((الْأَمَلُ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْأَمَلُ وَأَسْرَارُهُ اللَّطِيفَةُ))
فَفِي الْأَمَلِ سِرٌّ لَطِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا الْأَمْلُ مَا تَهَنَّى لِأَحَدٍ عَيْشٌ، لَوْلَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْمُلُ، وَلَوْلَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَهُ أَمَلٌ فِي أَنْ يَحْدُثَ شَيْءٌ مَا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْوَالُ، وَتَسْعَدُ بِهِ الْحَيَاةُ.
لَوْلَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَمُنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ مِنَ الصَّعْبِ إِلَى السَّهْلِ، وَمِنَ التَّعْسِيرِ إِلَى التَّيْسِيرِ.
لَوْلَا هَذَا الْأَمَلُ مَا تَهَنَّى أَحَدٌ بِعَيْشٍ، وَلَا طَابَتْ نَفْسُ إِنْسَانٍ أَنْ يَشْرَعَ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَغْرِسُ غَرْسًا؛ فَهَذَا الْغَرْسُ لَا يُؤْتِي ثَمَرَتَهُ وَلَا أُكُلَهُ إِلَّا بَعْدَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ.
لَوْلَا الْأَمَلُ مَا غَرَسَ إِنْسَانٌ غَرْسًا، وَلَا بَنَى أَحَدٌ بَيْتًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ طَوِيلًا، وَيَبْنِي بَيْتًا؛ فَإِنَّهُ بِرَجَاءِ أَنْ يُعَمِّرَ هَذَا الْبَيْتَ، وَأَنْ يَعِيشَ فِيهِ سَنَوَاتٍ طِوَالًا.
لَوْلَا أَنَّهُ قَدِ ارْتَكَزَ فِي نَفْسِهِ الْأَمَلُ؛ مَا بَنَى أَحَدٌ بَيْتًا، وَمَا غَرَسَ أَحَدٌ غَرْسًا، وَمَا عَمِلَ أَحَدٌ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
فَالْأَمَلُ فِيهِ سِرٌّ لَطِيفٌ، وَمِنْ أَجْلِهِ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ الْحَيَاةَ مَبْنِيَةً عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي يَحْيَا عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِلَّا لَتَوَقَّفَتْ مَعَايَشُ النَّاسِ، وَمَا عَمِلَ أَحَدٌ فِي الْحَيَاةِ عَمَلًا.
((مَعَانِي الْأَمَلِ))
الْأَمَلُ مَأْخُوذٌ فِي أَصْلِهِ -فِي مَادَّتِهِ- مِنَ التَّثَبُّتِ وَالِانْتِظَارِ، فَكَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْتَظِرُ شَيْئًا آتِيًا، وَقَدْ لَا يَأْتِي أَبَدًا.
وَالْأَمَلُ -أَيْضًا- عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ الرَّجَاءُ، وَهَذَا فِيهِ بَعْضُ انْتِظَارٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْتَجِي مَا سَيَأْتِي بَعْدَ حِينٍ.
فَالْأَمَلُ: الرَّجَاءُ.
وَالْأَمَلُ فِي مَادَّتِهِ -فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ- يَدُلُّ عَلَى التَّثَبُّتِ وَالِانْتِظَارِ؛ وَلِذَلِكَ تَقُولُ: تَأَمَّلْتُ الشَّيْءَ؛ يَعْنِي: نَظَرْتُ إِلَيْهِ مُسْتَبِينًا لَهُ، طَالِبًا الْإِبَانَةَ عَنْ حَالِهِ.
يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر: 3].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا : (({وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} أَيْ: يَشْغُلُهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ))؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ هُوَ الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا، وَالِانْكِبَابُ عَلَيْهَا، وَالْحُبُّ لَهَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْآخِرَةِ.
هَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ لَا يُذَمُّ وَلَا يُكْرَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلْإِنْسَانِ أَمَلًا؛ مَا اسْتَقَامَتْ لِلنَّاسِ مَعِيشَةٌ، وَمَا اسْتَطَاعَ النَّاسُ الْحَيَاةَ.
غَيْرَ أَنَّ الْأَمَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَحْمُودٌ:
فَالْأَمَلُ الْمَذْمُومُ: أَنْ يَحْرِصَ الْإِنْسَانُ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَنْ يَنْكَبَّ عَلَيْهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لَهَا، مُعْرِضًا عَنِ الْآخِرَةِ، غَيْرَ عَامِلٍ لِلْآخِرَةِ، وَغَيْرَ مُلْتَفِتٍ لِلْبَاقِيَةِ.
وَالْأَمَلُ: هُوَ تَوَقُّعُ حُصُولِ الشَّيْءِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسْتَبْعَدُ حُصُولُهُ.
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُتَوَقِّعًا لِحُصُولِ شَيْءٍ؛ فَهُوَ مُؤَمِّلُ فِيهِ، فَعِنْدَهُ أَمَلٌ فِي هَذَا الشَّيْءِ الَّذِي يَتَوَقَّعُ حُصُولُهُ.
وَقَدْ يَكُونُ حُصُولُهُ بَعِيدَ الْمَنَالِ جِدًّا؛ لِأَنَّ الْأَمَلَ يَسْتَخْدِمُهُ النَّاسُ دَائِمًا وَأَبَدًا عَلَى حَسَبِ الْعُرْفِ الْغَالِبِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُسْتَبْعَدُ حُصُولُهُ؛ يَعْنِي: يَكُونُ الشَّيْءُ مُسْتَبْعَدَ الْحُصُولِ جِدًّا، وَالْإِنْسَانُ كَأَنَّهُ فِيهِ عَلَى حَافَّةِ الْيَأْسِ مِنْ حُصُولِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَعِنْدَهُ أَمَلٌ فِيهِ.
فَهُوَ يَحْيًا عَلَى أَمَلِ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ شَيْءٌ فِي الْحَيَاةِ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الشَّيْءُ مُسْتَبْعَدَ الْحُصُولِ لَهُ فِي الدُّنْيَا.
وَطُولُ الْأَمَلِ: هُوَ الِاسْتِمْرَارُ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، أَنْ يَسْتَمِرَّ الْإِنْسَانُ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَنْ يُدَاوِمَ الِانْكِبَابَ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا مَعَ كَثْرَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ.
فَهَذَا هُوَ طُولُ الْأَمَلِ.
فَطُولُ الْأَمَلِ: الِاسْتِمْرَارُ فِي الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا؛ حَتَّى وَلَوْ عَلَتِ السِّنُّ.
كُلَّمَا تَقَدَّمَ الْإِنْسَانُ فِي الْعُمُرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ، مُبْتَعِدًا عَنِ الدُّنْيَا.
*الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالطَّمَعِ وَالرَّجَاءِ:
وَهُنَالِكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْأَمَلِ، وَالطَّمَعِ، وَالرَّجَاءِ:
مَنْ عَزَمَ عَلَى سَفَرٍ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ؛ يَقُولُ: أَمِلْتُ الْوُصُولَ، وَلَا يَقُولُ: طَمِعْتُ، يَعْنِي: الْإِنْسَانُ يُؤَمِّلُ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْبَلَدِ الْبَعِيدِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَطْمَعُ، لَا يَقُولُ: طَمِعْتُ فِي الْوُصُولِ إِلَى هَذَا الْبَلَدِ الْبَعِيدِ.
الطَّمَعُ يَكُونُ فِي الْقَرِيبِ، وَالْأَمَلُ فِي الْبَعِيدِ، وَالرَّجَاءُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُقْبِلًا عَلَى شَيْءٍ، وَيَتَوَقَّعُ حُصُولَهُ قَرِيبًا؛ فَهُوَ طَامِعٌ فِي حُصُولِهِ.
إِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَعِيدًا مُسْتَبْعَدَ الْحُصُولِ؛ فَعِنْدَهُ أَمَلٌ فِي حُصُولِهِ.
إِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ؛ فَعِنْدَهُ رَجَاءٌ فِي حُصُولِهِ.
((الْأَمَلُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
أَخْبَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَمَلِ وَرَجَاءِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَرْزُقَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ، فَكَانَتِ الْبُشْرَى مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} [الصافات: 100-101].
قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: رَبِّ هَبْ لِي وَلَدًا مِنْ ذُرِّيَّتِي يَكُونُ صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ، يَبْلُغُ أَوَانَ الْحُلُمِ، فَأَجَبْنَا دَعْوَتَهُ، وَبَشَّرْنَاهُ بِابْنٍ يَتَحَلَّى بِالْعَقْلِ وَالْأَنَاةِ، وَضَبْطِ النَّفْسِ، وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ، فَوَلَدَتْ هَاجَرُ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
*وَيَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أُسْوَةٌ وَقُدْوَةٌ فِي أَمَلِهِ وَرَجَائِهِ فِي رَبِّهِ، رَغْمَ مِحْنَتِهِ الشَّدِيدَةِ بِفَقْدِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} [يوسف: 83-87].
قَالَ نَبِيُّ اللهِ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: فَصَبْرِي عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ صَبْرٌ جَمِيلٌ، لَا شَكْوَى مَعَهُ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا أَعْمَلُ عَمَلًا لَا يَرْضَى عَنْهُ رَبِّي، عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِيُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ وَالْأَخِ الثَّالِثِ الَّذِي أَقَامَ بِمِصْرَ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِحُزْنِي وَوَجْدِي عَلَيْهِمْ، الْحَكِيمُ بِمَا يُدَبِّرُهُ وَيَقْضِيهِ.
وَابْتَعَدَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ بَنِيهِ، وَاشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَتَجَدَّدَ حُزْنُهُ عَلَى يُوسُفَ، وَقَالَ: يَا حُزْنِيَ الشَّدِيدَ عَلَى يُوسُفَ دُمْ، وَصَارَ يَبْكِي بُكَاءً كَثِيرًا، وَانْقَلَبَ سَوَادُ عَيْنَيْهِ بَيَاضًا، وَضَعُفَ بَصَرُهُ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، وَكَثْرَةِ الْبُكَاءِ عَلَى يُوسُفَ، فَهُوَ مُمْتَلِئُ مِنَ الْحُزْنِ، مُمْسِكٌ عَلَيْهِ دَاخِلَ نَفْسِهِ لَا يَبُثُّهُ.
وَلَا يَتَنَافَى هَذَا الْحُزْنُ مَعَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ نَفْسِيٌّ غَيْرُ إِرَادِيٌّ، لَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ دَفْعَهُ وَلَا رَفْعَهُ، لَكِنْ يَمْلِكُ أَلَّا يَعْمَلَ أَوْ يَقُولَ مَا لَا يُرْضِي اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-.
فَهُوَ مُطَالَبٌ بِمَا يَمْلِكُ، وَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ خَاضِعٍ لِإِرَادَتِهِ.
قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: تَاللهِ لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ تَفَجُّعًا، وَلَا تَفْتُرُ عَنْ حُبِّهِ، وَيَشْتَدُّ حُزْنُكَ عَلَيْهِ، حَتَّى تَكُونَ شَدِيدَ الْمَرَضِ، مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ، فَلَا تَنْتَفِعُ بِنَفْسِكَ، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْأَمْوَاتِ؛ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْأَسَى.
قَالَ يَعْقُوبُ مُجِيبًا لِأَبْنَائِهِ: مَا أَشْكُو مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نَفْسِي مِنَ الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ، وَالْغَمِّ وَالْحَزَنِ إِلَّا إِلَى اللهِ تَعَالَى، لَا إِلَيْكُمْ، فَهُوَ وَحْدَهُ كَاشِفُ الضُّرِّ وَالْبَلَاءِ.
وَإِنْ كُنْتُمْ تَلُومُونَنِي عَلَى شَكْوَايَ لِرَبِّي عَلَى حَالِي الَّتِي لَا أَمْلِكُ التَّغْيِيرَ فِيهَا، وَعَلَى حُزْنِي الَّذِي لَا أَمْلِكُ صَرْفَهُ؛ فَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَرَجِهِ مَا لَا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ، وَسَيَأْتِينِي بِالْفَرَجِ الْقَرِيبِ مِنْ حَيْثُ لَا أَحْتَسِبُ.
فَقَالَ يَعْقُوبُ: يَا أَبْنَائِي! اذْهَبُوا فَتَتَبَّعُوا بِكُلِّ حَوَاسِّكُمْ، مُلْتَقِطِينَ مِنْ أَخْبَارِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ مَا يَكْشِفُ لَكُمْ أُمُورًا يَقْضِي اللهُ بِهَا الْفَرَجَ الَّذِي أَطْمَعُ فِيهِ.
وَلَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ قَرِيبٌ، إِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الرَّجَاءَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَإِذَا لَجَئُوا إِلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ؛ رَحِمَهُمْ، وَأَغَاثَهُمْ، وَأَسْعَفَهُمْ بِالْفَرَجِ مِنْ لَدُنْهُ، وَكَشَفَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، وَسَهَّلَ الشَّدَائِدَ عَلَيْهِمْ.
*وَهَذَا دُعَاءُ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِرَبِّهِ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ، وَأَمَلُهُ وَقُوَّةُ رَجَائِهِ فِي اللهِ، وَاسْتِجَابَةُ اللهِ لَهُ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83- 84].
وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِبَيَانِنَا- مَا دَعَا بِهِ أَيُّوبُ رَبَّهُ؛ لِيَرْفَعَ عَنْهُ الضُّرَّ الَّذِي مَسَّهُ، وَطَالَ أَمَدُهُ فِيهِ، حَتَّى قَالَ فِي دُعَائِهِ لِرَبِّهِ؛ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَنَفْسِهِ: أَنِّيَ مَسَّنِيَ الضُّرُّ، فَاكْشِفْهُ عَنِّي، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
فَأَجَبْنَا دُعَاءَهُ، فَأَزَلْنَا مَا بِهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي جَسَدِهِ، وَرَفَعْنَا عَنْهُ الْبَلَاءَ، وَرَدَدْنَا عَلَيْهِ مَا فَقَدَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.
فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ؛ رَحْمَةً عَظِيمَةً مِنْ عِنْدِنَا، وَلِيَكُونَ قُدْوَةً لِكُلِّ صَابِرٍ عَلَى الْبَلَاءِ، رَاجٍ رَحْمَةَ رَبِّهِ، مُنْقَادٍ لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالتَّذَلُّلِ.
*وَهَذِهِ بُشْرَى الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّ اللهَ سَيَرْزُقُهُ وَلَدًا عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ*إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ*قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 51-56].
وَأَخْبِرْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ الْخَبَرَ الْهَامَّ وَقْتَ دُخُولِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَقَالُوا لَهُ: نُسَلِّمُ سَلَامًا.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّا مِنْكُمْ خَائِفُونَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا الْعِجْلَ السَّمِينَ الَّذِي قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ؛ إِذْ كَانَ مَظْهَرُهُمْ لَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَلَا يَنِمُّ عَلَيْهِ.
قَالَ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -وَهُوَ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُمْ ضَيْفٌ مِنَ الْبَشَرِ-: لَا تَخَفْ مِنَّا، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، غُلَامٍ فِي صِغَرِهِ، عَلِيمٍ فِي كِبَرِهِ، سَيَأْتِيكَ مِنْ زَوْجِكَ سَارَّةَ، وَهُوَ إِسْحَاقُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَنَحْنُ مَلَائِكَةٌ رُسُلٌ مُرْسَلُونَ مِنْ رَبِّكَ؛ لِنُقَدِّمَ لَكَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ.
فَلَمَّا بَشَّرُوهُ بِالْوَلَدِ، عَجِبَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ، قَالَ: أَبَشَّرْتُمُونِي بِالْوَلَدِ مَعَ مَسِّ الْكِبَرِ بِي وَالشَّيْخُوخَةِ الْمُضْعِفَةِ عَادَةً عَنِ الْإِنْجَابِ، فَبِأَيِّ سَبَبٍ لَدَيَّ أَمْلِكُهُ يَكُونُ مِنْ آثَارِهِ أَنْ أُنْجِبَ وَلَدًا، فَأَنْتُمْ تُبَشِّرُونَنِي بِهِ؟!!
قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لِإِبْرَاهِيمَ: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي قَضَاهُ اللهُ، بِأَنْ يُخْرِجَ مِنْكَ وَلَدًا ذَكَرًا تَكْثُرُ ذُرِّيَّتُهُ، وَهُوَ إِسْحَاقُ، فَلَا تَكُنْ مِنَ الْآيِسِينَ مِنَ الْخَيْرِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا أَحَدَ يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ بِقُدْرَةِ اللهِ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَخَلْقِ مَا يَشَاءُ.
*اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَخْبَرَ أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَثِيرًا، فَلْيَكُنِ الْمُسْلِمُ عَلَى أَمَلٍ دَائِمٍ بِتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 1-6].
قَدْ فَتَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ وَوَسَّعْنَاهُ لِلْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَجَعَلْنَاهُ مُنَبَسِطًا رَاضِيًا، وَمُتَحَمِّلًا لِأَعْبَاءِ حَمْلِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِهَا لِلنَّاسِ، وَمُتَحَمِّلًا أَخْلَاقَهُمْ.
وَحَطَطْنَا عَنْكَ مَا أَثْقَلَ ظَهْرَكَ مِنْ هُمُومٍ كُبْرَى لِإِصْلَاحِ قَوْمِكَ، وَإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ خَبَائِثِهَا وَظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا.
فَبَيَّنَ لَكَ وَسَائِلَ التَّبْلِيغِ، وَأَسَالِيبَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ، فَأَلْقَى عَنْكَ كُلَّ هُمُومِكَ بِمَا أَوْحَى إِلَيْكَ مِنْ تَعْلِيمَاتٍ وَأَوَامِرَ رَبَانِيَّةٍ تُوَضِّحُ لَكَ مَنْهَجَ دَعْوَتِكَ.
وَأَعْلَيْنَا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ذِكْرَكَ الْحَسَنَ؛ إِذْ جَعَلْتُكَ رَسُولًا، وَاسْتَمَرَّ عَطَائِي لَكَ حَتَّى إِذَا ذُكِرْتُ ذُكْرِتَ مَعِي فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنَّ مَعَ الشِّدَّةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ يُسْرًا وَرَخَاءً عَاجِلًا، فَإِنْ يُظْهِرْكَ اللهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْقَادُوا لِلْحَقِّ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ، فَذَلِكَ تَيْسِيرٌ مِنْ بَعْدِ التَّعْسِيرِ.
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَثِيرًا كَذَلِكَ، فَكُنْ عَلَى أَمَلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَلَقَّى الْأَحْدَاثَ الْحَاضِرَةَ الْمُؤْلِمَةَ بِالرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، وَبِنَفْسٍ مُنْشَرِحَةٍ مَشْحُونَةٍ بِالْأَمَلِ فِيمَا سَيَأْتِي، صَابِرَةٍ عَلَى الْعُسْرِ الْوَاقِعِ.
فَالنَّفْسُ الْمَشْحُونَةُ بِأَمَلِ الْيُسْرِ الْقَادِمِ يَضْمُرُ لَدَيْهَا أَلَمُ الْعُسْرِ الْقَائِمِ، وَمُنْتَظِرُ الْفَجْرِ الْقَرِيبِ لَا يَشْعُرُ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْقَاتِمِ.
((الْأَمَلُ وَالتَّفَاؤُلُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَمَلَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ التَّيْسِيرَ وَالتَّبْشِيرَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: ((يَسِّرًا وَلَا تُعَسِّرًا، وَبَشِّرًا وَلَا تُنَفِّرًا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
لَقَدْ بَعَثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ ﷺ بِنَبْذِ الْغُلُوِّ وَالتَّنَطُّعِ وَالتَّطَرُّفِ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةً وَسَطًا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فِي عَقِيدَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَأَخْلَاقِهَا، وَمُعَامَلَاتِهَا، وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ، وَلَا غُلُوَّ وَلَا جَفَاءَ.
وَقَدْ عَابَ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77].
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِرَفْعِ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِشَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ، مِنْ قَوَاعِدِهَا:
*رَفْعُ الْحَرَجِ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: لَا وَاجِبَ بِلَا اقْتِدَارٍ، وَلَا مُحَرَّمَ مَعَ اضْطِرَارٍ.
*وَمِنْ قَوَاعِدِهَا: أَنَّ الضَّرَرَ يُزَالُ، فَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
((وَنَبِيُّنَا ﷺ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: ((بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَنَسِ بَنْ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلَ)).
قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟
قَالَ: ((كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ)) .
((الْآمَالُ فِي الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا وَسَطُ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا))
إِذَا تَأَمَّلْتَ حِكْمَتَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِيمَا ابْتَلَى بِهِ عِبَادَهُ وَصَفْوَتَهُ بِمَا سَاقَهُمْ بِهِ إِلَى أَجَلِّ الْغَايَاتِ وَأَكْمَلِ النِّهَايَاتِ، الَّتِي لَمْ يَكُونُوا يَعْبُرُونَ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى جِسْرٍ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.
وَكَانَ ذَلِكَ الْجِسْرُ لِكَمَالِهِ كَالْجِسْرِ الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى عُبُورِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَيْنَ الْمَنْهَجِ فِي حَقِّهِمْ وَالْكَرَامَةِ.
فَصُورَتُهُ صُورَةُ ابْتِلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، وَبَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالنِّعْمَةُ وَالْمِنَّةُ، فَكَمْ للهِ مِنْ نِعْمَةٍ جَسِيمَةٍ وَمِنَّةٍ عَظِيمَةٍ تُجْنَى مِنْ قُطُوفِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.
فَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا آدَمَ -عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنَ الِاصْطِفَاءِ وَالِاجْتِبَاءِ، وَالتَّوْبَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ.
وَلَوْلَا تِلْكَ الْمِحْنَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَتَوَابِعُ ذَلِكَ؛ لَمَا وَصَلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ, فَكَمْ بَيْنَ حَالَتِهِ الْأُولَى وَحَالَتِهِ الثَّانِيَةِ فِي نِهَايَتِهِ.
وَتَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّانِي نُوحٍ ﷺ وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى قَوْمِهِ تِلْكَ الْقُرُونَ كُلَّهَا، حَتَّى أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ وَأَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ، وَجَعَلَ الْعَالَمَ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.
وَجَعَلَهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَصْبِرَ كَصَبْرِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالشُّكْرِ؛ فَقَالَ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، وَوَصَفَهُ بِكَمَالِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ أَبِينَا الثَّالِثِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، وَشَيْخِ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَمُودِ الْعَالَمِ، وَخَلِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ.
وَتَأَمَّلْ مَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ وَصَبْرُهُ وَبَذْلُهُ نَفْسَهُ للهِ تَعَالَى، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ آلَ بِهِ بَذْلُهُ للهِ نَفْسَهُ، وَنَصْرُهُ دِينَهُ إِلَى أَنِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا لِنَفْسِهِ, وَأَمَرَ رَسُولَه وَخَلِيلَهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّتَهُ.
وَأُنَبِّهُكَ عَلَى خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي مِحْنَتِهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ, فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَازَاهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَدَهُ لِأَمْرِ اللهِ؛ بِأَنْ بَارَكَ فِي نَسْلِهِ وَكَثَّرَهُ حَتَّى مَلَأَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ, فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ, فَمَنْ تَرَكَ لِوَجْهِهِ أَمْرًا أَوْ فَعَلَهُ لِوَجْهِهِ؛ بَذَلَ اللهُ لَهُ أَضْعَافَ مَا تَرَكَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَجَازَاهُ بِأَضْعَافِ مَا فَعَلَهُ لِأَجْلِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.
فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، فَبَادَرَ بِأَمْرِ اللهِ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ أَبَاهُ، رِضَاءً مِنْهُمَا وَتَسْلِيمًا، وَعَلِمَ اللهُ مِنْهُمَا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ؛ فَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَأَعْطَاهُمَا مَا أَعْطَاهُمَا مِنْ فَضْلِهِ.
وَكَانَ مِنْ بَعْضِ عَطَايَاهُ؛ أَنْ بَارَكَ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا حَتَّى مَلَئُوا الْأَرْضَ, فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ التَّنَاسُلُ وَتَكْثِيرُ الذُّرِّيَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وَقَالَ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].
فَغَايَةُ مَا كَانَ يَحْذَرُ وَيَخْشَى مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ؛ انْقِطَاعُ نَسْلِهِ, فَلَمَّا بَذَلَ وَلَدَهُ للهِ، وَبَذَلَ الْوَلَدُ نَفْسَهُ، ضَاعَفَ اللهُ النَّسْلَ، وَبَارَكَ فِيهِ، وَكَثُرَ حَتَّى مَلَئُوا الدُّنْيَا، وَجَعَلَ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فِي ذُرِّيَّتِهِ خَاصَّةً، وَأَخْرَجَ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْكَلِيمِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا آلَتْ إِلَيْهِ مِحْنَتُهُ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ، حَتَّى كَلَّمُهُ اللهُ مِنْهُ إِلَيْهِ تَكْلِيمًا، وَكَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ إِلَى أَعْلَى السَّمَاوَاتِ.
وَاحْتَمَلَ لَهُ مَا لَا يَحتَمِلُ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ رَمَى الْأَلْوَاحَ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَخَذَ بِلِحْيَةِ نَبِيِّ اللهِ هَارُونَ وَجَرَّهُ إِلَيْهِ، وَلَطَمَ وَجْهَ مَلَكِ الْمَوْتِ؛ فَفَقَعَ عَيْنَهُ، وَخَاصَمَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَرَبُّهُ يُحِبُّهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سَقَطَ شَيْءٌ مِنْهُ مِنْ عَيْنِهِ، وَلَا سَقَطَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدُهُ, بَلْ هُوَ الْوَجِيهُ عِنْدَ اللهِ، الْقَرِيبُ.
وَلَوْلَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ السَّوَابِقِ، وَتَحَمُّلِ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ الْعِظَامِ فِي اللهِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَمْرِ الشَّدِيدِ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، ثُمَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا آذَوْهُ بِهِ وَمَا صَبَرَ عَلَيْهِمْ للهِ, لَوْلَا ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالَ الْمَسِيحِ ﷺ وَصَبْرَهُ عَلَى قَوْمِهِ، وَاحْتِمَالَهُ فِي اللهِ مَا تَحَمَّلَهُ مِنْهُمْ، حَتَّى رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِيَنَ كَفَرُوا، وَانْتَقَمَ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَقَطَّعَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَمَزَّقَهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَسَلَبَهُمْ مُلْكَهُمْ وَفَخْرَهُمْ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
فَإِذَا جِئْتَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَتَأَمَّلْتَ سِيرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ، وَصَبْرَهُ فِي اللهِ، وَاحْتِمَالَهُ مَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وَتَلَوُّنَ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ مِنْ سِلْمٍ وَخَوْفٍ، وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَأَمْنٍ وَإِقَامَةٍ فِي وَطَنِهِ، وَظَعْنٍ عَنْهُ وَتَرْكُهُ للهِ، وَقَتْلُ أَحَبَّائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَذَى الْكُفَّارِ لَهُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالسِّحْرِ وَالْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ وَالْبُهْتَانِ, وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ عَلَى أَمْرِ اللهِ, يَدْعُو إِلَى اللهِ، فَلَمْ يُؤْذَ نَبِيٌّ مَا أُوذِيَ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ فِي اللهِ مَا احْتَمَلَهُ، وَلَمْ يُعْطَ نَبِيٌّ مَا أُعْطِيَ.
فَرَفَعَ اللهُ لَهُ ذِكْرَهُ، وَقَرَنَ اسْمَهُ بِاسْمِهِ، وَجَعَلَهُ سَيِّدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَجَعَلَهُ أَقْرَبَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَسِيلَةً، وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَهُ جَاهًا، وَأَسْمَعَهُمْ عِنْدَهُ شَفَاعَةً, وَكَانَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ وَالِابْتِلَاءُ عَيْنَ كَرَامَتِهِ، وَهِيَ مِمَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا شَرَفًا وَفَضْلًا، وَسَاقَهُ بِهَا إِلَى أَعْلَى الْمَقَامَاتِ.
وَهَذَا حَالُ وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، كُلٌّ لَهُ نَصِيبٌ مِنَ الْمِحْنَةِ يَسُوقُهُ اللهُ بِهِ إِلَى كَمَالِهِ بِحَسَبِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ، وَمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَحَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا حَظُّ مَنْ خُلِقَ لَهَا وَخُلِقَتْ لَهُ، وَجُعِلَ خَلَاقُهُ وَنَصِيبُهُ فِيهَا، فَهُوَ يَأْكُلُ مِنْهَا رَغَدًا، وَيَتَمَتَّعُ فِيهَا حَتَّى يَنَالَهُ نَصِيبُهُ مِنَ الْكِتَابِ.
يُمْتَحَنُ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَهُوَ فِي دَعَةٍ وَخَفْضِ عَيْشٍ, وَيَخَافُونَ وَهُوَ آمِنٌ, وَيَحْزَنُونَ وَهُوَ وَأَهْلُهُ فِي سُرُورٍ, لَهُمْ شَأْنٌ وَلَهُ شَأْنٌ, وَهُوَ فِي وَادٍ وَهُمْ فِي وَادٍ, هَمُّهُ مَا يُقِيمُ بِهِ جَاهَهُ، وَيَسْلَمُ بِهِ مَالُهُ، وَتُسْمَعُ بِهِ كَلِمَتُهُ, لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَزِمَ، وَرَضِيَ مَنْ رَضِيَ، وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ.
وَهَمُّهُمْ إِقَامَةُ دِينِ اللهِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ، وَإِعْزَازُ أَوْلِيَائِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ لَهُ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ الْمَعْبُودَ لَا غَيْرُهُ، وَرَسُولَهُ الْمُطَاعَ لَا سِوَاهُ.
فَللهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْحِكَمِ فِي ابْتِلَائِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ؛ مَا تَتَقَاصَرُ عُقُولُ الْعَالَمِينَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ, وَهَلْ وَصَلَ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْمَقَامَاتِ الْمَحْمُودَةِ، وَالنِّهَايَاتِ الْفَاضِلَةِ إِلَّا عَلَى جِسْرِ الْمِحْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ؟!
كَذَا الْمَعَالِي إِذَا مَا رُمْتَ تُدْرِكُهَا = فَاعْبُرْ إِلَيْهَا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ, وَبِالْغِنَى وَالْفَقْرِ, وَبِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ, وَمَهْمَا كَانَ حَالُ الْعَبْدِ فِي حَالِ ابْتِلَاءٍ، وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَالِ الِابْتِلَاءِ أَبَدًا, فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ اللهِ، رَاجِيًا لَهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا.
إِنْ نَظَرَ إِلَى ذُنُوبِهِ، وَعَدْلِ اللهِ، وَشِدَّةِ عِقَابِهِ؛ خَشِيَ رَبَّهُ وَخَافَهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى فَضْلِهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَعَفْوِهِ الشَّامِلِ؛ رَجَا وَطَمِعَ.
إِنْ وُفِّقَ لِطَاعَةٍ رَجَا مِنْ رَبِّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ بِقَبُولِهَا، وَخَافَ مِنْ رَدِّهَا بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَتِهِ رَجَا مِنْ رَبِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَمَحْوَهَا، وَخَشِيَ بِسَبَبِ ضَعْفِ التَّوْبَةِ وَالِالْتِفَاتِ لِلذَّنْبِ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهَا.
وَعِنْدَ النِّعَمِ وَالْيَسَارِ يَرْجُو اللهَ دَوَامَهَا وَالزِّيَادَةَ مِنْهَا، وَالتَّوْفِيقَ لِشُكْرِهَا، وَيَخْشَى بِإِخْلَالِهِ بِالشُّكْرِ مِنْ سَلْبِهَا.
وَعِنْدَ الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ؛ يَرْجُو اللهَ دَفْعَهَا، وَيَنْتَظِرُ الْفَرَجَ بِحَلِّهَا، وَيَرْجُو أَيْضًا أَنْ يُثِيبَهُ اللهُ عَلَيْهَا حِينَ يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ، وَيَخْشَى مِنَ اجْتِمَاعِ الْمُصِيبَتَيْنِ؛ فَوَاتِ الْأَجْرِ الْمَحْبُوبِ، وَحُصُولِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ إِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْقِيَامِ بِالصَّبْرِ الْوَاجِبِ.
((عِظَمُ أَمَلِ الصَّادِقِ الْمُخْلِصِ فِي تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ))
*كُلَّمَا عَظُمَ صِدْقُ الْعَبْدِ وَإِخْلَاصُهُ؛ زَادَ أَمَلُهُ فِي تَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ, فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ.
فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ, وَكُنْتُ لَا أَغْبُقُ قبْلَهُمَا أَهلًا وَلَا مَالًا, فَنَأَى بِي طَلَبُ شَجَرٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا, فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا -وَالْغَبُوقُ: الشَّرَابُ الَّذِي يُشْرَبُ بِالْعَشِيِّ-. قَالَ: فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ, فَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبُقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا, فَلَبِثْتُ -أَيْ: بَقِيتُ- وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِي أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ)).
زَادَ بَعْضُ الرُّوَاةِ: ((وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمِي -يَعْنِي: أنَّ أوْلَادَهُ كَانَ يَصِيحُونَ مِنَ الْجُوعِ عِنْدَ قَدَمَيهِ، فَلَمْ يُقَدِّمْهُمْ عَلَى أَبَوَيْهِ- قَالَ: فَاسْتَيْقَظَا -يعْنِي: أَبَوَيْهِ- فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا, اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذهِ الصَّخْرةِ, فَانْفَرجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((قَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ, فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ -وَالسَّنَةُ: الْقَحْطُ وَمَا يَكُونُ مَعَهُ مِنَ الْحَاجَةِ وَالْجُوعِ وَالْفَقْرِ-.
قَالَ: فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِئَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ, حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ.
قَالَ: فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا, فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ, وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا, اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ, فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ, تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ, فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ, فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ, فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي.
فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِك؛ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ, فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ لَا تَسْتَهزِئْ بِي.
فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ, فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا, اللَّهُمَ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ, فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:((بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ, فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ, فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ, فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ.
فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ -وَالْفَرَقُ: مِكْيَالٌ مَعْلُومٌ- فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَإِنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ إِلَى أَنِ اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا, وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ.
فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ فَسَاقَهَا, فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ.. )). فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَرِيبًا مِنَ الْأَوَّلِ, وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَينِ)) .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ الصِّدْقِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَعَلَى أَنَّ الأعْمَالَ لَيْسَتْ بِكَثْرَتِهَا, وَإنَّمَا بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا, بِتَخْلِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَمِمَّا يُحْبِطُهَا.
فَمَهْمَا حَاوَلَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَصْدُقْ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ للهِ مُخْلِصًا؛ فَإِنِّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحْبِطُ عَمَلَهُ وَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا فِيهِ عَذَّبَهُ عَلَيْهِ.
((أَسْمَى الْآمَالِ الرَّجَاءُ فِي رَحْمَةِ اللهِ))
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَلَّا يَقْنُطُوا مِنْ رَحْمَتِهِ, عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَمِّلُوا فِي رَوْحِ اللهِ، وَأَلَّا يَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا مِنْ وَسِيعِ رَحْمَتِهِ.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
يُخْبِرُ اللهُ عِبَادَهُ الْمُسْرِفِينَ بِوَسِيعِ كَرَمِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَيَحْثُّهُمْ عَلَى الْإِنَابَةِ قَبْلَ أَلَّا يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ.
فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولَ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ مُخْبِرًا لِلْعِبَادِ عَنْ رَبِّهِمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} بِاتِّبَاعِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالسَّعْيِ فِي مَسَاخِطِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ.
{لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}: لَا تَيْأَسُوا مِنْهَا فَتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَتَقُولُوا قَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُنَا، وَتَرَاكَمَتْ عُيُوبُنَا، فَلَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ يُزِيلُهَا، وَلَا سَبِيلٌ يَصْرِفُهَا، فَتَبْقُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُتَزَوِّدِينَ مَا يُغْضِبُ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَنَ.
وَلَكِنْ اعْرِفُوا رَبَّكُمْ بِأَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا مِنَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا وَالرِّبَا، وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ.
{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}: أَيْ وَصْفُهُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ وَصْفَانِ لَازِمَانِ ذَاتِيَّانِ لَا تَنْفَكُّ ذَاتُهُ عَنْهُمَا أَبَدًا، وَلَمْ تَزَلْ آثَارُهُمَا سَارِيَةً فِي الْوُجُودِ، مَالِئَةً لِلْمَوْجُودِ، تَسِحُّ يَدَاهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُوَالِي النِّعَمَ عَلَى الْعِبَادِ وَالْفَوَاضِلَ فِي السِّرِّ وَالْجَهَارِ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ، وَالرَّحْمَةُ سَبَقَتِ الْغَضَبُ وَغَلَبَتْهُ.
وَلَكِنْ لِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَيْلِهِمَا أَسْبَابٌ، إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا الْعَبْدُ؛ فَقَدْ أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، أَعْظَمُهَا وَأَجَلُّهَا، بَلْ لَا سَبَبَ لَهَا غَيْرُهُ؛ الْإِنَابَةُ إِلَى اللهِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ، وَالتَّأَلُّهُ وَالتَّعَبُّدُ، فَهَلُمَّ إِلَى هَذَا السَّبَبِ الْأَجَلِّ، وَالطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ.
وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِا، فَقَالَ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} بِقُلُوبِكُمْ، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} بِجَوَارِحِكُمْ.
إِذَا أُفْرِدَتِ الْإِنَابَةُ؛ دَخَلَتْ فِيهَا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَانَ الْمَعْنَى -كَمَا مَرَّ-.
وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّكُـمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} دَلِيلٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَنَّهُ مِنْ دُونِ إِخْلَاصٍ لَا تُفِيدُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ شَيْئًا.
{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ} مَجِيئًا لَا يُدْفَعُ، {ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر: 54]، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هِيَ الْإِنَابَةُ وَالْإِسْلَامُ، وَمَا جُزْئِيَّاتُهَا وَأَعْمَالُهَا؟
فَأَجَابَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} مِمَّا أَمَرَكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ كَمَحَبَّةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالنُّصْحِ لِعِبَادِهِ، وَمَحْبَّةِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَتَرْكِ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّدَقَةِ، وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا.
فَالْمُتَتَبِّعُ لِأَوَامِرِ رَبِّهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا هُوَ الْمُنِيبُ الْمُسْلِمُ، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].
وَكُلُّ هَذَا حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ، وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ)) .
عَنْ شَطْبٍ الطَّوِيلِ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ؛ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، فَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً -وَالْحَاجَةُ هِيَ الْحَاجَةُ الصَّغِيرَةُ، وَالدَّاجَةُ: هِيَ الْحَاجَةُ الْكَبِيرَةُ- أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا، وَلَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟
فَقَالَ: ((أَسْلَمْتَ؟)).
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: ((فَافْعَلِ الْخَيْرَاتِ، وَاتْرُكِ السَّيِّئَاتِ، فَيَجْعَلْهَا اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهَا)).
قَالَ: وَغَدَرَاتي وَفَجَرَاتِي؟
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ -فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ--: ((إنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ, ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ, فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً, فَإنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ, وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً, وَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)) .
زَادَ فِي رِوَايَةٍ: ((أَوْ مَحَاهَا، وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إلَّا هَالِكٌ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
مَعَ هَذَا الْحِسَابِ لِلْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إلَّا هَالِكٌ!!
مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً, وَإنْ هُوَ عَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ!!
وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ حَسَنَةً كَامِلَةً, وَإِنْ هُوَ هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً أَوْ مَحَاهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيَقُولُ: ((وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ)). فَإِنَّهُ لَا يَهْلِكُ مَعَ هَذَا الْكَرَمِ فِي الْحِسَابِ إِلَّا الْهَالِكُ -نَسْألُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا أرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا, فَإنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً؛ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةٍ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ وَمُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً, وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ, وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ)).
وَفِي أُخْرىَ -أَيْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ- قَالَ: عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْهَا, فَإِنْ عَمِلَهَا فَإِنِّي أَكْتُبُهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا, وَإذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا, فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَة، فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّاي))؛ أَيْ: تَرَكَهَا لِأَجْلِي.
عَنْ مَعْنِ بنِ يَزِيدَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ أَبِي (يَزِيدُ) أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ, فَجِئْتُ فَأخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا, فَقَالَ: وَاللهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ, فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ, وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَسُبْحَانَ رَبِّيَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي عَمَّتْ رَحْمَتُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَوَسِعَتْ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ الآنَاتِ وَاللَّحَظَاتِ.
وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحْمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءُ الْمَحْرُومُونَ، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
يَكْفِيكَ مَنْ وَسِعَ الْخَلَائِقَ رَحْمَةً = وَكِفَايَةً ذُو الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ-: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].
وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَلَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ، وَهُوَ خَبَرٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ صَادِقُ الْمَقَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِنَّهُ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَخَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
وَرَحْمَتُهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ كُلِّ رَاحِمٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَأَوْلَادِنَا وَأَنْفُسِنَا.
فَكُلُّ رَاحِمٍ لِلْعَبْدِ؛ فَاللهُ أَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ، إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، لَوْ جُمِعَتْ رَحَمَاتُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ؛ لَكَانَتْ رَحْمَةُ اللهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، وَمَا تَبْلُغُ هَذِهِ الرَّحْمَاتُ مِنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟!!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَهُ صَبِيٌّ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ؛ رَحْمَةً بِهِ، وَحَنَانًا وَبِرًّا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرْحَمُهُ؟)).
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: ((فَاللهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْكَ بِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)). وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
أَرْحَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ الْأُمُّ بِوَلَدِهَا، فَإِنَّ رَحْمَةَ الْأُمِّ وَلَدَهَا لَا يُسَاوِيهَا شَيْءٌ مِنْ رَحْمَةِ النَّاسِ أَبَدًا، حَتَّى الْأَبُ لَا يَرْحَمُ أَوْلَادَهُ مِثْلَ أُمِّهِمْ فِي الْغَالِبِ.
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلِبُ تَسْقِي؛ إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟)).
قُلْنَا: لَا.
فَقَالَ: ((اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَهُوَ أَرْحَمُ بِالْعَبْدِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الرَّفِيقَةِ بِهِ فِي حَمْلِهِ وَرَضَاعِهِ وَفِصَالِهِ.
((أَمَلُ الْمَرِيضِ فِي الشِّفَاءِ وَالْبُشْرَى لَهُ بِالْأَجْرِ))
عِبَادَ اللهِ! مِنَ السُّنَّةِ التَّبْشِيرُ بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ لِلْمَرِيضِ؛ مُوَاسَاةً وَتَصْبِيرًا؛ فَإِنَّ مَرَضَ الْمُؤْمِنِ يَجْعَلُهُ اللهُ كَفَّارَةً وَمُسْتَعْتَبًا.
فَالْمَرَضُ وَالِابْتِلَاءُ يُفِيدُ الْمُؤْمِنَ، وَيَرْفَعُ دَرَجَتَهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ الْفَاجِرُ فَلَا؛ كَقَوْلِهِ ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فكَانَ خَيْرًا لَهُ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ»().
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ، وَعَادَ مَرِيضًا فِي كِنْدَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: أَبْشِرْ؛ فَإِنَّ مَرَضَ الْمُؤْمِنِ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لَهُ كَفَّارَةً وَمُسْتَعْتَبًا، وَإِنَّ مَرَضَ الْفَاجِرِ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلَا يَدْرِي لِمَ عُقِلَ وَلِمَ أُرْسِلَ().
وَالْحَدِيثُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).
«مُسْتَعْتَبًا»: «الْمُسْتَعْتَبُ»: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ «اسْتَعْتَبَ»؛ أَيْ: رَجَعَ عَنِ الْإِسَاءَةِ وَطَلَبَ الرِّضَا.
فَمَرَضُ الْمُؤْمِنِ بَابٌ عَظِيمٌ لِطَلَبِ الرِّضَا مِنَ اللهِ تَعَالَى.
بَابٌ عَظِيمٌ لِلرُّجُوعِ عَنِ الذَّنْبِ وَالْإِثْمِ، وَإِحْسَانِ التَّوْبَةِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى تَكْفِيرِهِ الذُّنُوبَ.
«مَرَضُ الْفَاجِرِ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ»: «عَقَلَ الْبَعِيرَ»: ضَمَّ رُسْغَ يَدِهِ إِلَى عَضُدِهِ وَرَبَطَهُمَا مَعًا بِالْعِقَالِ؛ لِيَبْقَى بَارِكًا.
«ثُمَّ أَرْسَلُوهُ»؛ أَيْ: أَطْلَقُوا عِقَالَهُ، فَلَا يُدْرَي لِمَ عُقِلَ؟ وَلِمَ أُرْسِلَ؟
وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ الْقَاسِمَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: «مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ»(). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ».
فِي الْحَدِيثِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ؛ لِأَنَّ الْأَذَى لَا يَنْفَكُّ غَالِبًا مِنْ أَلَمٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ غَمٍّ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذا الْآلَامُ وَالْأَوْجَاعُ الْبَدَنِيَّةُ، وَكَذَا الْقَلْبِيَّةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ تُكَفَّرُ بِهِ الذُّنُوبُ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ.
فَهَذِهِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ احْتَسَبَ بِذَلِكَ الْأَجْرَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
عِبَادَ اللهِ! مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَنْصَحَ الْعَائِدُ لِلْمَرِيضِ بِالدُّعَاءِ، وَأَلَّا يَقُولَ عِنْدَهُ إِلَّا خَيْرًا، فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالتَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ)).
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَذْكُرْ عِنْدَهُ إِلَّا مَا يَجْعَلُ الْمَرِيضَ يَائِسًا مِنَ الْحَيَاةِ بِسَبِبِهِ!!
وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُنَفِّسَ الْعَائِدُ لِلْمَرِيضِ فِي أَجَلِهِ، وَأَنْ يَبْعَثَ الْأَمَلَ فِي صَدْرِهِ، وَأَنْ يَتَكَلَّمَ عِنْدَهُ بِالْكَلَامِ الْحَسَنِ.
((عَاقِبَةُ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ))
إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ مُلَازِمٌ لِلْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ النَّافِعُ، وَبِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ، وَيُخْشَى عَلَى الْعَبْدِ مِنْ خُلَقَيْنِ رَذِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ حَتَّى يَقْنُطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَتَجَارَى بِهِ الرَّجَاءُ حَتَّى يَأْمَنَ مَكْرَ اللهِ وَعُقُوبَتَهُ, فَمَتَى بَلَغَتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى هَذَا فَقَدْ ضَيَّعَ وَاجِبَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ الَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَوَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ.
*أَسْبَابُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسِ مِنْ رُوحِهِ:
وَلِلْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِهِ سَبَبَانِ مَحْذُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْرِفَ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَتَجَرَّأَ عَلَى الْمَحَارِمِ فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا، وَيُصَمِّمُ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَيَقْطَعُ طَمَعَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ الرَّحْمَةَ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ هَذَا وَصْفًا وَخُلُقًا لَازِمًا.
وَهَذَا غَايَةُ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْعَبْدِ، وَمَتَى وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ؛ لَمْ يُرْجَ لَهُ خَيْرٌ إِلَّا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ وَإِقْلَاعٍ فَوْرِيٍّ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْوَى خَوْفُ الْعَبْدِ بِمَا جَنَتْ يَدَاهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَيَضْعُفَ عِلْمُهُ بِمَا للهِ مِنْ وَاسِعِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَرْحَمُهُ وَلَوْ تَابَ وَأَنَابَ، وَتَضْعُفُ إِرَادَتُهُ؛ فَيَيْأَسَ مِنَ الرَّحْمَةِ.
وَهَذَا مِنَ الْمَحَاذِيرِ الضَّارَّةِ النَّاشِئَةِ مِنْ ضَعْفِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ وَعَجْزِهَا وَمَهَانَتِهَا.
فَلَوْ عَرَفَ هَذَا رَبَّهُ، وَلَمْ يَخْلُدْ إِلَى الْكَسَلِ؛ لَعَلِمَ أَنَّ أَدْنَى سَعْيٍ يُوصِلُهُ إِلَى رَبِّهِ وَإِلَى رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ.
((مَعَانِي الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَحُكْمُهُمَا))
*مَعْنَى الْيَأْسِ وَحُكْمُهُ:
((قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْيَأْسُ: الْقَطْعُ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ، وَالْيَأْسُ ضِدُّ الرَّجَاءِ)).
وَقَالَ الْعِزُّ: ((الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ: هُوَ اسْتِصْغَارٌ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَتَضْيِيقٌ لِفَضَاءِ جُودِهِ)).
الْيَأْسُ انْقِطَاعُ الرَّجَاءِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((هُوَ انْتِفَاءُ الطَّمَعِ)).
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَا يُتَحَصَّلُ؛ لِتَحَقُّقِ فَوَاتِهِ)).
فَهَذَا هُوَ الْيَأْسُ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَأْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقُنُوطُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْيَأْسِ عَنِ الْقُنُوطِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوطَ ثَمَرَةُ الْيَأْسِ.
الثَّانِي: الْيَأْسُ: الْعِلْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]؛ أَيْ: أَفَلَمْ يَعْلَمُوا؟!!
وَقَدْ عَدَّ ابْنُ حَجَرٍ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَتِهِ تَعَالَى مِنَ الْكَبَائِرِ؛ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَدَدًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُبَشِّرَةِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: ((عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ)))).
فَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، وَمِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.
*مَعْنَى الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَحُكْمُهُ:
الْقُنُوطُ: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: قَنَطَ يَقْنُطُ، إِذَا يَئِسَ يَأْسًا شَدِيدًا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (ق ن ط) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْيَأْسِ مِنَ الشَّيْءِ؛ يُقَالُ: قَنَطَ يَقْنِطُ قُنُوطَا مِثْلُ: جَلَسَ يَجْلِسُ جُلُوسًا.
وَكَذَلِكَ قَنَطَ يَقْنُطُ مِثْلُ: قَعَدَ يَقْعُدُ فَهُوَ قَانِطٌ.
وَفِيهِ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ: قَنِطَ يَقْنَطُ قَنَطًا مِثْلُ: تَعِبَ يَتْعَبُ تَعَبًا، وَقَنَاطَةً فَهُوَ قَنِطٌ.
قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55]؛ أَيْ: الْيَائِسِينَ مِنَ الْوَلَدِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: ((الْقُنُوطُ هُوَ أَشَدُ الْيَأْسِ مِنَ الشَّيْءِ)).
وَقِيلَ: الْقُنُوطُ: الْيَأْسُ مِنَ الْخَيْرِ.
وَقِيلَ: أَشَدُّ الْيَأْسِ مِنَ الشَّيْءِ.
وَقِيلَ: شَرُّ النَّاسِ الِّذِينَ يُقَنِّطُونَ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -أَيْ يُؤَيِّسُونَهُمْ-.
فِي ((فَتْحِ الْمَجِيدِ)) : ((الْقُنُوطُ هُوَ اسْتِبْعَادُ الْفَرَجِ وَالْيَأْسِ مِنْهُ، وَهُوَ يُقَابِلُ الْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَكِلَاهُمَا ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَيُنَافِيَانِ كَمَالَ التَّوْحِيدِ)).
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْقُنُوطُ: هُوَ الْيَأْسُ مِنَ الرَّحْمَةِ)).
وَقَالَ الْعِزُّ: ((الْقُنُوطُ اسْتِصْغَارٌ لِسَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَتَضْيِيقٌ لِفَضَاءِ جُودِهِ تَعَالَى)).
وَأَمَّا حُكْمُ الْقُنُوطِ:
فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ تَعَالَى وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ)).
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْقُنُوطِ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحِجر: 56].
وَقَالَ: عَدُّ سُوءِ الظَّنِّ وَالْقُنُوطِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ لِلْيَأْسِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُنُوطَ أَبْلَغُ مِنَ الْيَأْسِ؛ لِلتَّرَقِّي إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَئِسَ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ لَهُ مَعَ إِسْلَامِهِ، فَالْيَأْسُ فِي حَقِّهِ كَبِيرَةٌ اتِّفَاقًا، ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ يَنْضَمٌّ إِلَيْهِ حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ وَهُوَ الْقُنُوطُ، ثُمَّ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُشَدِّدُ عِقَابَهُ لَهُ كَالْكُفَّارِ، وَهَذَا هُوَ الْمَرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ هُنَا)).
وَلَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هَذَا الْيَأْسِ وَذَلِكَ الْقُنُوطِ مَهْمَا كَانَتِ الْحَالُ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا الْعَبْدُ وَاسْتَقَرَّتْ فِيهَا الشِّدَّةُ.
قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحْوَالًا لِعِبَادِهِ بَلَغَ فِيهَا بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْحَرَجِ، وَكَادُوا فِيهَا أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْيَأْسِ فَجَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَجُ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِتَبْدِيدِ الشَّدَائِدِ، وَإِزَالَةِ الْكُرَبِ.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ)) .
فَاعْلَمْ أَيُّهَا الْأَخُ الْحَبِيبُ! أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَأَنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَمِنْ عَظَائِمِ الْإِثْمِ، فَإِنْ تَوَرَطْتَ فِي ذَلِكَ تَوَرَطْتَ فِي كَبِيرَةٍ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، وَعَظِيمَةٍ مِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.
((الْأَمَلُ الْمَذْمُومُ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ))
الْأَمَلُ مِنْهُ مَا هُوَ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَحْمُودٌ.
أَمَّا الْأَمَلُ الْمَذْمُومُ: فَهُوَ أَنْ يَسْتَرْسِلَ الْإِنْسَانُ مَعَ الْأَمَلِ، وَلَا يَسْتَعِدَّ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ.
فَمَنْ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ، وَهِيَ عَدَمُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ، وَعَدَمُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ، وَعَدَمُ تَرَقُّبِ الْمَوْتِ؛ أَنَّهُ يَأْتِي بَغْتَةً، وَأَنَّهُ يَقَعُ فَجْأَةً.
إِذَا سَلِمَ الْإِنْسَانُ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ؛ فَإِنَّ الْأَمَلَ يَكُونُ مَحْمُودًا؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللهَ جَعَلَ الْأَمَلَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ مَا اسْتَطَاعَ إِنْسَانٌ أَنْ يَعِيشَ فِيهَا لَحْظَةً وَاحِدَةً.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْقَوَاطِعِ فِي طَرِيقِ سَيْرِ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ، وَمِنَ أَكْبَرِ الْعَوَائِقِ الَّتِي تُعَوِّقُ الْإِنْسَانَ، وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوَائِقِ: طُولَ الْأَمَلِ، وَعَدَمَ تَذَكُّرِ الْمَوْتِ.
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَحْظُورِ، وَطَالَ أَمَلُهُ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ نِهَايَتَهُ وَأَجَلَهُ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ كَثِيرُ خَيْرٍ، بَلْ يَأْتِي مِنْهُ تَخْلِيطٌ، وَتَقْصِيرٌ وَتَسْوِيفٌ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَطُولُ أَمَلُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَيَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ بَيْنَ اللَّحْظَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا؛ فَهَؤُلَاءِ يُحْسِنُونَ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ النِّهَايَةَ وَالْقُدُومَ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَكُلِّ حِينٍ.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرَادَ لَنَا فِي دِينِهِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ أَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَطُولَ فِي الْحَيَاةِ أَمَلُهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّعًا لِلْمَوْتِ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي مَا سَيَكُونُ بَعْدَ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى التَّوْبَةِ، وَعَلَى تَرَقُّبِ الْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَيَنْظُرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى عَمَلِهِ، فَإِذَا أَحْسَنَ؛ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا أَسَاءَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
((أَسْبَابُ طُولِ الْأَمَلِ))
مَا الَّذِي يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ طَوِيلَ الْأَمَلِ؟!!
مَا الَّذِي يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ مِمَّا يَطُولُ أَمَلُهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَيَعِيشُ كَأَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ، أَوْ كَأَنَّهُ سَيَعِيشُ عَشَرَاتِ السِّنِينَ، بَلْ سَيَعِيشُ قُرُونًا مُتَطَاوِلَةً؟!!
طُولُ الْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ لَهُ سَبَبَانِ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَالْجَهْلُ.
*السَّبَبُ الْأَوَّلُ مِنْ أَسْبَابِ طُولِ الْأَمَلِ: حُبُّ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَنِسَ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَعَلَاقَاتِهَا وَعَلَائِقِهَا؛ يَثْقُلُ قَلْبُهُ عَنْ مُفَارَقَتِهَا.
يَعْنِي: الْإِنْسَانُ عِنْدَمَا يُعَمِّرُ الدُّنْيَا، وَيُخَرِّبُ الْآخِرَةَ -النَّاسُ دَائِمًا يَكْرَهُونَ الِانْتِقَالَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ-، يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَعْمَلِ الْإِنْسَانُ لِلْآخِرَةِ، لَمْ يَعْمَلْ لِلدَّارِ الْبَاقِيَةِ، لَمْ يَعْمَلْ لِلْقَبْرِ حِسَابًا.
الْقَبْرُ فِيهِ وَحْشَةٌ، فِيهِ ظُلْمَةٌ، فِيهِ وَحْدَةٌ، فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ.
الْقَبْرُ لَيْسَ فِيهِ مُتَعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى حَسَبِ الْحِسِّ الْإِنْسَانِيِّ.
الْإِنْسَانُ يُعَمِّرُ الدُّنْيَا، وَيُخَرِّبُ الْآخِرَةَ، فَيَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ، وَهَذَا مَجْبُولٌ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، هَذَا مِمَّا فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ.
وَأَمَّا إِذَا عَمَّرَ الْإِنْسَانُ آخِرَتَهُ، وَأَمَّا إِذَا الْتَفَتَ الْإِنْسَانُ إِلَى حَيَاتِهِ الْبَاقِيَةِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْخَرَابِ إِلَى الْعُمْرَانِ؛ لِأَنَّهُ سَيَرَى الدُّنْيَا خَرَابًا وَيَبَابًا، وَسَيَرَى الْآخِرَةَ عُمْرَانًا وَحَيَاةً بَاقِيَةً لَا تَزُولُ.
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُحِبًّا لِلدُّنْيَا؛ فَإِنَّهُ يَأْنَسُ بِشَهَوَاتِهَا، وَيَرْكَنُ إِلَى مَلَذَّاتِهَا، فَيَثْقُلُ عَلَى قَلْبِهِ أَنْ يُفَارِقَ الدُّنْيَا إِلَى غَيْرِهَا، وَيَمْتَنِعُ قَلْبُهُ مِنَ الْفِكْرِ فِي الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ فِي مُفَارَقَةِ اللَّذَّاتِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّهَوَاتِ.
إِذَا أَنِسَ الْقَلْبُ حُبَّ الدُّنْيَا، وَانْغَمَسَ الْإِنْسَانُ فِي الشَّهَوَاتِ -الْمَوْتُ يَقْطَعُ هَذَا- فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ حِينَئِذٍ، يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمَلَذَّاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَيُفَارِقُ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي تُحِبُّهَا النَّفْسُ؛ لِيَنْتَقِلَ إِلَى الْمَوْتِ.
وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ الْقَلْبُ مِنَ الْفِكْرِ فِي الْمَوْتِ، وَكُلُّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا؛ دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْفَعَ الشَّيْءَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَهُوَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ، يَعْنِي: إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُبْعِدَ الشَّيْءَ الْمَكْرُوهَ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَهُوَ يُبْعِدُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّيْءِ الْمَكْرُوهِ.
فَالْفِكْرُ فِي الْمَوْتِ مَكْرُوهٌ لِلْإِنْسَانِ، عِنْدَمَا يَنْغَمِسُ فِي الشَّهَوَاتِ، وَيُحَصِّلُ الْمَلَذَّاتِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ؛ فَهَذَا شَيْءٌ مُحَبَّبٌ!!
الْمَوْتُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّيْءَ الْمُحَبَّبَ، وَالْإِنْسَانُ فَطَرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الشَّيْءَ الَّذِي يَكْرَهُهُ؟
وَالْمَوْتُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ سَيَقْطَعُ الْمَلَذَّاتِ، وَإِذَنْ فَهُوَ لَا يُفَكِّرُ فِي الْمَوْتِ وَيَتَجَاهَلُهُ.
الْإِنْسَانُ مَشْغُوفٌ بِالْأَمَانِيِّ، يَتَمَنَّى دَائِمًا وَأَبَدًا مَا يُوَافِقُ مُرَادَهُ، وَمَا يُشَاكِلُ نَفْسَهُ، وَالَّذِي يُوَافِقُ مُرَادَ الْإِنْسَانِ هُوَ الْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا، فَلَا يَزَالُ يَتَوَهَّمُ، وَلَا يَزَالُ يَتَخَيَّلُ.
وَلَا يَزَالُ يُقَدِّرُ أَنَّهُ سَيَبْقَى فِي الدُّنْيَا طَوِيلًا، وَيُقَدِّرُ تَوَابِعَ هَذَا الْبَقَاءِ، مَا دُمْتُ سَأَظَلُّ زَمَنًا طَوِيلًا فِي الْحَيَاةِ، وَ أُقَدِّرُ أَنْ أَبْقَى فِي الْحَيَاةِ بِلَا ذَهَابٍ وَلَا فَنَاءٍ؛ فَأَنَا لَا بُدَّ أَنْ أُقَدِّرَ حِينَئِذٍ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُعِينُنِي عَلَى الْبَقَاءِ.
وَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا؛ اسْتِعْدَادًا لِلْبَقَاءِ الْمُتَوَهَّمِ الَّذِي يَتَوَهَّمُهُ، وَالَّذِي يُقَدِّرُهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كُنْتُ سَأَبْقَى سَنَوَاتٍ غَيْرَ مَعْدُودَةٍ؛ فَأَنَا أَحْتَاجُ إِلَى مَالٍ، وَأَحْتَاجُ إِلَى أَهْلٍ وَجَارٍ، وَأَصْدَقَاءَ وَدَوَاءٍ، وَسَائِرِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا.
فَمَا دُمْتُ أَنَا قَدْ أَخَذَنِي الْأَمَلُ بِطُولِهِ؛ فَحِينَئِذٍ أُقَدِّرُ طُولَ الْبَقَاءِ، وَإِذَا قَدَّرْتُ طُولَ الْبَقَاءِ؛ فَإِنَّ طُولَ الْبَقَاءِ يَحْتَاجُ إِلَى أَسْبَابٍ، وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ تَحْتَاجُ إِلَى تَحْصِيلٍ.
وَكُلُّ هَذَا إِبْعَادٌ عَنِ الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ، وَإِبْعَادٌ عَنِ الْآخِرَةِ.
يَصِيرُ الْقَلْبُ حِينَئِذٍ عَاكِفًا عَلَى هَذَا الْفِكْرِ وَمَوْقُوفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَتُعِينُ عَلَى طُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْبُعْدِ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ.
وَإِذَا مَا كَبُرَ الْإِنْسَانُ، يَعْنِي: إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ شَابًّا؛ يَقُولُ: حَتَّى تَكْبُرَ، فَإِذَا كَبُرَ؛ يَقُولُ: حَتَّى تَصِيرَ شَيْخًا، فَإِذَا صَارَ شَيْخًا؛ يَقُولُ: حَتَّى نَفْرُغَ مِنْ بِنَاءِ هَذِهِ الدَّارِ، وَعِمَارَةِ هَذهِ الْمَزْرَعَةِ، حَتَّى نَرْجِعَ مِنْ هَذَا السَّفَرِ، حَتَّى نَفْرُغَ مِنْ تَدْبِيرِ حَالِ هَذَا الْوَلَدِ، وَتَجْهِيزِهِ، وَتَدْبِيرِ مَسْكَنٍ لَهُ، حَتَّى نَتَفَرَّغَ مِنْ قَهْرِ هَذَا الْعَدُوِّ الَّذِي يَشْمَتُ بِنَا!!
فَلَا يَزَالُ يُسَوِّفُ وَيُؤَخِّرُ، وَلَا يَخُوضُ فِي شُغُلٍ إِلَّا وَيَتَعَلَّقُ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشُّغُلِ عَشْرَةُ أَشْغَالٍ أُخَرَ، لَا يَزَالُ كَذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَيَقْضِي أَيَّامَهُ وَلَيَالِيَهُ فِي ذَلِكَ، وَيُفْضِي بِهِ شُغُلٌ إِلَى شُغُلٍ؛ بَلْ إِلَى أَشْغَالٍ، إِلَى أَنْ تَقْتَطِفَهُ الْمَنِيَّةُ، وَيَأْتِيَهُ الْمَوْتُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَحْسُبْ؛ فَمَا الْحَلُّ؟!!
تَطُولُ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَسْرَةُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ صِيَاحُهُمْ مِنْ (سَوْفَ)، يَقُولُونَ: وَاحُزْنَاهُ مِنْ (سَوْفَ)؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُسَوِّفُونَ: سَوْفَ أَتُوبُ بَعْدَ كَذَا، وَسَوْفَ أَعْمَلُ كَذَا إِذَا حَدَثَ كَذَا!!
فَمَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ مُسَوِّفًا آخِذًا بِـ (سَوْفَ) حَتَّى يَأْتِيَ الْمَوْتُ!!
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْفَزَعُ وَالْحُزْنُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- فِي النَّارِ.
أَكْثَرُ حُزْنِ أَهْلِ النَّارِ مِنْ (سَوْفَ)، يَقُولُونَ: وَاحُزْنَاهُ مِنْ (سَوْفَ)؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ مَرَّتْ وَانْقَضَتْ مَعَ طُولِ الْأَمَلِ حَتَّى جَاءَ الْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِعْدَادٍ.
سَيَأْتِي، هُوَ آتٍ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٍ..
مَا دَامَ الْمَوْتُ سَيَأْتِي؛ فَاعْتَبِرْ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِعْلًا؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ سَيَأْتِي فَسَيَأْتِي، وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ.
مَا الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ؟
عَشْرُ سَنَوَاتٍ، عِشْرُونَ سَنَةً، ثَلَاثُونَ، مَئِةٌ؟!!
نَأْخُذُ بِقِيَاسِ الَّذِي مَضَى مِنَ السِّنِينَ عَلَى مَا هُوَ آتٍ مِنَ السِّنِينَ، مَرَّ خَمْسُونَ -نِصْفُ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانٍ- مَرَّتْ كَأَنَّهَا طَرْفَةُ الْعَيْنِ، كَأَنَّهَا خَطْفَةُ الْبَرْقِ، لَوْ بَقِيَ خَمْسُونَ -وَهَذَا مُسْتَبْعَدٌ-؛ فَسَيَمُرُّ الَّذِي يَأْتِي أَيْضًا كَطَرْفَةِ الْعَيْنِ، ثُمَّ يَجِدُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ أَمَامَ الْمَوْتِ.
إِذَنْ فَلْنَعْتَبِرِ الْآنَ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ، وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَكَيْفَ الِاسْتِعْدَادُ، وَكَيْفَ اللِّقَاءُ؟!!
الْمُسَوِّفُ الْمِسْكِينُ -الَّذِي يَقُولُ: سَوْفَ.. سَوْفَ.. - لَا يَدْرِي أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَى التَّسْوِيفِ الْيَوْمَ هُوَ مَعَهُ غَدًا.
يَعْنِي: طُولُ الْأَمَلِ الَّذِي عِنْدَ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُسَوِّفُ أَعْمَالَ الْخَيْرِ؛ سَوْفَ أَفْعَلُ بَعْدَ إِتْمَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، سَوْفَ أَفْعَلُ بَعْدَمَا نَصْنَعُ كَذَا، وَنُتِمُّ كَذَا، (سَوْفَ) هَذِهِ الَّتِي مَعِي الْيَوْمَ سَتَكُونُ مَعِي غَدًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَنْقَطِعُ، وَلَا يَنْتَهِي.
وَإِنَّمَا يَزْدَادُ التَّسْوِيفُ بِطُولِ الْمُدَّةِ قُوَّةً وَرُسُوخًا؛ لِأَنَّ الْأَشْغَالَ لَا تَنْقَطِعُ، وَالشُّغُلُ يُفْضِي وَيُؤَدِّي إِلَى شُغُلٍ غَيْرِهِ، بَلْ إِلَى عَشْرَةِ أَشْغَالٍ مِنْ غَيْرِ مَا انْقِطَاعٍ.
فَيَظُنُّ الْإِنْسَانُ وَيَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لِلْخَائِضِ فِي الدُّنْيَا وَالْحَافِظِ لَهَا؛ فَرَاغٌ، هَيْهَات!!
لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي يَخُوضُ فِي الدُّنْيَا، وَالَّذِي يَجْتَهِدُ فِي الْحِفَاظِ عَلَيْهَا فَرَاغٌ إِطْلَاقًا، لَنْ يَكُونَ لَهُ فَرَاغٌ أَبَدًا؛ لِأَنَّ الْهُمُومَ لَا تَنْقَطِعُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْقَطِعَ إِلَّا إِذَا وُحِّدَتْ عَلَى هَمٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ هَمُّ الْآخِرَةِ، وَحِينَئِذٍ يَتَأَتَّى وَعْدُ اللهِ، فَسَيَكْفِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا أَهَمَّهُ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ.
((مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَوَزَّعَتْهُ هُمُومُ أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللهُ تَعَالَى بِأَيِّ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ اللهِ عَذَّبَهُ)) .
الَّذِي يَجْعَلُ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا يَجْعَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَيَجْمَعُ عَلَيْهِ شَمْلهُ، وَجَمْعُ الشَّمْلِ هَذَا هُوَ اتِّحَادُ تِلْكَ الْهُمُومِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، يَجْمَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَتَأْتِيهِ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ.
وَالَّذِي يَجْعَلُ هَمَّهُ الدُّنْيَا، وَيَلْتَفِتُ عَنِ الْآخِرَةِ يُشَتِّتُ اللهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، فَتَجِدُ لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ عِدَّةَ أَشْغَالٍ، وَيَتَفَرَّعُ مِنْ كُلِّ شُغُلٍ عِدَّةُ أُمُورٍ أُخْرَى، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ هَذِهِ عِدَّةُ أَشْغَالٍ، فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ مُشَتَّتَ الْهَمِّ، وَيَجْعَلُ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَمَهْمَا الْتَفَتَ لَمْ يَرَ إِلَّا فَقْرَهُ، ((وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ)).
الْأَوَّلُ؛ ((جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ)).
وَالْآخَرُ؛ ((شَتَّتَ اللهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ)) . فَعَلَامَ الْعَنَاءُ، وَعَلَامَ التَّعَبُ؟!!
فَالَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ بِخَوْضِهِ فِي الدُّنْيَا، وَبِحِفَاظِهِ عَلَيْهَا أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ فَرَاغٌ فِي يَوْمٍ فَهُوَ وَاهِمٌ، لَنْ يَكُونَ لَهُ فَرَاغٌ أَبَدًا، وَمَا يَفْرُغُ مِنْهُ الْيَوْمَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ مِنْهُ أَلْوَانٌ وَشُكُولٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَمَا قَضَى أحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ = وَلا انْتَهَى أرَبٌ إلَّا إلى أرَبِ.
وَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنَ الدُّنْيَا لُبَانَتَهُ -يَعْنِي هَدَفَهُ- وَمَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبِ -مَا انْتَهَى هَدَفٌ إِلَّا إِلَى هَدَفٍ- فِي الدُّنْيَا مَا يَنْتَهِي هَدَفٌ إِلَّا وَيَبْدَأُ هَدَفٌ آخَرُ.
وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ أَحْوَالَ الْخَلْقِ، الْإِنْسَانُ إِذَا أَرَادَ مَثَلًا أَنْ يَقْتَنِيَ سَيَارَّةً -وَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ- وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتَنِيَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهُ، مَا أَنْ يَتَحَصَّلَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَطَلَّعَ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَنْ يَحْصُلَ الثَّانِي حَتَّى يَتَطَلَّعَ إِلَى الثَّالِثِ، أَمْرٌ لَا يَنْقَضِي.
وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ إِلَى الْأَمْرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَعَلِمَ أَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا تُؤَدِّي وَظِيفَةً، فَإِذَا أُدِّيَتِ الْوَظِيفَةُ فَلَا حَرَجَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُوَظِّفًا لِلدُّنْيَا فِي خِدْمَةِ الْآخِرَةِ.
وَأَمَّا إِذَا انْفَتَحَ الْبَابُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَانْطَلَقَ الْإِنْسَانُ فِي عُبَابِ وَأَمْوَاجِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَهَذَا أَمْرٌ لَنْ يَنْضَبِطَ أَبَدًا، وَلَنْ يَنْقَضِيَ الْفَرَاغُ مِنْهُ، وَمَا انْتَهَى أَرَبٌ إِلَّا إِلَى أَرَبٍ -وَالْأَرَبُ: الْغَايَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا، الْهَدَفُ الَّذِي يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَيْهِ-.
مَا يَنْتَهِي هَدَفٌ إِلَّا وَرَاءَهُ هَدَفٌ آخَرُ، هُمُومٌ مَرْحَلِيَّةٌ، وَهَذِهِ الْهُمُومُ الْمَرْحَلِيَّةُ لَا تُؤَدِّي إِلَّا إِلَى هُمُومٍ أُخْرَى بَعْدَهَا.
وَأَمَّا الْهَدَفُ الْأَسَاسُ الرَّئِيسُ الْكَبِيرُ هَدَفُ الْآخِرَةِ فَيَجْعَلُ الدُّنْيَا مُوَظَّفَةً لِخِدْمَةِ هَذَا الطَّرِيقِ، وَحِينَئِذٍ يَجْمَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَيَجْعَلُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، ثُمَّ تَأْتِيهِ الدُّنْيَا رَاغِمَةً.
وَالْآخَرُ يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ شَمْلُهُ، فَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَرِيقٍ يَسِيرُ، وَكُلَّمَا مَرَّ فِي طَرِيقٍ وَقَطَعَ فِيهِ مَرْحَلَةً يَعُودُ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْطَعَ فِيهِ خُطُوَاتٍ، ثُمَّ إِلَى طَرِيقٍ ثَالِثٍ، وَهَكَذَا.. يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ شَمْلُهُ، وَفَقْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، كُلَّمَا الْتَفَتَ لَمْ يَرَ إِلَّا فَقْرَهُ مَهْمَا أُوتِيَ مِنَ الْغِنَى؛ لِأَنَّ الشَّمْلَ قَدْ تَشَتَّتَ، ثُمَّ لَا يَأْتِيهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قَسَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ.
حُبُّ الدُّنْيَا هُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ مِنْ سَبَبَيْ طُولِ الْأَمَلِ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ طُولِ الْأَمَلِ: الْجَهْلُ.
الْإِنْسَانُ قَدْ يُعَوِّلُ عَلَى شَبَابِهِ، فَيَسْتَبْعِدُ قُرْبَ وُقُوعِ الْمَوْتِ مَعَ الشَّبَابِ، وَهَلْ يَأْتِي الْمَوْتُ فِي الشَّبَابِ؟!!
فَهُوَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَكْبُرَ، وَأَنْ يَشِيخَ، وَأَنْ يَهْرَمَ، وَلَا يَتَفَكَّرُ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَجْهَلُ أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي فِي جَمِيعِ الْأَعْمَارِ، وَلَا يُفَارِقُ أَحَدًا إِلَّا وَمَسَّهُ- يَجْهَلُ هَذَا الْمِسْكِينُ أَنَّ مَشَايِخَ بَلَدِهِ -يَعْنِي كِبَارَ السِّنِّ فِي بَلَدِهِ- لَوْ عُدُّوا -لَوْ أَحْصَاهُمْ إِنْسَانٌ، وَعَمِلَ إِحْصَائِيَّةً لِكِبَارِ السِّنِّ فِي بَلَدِهِ لَكَانُوا أَقَلَّ مِنْ عُشْرِ رِجَالِ الْبَلَدِ، وَرُبَّمَا أَقَلّ.
يَعْنِي إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَحْسُبَ كِبَارَ السِّنِّ فِي بَلَدٍ فَلَنْ يَصِلَ عَدَدُهُمْ إِلَى عُشْرِ سُكَّانِ الْبَلَدِ.
مَا الَّذِي جَعَلَهُمْ قِلَّةً إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ سَيَظَلُّ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ وَيَكْبُرَ فِي السِّنِّ، وَيُتْرَكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ؟!!
فَلِمَاذَا لَمْ يُتْرَكِ الْجَمِيعُ، لِمَاذَا قَلُّوا وَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَّا عُشْرَ سُكَّانِ أَيِّ بَلَدٍ؟!!
لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي الشَّبَابِ أَكْثَرُ، فَلَا يَصِلُ إِلَى كِبَرِ السِّنِّ إِلَّا الْقِلَّةُ، إِلَّا عُشْرُ سُكَّانِ الْبَلَدِ: هُمُ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى ذَلِكَ -عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ-.
وَإِذَنْ؛ الْمَوْتُ فِي الشَّبَابِ أَكْثَرُ، فَإِلَى أَنْ يَمُوتَ شَيْخٌ يَمُوتُ أَلْفُ صَبِيٍّ وَشَابٍّ.
فَمَنِ الَّذِي يُؤَمِّنُ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ كَانَ شَابًّا أَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ فِي الْأَلْفِ؟!!
فَإِلَى أَنْ يَمُوتَ شَيْخٌ يَمُوتُ أَلْفُ صَبِيٍّ وَشَابٍّ، وَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ يَصِلُونَ إِلَى كِبَرِ السِّنِّ لَضَاقَتِ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا.
فَلَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا لَعَلِمَ أَنَّهُ وَاهِمٌ وَأَنَّهُ مُخْطِئٌ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَنْ يُتْرَكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّ وُصُولَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعِيدٌ، وَأَنَّ مَوْتَهُ وَهُوَ فِي حَدَاثَةِ السِّنِّ وَفِي الشَّبَابِ غَيْرُ بَعِيدٍ، فَهَذَا يَحْدُثُ بِكَثْرَةٍ.
وَحَتَّى لَوْ كَانَ بَعِيدًا -يَعْنِي حَتَّى لَوْ كَانَ وُقُوعُ الْمَوْتِ فِي الشَّبَابِ وَفِي الصِّبَا بَعِيدٌ- فَالْمَرَضُ فَجْأَةً غَيْرُ بَعِيدٍ، يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ تَطُولَ بِهِ الْحَيَاةُ وَيَمْرَضَ، وَكُلُّ مَرَضٍ إِنَّمَا يَقَعُ فَجْأَةً، وَإِذَا مَرِضَ لَمْ يَكُنِ الْمَوْتُ مِنَ الْمَرِيضِ بَعِيدًا.
لَوْ تَفَكَّرَ الْإِنْسَانُ الْغَافِلُ وَعَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ مِنْ شَبَابٍ وَشِيبٍ وَكُهُولَةٍ، وَلَا لَهُ زَمَانٌ مِنْ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَخَرِيفٍ وَرَبِيعٍ، وَلَا مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ؛ لَعَظُمَ اسْتِشْعَارُ الْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ بِهَذَا الْمَوْتِ، وَاشْتَغَلَ اسْتِعْدَادًا لِوُقُوعِهِ إِذْ هُوَ مِنْهُ قَرِيبٌ، وَلَكِنْ الْجَهْلُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَحُبَّ الدُّنْيَا يَدْعُوَانِ الْإِنْسَانَ إِلَى طُولِ الْأَمَلِ، وَإِلَى الْغَفْلَةِ عَنْ تَقْدِيرِ الْمَوْتِ الْقَرِيبِ، وَهُوَ أَبَدًا يَظُنُّ أَنَّ الْمَوْتَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يُقَدِّرُ نُزُولَهُ بِهِ وَوُقُوعَهُ فِيهِ.
الْإِنْسَانُ -دَائِمًا وَأَبَدًا= عِنْدَهُ يَقِينٌ بِأَنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ، وَلَكِنْ هُوَ قَرِيبٌ لَا يَقَعُ، يَعْنِي هُوَ قَرِيبٌ نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ لَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ!!
كَمَا يَتَحَدَّثُ الْإِنْسَانُ مَثَلًا عَنِ الْمَوْتِ، فَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ بِأَنَّ الْمَوْتَ قَرِيبٌ، وَلَا يَتَيَقَّنُ هُوَ مِنْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ يُخْرِجُ نَفْسَهُ خَارِجَ الدَّائِرَةِ وَالْإِطَارِ، وَيَتَحَدَّثُ عَنْ شَيْءٍ لَنْ يَمَسَّهُ هُوَ!!
كَمَا يَعِظُ الْوَاعِظُ النَّاسَ بِالتَّقْوَى، هَذِهِ التَّقْوَى كَأَنَّهَا لِلْمَوْعُوظِينَ، وَلَيْسَتْ لَهُ هُوَ، فَهُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَوْعُوظًا بِذَلِكَ!!
وَلِذَلِكَ الْإِنْسَانُ مِنَّا يُشَيِّعُ الْجَنَائِزَ وَلَا يُقَدِّرُ أَنْ يُشَيَّعَ.
الْإِنْسَانُ مِنَّا مَا أَكْثَرَ مَا يُشَيِّعُ مِنَ الْجَنَائِزِ!!
وَلَكِنْ هَلْ عِنْدَ الْإِنْسَانِ يَقِينٌ أَنَّهُ سَيُشَيَّعُ وَسَتُشَيَّعُ جَنَازَتُهُ أَيْضًا؟!!
إِذَنْ؛ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْجَهْلُ سَبَبُ طُولِ الْأَمَلِ فِي الْحَيَاةِ، وَهُوَ صَرْفٌ عَنْ سَبِيلِ الْآخِرَةِ.
((عِلَاجُ طُولِ الْأَمَلِ))
مِنْ عِلَاجَاتِ طُولِ الْأَمَلِ: الْحِكْمَةُ، وَالْفِكْرُ الصَّافِي فِي الْمَصِيرِ وَالْمَآلِ:
عِلَاجُ طُولِ الْأَمَلِ: بِأَنْ يَقِيسَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ كَمَا يَحْمِلُ جَنَازَةَ غَيْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ تُحْمَلَ جَنَازَتُهُ، وَكَمَا يَدْفِنُ غَيْرَهُ فِي قَبْرِهِ لَا بُدَّ أَنْ يُدْفَنَ هُوَ فِي قَبْرِهِ.
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ: لَعَلَّ اللَّبِنَ -يَعْنِي ذَلِكَ الطُّوبَ النَّيْئَ الَّذِي تُبْنَى بِهِ الْمَقَابِرُ، أَوْ يَنْبَغِي أَنْ تُبْنَى بِهِ الْمَقَابِرُ؛ لِأَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يَدْخُلَ فِي الْمَقَابِرِ شَيْءٌ مَسَّتْهُ النَّارُ- الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَوْ حَتَّى يَظُنَّ ظَنَّا غَالِبًا أَنَّ الطُّوبَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي قَبْرِهِ، أَوِ الَّذِي يُوضَعُ عِنْدَهُ فِي لَحْدِهِ لَعَلَّهُ قَدْ ضُرِبَ وَفُرِغَ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي.
فَإِذَنْ؛ التَّسْوِيفُ جَهْلٌ مَحْضٌ.
الْأَكْفَانُ الَّتِي يُكَفَّنُ فِيهَا الْإِنْسَانُ لَعَلَّهَا قَدْ نُسِجَتْ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ وَمُعَدَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْرِي لَرُبَّمَا مَاتَ الْآنَ، أَوْ مَاتَ بَعْدَ حِينٍ قَرِيبٍ، فَأَكْفَانُهُ مَنْسُوجَةٌ وَمُعَدَّةٌ لَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، وَلَكِنِ الْإِنْسَانُ لَا يُفَكِّرُ فِي هَذَا وَيَسْتَبْعِدُهُ، وَهَذَا مِنْ جَهْلِ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.
إِذَا عَرَفْنَا أَنَّ سَبَبَ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْجَهْلُ وَحُبُّ الدُّنْيَا فَالْعِلَاجُ هُوَ دَفْعُ السَّبَبِ، فَالْجَهْلُ نَدْفَعُهُ بِالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْفِكْرِ الصَّافِي فِي الْمَآلِ، وَفِي الْمَعَادِ، وَفِي الْمَنْشَأِ، وَفِي الْمَصِيرِ، وَفِيمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ.
وَنَقِيسُ الشَّاهِدَ عَلَى الْغَائِبِ، وَالْغَائِبَ عَلَى الشَّاهِدِ، وَكَمَا يَكُونُ مَوْتُنَا، وَحَمْلُنَا، وَدَفْنُنَا، وَعِقَابُنَا، وَجَزَاؤُنَا بِالْخَيْرِ أَوْ بِالشَّرِّ؛ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لَنَا غَيْبًا فَنَحْنُ نَقِيسُهُ عَلَى مَا نُشَاهِدُهُ، مِنْ مَوْتِ مَنْ نُحِبُّ، وَمِنْ غُسْلِهِمْ، وَمِنْ تَكْفِينِهِمْ، وَمِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ حَمْلِهِمْ، وَمِنْ وَضْعِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ، وَمِنَ الِانْصِرَافِ عَنْهُمْ وَنَحْنُ نُحِبُّهُمْ، وَمِنْ عَدَمِ قُدْرَتِنَا عَلَى نَفْعِهِمْ بِشَيْءٍ إِلَّا بِالدُّعَاءِ الصَّالِحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.
*وَمِنْ عِلَاجَاتِ طُولِ الْأَمَلِ: إِخْرَاجُ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا مِنَ الْقَلْبِ:
وَحُبُّ الدُّنْيَا يُعَالِجُهُ الْإِنْسَانُ بِإِخْرَاجِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لِلدُّنْيَا الزَّائِلَةِ مِنْ قَلْبِهِ، وَلَكِنْ هَذَا شَدِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الدَّاءُ الْعُضَالُ الَّذِي أَعْيَا الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ عِلَاجُهُ.
لَا عِلَاجَ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْعُقُوبَةِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَمَهْمَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ الْيَقِينُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَرْتَحِلُ عَنْ قَلْبِهِ حُبُّ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ حُبَّ الشَّيْءِ الْكَبِيرِ يُذْهِبُ حُبَّ الشَّيْءِ الْقَلِيلِ.
فَإِذَا أَحَبَّ الْإِنْسَانُ الْآخِرَةَ، وَأَحَسَّ حَقَارَةَ الدُّنْيَا، وَإِذَا أَحَسَّ الْإِنْسَانُ نَفَاسَةَ وَقِيمَةَ الْآخِرَةِ، وَأَحَسَّ بِقِلَّةِ شَأْنِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْأَعْلَى يُذْهِبُ الْأَدْنَى، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَيَتَرَسَّخُ فِي الْقَلْبِ حُبُّ الْآخِرَةِ مَعَ الْإِيمَانِ بِهَا.
وَأَمَّا إِذَا مَا ظَلَّ الْإِنْسَانُ هَكَذَا فَإِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا يَقْوَى فِي قَلْبِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَضْعُفَ حُبُّ الْآخِرَةِ تَبَعًا؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ نَقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ.
((مَرَاتِبُ النَّاسِ فِي طُولِ الْأَمَلِ وَقِصَرِهِ))
النَّاسُ مَرَاتِبُ فِي طُولِ الْأَمَلِ وَقِصَرِهِ، النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَيَشْتَهِي ذَلِكَ أَبَدًا، يَتَمَنَّى الْخُلُودَ، وَيَأْمُلُ بِطُولِ الْأَمَلِ فِي الْبَقَاءِ السَّرْمَدِ وَأَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ أَبَدًا، قَالَ تَعَالَى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96].
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُلُ الْبَقَاءَ إِلَى الْهَرَمِ -أَقْصَى الْعُمُرِ- الَّذِي شَاهَدَهُ هُوَ فِي النَّاسِ.
وَمِنْهُمْ كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ فِي اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبُّ الْمَالِ)) .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَأْمُلُ إِلَى سَنَةٍ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِتَدْبِيرِ مَا وَرَاءَهَا، فَلَا يُقَدِّرُ لِنَفْسِهِ وُجُودًا فِي عَامٍ قَابِلٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُلُ مُدَّةَ الصَّيْفِ أَوِ الشِّتَاءِ، فَلَا يَدَّخِرُ فِي الصَّيْفِ ثِيَابَ الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ الصَّيْفَ فَقَطْ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّتَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُلُ الشِّتَاءَ فَقَطْ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الصَّيْفِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْجِعُ أَمَلُهُ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَلَا يَسْتَعِدُّ إِلَّا لِنَهَارٍ، وَأَمَّا لِلْغَدِ فَلَا.
((طُولُ الْأَمَلِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
طُولُ الْأَمَلِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
ذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- طُولَ الْأَمَلِ وَعَدَمَ تَذَكُّرِ الْمَوْتِ فِي بَعْضِ آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ؛ فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96].
فَذَكَرَ أَقْوَامًا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى الْمَوْتِ مُطْلَقًا، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ -لَوْ يَعِيشُ أَلْفَ سَنَةٍ-.
وَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
هَذَا هُوَ الْأَمَلُ الْمَذْمُومُ.
*طُولُ الْأَمَلِ فِي السُّنَّةِ:
الرَّسُولُ ﷺ ضَرَبَ لَنَا الْمِثَالَ فِي أَجَلِ الْإِنْسَانِ وَأَمَلِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا الْأَجَلُ الَّذِي يُحِيطُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهِ، عَلَّ الْإِنْسَانَ أَنْ يَلْتَفِتَ، وَعَلَّ الْإِنْسَانَ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي.
عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَخَذَ الرَّسُولُ ﷺ ثَلَاثَةَ أَعْوَادٍ، فَغَرَسَ إِلَى جَنْبِهِ وَاحِدًا، ثُمَّ مَشَى قَلِيلًا فَغَرَسَ آخَرَ، ثُمَّ مَشَى ﷺ قَلِيلًا فَغَرَسَ الْآخَرَ -يَعْنِي الثَّالِثَ-.
ثُمَّ قَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ هَذَا مَثَلُ ابْنِ آدَمَ، وَأَجَلِهِ، وَأَمَلِهِ، فَنَفْسُهُ تَتُوقُ إِلَى أَمَلِهِ، وَيَخْتَرِمُهُ أَجَلُهُ دُونَ أَمَلِهِ)) . هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ وَكِيعٌ فِي ((الزُّهْدِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ فِي ((الزُّهْدِ))، وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) .
ابْنُ آدَمَ يُرِيدُ الْأَمَلَ، وَالْأَمَلُ بَعْدَ الْأَجَلِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَصِلَ إِلَى هَذَا الْأَمَلِ اخْتَرَمَهُ الْأَجَلُ دُونَ الْأَمَلِ.
وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اللَّهُمَّ مَنْ آمَنَ بِكَ وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُكَ، فَحَبِّبْ إِلَيْهِ لِقَاءَكَ، وَسَهِّلْ عَلَيْهِ قَضَاءَكَ، وَأَقْلِلْ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ وَلَمْ يَشْهَدْ أَنِّي رَسُولُكَ، فَلا تُحَبِّبُ إِلَيْهِ لِقَاءَكَ، وَلا تُسَهِّلْ عَلَيْهِ قَضَاءَكَ، وَأَكْثِرْ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا)) . أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَابْنُ حِبَّانَ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((خَطَّ النَّبِيُّ ﷺ خَطًّا مُرَبَّعًا -يَعْنِي رَسَمَ مُرَبَّعًا عَلَى الْأَرْضِ-، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ -يَعْنِي مِنْ هَذَا الْمُرَبَّعِ-، وَخَطَّ خُطُوطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ.
وَقَالَ: ((هَذَا الْإِنْسَانُ، وَأَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ -فَالْأَمَلُ خَارِجُ الْأَجْلِ، فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ-، وَهَذِهِ الْخُطُوطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ -أَعْرَاضُ الدُّنْيَا-، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِمَنْكِبَيَّ، فَقَالَ: ((كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ))، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: ((إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
((جُمْلَةٌ مِنْ آثَارِ السَّلَفِ فِي طُولِ الْأَمَلِ))
قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ طُولُ الأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى ، فَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ ، أَلا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدْبِرَةً وَالآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ)) .
فَاعْمَلُوا لِلْبَاقِيَةِ، وَلَا تَلْتَفِتُوا كَذَلِكَ لِتِلْكَ الْمُدْبِرَةِ.
مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا = تِلْكُمُ الدُّنْيَا فَلا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((هَذَا الْمَرْءُ وَهَذِهِ الْحُتُوفُ حَوْلَهُ شَوَارِعُ إِلَيْهِ -يَعْنِي كُلُّهَا تُؤَدِّي إِلَيْهِ-، وَالْهَرَمُ وَرَاءَ الْحُتُوفِ، وَالْأَمَلُ وَرَاءَ الْهَرَمِ، فَهُوَ يُؤَمِّلُ، وَهَذِهِ الْحُتُوفُ شَوَارِعُ إِلَيْهِ، فَأَيُّهَا أُمِرَ بِهِ أَخَذَهُ، فَإِنْ أَخْطَأَتْهُ الْحُتُوفُ قَتَلَهُ الْهَرَمُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْأَمَلِ)) .
لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكَ الْأَمَدُ، وَلَا يُلْهِيَنَّكُمُ الْأَمَلُ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلَا وَإِنَّ الْبَعِيدَ مَا لَيْسَ آتِيًا.
مَا دَامَ الشَّيْءُ آتِيًا مَهْمَا ابْتَعَدَ فَهُوَ قَرِيبٌ، سَيَأْتِي مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَأَمَّا الَّذِي بَعِيدٌ حَقًّا فَهُوَ الَّذِي لَنْ يَأْتِيَ أَبَدًا.
((الْآثَارُ الْمُدَمِّرَةُ لِطُولِ الْأَمَلِ دُنْيَا وَآخِرَةً))
عِبَادَ اللهِ! طُولُ الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ، وَمَا أَعَدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَيُقَلِّلُ مِنَ الصَّبْرِ عِنْدَ الشَّهْوَةِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَصِيرَ الْأَمَلِ فَإِنَّ صَبْرَهُ يَقْوَى عِنْدَ عُرُوضِ الشَّهْوَةِ؛ لِتذَكُّرِهِ لِقِصَرِ الْأَجَلِ، وَلِذَهَابِ طُولِ الْأَمَلِ عَنْهُ.
وَطُولُ الْأَمَلِ يَجْلِبُ سَعَادَةً ظَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ بِلَذَّةٍ فَانِيَةٍ، وَيُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُجِفُّ الدَّمْعَ، وَيَزِيدُ فِي شِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا، يَدْفَعُ إِلَى الْمَعَاصِي، وَيُبْعِدُ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَيَتَعَدَّى الْإِنْسَانُ بِسَبَبِ طُولِ أَمَلِهِ عَلَى الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ سَيَبْقَى وَيَذْهَبُ الْآخَرُونَ، فَيَسْلُبُ حِينَئِذٍ الْحُقُوقَ، وَيَعْتَدِي عَلَى الْحُرُمَاتِ، وَيَنْتَهِكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ طُولِ الْأَمَلِ.
النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ وَيَتَصَارَعُونَ فِي شِبْرٍ مِنْ أَرْضٍ، فِي حَدٍّ بَيْنَ أَرْضَيْنِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِطُولِ الْأَمَلِ، وَأَمَّا هَذَا كُلُّهُ فَإِلَى زَوَالٍ، فَإِنْ لَمْ يَزُلْ عَنْكَ فَسَتَزُولُ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
((آمَالُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَالتَّابِعِينَ وَآمَالُنَا!!))
هَذِهِ كَانَتْ آمَالَهُمْ!! فَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ, وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ, وَالْحَاكِمُ, وَالْبَيْهَقِيُّ, وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)), وَغَيْرِهِ-: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ, ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ.
فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْضَ أَصْحَابِهِ, فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْيًا، فَقَسَمَهُ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ, وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ -كَانَ فِي إِبِلِهِمْ يَرْعَاهَا, فَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا-، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ, فَقَالَ: مَا هَذَا؟!!
قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قَالَ: ((قَسَمْتُهُ لَكَ)).
قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ- بِسَهْمٍ؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ.
فَقَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)).
فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يُحْمَلُ, قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ, فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!)).
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ)).
ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي جُبَّتِهِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ, فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ -أَيْ مِنْ دُعَائِهِ-: ((اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا, أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ)) .
خُذْ هَذَا السَّبْيَ, فَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، لَمْ أَتَّبِعْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَنْ أُحَصِّلَ فِي الدُّنْيَا مَغْنَمًا, وَلَا أَنْ أُفِيدَ فِيهَا فَائِدَةً، وَإِنَّمَا اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا, يَخْتَارُ مِيتَةً يُؤتِيهِ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهَا كَمَا اخْتَارَهَا، وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى حَلْقِهِ، أَنْ أُرْمَى بِسَهْمٍ هَاهُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ-؛ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّة، فَوَكَلَهُ اللهُ إِلَى صِدْقِهِ مَعَهُ -جَلَّ وَعَلَا-, قَالَ: ((إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقكَ)).
فَجِيءَ بِهِ مَحْمُولًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَأَكَّدَ مِنْهُ: ((أَهُوَ هُوَ؟!!))
قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
السَّهْمُ فِي حَلْقِهِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ بِأُصْبَعِهِ، فَقَالَ: ((صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ اللَّهُ))، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَمَا كَانَ مِنْهُ.
هَذِهِ حَقِيقَةُ الدِّينِ, حَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ, حَقِيقَةُ الْعَمَلِ لِخِدْمَةِ دِينِ رَبِّ الْعَالمِينَ, لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ، الْفَائِدَةُ هُنَاكَ، الْأَجْرُ هُنَاكَ، الْمَثُوبَةُ هُنَاكَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فِي الدُّنْيَا؛ فَتَعَبٌ وَنَصَبٌ، وَعَنَاءٌ وَبَلَاءٌ، وَأَلَمٌ وَمَشَقَّةٌ, وَاللَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُصْلِحُ الْبَالَ، وَيُطَمْئِنُ الْقَلْبَ.
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ وَابْنُ الْجَمُوحِ كَانَ مَا كَانَ مِنْهُمَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا يَضْرِبُ رِجْلَ أَبِي جَهْلٍ فَيُطِنُّهَا فَيُطِيحُ بِهَا، كَمَا تَخْرُجُ النَّوَاةُ مِنْ تَحْتِ الرَّحَى بِسِفَالِهَا.
وَيَأْتِي عِكْرَمَةُ فَيَضْرِبُهُ عَلَى عَاتِقِهِ فَيُطِنُّ ذِرَاعَهُ إِلَّا جِلْدَةً تَظَلُّ الذِّرَاعُ مُمْسِكَةً فِي الْجَسَدِ بِسَبَبِهِا.
يَقُولُ: قَاتَلْتُ عَامَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهِيَ كَذَلِكَ -يَعْنِي ذِرَاعَهُ- مَا زَالَتْ مُمْسِكَةً بِجِلْدَةٍ فِي جَسَدِهِ لَمْ تَنْفَصِلْ عَنْ جَسَدِهِ بَعْدُ.
قَالَ: فَآذَتْنِي!!
يُقَاتِلُ عَامَّةَ يَوْمِهِ وَهِيَ كَذَلِكَ تَرُوحُ وَتَجِيءُ كَبِنْدُولِ السَّاعَةِ تَتَحَرَّكُ كَمَا قَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا، لَمْ تَعُدْ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ سَيْطَرَةٍ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْهُ إِرَادَةٌ، وَإِنَّمَا مُرَادُهَا عَلَى حَسَبِ قَدَرِ رَبِّهَا فِيهَا؛ تَرُوحُ وَتَجِيءُ، قَالَ: فَآذَتْنِي.
فَمَا تَظُنُّهُ فَاعِلًا؟!!
أَيْنَ تَذْهَبُ تِلْكَ الْأَعْصَابُ الْحَامِلَاتُ لِلْأَلَمِ إِلَى الْمُخِّ تُتَرْجِمُ بِمَرَاكِزِهَا فِيهِ عَنْ ذَلِكَ الْأَلَمِ الْمُفْظِعِ الَّذِي يَذْهَلُ مِنْهُ الْعَقْلُ إِذَا مَا زَادَ، يَصِلُ الْأَلَمُ أَحْيَانًا بِالْجَسَدِ الْحَيِّ إِلَى مَرْحَلَةِ الذُّهُولِ، فَيَذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَاتِهِ حَتَّى يَغِيبَ وَهُوَ غَيْرُ غَائِبٍ، وَحَتَّى يُغَيَّبَ وَهُوَ حَاضِرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِسَّ شَيْئًا وَلَا يُدْرِكُ مِمَّا حَوْلَهُ أَمْرًا، مَا هُوَ هَذَا الْأَلَمُ عِنْدَئِذٍ؟
وَهَذَا رَجُلٌ تُؤْذِيهِ ذِرَاعُهُ وَقَدْ أَمْسَكَتْ بِجَسَدِهِ بِجِلْدَةٍ؛ فَمَا يَقُولُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟
قَالَ: فَقَاتَلْتُ عَامَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَدْ آذَتْنِي، قَالَ: فَوَضَعْتُهَا تَحْتَ رُكْبَتِي -أَوْ قَالَ تَحْتَ قَدَمِي- ثُمَّ تَمَطَّيْتُ.
ثُمَّ يَتَمَطَّى فَيَفْصِلُهَا، وَيَعُودُ إِلَى الْمَعْرَكَةِ مِنْ أَجْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَيْنَ الْأَلَمُ؟!
يَسْتَعْلِي بِرُوحِهِ فَوْقَ الْأَلَمِ!!
وَآخَرُ يَأْتِيهِ رُمْحٌ مِنْ خَلْفٍ بِغَدْرٍ وَمَا كَانَ مُوَلِّيًا، وَمَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ حَتَّى فِي جَاهِلِيَّتِهِ يَخْشَى أَنْ يَأْتِيَهُ رُمْحٌ مِنْ خَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَلِّي الْأَدْبَارَ حَتَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
هَذَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَأْتِيهِ رُمْحٌ غَادِرٌ مِنْ خَلْفِهِ، وَهَا هُوَ يَخْرُجُ بِنَصْلِهِ مِنْ أَمَامَ، هَا هُوَ يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا، هَا هُوَ يَأْتِي يَدْفَعُهُ الْغِلُّ وَيُزْجِيهِ الْحِقْدُ، وَهَا هُوَ يَبْزَغُ مِنَ اللَّحْمِ الْحَيِّ شَيْئًا فَشَيْئًا كَمَا تَتَشَقَّقُ الْأَرْضُ الْعَطْشَى لِتَسْتَقْبِلَ مَاءَ السَّمَاءِ، كَمَا تَتَشَقَّقُ الْأَرْضُ الَّتِي أَصَابَهَا الْغَيْثُ عَنِ النَّبْتِ الْأَخْضَرِ يَتَرَعْرَعُ بِالنَّمَاءِ.
هَا هُوَ صَدْرُهُ يَنْفَجِرُ شَيْئًا فَشَيْئًا!!
هَا هُوَ سَهْمٌ مِنَ النَّارِ تَتَلَظَّى بِهِ الْجُنُوبُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ!!
وَهَا هُوَ النَّصْلُ يَخْرُجُ حَادًّا ثَقِيلًا، وَهَا هِيَ الدِّمَاءُ تَنْبَثِقُ مُنْفَجِرَةً مِنْ أَمَامٍ، أَيَنْكَفِئُ عَلَى أَلَمِهِ أَمْ يَسْتَعْلِي فَوْقَ أَلَمِهِ؟!!
هَا هُوَ وَالدَّمُ يَنْبَثِقُ كَالنَّافُورَةِ مِنْ أَمَامٍ يَحْفِنُ، هَكَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُوحِي الْجَلِيلِ؛ يَحْفِنُ الدِّمَاءَ الْمُنْبَثِقَةَ الْمَوَّارَةَ الْفَوَّارَةَ بِكَفَيْهِ وَيُلْقِي بِهَا جِهَةَ السَّمَاءِ يَقُولُ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
أَيُّ إِيمَانٍ؟!!
أَيُّ إِيمَانٍ هَذَا وَأَيُّ يَقِينٍ؟!!
وَفِي الْمُقَابِلِ مَا هُوَ إِيمَانُنَا نَحْنُ، وَمَا هُوَ الْيَقِينُ؟!!
أَيُّ إِيمَانٍ، وَأَيُّ اسْتِعْلَاءٍ، وَأَيُّ يَقِينٍ؟!!
جِدٌّ مَا فِيهِ هَزْلٌ، وَيَقِينٌ مَا فِيهِ شَكٌّ، وَاسْتِعْلَاءٌ مَا فِيهِ سُفُولٌ!!
وَأَمَّا نَحْنُ فَمَنْ نَكُونُ وَمَا نَكُونُ؟!!
أَلَا إِنَّ النَّاظِرَ فِي أَحْوَالِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، يَعْلَمُ أَيْنَ يَكْمُنُ السِّرُّ، السِّرُّ بَيْنَ عِزِّهِمْ وَذُلِّنَا.
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَعْلَوْا وَتَسَفَّلْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ أُعْطُوا وَحُرِمْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَزُّوا وَذَلَلْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ انْتَصَرُوا وَهُزِمْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَاشُوا وَمِتْنَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ!!
هَذَا السِّرُّ إِنَّمَا يَكْمُنُ فِي هَذَا الْجِدِّ الْجَادِّ وَالْبُعْدِ عَنِ الْهَزْلِ الْهَزِيلِ.
إِنَّهُمْ قَدْ عَادُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَسْتَمِدُّونَ مِنَ اللهِ الْمَعُونَةَ وَالنُّصْرَةَ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
((بِنَاءُ الْوَطَنِ الْقَوِيِّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَمَلِ))
*بِالْإِيمَانِ وَالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ فِي اللهِ تَقْوَى الْأَوْطَانُ، وَيَعْظُمُ شَأْنُهَا:
إِنَّ الْأُمَّةَ مَتَى مَا حَقَّقَتِ رُكْنَيِ الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، وَأَتَتْ بِأَصْلَيْهِ مَكَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا، فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا.
وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.
وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمْ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهِدْ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ، بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.
فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».
إِذَنْ؛ مَنِ الَّذِي يُنْصَرُ؟!
صَاحِبُ الْإِيمَانِ، صَاحِبُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
*التَّخْطِيطُ لِلرُّقِيِّ بِالْوَطَنِ وَالْأُمَّةِ قَائِمٌ عَلَى الْأَمَلِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى حِكَايَةً لِمَا حَدَثَ لِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ مَلِكِ مِصْرَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 43-49].
وَقَالَ مَلِكُ مِصْرَ إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَدَخَلْنَ فِي بُطُونِهِنَّ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ عَلَى الْهَزِيلَاتِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرَأَيْتُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدِ اسْتُحْصِدَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى عَلَوْنَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ قُدْرَتِهَا شَيْءٌ.
يَا أَيُّهَا السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ! يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ! أَخْبِرُونِي بِتَأْوِيلِ رُؤْيَايَ الْخَطِيرَةِ وَعَبِّرُوهَا لِي، وَاذْكُرُوا بُعْدَهَا الْوَاقِعِيَّ فِي هَذَا الْكَوْنِ، إِنْ كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ عِلْمَ الْعِبَارَةِ وَتَفْسِيرِ رُمُوزِ الْأَحْلَامِ.
قَالَ الْمَلَأُ مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمُعَبِّرِينَ مُجِيبِينَ الْمَلِكَ: رُؤْيَاكَ هَذِهِ أَخْلَاطٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَمَنَامَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَحْنُ بِتَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ بِعَالِمِينَ.
وَقَالَ السَّاقِي الَّذِي نَجَا مِنَ الْقَتْلِ بَعْدَ هَلَاكِ صَاحِبِهِ الْخَبَّازِ، وَتَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ((اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ))، قَالَ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، إِذْ أَسْتَفْتِي فِيهَا السَّجِينَ الْعَبْرَانِيَّ الَّذِي كُنْتُ مُصَاحِبًا لَهُ فِي سِجْنِ رَئِيسِ الشُّرْطَةِ، فَأَرْسِلْنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَى السِّجْنِ، فَفِيهِ رَجُلٌ عَالِمٌ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلَهُ، فَأَتَى السِّجْنَ.
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ، أَيُّهَا الْعَظِيمُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِكَ وَتَأْوِيلِكَ وَسُلُوكِكَ وَتَصَرُّفَاتِكَ وَصُحْبَتِكَ، فَسِّرْ لَنَا رُؤْيَا مَا رَأَى، سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ بَقَرَاتٍ هَزِيلَاتٍ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، لَعَلِّي أَرْجِعُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى الْمَلِكِ وَجَمَاعَتِهِ، لِيَعْلَمُوا تَأْوِيلَ مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ، وَلْيَعْلَمُوا مَكَانَتَكَ وَفَضْلَكَ.
لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَضَى فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ لَوْ كَانَ سِوَاهُ لَقَالَ: لَا أُعَبِّرُ لَكُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْحَبْسِ، أَوْ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيَّ حَقِّي، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُمْ وَأَرَادَ نَفْعَهُمْ.
قَالَ يُوسُفُ مُعَبِّرًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْوَضْعِ الزِّرَاعِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ وَالْمَالِيِّ خِلَالَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً الْقَادِمَةِ، بِمَا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ، ثُمَّ قَحْطٍ، ثُمَّ غَوْثٍ، ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ عَلَى عَادَتِكُمُ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الزِّرَاعَةِ، فَمَا حَصَدْتُمْ مِنَ الْحِنْطَةِ فَاتْرُكُوهُ فِي سُنْبُلِهِ؛ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَيَقَعَ فِيهِ السُّوسُ، وَاحْفَظُوا أَكْثَرَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ الدَّأَبِ فِي الزِّرَاعَةِ -زِرَاعَةِ الْأَقْوَاتِ وَادِّخَارِهَا- طَوَالَ السِّنِينَ السَّبْعِ الْمُخْصِبَةِ، يَأْتِي سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَةٍ، تَكُونُ مُمْحِلَةً شَدِيدَةً عَلَى النَّاسِ، يَأْكُلُ النَّاسُ وَتَأْكُلُ مَوَاشِيهُمْ فِيهَا مَا زَرَعْتُمْ وَادَّخَرْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَوَاتِ الْخِصْبِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَحْفَظُونَهُ وَتَدَّخِرُونَهُ؛ احْتِيَاطًا لِلطَّوَارِئِ الْمُلْجِئَةِ الَّتِي قَدْ يُسْمَحُ فِيهَا بِالْأَخْذِ مِنَ الِاحْتِيَاطِيِّ بِمَقَادِيرِ الضَّرُورَةِ.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا، فَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فِيهَا سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ -كَمَا أَوَّلَ- يَكُونُ فِيهَا الْخِصْبُ، ثُمَّ سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ يَكُونُ فِيهَا الْجَدْبُ، وَلَيْسَ فِي الرُّؤْيَا أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ عَامٌ تَرْجِعُ فِيهِ تَصَارِيفُ الْكَوْنِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِيهِ تَنْزِلُ الْأَمْطَارُ النَّافِعَةُ الَّتِي يُنْبِتُ اللهُ بِهَا الزُّرُوعَ، وَفِيهَا يَعْصِرُونَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنْ نَحْوِ الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالْقَصَبِ، وَتَكْثُرُ النِّعَمُ عَلَى النَّاسِ.
لَمْ يَكْتَفِ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بَلْ بَادَرَ فَوَضَعَ لَهُمْ خُطَّةَ عَمَلٍ لِمُوَاجَهَةِ سَنَوَاتِ الْقَحْطِ وَالْجَفَافِ، وَهِيَ خُطَّةٌ اقْتِصَادِيَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْحَيَاةَ الزِّرَاعِيَّةَ وَالتَّمْوِينِيَّةَ لِلْأُمَّةِ خِلَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً تَأْتِي عَلَى اسْتِقْلَالٍ.
*بِالْإِيمَانِ وَالْأَمَلِ، وَالرَّجَاءِ فِي اللهِ وَالْعَمَلِ تَظَلُّ مِصْرُ صَخْرَةَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ:
أَيُّهَا الْمِصْرِيونَ! اعْمَلُوا، وَاجْتَهِدُوا فِي الْعَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا خُرُوجَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ أَزْمَةٍ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ: أَنْ يَعْمَلَ كُلُّ مِنَّا عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، لَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ.
أَيُّهَا المِصْرِيونَ! إِنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَكَاتَفَ، وَأَنْ نَتَسَاعَدَ، وَأَنْ نَتَعَاوَنَ؛ مِنْ أَجْلِ الْخُرُوجِ مِنَ النَّفَقِ الْمُظْلِمِ، وَمِنْ أَجْلِ الْخَلَاصِ مِنْ هَذَا اللَّيْلِ الْبَهِيمِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَقُومَ الْأُمَّةُ مُرْتَكِزَةً عَلَى مِحْوَرٍ قَائِمٍ وَأَصِيلٍ، وَهُوَ هَذَا الشَّعْبُ الْمِصْرِيُّ الْأَصِيلُ، هُوَ الصَّخْرَةُ الْبَاقِيَةُ يَنْحَطُّ عَنْهَا السَّيْلُ، هُوَ الصَّخْرَةُ الْقَائِمَةُ الَّتِي تَحْتَ أَقْدَامِهَا تَنْحَسِرُ الْأَمْوَاجُ -أَمْوَاجُ الْمُؤَامَرَاتِ-، وَلَيْسَ هَذَا بِحَادِثٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَدِيمٍ، شَرِيطَةَ أَنْ يَرْجِعَ الْمِصْرِيُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَلَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى مَا فَعَلَ الْمِصْرِيُّونَ مِنْ فَجْرِ التَّارِيخِ، مِنْ أَيَّامِ الْهُكْسُوسِ، مَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ فِي التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ، لَوْ رَجَعْتُمْ لَعَلِمْتُمْ أَنَّ انْحِسَارَ أَمْوَاجِ الصَّلِيبِيِّينَ وَالتَّتَارِ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْغُزَاةِ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَمَا تَوَحَّدَتِ الْأُمَّةُ عَلَى دِينِ رَبِّهَا، عَلَى مُجْمَلِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، مُتَآزِرَةً، مُتَعَاوِنَةً، مُتَكَاتِفَةً، مُتَرَابِطَةً، لَهَا هَدَفٌ، هَدَفٌ سَامٍ وَنَبِيلٌ، تُبْذَلُ الْمُهَجُ لَهُ رَخِيصَةً، وَتُبْذَلُ الْأَمْوَالُ لَهُ بِلَا حِسَابٍ؛ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَتَحْصِيلِهِ؛ لِتَبْقَى مِصْرُ رَافِعَةً رَايَةَ الْإِسْلَامِ عَالِيَةً خَفَّاقَةً فِي الْأَجْوَاءِ.
((الْآمَالُ وَالْبُشْرَيَاتُ فِي نَصْرِ الْأُمَّةِ وَعَوْدَةِ مَجْدِهَا))
إِنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِخَلْقِهِ دِينًا مَنْصُورٌ عَزِيزٌ غَالِبٌ، حَفِظَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَلَا يَلْحَقُهُ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَلَا يُدْرِكُهُ تَبْدِيلٌ وَلَا تَحْرِيفٌ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ تَلْحَقَهُ هَزِيمَةٌ أَوْ يَحُطَّ بِسَاحَتِهِ انْكِسَارٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُومُوا بِحَقِّ اللهِ فِيهِ.
وَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ، وَأَهْلُهُ مُمْتَحَنُونَ، وَالْحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ، فَلَا تَعْجَبْ فَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ.
فَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي هُوَ دِينُهُ، هُوَ -جَلَّ وَعَلَا- حَافِظُهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، وَهُوَ مَنْصُورٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَبِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدْرِكَهُ هَزِيمَةٌ وَلَا أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ، وَإِنَّمَا يُخْشَى عَلَى مَنِ انْتَمَى إِلَيْهِ، وَانْتَسَبَ إِلَى حَقِيقَتِهِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُ، أَنْ يَأْتِيَهُ مَا يَأْتِي مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي خَلْقِهِ {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وقد بَيَّنَ ربنا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أن هذا الدين مُحَارَبٌ من اليوم الأول {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
وَقَدْ كَانُوا مُشْفِقِينَ مِنْ نُزُولِ الْخَيْرِ وَحْيًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَكَانُوا فِي مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقٍ وَضَنْكٍ وَعَنَتٍ، هَلْ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّ الْأُمِّيِّينَ وَبَعَثَ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ ﷺ فِي الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ الَّتِي لَا تَكْتُبُ وَلَا تَحْسِبُ؟!!
وَحَارَبُوا دِينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِنْ مَكْرٍ وَخِدَاعٍ، وَبِكُلِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبٍ، وَتَرْهِيبٍ وَتَرْغِيبٍ، وَتَحْرِيفٍ وَتَزْيِيفٍ، وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزِيزٌ غَالِبٌ مَنْصُورٌ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36]. فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَالَ الْكَافِرِينَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ سَيَكُونُ هَذَا دَأْبَهُمْ أَبَدًا، يَجْمَعُونَ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ عُدَّتِهِمْ وَعَتَادِهِمْ لِحَرْبِ الدِّين وَمُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ حَالًا وَمَقَالًا، لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَأْلِيفِ الْكُتُبِ، وَإِشَاعَةِ الدِّعَايَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِفِتْنَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ، وَلِبَثِّ الْفَاحِشَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَمُحَارَبَةِ دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعُدَّةِ وَالْعَتَادِ وَالسِّلَاحِ، وَبِالدِّعَايَةِ الْمُغْرِضَةِ، وَالْوِشَايَةِ الْكَاذِبَةِ، يَبْذُلُونَ مَا يَبْذُلُونَ مِنْ طَاقَاتِهِمْ لِحَرْبِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَبَشَّرَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالسُّوأَى دُنْيَا وَآخِرَةً {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} لِمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ وَرَأَى خَيْبَةَ الْمَسْعَى، وَلِمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ سَيُدْخِلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّارَ تَلَظَّى {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}: وَهَاهُنَا نَلْحَظُ وَيَجِبُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْعَطْفُ بِـ(ثُمَّ)، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَجْرَى هَذَا الْقَوْلَ عَلَى سُنَنٍ قَدَّرَهَا، وَسُنَنُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْكَوْنِيَّةُ لَا تَتَخَلَّفُ أَبَدًا، {فَسَيُنْفِقُونَهَا}: فَعَقَّبَ بِـ(الْفَاءِ)؛ لِبَيَانِ حِرْصِهِمْ عَلَى سَعَايَتِهِمْ مِنْ أَجْلِ حَرْبِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا جَاءَ بِذَلِكَ نَبِيُّهُ ﷺ، وَأَنْذَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَوَعِّدًا مُتَهَدِّدًا الْمُفَرِّطِينَ الَّذِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى السُّنَنِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَوْنِهِ، وَالَّذِينَ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَجْعَلُونَ مَا لِلْإِسْلَامِ مِنْ نَصْرٍ فِي ذَاتِهِ نَصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِالدِّينِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلِطَبَائِعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كَوْنِهِ.
{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَالَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ التَّوَلِّي عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، عَنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، وَعَنِ اتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَأَخْبَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَالَمِينَ- أَنَّهُ فِي حَالَ التَّوَلِّي عَنِ الدِّينِ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -وَهُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغْلَبُ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْقَهَّارُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ- أَنَّهُ يَسْتَبْدِلُ قَوْمًا غَيْرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَوَلَّوْا، ثُمَّ لَا يَجْعَلُهُمْ أَمْثَالَهُمْ، بَلْ يَتَمَسَّكُونَ بِدِينِ رَبِّهِمْ، وَيَرْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الذُّلَّ عَنْهُمْ، وَيَرْفَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَذَلَّةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَعَنْ دِيَارِهِمْ، وَيَنْصُرُهُمُ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْكَافِرِينَ يَمْكُرُونَ لِهَدْمِ هَذَا الدِّينِ مَكْرَهُمْ، وَبَيَّنَ أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ إِلَى الْبَوَارِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُحَصِّلُونَ مِمَّا أَرَادُوهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَعُودُونَ بِمِلْءِ قَبْضَةٍ مِنْ ذُبَابٍ، بَلْ وَلَا قَبْضَةٌ مِنْ تُرَابٍ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
وَقَدْ حَاوَلُوا مُنْذُ جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَهْدِمُوا مَبَادِئَ هَذَا الدِّينِ، وَسَعَوْا فِي ذَلِكَ سَعْيَهُمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى أَمْرَيْنِ، فَحَارَبُوا الدَّاعِي وَحَارَبُوا الدَّعْوَةَ، حَارَبُوا النَّبِيَّ ﷺ وَآذَوْهُ، وَنَعَتُوهُ بِكُلِّ نَعْتٍ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرٌّ رَاشِدٌ ﷺ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ وَلَنْ يَكُونَ فِي مِثْلِ عَقْلِ النَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ، وَمَعَ ذَلِكَ فَجَرَ الْكُفَّارُ فِي الْخُصُومَةِ مَعَهُ، فَوَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ وَهُوَ سَيِّدُ الْعُقَلَاءِ ﷺ.
وَحَاوَلُوا أَنْ يَقْتُلُوا النَّبِيَّ ﷺ بَعْدَ مَا آذَوْهُ مَا آذَوْهُ، وَأُوذِيَ أَتْبَاعُهُ، وَأَشَاعَ الْمُشْرِكُونَ الْإِشَاعَاتِ وَحَارَبُوا النَّبِيَّ ﷺ وَمَنْ أَسْلَمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ وَجَسَدَهُ.
وَوَقَعَ التَّجْوِيعُ وَالِاضْطِهَادُ، وَوَقَعَ التَّعْذِيبُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ فِي أَرْضِ اللهِ الْوَاسِعَةِ، وَيُتَتَبَّعُ الَّذِينَ فَرُّوا بِدِينِهِمْ مُهَاجِرِينَ.
وَتَذْهَبُ الْوُفُودُ إِلَى مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْمُلُوكِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُرَدُّوا أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَتَّلُوا، وَيَنْصُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دِينَهُ، وَيُعْلِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْرَ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ.
وَالدِّينُ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلَا تَعْجَبْ فَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ!!
لَقَدْ وَعَدَ اللهُ رُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ بِالنَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالتَّمْكِينِ وَالْعِزَّةِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وَللهِ الْعِزَّةُ بِقَهْرِهِ وَقُوَّتِهِ وَغَلَبَتِهِ، وَلِرَسُولِهِ ﷺ بِإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِإِمْدَادِ اللهِ لَهُمْ بِالْقُوَّةِ الْغَالِبَةِ وَنَصْرِهِمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، نَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، وَبِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَبِالِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مَهْمَا أَمْهَلْتُهُمْ وَأَمْلَيْتُ لَهُمْ.
وَسَوْفَ نَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ تَشْهَدُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا، وَتَشْهَدُ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، فَيَحْكُمُ اللهُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَيَحْكُمُ عَلَى الْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ دَارِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
قَضَى اللهُ قَضَاءً ثَابِتًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وَالْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ الْمُتَّبِعُونَ لِرُسُلِي، وَهَذِهِ الْغَلَبَةُ تَكُونُ بِظُهُورِ الْحَقِّ ظُهُورًا فِكْرِيًّا بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، أَوْ بِالتَّجْرِبَةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَمُمَارَسَاتِ الْحَيَاةِ الَّتِي تَكْشِفُ أَنَّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدَ اللهِ، وَبَلَّغَهُ رُسُلُ اللهِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَفِيهِ نَفْعٌ وَسَعَادَةٌ لِلنَّاسِ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْغَلَبَةُ بِظُهُورِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ ظُهُورَ فِكْرِيًّا وَعَسْكَرِيًّا مَعًا، فَيَكُونُ لِحَمَلَةِ رِسَالَةِ اللهِ فِي الْأَرْضِ الظُّهُورُ وَالْفَتْحُ الْمُبِينُ، وَالسُّلْطَانُ وَالتَّمْكِينُ.
إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَلَى نَصْرِ رُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، غَالِبٌ عَلَى أَعْدَائِهِ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103].
نُنْجِي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ وَاتَّبَعُوهُمْ مِنْ شُرُورِ الْكَافِرِينَ وَمَكَايِدِهِمْ، وَكَمَا أَنْجَيْنَا رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُمْ مِنْ شُرُورِ الْكَافِرِينَ وَمَكَايِدِهِمْ كَذَلِكَ نُنَجِّيكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ وَصَدَّقُوكَ إِنْجَاءً حَقًّا ثَابِتًا عَلَيْنَا، فَاطْمَئِنُّوا لِنَصْرِ اللهِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ.
عَبْدَ اللهِ! إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَأَنْتَ أَعْلَى؛ لِأَنَّ اللهَ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
الْعِزَّةُ لَكُمْ..
وَالْمَجْدُ لَكُمْ..
وَالْكَرَامَةُ لَكُمْ..
أَنْتَ تَعْبُدُ اللهَ وَتُوَحِّدُهُ، وَغَيْرُكَ يَكْفُرُهُ، وَيُشْرِكُ بِهِ.
أَنْتَ لَا تَسْجُدُ لِأَحَدٍ وَلَا لِشَيْءٍ دُونَ اللهِ، وَغَيْرُكَ يَسْجُدُ لِمَخْلُوقَاتِ اللهِ.
أَنْتَ تَتَّبِعُ خَيْرَ الرُّسُلِ وَخَيْرَ الْبَشَرِ، غَيْرُكَ يَتَّبِعُ زِبَالَاتِ الْأَذْهَانِ، وَنِفَايَاتِ الْأَفْكَارِ، وَقِمَامَاتِ الْأُمَمِ.
أَنْتَ مُسْلِمٌ.. فَاعْتَزَّ بِإِسْلَامِكَ، وَاسْتَعْلِ بِإِيمَانِكَ!!
لَا تَكُنْ وَضِيعًا، وَلَا ذَلِيلًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِسْلَامِ فِي قَرَنٍ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْعِزَّةِ، دِينُ الرِّفْعَةِ، دِينُ الْكَرَامَةِ، كَمَا أَنَّهُ دِينُ الْعَدْلِ وَنَفْيِ الْجَوْرِ.
يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَلَّا نَلْتَفِتَ إِلَى مَا يُشِيعُهُ الْآخَرُونَ مِنْ وَسَائِلَ؛ لِهَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ نَفْسِيًّا.
الْحَقُّ قُوَّتُه فِيهِ..
وَالْحَقُّ مَنْصُورٌ، وَمُضْطَهَدٌ دَوْمًا.
فَلَا تَبْتَئِسْ، وَلَكِنَّ النَّصْرَ لَهُ، النَّصْرُ لِلْحَقِّ وَإِنْ بَدَا فِي عَيْنِ الْمَرْءِ ضَعِيفًا، النَّصْرُ لِلْحَقِّ وَإِنْ بَدَا بَادِيَ الرَّأْي مَهِينًا.
وَالْعِزَّةُ لِلْحَقِّ؛ لِأَنَّ اللهَ نَاصِرُهُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ، وَيَخْذُلُ أَعْدَاءَهُ.
لَا تَسْتَهِينُوا بِالنِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكُمْ بِهَا {وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
تَعَلَّمْ دِينَ رَبِّكَ الَّذِي شَرَّفَكَ بِالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ، وَلَا تُضَيِّعْ وَقْتَكَ وَعُمُرَكَ وَرَأْسَ مَالِكَ.
((رِسَالَةٌ مَلِيئَةٌ بِالْأَمَلِ وَالْبُشْرَيَاتِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي كُلِّ مَكَانٍ))
يَا جُنُودَ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ! اثْبُتُوا؛ فَإِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ..
وَلَوْلَا أَنَّ مَقَامِي بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لَقُلْتُ كَمَا قَالَ، قَالَ: ((أَقُولُهَا تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا)). عِنْدَمَا كَانَ يَسِيرُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَوِّي عَزَائِمَهُمْ؛ لِمُوَاجَهَةِ التَّتَارِ، وَقَدْ اصْطَفَّتِ الصُّفُوفُ، فَيَقُولُ: ((إِنَّكُم مَنْصُورُونَ))، فَيَقُولُ لَهُ بَعْضُهُمْ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَيَقُولُ: ((أَقُولُهَا تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا، أَنْتُمْ مَنْصُورُونَ)) ؛ لِأَنَّ جُنْدَ اللَّهِ هُمُ الْمَنْصُورُونَ, وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الْحَقِّ هُمُ الْمَنْصُورُونَ.
لَا تَبْتَئِسُوا؛ لَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَلَا تَضْعُفُوا.
تَمَسَّكُوا بِمَا عَلِمْتُمْ، وَبِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَأَنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَلَا يَغُرنَّكُم طَرِيقُ الْبَاطِلِ وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُ السَّالِكِينَ فِيهِ، وَلَا يُؤِسَنَّكُمْ وَلَا يُوحِشَنَّكُمْ طَرِيقُ الْحَقِّ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُ السَّالِكِينَ فِيهِ.
وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:الْأَمَل