التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا
مَوْضُوعَا الْمِيَاهِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي رَمَضَانَ أُنْمُوذَجًا
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نِعَمُ اللهِ عَلَيْنَا لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى))
فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَسْبَغَ عَلَيْنَا نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، مِنَ الْأَكْلِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.
وَتَأَمَّلْ نِعَمَ اللهِ عَلَيْكَ، فَهِيَ سَابِغَةٌ وَشَامِلَةٌ وَاسِعَةٌ، دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ صِدْقَ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].
وَإِنْ تُحَاوِلُوا عَدَّ مُفْرَدَاتِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْكُمْ؛ لَا تَسْتَطِيعُونَ إِحْصَاءَهَا؛ لِخَفَاءِ مُعْظَمِهَا عَلَيْكُمْ، وَلِكَثْرَتِهَا كَثْرَةً تَفُوقُ اسْتِطَاعَتَكُمْ عَلَى الْإِحْصَاءِ.
إِنَّ اللهَ كَثِيرُ السَّتْرِ لِتَقْصِيرِكُمْ فِي الْقِيَامِ بِشُكْرِ نِعْمَتِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ، وَاسِعُ الرَّحْمَةِ بِكُمْ حَيْثُ وَسَّعَ عَلَيْكُمُ النِّعَمَ، وَلَمْ يَقْطَعْهَا عَنْكُمْ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ وَالْمَعَاصِي.
((وُجُوبُ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُسْتَقْصَى.
فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا، وَلَا يَكُونُ الشُّكْرُ مِنَّا وَاقِعًا إِلَّا إِذَا أَتَيْنَا بِأَرْكَانِهِ، وَحِينَئِذٍ نَكُونُ للهِ عَلَى نِعَمِهِ -وَإِنْ قَصَّرْنَا- شَاكِرِينَ، وَذَلِكَ:
*بِأَنْ نَعْتَرِفَ بِنِعَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا بَاطِنًا.
*وَنُقِرَّ بِاللِّسَانِ بِهَا ظَاهِرًا.
*وَأَنْ نُصَرِّفَ تِلْكَ النِّعَمَ فِي مَرْضَاةِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا وَأَسْدَاهَا إِلَيْنَا.
فإنْ فَعَلْنَا ذلك؛ كُنَّا شاكرِينَ وإنْ كُنَّا مُقَصِّرِين.
وَكَثِيرٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَمُرُّ عَلَيْنَا مَرًّا، وَقَدْ نَجْحَدُهَا جَحْدًا، وَلَا نُقِرُّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَا لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا.
عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْرِفَ نِعَمَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ نِعَمَ اللهِ الَّتِي تَتَوَاتَرُ مُتَنَزِّلَةً عَلَيْهِ، لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَنْ تُحْصَى، وَإِنَّمَا هِيَ فِي كَثْرَتِهَا فَوْقَ أَنْ تُسْتَقْصَى، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ يَقِينًا، وَأَنْ يُقِرَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، أَنْ يَعْلَمَ بَاطِنًا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ، وَمَا أَسْدَاهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَلْهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ الَّذِي أَنْعَمَ إِلَيْهِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ الْكَثِيرَةِ بِلِسَانِهِ ظَاهِرًا، وَأَنْ يُصَرِّفَ تِلْكَ النِّعَمَ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
*النِّعْمَةُ صَيْدٌ، وَالشُّكْرُ قَيْدٌ:
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ دَلَّنَا عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ؛ لِيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَلِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَلِيَكُونَ الْأَمْرُ وَاضِحًا بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
{تَأَذَّنَ} كَأَذِنَ، أيْ: أَعْلَمَ ووَعَدَ، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}: أَعْلَمَكُمْ ربُّكُمْ وَوَعَدَكُمْ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} بِنِعَمِي الَّتِي أُوصِلُهَا إِلَيْكُمْ {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، إِنْ كَفَرْتُمْ بِنِعْمَتِي عَلَيْكُمْ، فَجَحَدْتُمُوهَا وَلَمْ تُؤَدُّوا شُكْرَهَا؛ فَإِنَّهَا عَنْكُمْ تَزُولُ، وَيَقَعُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا هَذَا وَصْفُهُ {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
وَتَأَمَّلْ فِي هَذَا التَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْأَكِيدِ فِي قَوْلِ رَبِّكَ: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، فَأَتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِاللَّامِ، وَأَتَى بِالْقَسَم -جَلَّ وَعَلَا-، ثُمَّ إِنَّهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُقَابِلِ {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، فَيَأْتِي بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مُؤَكَّدَةً بِهَذَا الْمُؤَكِّدِ الظَّاهِرِ {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ كَيْفَ يَكُونُ عَذَابُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ مَالِكُ الْقُوَى، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، فَهَذَا التَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ زَاجِرًا.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ الزِّيَادَةَ مِنْ نِعَمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ للهِ شَاكِرًا، وَالشُّكْرُ عَلَى حَسَبِ الْأَرْكَانِ الَّتِي لَا يَكُونُ الشُّكْرُ شُكْرًا إِلَّا بِاسْتِيفَائِهَا.
((النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ: الْحِفَاظُ عَلَيْهَا، وَتَصْرِيفُهَا فِي طَاعَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَعَدَمُ الْإِسْرَافِ فِيهَا:
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ.
فَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْآيَةِ: التَّمَتُّعُ بِالطَّيِّبَاتِ مَعَ عَدَمِ الْإِسْرَافِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالْإِنْفَاقِ.
*اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَنَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِمَّا رَزَقَنَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، مَعَ عَدَمِ الْإِسْرَافِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ السَّرَفَ يُبْغِضُهُ اللَّهُ، وَيَضُرُّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ وَمَعِيشَتَهُ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
يَا بَنِي آدَمَ! كُلُوا وَاشْرَبُوا مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ، لَا تُسْرِفُوا بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَى مَا يُؤْذِي أَوْ يَضُرُّ؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ أَسْرَفَ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ ِفي الدِّينِ.
وَمَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ بِإِرَادَتِهِ فِي زُمْرَةِ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ، فَقَدْ جَعَلَهَا عُرْضَةً لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 29-30].
وَلَا تُمْسِكْ يَدَكَ عَنِ النَّفَقَةِ فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَالْمَغْلُولَةِ يَدُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَدِّهَا، وَلَا تَبْسُطْهَا بِالْعَطَاءِ كُلَّ الْبَسْطِ، فَتُعْطِيَ جَمِيعَ مَا عِنْدَكَ، فَتَقْعُدَ مَلُومًا عِنْدَ أَصْحَابِكَ مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِكَ؛ بِسَبَبِ إِمْسَاكِكَ شُحًّا وَبُخْلًا مُنْقَطِعًا عَاجِزًا عَنْ تَحْقِيقِ مَطْلُوبَاتِكَ؛ بِسَبَبِ بَسْطِكَ يَدَكَ تَبْذِيرًا وَإِسْرَافًا.
إِنَّ رَبَّكَ الَّذِي يُمِدُّكَ بِعَطَاءَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ دَوَامًا -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الْمَوْضُوعُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَوْضِعَ الِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ- إِنَّ رَبَّكَ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ وَيُكَثِّرُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُ وَيَقْتُرُ؛ لِيُتِمَّ امْتِحَانَ النَّاسِ فِي الْمَجَالَاتِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الشُّكْرُ بِالْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، وَيُطْلَبُ فِيهَا تَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ دَاءِ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ، وَيُطْلَبُ فِيهَا الصَّبْرُ وَالرِّضَا عَنِ اللهِ، وَالْقَنَاعَةُ وَالتَّسْلِيمُ لِمَقَادِيرِهِ الْحَكِيمَةِ.
إِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَلِيمًا بِأَحْوَالِ جَمِيعِ عِبَادِهِ وَمَا يُصْلِحُهُمْ عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرٍ، بَصِيرًا بِخَفَايَا نُفُوسِهِمْ، لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} [الإسراء: 26-27].
وَلَا تُنْفِقْ مَالَكَ فِي الْمَعْصِيَةِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِسْرَافِ وَالْعَبَثِ؛ إِنْفَاقًا فِي غَيْرِ حَقِّهِ، يَحْكُمُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالرُّشْدِ بِأَنَّهُ مِنَ التَّبْذِيرِ.
إِنَّ الْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ؛ كَانُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيَاطِينِ وَأَصْدِقَاءَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، وَفِيمَا يَسْتَدْرِجُونَهُمْ مِنَ الْمُبَاحَاتِ إِلَى الْمَكْرُوهَاتِ، فَإِلَى الْمُحَرَّمَاتِ الصُّغْرَى، فَإِلَى الْكَبَائِرِ الْكُبْرَى، ثُمَّ إِلَى الْكُفْرِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.
وَكَانَ الشَّيْطَانُ شَدِيدَ الْجُحُودِ لِنِعْمَةِ رَبِّهِ، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ.
*النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ وَالْمُسْتَحَبَّةُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْتِير: قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ إِذَا بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ فِيمَا أَذِنَ اللهُ بِبَذْلِهِ لَمْ يُجَاوِزُوا الْحَدَّ فِي الْإِنْفَاقِ حَتَّى يَدْخُلَ حَدَّ التَّبْذِيرِ، وَلَمْ يُضَيِّقُوا النَّفَقَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ، وَكَانَ إِنْفَاقُهُمْ بَيْنَ التَّبْذِيرِ وَالتَّقْتِيرِ، {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}: أَيْ وَسَطًا، مُعْتَدِلًا، مُسْتَقِيمًا غَيْرَ مَائِلٍ وَلَا مُعْوَجٍّ.
((النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي السُّنَّةِ))
*فِي السُّنَّةِ: الْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَالتَّرْشِيدِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالْمَنْعُ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ، فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلْ وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ وَتَصَدَّقْ، مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ)).
هَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَالِ فِي الْأُمُورِ النَّافِعَةِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَتَجَنُّبِ الْأُمُورِ الضَّارَّةِ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْعِبَادِ، بِهِ تَقُومُ أَحْوَالُهُمُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ.
وَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ -اسْتِخْرَاجًا وَاسْتِعْمَالًا، وَتَدْبِيرًا وَتَصْرِيفًا- إِلَى أَحْسَنِ الطُّرُقِ وَأَنْفَعِهَا، وَأَحْسَنِهَا عَاقِبَةً: حَالًا وَمَآلًا.
أَرْشَدَ فِيهِ إِلَى السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُبَاحَةِ وَالنَّافِعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ جَمِيلًا، وَلَا كَسَلَ مَعَهُ وَلَا فُتُورَ، وَلَا انْهِمَاكَ فِي تَحْصِيلِهِ انْهِمَاكًا يُخِلُّ بِحَالَةِ الْإِنْسَانِ.
وَأَنْ يَتَجَنَّبَ مِنَ الْمَكَاسِبِ الْمُحَرَّمَةِ وَالرَّدِيئَةِ، ثُمَّ إِذَا تَحَصَّلَ سَعَى الْإِنْسَانُ فِي حِفْظِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ، بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَالْأُمُورِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، هُوَ وَمَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَوْلَادٍ وَغَيْرِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَقْتِيرٍ وَلَا تَبْذِيرٍ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَخْرَجَهُ لِلْغَيْرِ فَيُخْرِجُهُ فِي الطُّرُقِ الَّتِي تَنْفَعُهُ، وَيَبْقَى لَهُ ثَوَابُهَا وَخَيْرُهَا، كَالصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ وَنَحْوِهِمْ، وَكَالْإِهْدَاءِ وَالدَّعَوَاتِ الَّتِي جَرَى الْعُرْفُ بِهَا.
وَكُلُّ ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ الْإِسْرَافِ، وَقَصْدِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، كَمَا قَيَّدَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ آتِيًا بِكُلِّ الْمَذْكُورِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللُّبْسِ وَالتَّصَدُّقِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [ الفرقان: 67].
فَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ فِي تَدْبِيرِ الْمَالِ: أَنْ يَكُونَ قَوَامًا بَيْنَ رُتْبَتَيِ الْبُخْلِ وَالتَّبْذِيرِ، وَبِذَلِكَ تَقُومُ الْأُمُورُ وَتَتِمُّ، وَمَا سِوَى هَذَا، فَإِثْمٌ وَضَرَرٌ، وَنَقْصٌ فِي الْعَقْلِ وَالْحَالِ.
فَلَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، وَأَنْ يَلْبَسَ وَيَتَصَدَّقَ مَا دَامَ قَدْ حَصَّلَهُ مِنَ الْحَلَالِ، وَمَا دَامَ فِي إِنْفَاقِهِ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَلِبَاسِهِ وَصَدَقَتِهِ؛ يَأْتِي مَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَتَبْذِيرٍ، وَمِنْ غَيْرِ عُجْبٍ وَلَا مَخِيلَةٍ كَمَا أَرْشَدَ إِلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكَمَا بَيَّنَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ مَا خُرُوجٍ عَنْ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِغُلُوٍّ، وَمِنْ دُونِ وُقُوعٍ دُونَ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِجَفَاءٍ، بَلْ يَكُونُ الْمَرْءُ عَلَى الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ الْأَغَرُّ.
*وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَبَوَّبَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بَابًا فَقَالَ: ((بَابٌ: السَّرَفُ فِي الْمَالِ))، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».
«السَّرَفُ فِي الْمَالِ»: هُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ؛ بِأَنْ يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ أَنْ يَزِيدَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى قَدْرِهِ.
قَالَ ﷺ: «يَكْرَهُ لَكُمْ.. -وَذَكَرَ-: إِضَاعَةُ الْمَالِ»: هُوَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ تَعْرِيضُهُ لِلتَّلَفِ، أَوْ تَعْطِيلُهُ وَتَرْكُ الْقِيَامِ عَلَيْهِ، أَوْ إِعْطَاءُ الدَّيْنِ دُونَ إِشْهَادٍ لِغَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهِ.
وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ إِفْسَادٌ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَهُ تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَلِأَنَّ فِي حِفْظِهِ مَالَهُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ، وَمَصْلَحَةَ دِينِهِ.
وَمَصْلَحَةُ دُنْيَاهُ صَلَاحٌ لِأَمْرِ دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَرَّغُ حِينَئِذٍ لِأَمْرِ الدِّينِ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: النَّهْيُ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي الْمَالِ قُوَّةُ الْفَرْدِ وَالْأُمَّةِ، وَفِي هَذَا الْمَالِ بِنَاءُ اقْتِصَادِ دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ.
*الْعَطَاءُ وَالثَّوَابُ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى النَّفَقَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (({وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، قَالَ: فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، ولَا تَقْتِيرٍ)). هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ}؛ أَيْ: يُعْطِيهِ خَلَفًا مِنَ الْمُنْفَقِ.
«الْإِسْرَافُ»: التَّبْذِيرُ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالْإِنْفَاقُ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ.
«التَّقْتِيرُ»: التَّضْيِيقُ فِي الرِّزْقِ، وَالْعَيْشِ، وَالنَّفَقَةِ.
قَوْلُهُ: «فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، ولا تَقْتِيرٍ»؛ أَيْ: مَا كَانَ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: «أَيْ: مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَأَبَاحَهُ لَكُمْ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْبَدَلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ وَالثَّوَابِ».
«فَهُوَ يُخْلِفُهُ»؛ أَيْ: يُعْطِيهِ خَلَفَهُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
لَيْسُوا بِمُبَذِّرِينَ فِي إِنْفَاقِهِمْ فَيُنْفِقُونَ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَيْسُوا بَبُخَلَاءَ عَلَى أَهْلِيهِمْ فَيُقَصِّرُونَ فِي حُقُوقِهِمْ، بَلْ يَكْفُونَهُمْ بِالْعَدْلِ فِي الْخَيْرِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، لَا هَذَا وَلَا هَذَا.
وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ نَفَقَةٍ عَظِيمَةٍ فَلَا يُعَدُّ إِسْرَافًا.
وَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: «مَا جَاوَزْتَ بِهِ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ سَرَفٌ».
وَالسَّرَفُ: النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تعَالَى، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى فَلَا يُعَدُّ سَرَفًا.
قَوْلُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]: خَيْرُ مَنْ يُعْطِي وَيَرْزُقُ، فَأَنْفِقُوا فِي الْوُجُوهِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا تَخْشَوْا مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ -عِبَادَ اللهِ-: الْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَالْمَنْعُ مِنَ التَّبْذِيرِ.
وَفِيهِ: بَيَانُ أَنَّ الْعَطَاءَ وَالثَّوَابَ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى النَّفَقَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْلَالِ مِنْهُ، فَلَا يَبْسُطُ يَدَهُ كُلَّ الْبَسْطِ، وَلَا يَجْعَلُ يَدَهُ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَغِي بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، وَهُوَ حَدُّ الْإِنْفَاقِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهُ، وَالَّذِي يُثِيبُ عَلَيْهِ.
*وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى حُرْمَةِ التَّبْذِيرِ وَذَمِّ الْمُبَذِّرِينَ، فَعَنْ أَبِي الْعُبَيْدَيْنِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ عَنِ الْمُبَذِّرِينَ، قَالَ: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي غَيْرِ حَقٍّ» . هَذَا الْأَثَرُ أَثَرٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)).
وَ«عَبْدُ اللَّهِ»: هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
«التَّبْذِيرُ»: هُوَ النَّفَقَةُ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى، وفِي غَيْرِ الْحَقِّ، وَفِي نَشْرِ الْفَسَادِ.
«الْمُبَذِّرُ»: الْمُسْرِفُ فِي النَّفَقَةِ.
وَ«تَبْذِيرُ الْمَالِ»: تَبْدِيدُهُ إِسْرَافًا، وَإِفْسَادًا.
وَقِيلَ: إِنَّ التَّبْذِيرَ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي الْمَعَاصِي.
وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ فِي إِنْفَاقِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ مَا يَقْتَاتُهُ.
وَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْجَوَادِ وَالْمُسْرِفِ:
فَالْجَوَادُ: حَكِيمٌ يَضَعُ الْعَطَاءَ مَوَاضِعَهُ.
وَالْمُسْرِفُ: كَثِيرًا مَا لَا يُصَادِفُ عَطَاؤُهُ مَوْضِعَهُ.
الْجَوَادُ: مَنْ يَتَوَخَّى بِمَالِهِ أَدَاءَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الْمُرُوءَةِ مِنْ قِرَى ضَيْفٍ، أَوْ مُكَافَأَةِ مُهْدٍ، أَوْ مَا يَقِي بِهِ عِرْضَهُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، طَيِّبَةً بِذَلِكَ نَفْسُهُ رَاضِيَةً مُؤَمِّلَةً لِلْخَلَفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَالْمُبَذِّرُ: يُنْفِقُ بِحُكْمِ هَوَاهُ عَلى مُقْتَضَى شَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، وَلَا يُرِيدُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ وَإِنْ وَصَلَ مَالُهُ إِلَى ذِي حَقٍّ، وَلَكِنَّهُ لَا يُرِيدُ وَلَا يَنْوِي أَدَاءَ الْحَقِّ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ.
الْإِسْرَافُ: صَرفُ الشَّيْءِ فِيمَا يَنْبَغِي زَائِدًا عَلَى مَا يَنْبَغِي.
وَالتَّبْذِيرُ: صَرفُ الشَّيْءِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي.
وَالْمُسْرِفُ فِي الْحَقِّ فِي الْمَوَاضِعِ الصَّحِيحَةِ مَهْمَا كَثُرَ إِنْفَاقُهُ؛ فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ.
وَالْمُنْفِقُ فِي غَيْرِ الْحَقِّ هَذَا هُوَ الْمُبَذِّرُ، وَهُوَ الْمُنْفِقُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِنْفَاقُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَكَذَلِكَ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: {الْمُبَذِّرِينَ} [الإسراء: 27]، قَالَ: ((الْمُبَذِّرِينَ فِي غَيْرِ حَقٍّ)) . أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ»، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَهَذَا الْأَثَرُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالْفَهْمُ لِلْقُرْآنِ وَاحِدٌ، وَمَنْهَجُ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ مَنْهَجُ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا يَأْخُذَانِ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، يَقْتَبِسَانِ مِنْهَا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وُجُوبُ الِاعْتِدَالِ فِي الْإِنْفَاقِ، بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْإِسْرَافِ الَّذِي هُوَ التَّبْذِيرُ، وَالتَّقْتِيرِ الَّذِي هُوَ التَّضْيِيقُ فِي الْإِنْفَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ أَثْنَى اللهُ عَلَيْهِمْ فِي آخِرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
وَمِثْلُهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وَهِيَ مِنْ وَصَايَا الرَّحْمَنِ فِي سُورَةِ «سُبْحَانَ».
وَفِي الْحَدِيثِ: التَّحْذِيرُ مِنَ التَّبْذِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَنَشْرِ الْفَسَادِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْفَقَ الْمَالُ إِلَّا فِي طَاعَةِ اللهِ، أَوْ فِي مُبَاحٍ بِاعْتِدَالٍ.
((التَّرْشِيدُ فِي السُّنَّةِ.. خَاصَّةً فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ))
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ مِنْ رِزْقِ رَبِّهِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ, وَلَا يُكْثِرُ مِنَ الْأَكْلِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ, وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ, وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ, وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الشِّبَعَ الْمُفْرَطَ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ, بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ, وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ, وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) .
الْمُسْلِمُ يَنْظُرُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِاعْتِبَارِهِمَا وَسِيلَةً إِلَى غَيْرِهِمَا, لَا غَايَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا, فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَلَامَةِ بَدَنِهِ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِكَرَامَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَسَعَادَتِهَا.
فَلَيْسَ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لِذَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَشَهْوَتِهِمَا؛ فَلِذَا هُوَ لَوْ لَمْ يَجُعْ لَمْ يَأْكُلْ, وَلَوْ لَمْ يَعْطَشْ لَمْ يَشْرَبْ.
((تَرْشِيدُ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ سُبُلِ حَلِّ الْأَزْمَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ))
فِي سُورَةِ يُوسُفَ لَمَّا أَوَّلَ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِلْمَلِكِ وَمَنْ مَعَهُ الرُّؤْيَا، قَالَ لَهُمْ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: دَبِّرُوا أَكْلَكُمْ فِي السِّنِينَ الْخِصْبَةِ، وَلْيَكُنْ قَلِيلًا لِيَكْثُرَ مَا تَدَّخِرُونَ وَيَعْظُمَ نَفْعُهُ وَوَقْعُهُ؛ لِيَنْفَعَكُمْ مَا ادَّخَرْتُمُوهُ فِي السَّنَوَاتِ الْمُجْدِبَاتِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِمَا حَدَثَ لِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ مَلِكِ مِصْرَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 43-49].
وَقَالَ مَلِكُ مِصْرَ إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَدَخَلْنَ فِي بُطُونِهِنَّ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ عَلَى الْهَزِيلَاتِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرَأَيْتُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدِ اسْتُحْصِدَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى عَلَوْنَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ قُدْرَتِهَا شَيْءٌ.
يَا أَيُّهَا السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ! يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ! أَخْبِرُونِي بِتَأْوِيلِ رُؤْيَايَ الْخَطِيرَةِ وَعَبِّرُوهَا لِي، وَاذْكُرُوا بُعْدَهَا الْوَاقِعِيَّ فِي هَذَا الْكَوْنِ، إِنْ كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ عِلْمَ الْعِبَارَةِ وَتَفْسِيرِ رُمُوزِ الْأَحْلَامِ.
قَالَ الْمَلَأُ مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمُعَبِّرِينَ مُجِيبِينَ الْمَلِكَ: رُؤْيَاكَ هَذِهِ أَخْلَاطٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَمَنَامَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَحْنُ بِتَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ بِعَالِمِينَ.
وَقَالَ السَّاقِي الَّذِي نَجَا مِنَ الْقَتْلِ بَعْدَ هَلَاكِ صَاحِبِهِ الْخَبَّازِ، وَتَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ((اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ))، قَالَ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا؛ إِذْ أَسْتَفْتِي فِيهَا السَّجِينَ الْعَبْرَانِيَّ الَّذِي كُنْتُ مُصَاحِبًا لَهُ فِي سِجْنِ رَئِيسِ الشُّرْطَةِ، فَأَرْسِلْنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَى السِّجْنِ، فَفِيهِ رَجُلٌ عَالِمٌ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلَهُ، فَأَتَى السِّجْنَ.
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ، أَيُّهَا الْعَظِيمُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِكَ وَتَأْوِيلِكَ وَسُلُوكِكَ وَتَصَرُّفَاتِكَ وَصُحْبَتِكَ، فَسِّرْ لَنَا رُؤْيَا مَا رَأَى، سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ بَقَرَاتٍ هَزِيلَاتٍ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، لَعَلِّي أَرْجِعُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى الْمَلِكِ وَجَمَاعَتِهِ، لِيَعْلَمُوا تَأْوِيلَ مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ، وَلْيَعْلَمُوا مَكَانَتَكَ وَفَضْلَكَ.
لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَضَى فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ لَوْ كَانَ سِوَاهُ لَقَالَ: لَا أُعَبِّرُ لَكُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْحَبْسِ، أَوْ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيَّ حَقِّي، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُمْ وَأَرَادَ نَفْعَهُمْ.
قَالَ يُوسُفُ -مُعَبِّرًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْوَضْعِ الزِّرَاعِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ وَالْمَالِيِّ خِلَالَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً الْقَادِمَةِ، بِمَا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ، ثُمَّ قَحْطٍ، ثُمَّ غَوْثٍ-: ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ عَلَى عَادَتِكُمُ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الزِّرَاعَةِ، فَمَا حَصَدْتُمْ مِنَ الْحِنْطَةِ فَاتْرُكُوهُ فِي سُنْبُلِهِ؛ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَيَقَعَ فِيهِ السُّوسُ، وَاحْفَظُوا أَكْثَرَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ الدَّأَبِ فِي الزِّرَاعَةِ -زِرَاعَةِ الْأَقْوَاتِ وَادِّخَارِهَا- طَوَالَ السِّنِينَ السَّبْعِ الْمُخْصِبَةِ، يَأْتِي سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَةٍ، تَكُونُ مُمْحِلَةً شَدِيدَةً عَلَى النَّاسِ، يَأْكُلُ النَّاسُ وَتَأْكُلُ مَوَاشِيهِمْ فِيهَا مَا زَرَعْتُمْ وَادَّخَرْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَوَاتِ الْخِصْبِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَحْفَظُونَهُ وَتَدَّخِرُونَهُ؛ احْتِيَاطًا لِلطَّوَارِئِ الْمُلْجِئَةِ الَّتِي قَدْ يُسْمَحُ فِيهَا بِالْأَخْذِ مِنَ الِاحْتِيَاطِيِّ بِمَقَادِيرِ الضَّرُورَةِ.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا، فَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فِيهَا سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ -كَمَا أَوَّلَ- يَكُونُ فِيهَا الْخِصْبُ، ثُمَّ سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ يَكُونُ فِيهَا الْجَدْبُ، وَلَيْسَ فِي الرُّؤْيَا أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ عَامٌ تَرْجِعُ فِيهِ تَصَارِيفُ الْكَوْنِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِيهِ تَنْزِلُ الْأَمْطَارُ النَّافِعَةُ الَّتِي يُنْبِتُ اللهُ بِهَا الزُّرُوعَ، وَفِيهَا يَعْصِرُونَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنْ نَحْوِ الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالْقَصَبِ، وَتَكْثُرُ النِّعَمُ عَلَى النَّاسِ.
لَمْ يَكْتَفِ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بَلْ بَادَرَ فَوَضَعَ لَهُمْ خُطَّةَ عَمَلٍ لِمُوَاجَهَةِ سَنَوَاتِ الْقَحْطِ وَالْجَفَافِ، وَهِيَ خُطَّةٌ اقْتِصَادِيَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْحَيَاةَ الزِّرَاعِيَّةَ وَالتَّمْوِينِيَّةَ لِلْأُمَّةِ خِلَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً تَأْتِي عَلَى اسْتِقْلَالٍ.
((التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا.. وَالْمَاءُ مِثَالٌ))
نِعْمَةُ الْمَاءِ وَبَعْضُ ثَمَرَاتِهَا:
إِنَّ نِعْمَةَ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهَا عَلَيْنَا؛ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ.
*مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْمَاءِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَهُ شَرَابًا لِلْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ: قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ} [النحل: 10].
اللهُ الَّذِي خَلَقَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً حُلْوًا طَهُورًا نَافِعًا، لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ شَرَابٌ تَشْرَبُونَهُ.
*وَمِنْ ثَمَرَاتِ نِعْمَةِ الْمَاءِ: أَنَّهُ سَبَبٌ فِي خُرُوجِ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ لِلْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ: فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32].
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقَ نِظَامِ الطَّفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ.
وَذَلَّلَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا، وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.
*وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْمَاءِ فِي الْحَيَاةِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَ بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ: قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].
وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَطَرًا، فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ وَالزُّرُوعِ بَعْدَ يَبَسِهَا وَجَدْبِهَا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَدَلَالَةً وَاضِحَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
((وُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمِيَاهِ
وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِخْدَامِهَا))
عِبَادَ اللهِ! نِعْمَةُ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهَا عَلَيْنَا؛ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ.
لَقَدْ نَهَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنِ الْإِسْرَافِ, وَحَذَّرَ مِنْهُ, وَوَصَفَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهِ أَعْدَى أَعْدَائِهِ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الْبَشَرِ فَقَالَ {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: ٣١]، وَهُوَ فِرْعَوْنُ اللَّعِينُ, وَصَفَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْإِسْرَافِ, وَحَذَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ, وَنَهَى عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ.
*لِنَعْلَمْ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ اسْتِخْدَامِ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ-: يُكْرَهُ الْإِسْرَافُ وَلَوْ كَانَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ.
مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ: الِاقْتِصَادُ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ: الِاعْتِدَالُ فِي الْوُضُوءِ مَعَ الْإِسْبَاغِ، وَمِنَ الْأَفْضَلِ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا بِدُونِ إِسْرَافٍ وَاعْتِدَاءٍ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
إِنَّ نِعْمَةَ الْمَاءِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى هَذَا الْبَلَدِ بِمَا أَجْرَى فِيهَا مِنَ النَّهْرِ الْمُبَارَكِ, نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ.
فَيَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ, وَأَلَّا يُسْرِفُوا فِيهَا مُبَدِّدِينَ إِيَّاهَا, وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَرْضَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, وَلَا يُحِبُّهُ.
فَالْإِسْرَافُ مِنْ خُلُقِ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
*إِسْرَافٌ كَمِّيٌّ: يَكُونُ بِأَنْ تَبْذُلَ فَوْقَ مَا تَحْتَمِلُهُ طَاقَتُكَ.
*وَأَمَّا الْإِسْرَافُ الْكَيْفِيُّ: فَأَنْ تَتَجَاوَزَ بِذَلِكَ الْإِنْفَاقِ الْحَدَّ, وَلَوْ كَانَ فِي دِرْهَمٍ وَاحِدٍ, فَإِنَّ وَضْعَ الْقَلِيلِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ؛ إِسْرَافٌ وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا وَاحِدًا, فَلَيْسَ بِكَثْرَتِهِ عَدًّا, وَإِنَّمَا بِوَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَيْفًا.
فَالْإِسْرَافُ مِنْ حَيْثُ الْكَيْفُ مَا أُنْفِقَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا.
فَإِنَّ الْمَرْءَ وَلَوْ مَلَكَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً, وَأَضْعَافًا مُضَاعَفَةً, وَوَضَعَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللهِ, كَانَ مُسْرِفًا مُتَوَعَّدًا بِمَا يُتَوَعَّدُ بِهِ مَنْ أَسْرَفَ, وَتَجَاوَزَ, وَتَعَدَّى, وَظَلَمَ، كَأَنْ يَضَعَ دِرْهَمًا فِي يَدِ فَاجِرَةٍ, أَوْ يَشْتَرِيَ بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ -وَقَدْ مَلَكَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً- خَمْرًا, فَهُوَ مُسْرِفٌ, وَإِنْ كَانَ مَا أَنْفَقَهُ قَلِيلًا.
وَأَمَّا وَضْعُ الْكَثِيرِ وَلَوِ اشْتَمَلَ عَلَى الْمَالِ كُلِّهِ فِي طَاعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, فَلَا يُعَدُّ إِسْرَافًا, كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, فَقَدْ أَتَى بِمَالِهِ كُلِّهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ صَدَقَةً يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ طَاعَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَانْسَلَخَ مِنْ مَالِهِ جَمِيعِهِ, وَلَمْ يُعَدَّ مُسْرِفًا.
فَمَهْمَا وَضَعْتَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَالٍ مِمَّا يَرْضَى اللهُ عَنْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِسْرَافٍ.
وَمَهْمَا وَضَعْتَ مِنْ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي آتَانَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا, فَهَذَا إِسْرَافٌ يُبَدِّدُ رُوحَ أُمَّةٍ, وَيُصَحِّرُ أَرْضَ قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُبَارِكَ فِيهِ, وَأَنْ يَحْفَظَهُ وَسَائِرَ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا
وَالْإِنْفَاقُ فِي رَمَضَانَ مِثَالٌ!!))
*رَمَضَانُ شَهْرُ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالطَّاعَاتِ:
فَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالْفَرَحِ بِالدِّينِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ مِنْ أُمَّتِهِ! قُلْ لِلنَّاسِ -مُبَيِّنًا وَمُقْنِعًا-: اسْتَمْسِكُوا بِإِفْضَالِ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَرَحْمَتِهِ الْعَظِيمَةِ بِكُمْ، وَمَا آتَاكُمْ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَشِفَاءِ الصُّدُورِ، فَبِذَلِكَ الَّذِي جَاءَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَالْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ؛ فَلْيَفْرَحُوا.
وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا أَعَدَّ اللهُ لَكُمْ فِيمَا لَوِ اسْتَمْسَكْتُمْ بِهِ، وَاتَّبَعْتُمْ وَصَايَاهُ؛ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ كُلِّ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا الْفَانِيَةِ.
وَمِنْ ذَلِك مَا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاسِمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تُغْفَرُ فِيهَا الذُّنُوبُ، وَتُحَطُّ فِيهَا السَّيِّئَاتُ، وَتُضَاعَفُ فِيهَا الْحَسَنَاتُ مَا أَكْرَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ أُمَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، الَّذِي أَكْرَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ زَمَانَهُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ فَرَضَ فِيهِ الصِّيَامَ، وَسَنَّ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ فِيهِ الْقِيَامَ.
وَيُضَاعِفُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْعَطِيَّاتِ، وَيَبْذُلُ فِيهِ لِلْمُحْسِنِينَ الدَّرَجَاتِ، وَيُقَرِّبُهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ رِضْوَانِهِ تَقْرِيبًا.
((تَهْيِئَةُ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ لِاسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ لِلدُّخُولِ عَلَى رَمَضَانَ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَصُومُ فِي شَهْرٍ قَطُّ خَلَا رَمَضَانَ مَا كَانَ يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، وَإِنْ كَانَ لَيَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا».
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُهَيِّأَ نَفْسَهُ، وَأَنْ يُعِدَّ الْعُدَّةَ لِلدُّخُولِ عَلَى هَذَا الْمَوْسِمِ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ؛ فَإِنَّ الدُّخُولَ فِيهِ لَيْسَ كَالْخُرُوجِ مِنْهُ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي دَعَا فِيهِ جِبْرِيلُ، وَأَمَّنَ الْأَمِينُ مُحَمَّدٌ ﷺ عَلَى دُعَائِهِ.
يَقُولُ: «وَأَبْعَدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَبْدًا انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ: آمِينْ)).
فَقَالَ الْأَمِينُ: ((آمِين ﷺ ».
وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «وَرَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ: آمِين)).
فَقَالَ: ((آمِينْ ﷺ ».
((الِاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ لَا يَكُونُ بِالْإِسْرَافِ!!))
عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ آخِذًا الْحَلَالَ، مُعِدًّا ذَلِكَ لِذَلِكَ الشَّهْرِ، لَا عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَنْحَاءِ الِادِّخَارِ وَالتَّكْدِيسِ؛ فَإِنَّ امْرَأَةً جَارِيَةً بِيعَتْ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ صَالِحِينَ.
فَلَمَّا تَحَصَّلَتْ فِي بَيْتِ أَقْوَامٍ طَالِحِينَ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ رَمَضَانُ؛ وَجَدَتْهُمْ يُعِدُّونَ أَنْوَاعَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ؛ اسْتِعْدَادًا لِدُخُولِ هَذَا الْمَوْسِمِ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَةِ، وَهُوَ عَظِيمٌ، فَقَالَتْ: إِنَّكُمْ لَقَوْمُ سُوءٍ، رُدُّونِي، رُدُّونِي وَأَجِيرُونِي مِنْ هَذَا السَّعِيرِ.
((ثَمَرَاتُ التَّرْشِيدِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي رَمَضَانَ))
إِنَّ التَّقْلِيلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي هَذَا الشَّهْرِ -وَفِي جَمِيعِ الْعَامِ- مِمَّا تَصِحُّ بِهِ الْأَبْدَانُ، وَتَصْفُو بِهِ الْأَذْهَانُ، وَتَسْتَقِيمُ بِهِ عَلَى الصِّرَاطِ الْأَقْدَامُ؛ لِأَنَّ الْمَعِدَةَ تَحْتَ الْقَلْبِ، وَقَدْ شَبَّهَهَا الْعُلَمَاءُ بِمَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْمِرْجِلِ تَحْتَ الْقِدْرِ.
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمِرْجِلُ مُتَصَاعِدًا دُخَانُهُ؛ فَإِنَّ الْقِدْرَ يَسْوَدُّ، وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْأَطْعِمَةِ يُحْشَى بِهَا الْجَوْفُ، فَإِنَّ الْأَبْخِرَةَ الَّتِي تَكُونُ كَالدُّخَانِ يُسَوِّدُ الْقَلْبَ وَيُقَسِّيهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ فِي الصِّيَامِ سِرًّا، وَهُوَ التَّقْلِيلُ مِنَ الشَّهْوَةِ، مَعَ ضَبْطِ هَذِهِ الشَّهْوَةِ.
وَلَنْ تَجِدَ عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ مَنْ كَانَ يُمْدَحُ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ، إِنَّمَا يُمْدَحُ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ الْأَنْعَامُ، وَإِنَّمَا الصَّالِحُونَ يُمْدَحُونَ بِقِلَّةِ الْمَطْعَمِ.
كَانَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَرَّةً، وَيَقُولُ: ((وَاللهِ إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِي الْخَلَاءَ!!))
كَانَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- رُبَّمَا سَرَدَ الصِّيَامَ، وَقَدْ مَاتَ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَمَاتَ إِمَامًا -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، عُرِضَتْ عَلَيْهِ قِثَّاءَةٌ -وَهِيَ الْخِيَارَةُ الْمَعْرُوفَةُ-، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهَا.
فَقِيلَ: حَرَامٌ هِيَ؟!!
قَالَ: ((لَا، وَلَكِنَّهَا تُرَطِّبُ جَسَدِي)).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَكْلِ دَاعِيَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الشُّرْبِ، وَكَثْرَةُ الشُّرْبِ جَالِبَةٌ لِكَثْرَةِ النَّوْمِ، وَكَثْرَةُ النَّوْمِ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى قَسَاوَةِ الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ الْقَاسِي النَّارُ أَوْلَى بِهِ.
((لَا يُفِيدُ الصِّيَامُ شَيْئًا مَعَ كَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْخَلْقِ مُرَادًا فَحَقِّقُوهُ..
إِنَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَصْدًا فَالْتَمِسُوهُ..
يَقُولُ رَبُّكُمْ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
هَذَا قَصْدُهُ وَهَذَا مُرَادُهُ، فَأَيْنَ أَيْنَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الْمُرَادِ؟!!
وَأَيْنَ أَيْنَ الْأَمُّ -أَيِ الْقَصْدُ- إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصِدِ الْعَظِيمِ؟!!
وَأَدُلُّكُمْ بِدَلَالَةِ نَبِيِّكُمْ ﷺ؛ إِنَّ هَذَا الصِّيَامَ لَا يَصْلُحُ عَلَى كَثْرَةِ الْأَكْلِ، الصِّيَامُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا عَلَى التَّقَلُّلِ الشَّافِي لِلرُّوحِ مِنْ أَسْرِ الْجَسَدِ؛ بِتَقْلِيلِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنَامِ، وَإِلَّا فَلَا قِيمَةَ لِهَذَا الصِّيَامِ، وَلَسْتُ أَذْهَبُ بِكَ شَطَطًا فِي أَوْدِيَةِ الْأَوْهَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَوْحَاهُ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ، فَصَاغَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ سُنَّةً صَحِيحَةً مَتْلُوَّةً تَحْفَظُ -بِحِفْظِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- دَلَائِلَ الْقَصْدِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
هَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ يُوَاصِلُ -يَعْنِي يَصُومُ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَغْرِبُ لَمْ يَطْعَمْ وَلَمْ يَشْرَبْ، فَإِذَا جَاءَهُ السُّحُورُ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا وَلَمْ يَشْرَبْهُ، يُوَاصِلُ ﷺ -وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ- فَلَمَّا أَرَادُوا الْوِصَالَ رَدَّهُمْ، وَقَالَ: ((إِنَّكُمْ لَسْتُمْ كَهَيْئَتِي، أَنَا أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي ﷺ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ)) .
انْظُرْ إِلَى الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ حَبَائِلَ الشَّهْوَةِ تُمْسِكُ بِالْأَقْدَامِ وَتَغُلُّ الْأَعْنَاقَ!! وَهُمْ يُرِيدُونَ فَكَاكًا؛ لِيَنْعَتِقُوا فِي الْمَسِيرِ إِلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ؛ لِكَيْ يَخْرُجُوا مِنْ أَسْرِ الْأَرْضِ إِلَى هَذَا النُّورِ الْمُضِيءِ فِي جَنَبَاتِ الْكَوْنِ؛ لِيَعْلُوا فَوْقَ حَمْأَةِ الطِّينِ الْآسِنَةِ الْمُنْتِنَةِ، لِيَعْلُوا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ الْأُفْقِ فِي طَاعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ رَحَمَاتُهُ فِي كُلِّ حِينٍ.
كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَفِيهِ يُجَاهِدُونَ؛ مِنْ أَجْلِ تَحْرِيرِ النَّفْسِ مِنْ أَسْرِهَا، وَمِنْ أَجْلِ الْأَخْذِ بِيَدِ الْقَلْبِ لِلْخُرُوجِ بِهِ مِنْ أَقْيَادِهِ وَقُيُودِهِ وَسَلَاسِلِهِ وَأَغْلَالِهِ؛ لِيَسْجُدَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ سَجْدَةً لَا يَرْفَعُ مِنْهَا إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ الصَّالِحُونَ قَبْلُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.
إِذَنْ؛ لَا يَصْلُحُ هَذَا الصِّيَامُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَلَا عَظِيمِ الشُّرْبِ، وَلَا طَوِيلِ الرُّقَادِ وَعَذْبِ الْمَنَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَلْوَةٌ مِنْ بَعْدِ خَلْوَةٍ.
تَخَلٍّ مِنْ بَدْءِ الشَّهْرِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِي نَهَارٍ مَحْدُودٍ بِقَدَرِهِ، حَتَّى إِذَا مَا دَلَفَ الشَّهْرُ إِلَى نِهَايَتِهِ، وَانْتَهَى إِلَى غَايَتِهِ بِعَشْرِهِ الْأَخِيرِ بِمَا فِيهِ مِنْ عَطَاءِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ؛ أَتَى هَذَا الْبُعْدُ الْكَامِلُ عَنْ خُلْطَةِ النَّاسِ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَخُلْطَةُ النَّاسِ وَمُخَالَطَتُهُمْ دَاءٌ عُضَالٌ، مَنْ جَرَّبَ مَسَّهُ فَلَنْ يَبْرَأَ إِلَّا بِالْمَمَاتِ، وَهَيْهَات!!
فَأَثَرُ تِلْكَ الْمُخَالَطَةِ يَسْتَمِرُّ مِنْ بَعْدِ الْمَمَاتِ!!
خُرُوجٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ وَمَا حَوَاهُ؛ مِنْ أَجْلِ الْخَلْوَةِ مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى كِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَعَظَّمَ الشَّهْرَ وَكَرَّمَهُ لِأَجْلِهِ، بِالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّهْوَةِ بُعْدًا حِسِّيًّا ظَاهِرِيًّا، وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّهْوَةِ بُعْدًا بَاطِنِيًّا دَاخِلِيًّا؛ مِنْ أَجْلِ إِقَامَةِ الْقَلْبِ عَلَى مَنْهَجِ الرَّبِّ؛ لِيَتَحَصَّلَ عَلَى الزَّادِ، حَتَّى إِذَا مَا مَرَّ الْعَامُ مَرَّ عَلَى سَلَامٍ وَسَنَا.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَهَى عَنِ الْإِسْرَافِ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ، فَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ؛ وَهُوَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِ وُجُوهِهِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ تَعْرِيضُهُ لِلتَّلَفِ، أَوْ تَعْطِيلُهُ وَتَرْكُ الْقِيَامِ عَلَيْهِ.
وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ إِفْسَادٌ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا أَضَاعَهُ تَعَرَّضَ لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَلِأَنَّ فِي حِفْظِهِ مَالَهُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ، وَمَصْلَحَةَ دِينِهِ.
وَمَصْلَحَةُ دُنْيَاهُ صَلَاحٌ لِأَمْرِ دِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَرَّغُ حِينَئِذٍ لِأَمْرِ الدِّينِ.
الْإِسْلَامُ يُحَرِّمُ التَّبْذِيرَ، وَالتَّبْذِيرُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ.
عِبَادَ اللهِ! مَهْمَا أَنْفَقْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ نَفَقَةٍ عَظِيمَةٍ فَلَا يُعَدُّ إِسْرَافًا.
وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَطَاءَ وَالثَّوَابَ يَتَرَتَّبَانِ عَلَى النَّفَقَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْلَالِ مِنْهُ، فَلَا يَبْسُطُ يَدَهُ كُلَّ الْبَسْطِ، وَلَا يَجْعَلُ يَدَهُ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِهِ، وَإِنَّمَا يَبْتَغِي بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، وَهُوَ حَدُّ الْإِنْفَاقِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهُ، وَالَّذِي يُثِيبُ عَلَيْهِ.
أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا فِيمَنْ هَدَى.
اللهم اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا مَوْضُوعَا الْمِيَاهِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي رَمَضَانَ أُنْمُوذَجًا