللُّطْفُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَإِنْ قَامَ بِصُوَرِهَا دُونَ حَقَائِقِهَا؛ نَالَ اللُّطْفَ فِي الظَّاهِرِ، وَقَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ اللُّطْفِ فِي الْبَاطِنِ.
فَإِنْ قُلْتَ: وَمَا اللُّطْفُ الْبَاطِنُ؟
فَالْجَوَابُ:
هُوَ مَا يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ عِنْدَ النَّوَازِلِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَزَوَالِ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ وَالْجَزَعِ.
فَيَسْتَخْذِي بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ ذَلِيلًا لَهُ مُسْتَكِينًا، نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، سَاكِنًا إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وَسِرِّهِ، قَدْ شَغَلَهُ مُشَاهَدَةُ لُطْفِهِ بِهِ عَنْ شِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ، وَقَدْ غَيَّبَهُ عَنْ شُهُودِ ذَلِكَ مَعْرِفَتُهُ بِحُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ عَبْدٌ مَحْضٌ يُجْرِي عَلَيْهِ سَيِّدُهُ أَحْكَامَهُ رَضِيَ أَوْ سَخِطَ.
فَإِنْ رَضِيَ نَالَ الرِّضَا، وَإِنْ سَخِطَ فَحَظُّهُ السُّخْطُ.
فَهَذَا اللُّطْفُ الْبَاطِنُ ثَمَرَةُ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ الْبَاطِنَةِ؛ يَزِيدُ بِزِيَادَتِهَا، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا».
فَالْإِيمَانُ بِالْمَعِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الصَّحِيحِ مِمَّا بَيَّنَتْهُ النُّصُوصُ خَاصَّةً وَعَامَّةً مِمَّا يُثْمِرُ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَلَّا يَشْغَلَنَا بِالْمَخْلُوقَاتِ عَنِ الْخَالِقِ، وَلَا بِالْمُحْدَثَاتِ عَنِ الْمُحْدِثِ، وَلَا بِالْمُدَبَّرَاتِ عَنِ الْمُدَبِّرِ، وَأَنْ يَجْعَلَ إِلَى رِضْوَانِهِ لِقُلُوبِنَا سَبِيلًا، وَإِلَى رَحْمَتِهِ قَبْضًا وَتَحْصِيلًا.
وَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِذَا أَرَادَ بِالنَّاسِ فِتْنَةً أَنْ يَقْبِضَنَا إِلَيْهِ غَيْرَ فَاتِنِينَ وَلَا مَفْتُونِينَ، وَلَا خَزَايَا وَلَا مَحْزُونِينَ، وَلَا مُغَيِّرِينَ وَلَا مُبَدِّلِينَ؛ إِنَّهُ هُوَ -تَعَالَى- أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:مَعِيَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ