((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَأَثَرُهُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
وَتَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مِنَّةُ اللهِ عَلَى كُلِّ الْبَشَرِيَّةِ))
فَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أَكْبَرُ مِنَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ امْتَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ وَعَلَى قَوْمِهِ.
وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْقُرْآنَ رِفْعَةٌ وَسُؤْدَدٌ، وَفَخْرٌ وَفَخَارٌ لِنَبِيِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]: وَإِنَّهُ لَفَخَارٌ وَشَرَفٌ، وَسُؤْدَدٌ وَعِزَّةٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هِدَايَةً وَنُورًا.
الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هُوَ خَاتَمُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَأَعْظَمِهَا عِنْدَ اللهِ، الَّذِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، قَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 193-195].
عِبَادَ اللهِ! الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ حَقِيقَةً, أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الْبَاقِيَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ, فَلَيْسَ لِنَبِيٍّ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ مِنْ بَعْدِ عَصْرِهِ وَأَوَانِهِ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ جَاءَ بِمُعْجِزَاتٍ حِسِّيَّةٍ لَا تُحْصَى وَلَا تُسْتَقْصَى, وَجَاءَ بِالْمُعْجِزَةِ الْفَذَّةِ الْفَرْدِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ, كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ فِيمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ ﷺ ، قَالَ ﷺ: ((مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ -أَيْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ- مَا عَلَى مِثْلِهِ آمَنَ الْبَشَرُ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ, فَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﷺ )).
مَا مِنْ نَبِيٍّ أُرْسِلَ مِنْ قَبْلِي إِلَّا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَاتِ مَا عَلَى مِثْلِهِ آمَنَ الْبَشَرُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا وَرَسُولًا.
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُقَرِّرُ هَذَا لِإِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ السَّابِقِينَ.
لَقَدْ أُوتِيَ النَّبِيُّ ﷺ مِثْلَ مَا أُوتِيَ الْأَنْبِيَاءُ السَّابِقُونَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مُعْجِزَةً بِمُعْجِزَةٍ.
أَرْبَتْ مُعْجِزَاتُهُ الْحِسِّيَّةُ عَلَى الْأَلْفِ كَمَا قَالَ الْعُلْمَاءُ -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِمْ-.
وَأَمَّا الْمُعْجِزَةُ الْبَاقِيَةُ الَّتِي حَصَرَ فِيهَا الْكَلَامَ هَاهُنَا يَقُولُ الَّتِي انْقَضَتْ مِنَ السَّابِقِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ يَنْقَضِي مِثْلُهَا لِي, وَأَمَّا الْبَاقِي إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فَهَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِأَئِمَّةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ صُنْعِكَ، وَحَاوَلُوا إِغْرَاءَكَ بِتَبْدِيلِ مَا كَرِهُوا مِنَ الْقُرْآنِ، قُلْ لَهُمْ: أُقْسِمُ لَكُمْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِهِ الْبَيَانِيِّ وَالْعِلْمِيِّ وَالتَّشْرِيعِيِّ وَفِي سَائِرِ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ؛ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مُعِينًا.
((عَقِيدَتُنَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَا وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
وَمَعْنَى (مِنْهُ بَدَا)؛ أَيْ: أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُ بَدَأَ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللهُ عِنْدَهَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ.
وَمَعْنَى (إِلَيْهِ يَعُودُ)؛ أَنَّهُ يُرْفَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ حَرْفٌ فِي الْمَصَاحِفِ، وَلَا آيَةٌ فِي الْقُلُوبِ.
فِي فَاتِحَةِ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى عِبَادِهِ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- ذَكَّرَ النَّاسَ بِتَعْلِيمِهِمُ الْقُرْآنَ {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}
[الرحمن: ١-٤]
فَفِي فَاتِحَةِ تَعْدَادِ النِّعَمِ يَذْكُرُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ حَقِيقَةً, كَمَا أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ بِنَفْسِهِ, فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ ﷺ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [ التوبة: ٦ ]
{حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقَةً.
وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ تَعَامَلُوا مَعَ صِفَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ بِأَنْ أَخَذُوهَا كَمَا وَرَدَتْ, فَأَثْبَتُوا لَهَا مَعَانِيَهَا الَّتِي تَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَنَزَّهُوا اللهَ-جَلَّ وَعَلَا- عَنْ كُلِّ نَقْصٍ, وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الصِّفَاتِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَجْسِيمٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَدْرَى وَأَعْلَمُ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ, وَرَسُولُهُ ﷺ أَعْلَمُ بِهِ سبحانه مِنْ كُلِّ خَلْقِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
فَإِذَا وَصَفَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَفْسَهُ بِصِفَةٍ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُثْبِتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ, وَإِذَا أَثْبَتَ النَّبِيُّ ﷺ لِرَبِّهِ صِفَةً فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُثْبِتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لَهُ نَبِيُّهُ ﷺ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، مِنْهُ بَدَأَ بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ)).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ : ((وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ وَتَنْزِيلُهُ، لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ، مِنْهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ وَتَنْزِيلُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، هُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ)).
هُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ لِإِجْمَاعِهِمْ، فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكَبِيرَةِ.
وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ اللَّالَكَائِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ فِي كَوْنِ كَلَامِ اللهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، قَالَ : ((فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِئَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا أَوْ أَكْثَرُ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ، سِوَى الصَّحَابَةِ الْخَيِّرِينَ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ، وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ، وَفِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِئَةِ إِمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ، وَتَدَيَّنُوا بِمَذَاهِبِهِمْ، وَلَوِ اشْتَغَلْتُ بِنَقْلِ قَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا كَثِيرَةً))، وَكُلُّهُمْ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
أَئِمَّةُ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ أَنَّ مُسَمَّى الْكَلَامِ –وَهُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا-، وَأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ.
كَيْفَ نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ؟!
نَحْنُ نُؤْمِنُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللهِ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، أَنْزَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنَّهُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الضَّلَالِ. نُؤْمِنُ بِهَذَا كُلِّهِ، وَنُؤْمِنُ أَيْضًا بِأَنَّنَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِمَّا كَلَّفَنَا اللهُ بِهِ، فَالْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِهِ.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَسَخَ أَحْكَامَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ قَوْلُهُ تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].
الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ بِالِاعْتِقَادِ: أَيْ بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهَا حَقِيقَةً، وَأَنْ يُصَدِّقَ بِمَا صَحَّ مِنْ أَخْبَارِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ. فَهَذَا بِالِاعْتِقَادِ.
وَأَمَّا بِالْعَمَلِ: فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَاسِخٌ لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ.
فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَامِلًا بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَهَذَا مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، أَنْ تَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، أَلَّا تُهْمِلَهُ، وَأَلَّا تَجْعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ، وَدَبْرَ أُذُنِكَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ فِي فَهْمِهِ، وَفِي الْعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ، وَالنَّظَرِ فِي زَوَاجِرِهِ وَمَوَاعِظِهِ؛ يَعْنِي: أَنْزَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِيُتْدَبَّرَ وَلِيُعْمَلَ بِهِ.
فَهَذَا مِنَ الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الْمَجِيدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سِوَى هَذِهِ لَكَفَى؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يَلْحَظُ هَذَا الْمَعْنَى الْكَبِيرَ، وَهُوَ: أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مُحَقِّقًا لِلْإِيمَانِ بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ عَامِلًا بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَجِيدِ.
((فَضَائِلُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَشَرَفُ حَمَلَتِهِ))
*الْوَحْيُ هُوَ رُوحُ الْعَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ:
إِنَّ الْوَحْيَ هُوَ رُوحُ الْعَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ, وَإِذَا خَلَا الْعَالَمُ مِنَ الرُّوحِ وَالنُّورِ وَالْحَيَاةِ؛ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ الْقُرآنَ يُرْفَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ, فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ آيَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ, وَحِينَئذٍ -عِنْدَمَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ وَمَادَّةِ هَذَا الْوُجُودِ الْحَقِّ- فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقِيمُ السَّاعَةَ.
إِذَنْ الْوَحْيُ هُوَ نُورُ الْعَالَمِ وَحَيَاتُهُ وَهِدَايَتُهُ, وَعَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِ الْإِنْسَانِ بِهَذَا النُّورِ وَالْحَيَاةِ وَالْهُدَى يَكُونُ تَحْقِيقُهُ لِلْقَصْدِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا لِغَايَةٍ, وَهَذِهِ الْغَايَةُ مُبَيَّنَةٌ فِي الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ, وَإِذَا مَا عَاشَ النَّاسُ بِهَذَا الْوَحْيِ؛ سَعِدُوا فِي الْحَيَاةِ, وَتَجَنَّبُوا سُبُلَ الشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ, وَلَا حَيَاةَ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَّا بِأَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْوَحْيِ.
الشَّيْطَانُ فِي مَعْرَكَتِهِ مَعَ الْإِنْسَانِ حَرِيصٌ تَمَامَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ عَائِشِينَ بِنَقِيضِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا وَحْيٌ وَإِمَّا نَقِيضُهُ, فَإِمَّا أَنْ تَحْيَا بِالْوَحْيِ، وَإِمَّا أَنْ تَحْيَا بِنَقِيضِ الْوَحْيِ.
أَمَّا مَنِ اتَّبَعَ الْوَحْيَ؛ فَهُوَ مُتَّبِعٌ للَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ, وَأَمَّا مَنْ فَارَقَ الْوَحْيَ؛ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا وَحْيٌ وَإِمَّا نَقِيضُ الْوَحْيِ.
وَالَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَّا هُوَ: ((أَنْ نَحْيَا بِالْوَحْيِ)), وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَوْ أَنَّكَ أَخَذْتَ مَعْنَاهَا الصَّحِيحَ, وَجَعَلْتَهُ فِي حَيَاتِكِ نِبْرَاسًا وَمِنْهَاجًا, وَحَقَّقْتَهُ فِي ذَاتِكَ وَفِي رُوحِكَ وَفِي نَفْسِكَ وَفِي جَسَدِكَ وَفِيمَنْ حَوْلَكَ, هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُورِثُكَ السَّعَادَةَ دُنْيَا وَآخِرَة, وَتُجَنِّبُكَ الشَّقَاءَ وَالتَّعَاسَةَ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَهِيَ: ((عِشْ بِالْوَحْيِ)).
*بَعْضُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِ الْقُرْآنِ:
*الْقُرْآنُ هُوَ فَضْلُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ الْعَظِيمَةُ، وَبِاتِّبَاعِهِ يُفْرَحُ: قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ مِنْ أُمَّتِهِ، قُلْ لِلنَّاسِ مُبَيِّنًا وَمُقْنِعًا: اسْتَمْسِكُوا بِإِفْضَالِ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتِهِ الْعَظِيمَةِ بِكُمْ، وَمَا آتَاكُمْ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَشِفَاءِ الصُّدُورِ، فَبِذَلِكَ الَّذِي جَاءَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَالْحِرْصَ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ فَلْيَفْرَحُوا.
وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا أَعَدَّ لَكُمْ فِيمَا لَوْ اسْتَمْسَكْتُمْ بِهِ، وَاتَّبَعْتُمْ وَصَايَاهُ، هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ كُلِّ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا الْفَانِيَةِ.
*وَالْقُرْآنُ كِتَابٌ قَوِيٌّ غَيْرُ مَغْلُوبٍ، لَا يَلْحَقُهُ بَاطِلٌ وَلَا تَبْدِيلٌ: قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].
إِنَّ الْقُرْآنَ لَكِتَابٌ لَا نَظِيرَ لَهُ، قَوِيٌّ فِي الْحَقِّ، غَالِبٌ بِبَيِّنَاتِهِ وَبَيَانَاتِهِ وَبِبَيَانِهِ، وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، غَيْرُ مَغْلُوبٍ، لَا يَأْتِيهِ مَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ حَقَائِقَ سَابِقَةٍ لِتَنْزِيلِهِ وَلَا مِمَّا يَأْتِي بَعْدَ تَنْزِيلِهِ، فَلَا يَجِدُ الْبَاطِلُ إِلَيْهِ سَبِيلًا مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ.
وَهُوَ أَيْضًا مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللهِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ.
*وَقَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ هَذَا الْقُرْآنِ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
هَذَا الْقُرْآنُ كِتَابٌ نُظِّمَتْ آيَاتُهُ تَنْظِيمًا مُحْكَمًا مُتْقَنًا، لَا يَقَعَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَلَا خَلَلٌ، بِوَضْعِ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَوْضِعِهِ، وَجَعْلِ آيَاتِهِ مُطَابِقَةً لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، فَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا الْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَتْ بِهِ، ثُمَّ بُيِّنَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَبَيَانِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
*وَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْكَمٌ فِي لَفْظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ: قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1].
تِلْكَ الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَاتُ مِنْ عِنْدِ اللهِ هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الَّذِي يَجِبُ تَدْوِينُهُ بِالْكِتَابَةِ، وَجَعْلُهُ بَيْنَ النَّاسِ كِتَابًا مَحْمِيًّا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ أَوْ النَّقْصِ أَوْ التَّبْدِيلِ، الْمُحْكَمُ فِي لَفْظِهِ وَمَعانِيهِ، وَفِيمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي ضَمَّنْاهَا فِي آيَاتِهِ الَّتِي أَوْحَيْنَاهَا إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
*وَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ: قَالَ تَعَالَى -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92].
وَهَذَا الْقُرْآنُ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ عِنْدِنَا عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، دَائِمُ النَّفْعِ، لَا تَنْضَبُ فُيُوضُ مَعَانِيهِ.
وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4].
الْقُرْآنُ مُثْبَتٌ عِنْدَنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فِي مَكَانٍ عَلِيٍّ ذِي مَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ؛ لِأَنَّ دَلَالَاتِهِ تَتَعَلَّقُ بِكُبْرِيَاتِ الْحَقَائِقِ الْمُبَيِّنَاتِ لِصِفَاتِ اللهِ، وَمَطْلُوبَاتِهِ مِنْ عِبَادِهِ.
وَهُوَ -أَيْضًا- حَكِيمٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ فِي مَعَانِيهِ وَمَبَانِيهِ، وَأَغْرَاضِهِ وَمَرَامِيهِ، مُحْكَمٌ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ وَالْبُطْلَانُ، وَلَا الِاخْتِلَافُ وَلَا التَّنَاقُضُ.
وَقَدْ فَصَّلَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ كُلَّ شَيْءٍ، قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ -يَا رَسُولَ اللهِ- الْكِتَابَ مُتَّصِفًا بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ قَضَايَا الدِّينِ الْكُبْرَى.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: هُدًى عَظِيمًا يَدُلُّهُمْ عَلَى طَرِيقِ سَعَادَتِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: رَحْمَةً لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ.
وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: بُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ الْمُنْقَادِينِ لِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ، يُبَشِّرُهُمْ بِرْضْوَانِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَبِالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ الْخَالِدَةِ فِي الْجَنَّةِ يَوْمَ الدِّينِ.
*وَحَفِظَ اللهُ الْقُرْآنَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وَإِنَّا لِلْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ -يَا رَسُولَ اللهِ- لَمُتَكَفِّلُونَ بِحِفْظِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ بَشَرٌ، مَهْمَا تَتَابَعَتِ الْأَجْيَالُ، وَتَوَالَتِ الْقُرُونُ وَالْأَحْقَابُ.
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 13-14].
إِنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ عِنْدَ اللهِ، رَفِيعَةِ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ، مُطَهَّرَةٍ مِنَ الدَّنَسِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ.
*فَضَائِلُ الْقُرْآنِ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَشَرَفُ حَمَلَتِهِ:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَرْبُوطَةً بِقَانُونٍ لَا تَخْرُجُ عَنْهُ وَلَا تَتَعَدَّاهُ بِحَالٍ أَبَدًا.
قَانُونٌ كَوْنِيٌّ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ فَمِ النَّبِيِّ ﷺ فَلَا مَنَاصَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي دُنْيَا اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: عَلَى قَدْرِ اعْتِنَاءِ الْأُمَّةِ بِالْقُرْآنِ تَكُونُ رِفْعَتُهَا وَيَكُونُ عُلُوُّهَا, وَعَلَى قَدْرِ إِهْمَالِ الْأُمَّةِ لِلْقُرْآنِ يَكُونُ انْحِطَاطُهَا وَتَكُونُ ذِلَّتُهَا.
يَقُولُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ , قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».
إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ -أَيْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ- أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ
الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ يُقَدِّمُ فِي الدُّنْيَا؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ, فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ, فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا, فَإِنْ كَانُوا فِي هَذَا سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً, فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا)). وَهِيَ رِوَايَةٌ لِمُسْلِمٍ .
وَالنَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- إِكْرَامَ حَامِلِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ, وَمَفْهُومُ هَذَا الْكَلَامِ الْعَظِيمِ أَنَّ الَّذِي لَا يُكْرِمُ حَامِلَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لَيْسَ مُجِلًّا لِلَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ -أَيْ وَإِكْرَامَ حَامِلِ الْقُرْآنِ- غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ».
الْغَالِي فِيهِ: الَّذِي يَأْخُذُ بِالْعَمَلِ بِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْهَجِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَالْجَافِي عَنْهُ: الَّذِي يَتَتَبَّعُ مُتَشَابِهَهُ وَمَا غَمُضَ مِنْهُ عَلَى خَلْقِ اللهِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ, وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ, وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» ؛ أَيِ الَّذِي يَسِيرُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمَعْدَلَةِ بِالسَّوِيَّةِ كَمَا يُرِيدُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَيُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ.
الْقُرْآنَ يُقَدِّمُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا, وَيُقَدِّمُهُ فِي قَبْرِهِ, وَيُقَدِّمُهُ يَوْمَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ, وَيُقَدِّمُهُ فِي الْجَنَّةِ بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَأَمَّا تَقْدِيمُهُ فِي الدُّنْيَا فَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ».
وَأَمَّا تَقْدِيمُهُ فِي الْقَبْرِ, فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَجْعَلُ شُهَدَاءَ أُحُدٍ فِي قُبُورِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَثْرَةً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، فَكَانَ يَجْعَلُ فِي الْقَبْرِ الِاثْنَيْنِ أَحْيَانًا, وَأَحْيَانًا يَجْعَلُهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ, كَانَ يَجْعَلُ الِاثْنَيْنِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَيُقَدِّمُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ.
كَيْفَ يُقَدِّمُهُ ؟
يَقُولُ جَابِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَإِذَا جِيءَ بِاثْنَيْنِ يَجْعَلُهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ, وَيَجْعَلُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَيُّهُمَا أَكْثَرُ حَمْلًا لِكِتَابِ اللهِ؟))
فَإِذَا أُشِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي قَبْرِهِ» .
فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ يُقَدِّمُ صَاحِبَهُ فِي قَبْرِهِ بِتَقْدِيمِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَتَقْدِيمِ نَبِيِّهِ ﷺ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُهُ يَوْمَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ فَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ, وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- : عَنْ بُرَيْدَةَ صَاحِبِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((يَلْقَى الْقُرْآنُ صَاحِبَهُ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ - أَيِ الشَّاحِبُ وَجْهُهُ- فَيَقُولُ: أَلَا تَعْرِفُنِي؟
فَيَقُولُ: لَا
فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ, أَنَا الَّذِي أَظْمَأْتُكَ بِالْهَوَاجِرِ, وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ, وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ, وَإِنَّكَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ, فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ, وَيُكْسَى تَاجَ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولَانِ: بِمَا كُسِينَا هَذِهِ؟
فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ»0
اُنْظُرْ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي فَضِيلَةِ حَامِلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الْعَامِلِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَمَا يَلْقَى صَاحِبَهُ وَقَدِ انْشَقَّ عَنْهُ قَبْرُهُ، فَلَا يَعْرِفُهُ صَاحِبُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ الْوَجْهِ.
فَيَقُولُ: أَلَا تَعْرِفُنِي؟
فَيَقُولُ : مَنْ أَنْتَ؟
فِي هَوْلٍ وَكَرْبٍ، وَفِي عَنَاءٍ وَبَلَاءٍ، وَفِي خَوْفٍ وَفِي مَسْغَبَةٍ, نَحْنُ فِي ظَمَإٍ وَفِي هَوْلٍ عَظِيمٍ, فَأَيْنَ أَنَا مِنْكَ وَلَمْ أَرَكَ قَبْلُ؟
يَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ, أَنَا الَّذِي أَظْمَأْتُكَ بِالْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ, عَمَلٌ بِهِ لَا يَنْقَطِعُ: أَظْمَأْتُكَ بِالْهَوَاجِرِ صِيَامًا, وَأَسْهَرْتُكَ بِاللَّيْلِ قِيَامًا .
أَنَا الَّذِي أَظْمَأْتُكَ بِالْهَوَاجِرِ, وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ.
وَالْقَانُونُ أَنَّ كُلَّ تَاجِرٍ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ وَأَنْتَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ؛ لِأَنَّ تِجَارَتَكَ تِجَارَةٌ لَا تَبُورُ وَلَنْ تَبُورَ.
قَالَ النَّبِيُّ الْمَأْمُونُ ﷺ: ((فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِيَسَارِهِ, وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ, وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا, فَيَتَعَجَّبَانِ: لِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟
فَيُقَالُ : بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ».
لِأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ وَرَائِهِ دَفْعًا وَتَشْجِيعًا, كَانَا مِنْ وَرَائِهِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا, كَانَا مِنْ وَرَائِهِ بِهَذَا الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ سَوْقًا وَأَمَامَهُ إِمَامًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ حَامِلًا لِأَعْظَمِ كَلَامٍ قَطُّ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَهَذَا إِكْرَامُهُ عِنْدَمَا يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ, وَهَذَا أَمَانُهُ عِنْدَ الْفَزَعِ وَطُمَأْنِينَتُهُ عِنْدَ الرَّوْعِ, وَهَذَا هَذَا كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَأَمَّا فِي الْجَنَّةِ فَحَدِيثُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ فِي الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا, فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُهَا» .
اقْرَأْ وَارْتَقِ وَاصْعَدْ صُعُودَكَ وَاعْلُ عُلُوَّكَ وَاسْمُقْ سُمُوقَكَ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ جَنَّةِ الرِّضْوَانِ إِلَى الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى صُعُدًا.
اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا, فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُهَا
أَلَا يَكْفِي فِي الدَلَالَةِ عَلَى شَرَفِ حَمْلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَجَلَالَةِ حِفْظِهِ -وَالْحَافِظُ اللهُ- وَفِي جَلَالَةِ حَمْلِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ وَأَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ مَا قَالَ النَّبِيُّ الْأَكْرَمُ ﷺ: ((إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ)).
قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ)) .
أَلَا يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى شَرَفِ حَمْلِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَتِلَاوَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ, أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ هُمْ قَدِ اخْتَصَّ بِهِمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَاخْتُصُّوا بِهِ, وَالَّذِينَ هُمْ مِنَ الْقُرْبِ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ هُمْ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ أَشْرَافُ الْأُمَّةِ الَّذِينَ أَخَذُوا بِهِ لَا غَالِينَ فِيهِ وَلَا جَافِينَ عَنْهُ وَلَا نَائِمِينَ عَنْ تِلَاوَتِهِ وَتَرْتِيلِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ, وَلَا غَافِلِينَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ, كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ؟!!
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ الْقُرْآنَ وَالصِّيَامَ يَشْفَعَانِ فِي الْعَبْدِ, يَقُولُ الصِّيَامُ: مَنَعْتُهُ الشَّهْوَةَ وَالطَّعَامَ وَالشَّرَابَ بِالنَّهَارِ, فَيُشَفَّعُ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ وَأَوْرَثْتُهُ السُّهْدَ وَالسَّهَرَ)) .
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَيُشَفَّعَانِ)). فَيَشْفَعُ الصِّيَامُ, وَيَشْفَعُ الْقُرْآنُ فِي الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: ((مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ, وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ)) .
هُنَاكَ مَا يُسَمَّى بِتِلَاوَةِ التَّعَبُّدِ, فَعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ : عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ كَانَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ, وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا, لَا أَقُولُ {الم} حَرْفٌ, وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ, وَلَامٌ حَرْفٌ, وَمِيمٌ حَرْفٌ)).
يَعْنِي فِيمَا يُخْبِرُ الْمَعْصُومُ ﷺ أَنَّكَ مَا قَرَأْتَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- إِلَّا وَكُتِبَ لَكَ بِهَذَا الْحَرْفِ حَسَنَةٌ, ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَةَ عِنْدَ رَبِّكَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
فَيَا هَدَاكَ اللهُ! لَوْ أَنَّكَ قَرَأْتَ جُزْءًا مِنْ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَعَلَى كَمْ حَرْفٍ يَشْتَمِلُ؟
وَكَمْ حَرْفًا يَحْتَوِي هَذَا الْجُزْءُ مِنْ كِتَابِ اللهِ؟
وَلَوْ أَنَّكَ قَرَأْتَ خَتْمَةً مِنْ فَاتِحَتِهَا إِلَى خَاتِمَتِهَا, فَعَلَى كَمْ حَرْفٍ تَشْتَمِلُ؟
وَكَمْ حَرْفًا تَحْتَوِي تِلْكَ الْخَتْمَةُ الشَّرِيفَةُ؟
وَيَحْسِبُ لَكَ رَبُّكَ -جَلَّ وَعَلَا- وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ؛ لِذَلِكَ كَانَ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- لَا يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَّا مَعَ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُكَلِّمَكَ اللهُ فَاقْرَأْ كِتَابَ اللهِ, وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُنَاجِيَ اللهَ فَادْخُلْ إِلَى الصَّلَاةِ, فَعِنْدَئِذٍ تُنَاجِي رَبَّكَ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أَعْظَمَ قِيمَةٍ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا لِكِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ، وَالصَّدْرُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ صَدْرٌ خَرِبٌ كَالْقَبْرِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ الصَّدْرَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَسْكُنُهُ النُّورُ, وَإِنَّمَا فِيهِ مِنَ الظُّلْمَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-, وَحَذَارِ ثُمَّ حَذَارِ مِنْ نِسْيَانِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَمِنْ هَجْرِهِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصَّدْرَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ, وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَدْفَعُ عَنْكَ فِي قَبْرِكَ, فَإِذَا جَاءَكَ مَنْ يُعَذِّبُكَ فِي قَبْرِكَ -سَلَّمَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ- قَامَ الْقُرْآنُ يَدْفَعُ عَنْكَ, يَقُولُ: لَقَدْ أَسْهَرْتُهُ بِاللَّيْلِ, فَإِذَا جَاءَكَ مِنَ الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ لِأَجْلِ الْعَذَابِ, قَامَ الصِّيَامُ لِكَيْ يَدْفَعَ عَنْكَ, فَقَالَ الصِّيَامُ عِنْدَئِذٍ: لَقَدْ أَظْمَأْتُهُ بِالْهَوَاجِرِ .
عِبَادَ اللهِ! كُونُوا مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ تَعْلُو بِإِقْبَالِهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَإِنَّهَا تَسْفُلُ وَتَنْحَطُّ بِبُعْدِهَا عَنْ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
عِبَادَ اللهِّ! إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَقْوَامًا, وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» .
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّكَ إِذَا كُنْتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْهَوْلِ الْأَكْبَرِ وَالْفَزَعِ الْأَعْظَمِ جَاءَ الْقُرْآنُ شَفِيعًا لَكَ, كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ» .
ثُمَّ عَمَلًا بِهِ -عِبَادَ اللهِ-؛ تَفَهُّمًا لِمَعَانِيهِ, وَعَمَلًا بِمَبَانِيهِ وَمَعَانِيهِ, وَأَخْذًا بِهَذَا الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ, تَمَسُّكًا بِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أَنَّ الْقُرْآنَ شَرَفٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ وَلِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ مِنْ كُلِّ نَاطِقٍ بِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ لُغَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: ٤٤ ] وَإِنَّهُ لَشَرَفٌ لَكَ, وَرَفْعٌ لِمَقَامِكَ يَا مُحَمَّدُ فَوْقَ رِفْعَتِهِ, وَلِقَوْمِكَ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْقُلُوبَ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَّا بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ, كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: ٢٨ ]
اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَخْبَرَ أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَّا بِذِكْرِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأَوَّلُ مَا يَنْطَبِقُ ذِكْرُ اللهِ عَلَى كَلَامِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, فَإِذَا مَا قِيلَ ذِكْرُ اللهِ مُفْرَدًا انْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مُطْلَقًا.
فَأَعْظَمُ مَا آتَيْتُمْ أَبْنَاءَكُمْ -عِبَادَ اللهِ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ- كِتَابُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَمَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ فَظَنَّ أَحَدًا قَدْ أُوتِيَ خَيْرًا مِنْهُ فَقَدْ حَقَّرَ مَا عَظَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هُوَ أَعْظَمُ قِيمَةٍ قَطُّ لِمَنْ كَانَ لَهُ حَافِظًا, لِمَنْ كَانَ لَهُ حَامِلًا, لِمَنْ كَانَ لِأَدَائِهِ مُجِيدًا, كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي ((الصَّحِيحِ)) , تَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ -الَّذِي يُجِيدُ تِلَاوَتَهُ لَا يَتَعَثَّرُ فِي تِلَاوَتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ-
مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ -يَعْنِي مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْمُطَهَّرِينَ الْمَبْرُورِينَ الْأَبْرَارِ- وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ فَلَهُ أَجْرَانِ -أَجْرُ التِّلَاوَةِ وَأَجْرُ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُلَاقِيهَا-)).
حَذَارِ ثُمَّ حَذَارِ أَنْ تَكُونَ صَاحِبَ مَالٍ وَمَنْصِبٍ وَجَاهٍ طَاعِنًا فِي السِّنِّ وَلَيْسَ مَعَكَ شَيْءٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ.
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ
فَإِنَّ كَبِيرَ الْقَوْمِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ صَغِيرٌ إِذَا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ .
عَيْبٌ كَبِيرٌ أَنْ تَكُونَ طَاعِنًا فِي السِّنِّ وَلَا تُجِيدُ تِلَاوَةَ السُّوَرِ الصَّغِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ.
عَيْبٌ كَبِيرٌ أَنْ تَكُونَ مُفَرَّغًا, وَأَنْ يُؤْتِيَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْفَرَاغَ, وَأَنْ يُؤْتِيَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْوَقْتَ ثُمَّ لَا تُنْفِقُ الْوَقْتَ فِي أَشْرَفِ مَا يُنْفَقُ وَقْتٌ فِيهِ قَطُّ وَهُوَ كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, دِرَاسَةً وَتِلَاوَةً وَحَمْلًا وَأَدَاءً وَعَمَلًا وَدَعْوَةً بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا غَشِيَتْهُمُ السَّكِينَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ, وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» .
تَحُفُّ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ فِي حَلْقَتِهِمْ, يَرْفَعُ الْمَلَكُ جَنَاحَيْهِ, وَيَأْتِي أَخُوهُ فَيَجْعَلُ جَنَاحَيْهِ فَوْقَ جَنَاحَيْهِ حَتَّى تَبْلُغَ الْمَلَائِكَةُ الْحَافُّونَ بِالْحَلْقَةِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا, كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ.
عِبَادَ اللهِ! أَحْرَصُ مَا يَحْرِصُ عَلَيْهِ النَّاسُ, وَأَشَدُّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ حَرِيصِينَ هُوَ كِتَابُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَلَا يَخْدَعَنَّكُمْ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ أُمِّيًّا, وَلَا يَخْدَعَنَّكُمْ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ قَدْ عَلَتْ بِهِ السُّنُونُ, فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمَأْمُونِ ﷺ كَانُوا فِي جُمْلَتِهِمْ أُمِّيِّينَ لَا يَقْرَءُونَ وَلَا يَكْتُبُونَ, وَجَاءَ وَصْفُهُمْ بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ ﷺ بِوَصْفِ حَالِهِمْ فِي زَمَانِهِ, فَقَالَ: ((إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ [لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» ؛ يَعْنِي فِي حَالِ زَمَانِهِ هُوَ ﷺ.
وَوَصَفَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ بِأَنَّهُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ ﷺ, فَإِذَا كُنْتَ أُمِّيًّا لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ فَهَوِّنْ عَلَيْكَ؛ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ حَمَلُوا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أَخْذًا مِنْ فَمِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ لَا مِنْ صَحَائِفَ كَتَبُوهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
وَإِذَا كُنْتَ كَبِيرًا فِي السِّنِّ وَلَوْ طَاعِنًا فَهَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ فَوْقَ السِّتِّينَ.
وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ وَهُوَ مِنْ كَبارِ الْأَحْنَافِ وَمِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ دَخَلَ فِي التَّفَقُّهِ وَلَهُ ثَمَانُونَ عَامًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَبِتْ عَلَى فِرَاشِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى عُلَمَائِنَا أَجْمَعِينَ-.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْمَجْمُوعِ)) : ((لَمْ يَكُنِ السَّلَفُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ - يُعَلِّمُونَ أَحَدًا الْفِقْهَ وَالْحَدِيثَ إِلَّا إِذَا حَفِظَ الْقُرْآنَ)).
*صِفَاتٌ يَنْبَغِي عَلَى حَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا:
عِبَادَ اللهِ ! إِنَّ حَامِلَ الْقُرْآنِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ بِصَمْتِهِ إِذَا تَكَلَّمَ النَّاسُ, وَبِوَقَارِهِ إِذَا مَا سَفِهَ النَّاسُ, وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ بِحِلْمِهِ إِذَا مَا اسْتَبَدَّ الْغَضَبُ بِالنَّاسِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ قَارِئُ الْقُرْآنِ وَحَامِلُهُ بِثَبَاتِهِ إِذَا مَا اسْتَفَزَّتِ الْخُطُوبُ النَّاسَ.
يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ حَامِلُ الْقُرْآنِ بِسَهَرِ لَيْلِهِ إِذَا نَامَ النَّاسُ, وَبِبُكَائِهِ إِذَا ضَحِكَ النَّاسُ.
يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ حَامِلُ الْقُرْآنِ بِحَالِهِ إِذَا مَا اسْتَبَدَّتْ سَيِّئَاتُ الْأَحْوَالِ بِالنَّاسِ.
وَانْظُرْ إِلَى إِمَامٍ عَظِيمٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ -رَحِمَهُ اللهُ-، انْظُرْ إِلَى نَافِعٍ -رَحِمَهُ اللهُ- -نَافِعُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ أَبُو رُوَيمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، إِمَامٌ مِنَ الْعَشَرَةِ الْكِرَامِ, وَمِنَ الَّذِينَ حَمَلُوا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ حَقَّ حَمْلِهِ, وَتَلَوْا كِتَابَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ- .
كَانَ نَافِعٌ -رَحِمَهُ اللهُ- أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ, وَلَكِنَّهُ كَانَ صَبِيحًا شَدِيدَ صَبَاحَةِ الْوَجْهِ, كَانَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ مُتَمَلِّيًا فِيهِ لَا يُمَلُّ, حَتَّى قَالَ لَهُ قَائِلٌ : مَا أَشَدَّ صَبَاحَتَكَ! وَمَا أَجْمَلَ وَجْهَكَ! مَعَ شِدَّةِ سَوَادِ وَجْهِهِ وَشِدَّةِ أُدْمَتِهِﷺ .
فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا أَكُونُ كَذَلِكَ وَقَدْ أَتَانِي النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا, فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَصَافَحَنِي ﷺ؟!
حَكَى الذَّهَبِيُّ فِي ((السِّيَرِ)) وَفِي ((الْمَعْرِفَةِ)) : ((أَنَّ نَافِعًا -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا, بَلْ إِذَا تَكَلَّمَ فِي مَكَانٍ فَاحَ مِنَ الْمَجْلِسِ وَمِنَ الْمَكَانِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ.
فَقِيلَ لَهُ: أَوَتَتَطَيَّبُ كُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تُقْرِئَ النَّاسَ كِتَابَ اللهِ؟
قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَمَسُّ طِيبًا, وَلَا أَتَطَيَّبُ, وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ص جَاءَنِي فِي الرُّؤْيَا فَتَفَلَ فِي فَمِي, فَأَنَا كُلَّمَا تَلَوْتُ كِتَابَ اللهِ خَرَجَ مِنْ فَمِي رَائِحَةُ الْمِسْكِ -رَحِمَهُ اللهُ- )).
*اسْتِحْسَانُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْأَصْوَاتِ الْعَذْبَةِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
النَّبِيُّ ﷺ جَاءَتْهُ عَائِشَةُ لَيْلَةً بَعْدَ الْعِشَاءِ مُتَأَخِّرَةً, صَلَّتِ الْعِشَاءَ, ثُمَّ تَأَخَّرَتْ شَيْئًا, ثَمَّ عَادَتْ.
فَقَالَ: ((أَيْنَ كُنْتِ؟))
فَقَالَتْ: كُنْتُ أَسْتَمِعُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِكَ, لَمْ أَسْمَعْ قَطُّ مِثْلَ تِلَاوَتِهِ, وَلَمْ أَسْمَعْ قَطُّ مِثْلَ صَوْتِهِ يَتْلُو الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.
فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ فَأَخَذَ بِيَدِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَتَّى سَمِعَ تِلَاوَةَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي كَانَتْ تَسْمَعُهُ عَائِشَةُ قَبْلُ.
فَقَالَ ﷺ: ((هَذَا سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ, الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذَا)) .
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَدِ اسْتَمَعَ إِلَيْهِ لَيْلَةً وَهُوَ يَتْلُو الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ, وَأَبُو مُوسَى لَا يَدْرِي بِمَكَانِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْهُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ ﷺ: ((لَوْ أَنَّكَ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ إِلَى تِلَاوَتِكَ الْبَارِحَةَ)).
فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا رَسُولَ اللهِ, لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْمَعُ لَحَبَّرْتُهُ لَكَ تَحْبِيرًا؛ يَعْنِي لَزَيَّنْتُهُ لَكَ تَزْيِينًا.
يَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ)) .
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِدَاوُدَ -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلِ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّسْلِيمِ- صَوْتًا عَذْبًا رَائِقًا, وَجَعَلَ الْجِبَالَ مُرَجِّعَةً لِلتَّسْبِيحِ مَعَهُ, وَتَأْتِي بِالتِّلَاوَةِ مَعَهُ مُرَجِّعَةً خَاشِعَةً, وَالطَّيْرَ وَالْحَجَرَ وَالشَّجَرَ, فَيَقُولُ النَّبِيُّ ص لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ .
((الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ شِفَاءٌ وَحِفْظٌ بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ شِفَاءً وَحِفْظًا.
قَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].
وَنُنَزِّلُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَا هُوَ سَبَبُ بُرْءٍ وَشِفَاءٍ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَمِنَ الْأَمْرَاضِ الْجِسْمَانِيَّةِ.
وَهَذَا الْقُرْآنُ بِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمٍ وَحَقٍّ وَهِدَايَةٍ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ، وَيَدْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ إِلَى تَطْبِيقِ شَرِيعَةِ اللهِ لِعِبَادِهِ، وَلَا يَزِيدُ هَذَا الْقُرْآنُ الْكُفَّارَ عِنْدَ سَمَاعِهِ إِلَّا نَقْصًا بِالْحِرْمَانِ مِنَ السَّعَادَةِ يَوْمَ الدِّينِ، وَالْهُبُوطِ فِي دَرَكَاتِ الْعَذَابِ فِي الْجَحِيمِ؛ لِتَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ.
اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَمَا جَعَلَ الْقُرْآنَ هِدَايَةً وَنُورًا؛ جَعَلَ الْقُرْآنَ حِفْظًا, وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ, وَشِفَاءً لِلْأَمْرَاضِ الْعُضْوِيَّةِ لَوْ صَحَّتِ النِّيَّةُ بِالْإِخْلَاصِ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَ اللهُ فِي كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَاكُلٍ وَلَا تَوَانٍ.
وَهَذَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) عِنْدَمَا خَرَجَ فِي سَرِيَّةٍ أَرْسَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ فَنَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَطَلَبُوا مِنْهُمْ أَنْ يُرْفِدُوهُمْ -أَنْ يُعْطُوهُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالْمَؤُونَةَ- فَأَبَوْا, فَمَكَثُوا ثُمَّ غَيَّبَ النَّهَارُ الرِّجَالَ, فَخَرَجُوا فِي أَعْمَالِهِمْ, وَلُدِغَ كَبِيرُ الْحَيِّ وَسَيِّدُهُمْ, وَجَاءَتْ جَارِيَةٌ تَسْعَى إِلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ -يَعْنِي لَدِيغٌ-.
وَكَانَ الْعَرَبُ بِعَبْقَرِيَّةِ اللُّغَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُتَنَزَّلًا لِكِتَابِهِ الْمَجِيدِ يَتَفَاءَلُونَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ, فَيَجْعَلُونَ اللَّدِيغَ سَلِيمًا تَفَاؤُلًا, وَيَجْعَلُونَ الرَّاحِلَةَ الذَّاهِبَةَ قَافِلَةً, وَهِيَ لَمْ تَرْحَلْ بَعْدُ, فَيَقُولُونَ: قَافِلَةً, وَالْقَافِلَةُ الرَّاجِعَةُ وَهِيَ لَمْ تَرْحَلْ بَعْدُ, وَيُسَمُّونَ الصَّحَرَاءَ الْمُهْلِكَةَ مَفَازَةً.
جَاءَتِ الْجَارِيَةُ تَسْعَى فَقَالَتْ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؛ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ؟
فَلَمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مِنَ الْبُخْلِ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ فَمَنَعُوا رِفْدَهُمْ, وَمَنَعُوا عَطَايَاهُمْ وَلَوْ بَيْعًا وَشِرَاءً, اشْتَرَطَ أَبُو سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ هُوَ الرَّاقِي الَّذِي رَقَى بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- غَيْرَ أَنَّهُ أَبْهَمَ نَفْسَهُ فِي الْحَدِيثِ تَوَاضُعًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- فَاشْتَرَطَ, فَجَعَلُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ جُعْلًا.
هَذَا رَجُلٌ لَدَغَتْهُ حَيَّةٌ, أَوْ ضَرَبَتْهُ عَقْرَبٌ, وَسَرَى السُّمُّ فِي بَدَنِهِ, فَجَاءَ صَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ وَفِي صِفَتِهِ لِنَفْسِهِ قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ لَمْ نَكُنْ نَأْبَهُ لَهُ أَنَّهُ يَرْقِي.
لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ أَحَدٌ, وَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ, فَقَامَ، فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَسْرِي السُّمُّ فِي بَدَنِهِ, وَيَدُورُ فِي جَسَدِهِ مَعَ الدِّمَاءِ رَقَاهُ, فَقَامَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ, كَأَنَّمَا كَانَ مَعْقُولًا مَرْبُوطًا بِحَبْلٍ فَسَقَطَ عَنْهُ عِقَالُهُ, وَفُكَّ عَنْهُ وَثَاقُهُ, فَقَامَ مُسْرِعًا يَتَحَرَّكُ, فَقَامَ كَأَنَّهُ نَشِطَ مِنْ عِقَالِهِ فَأَعْطَوْهُمْ ثَلَاثِينَ شَاةً, وَسَقَوْا أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ لَبَنًا.
فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: وَاللَّهِ, لَا نُحْدِثُ فِي هَذِهِ الْأَغْنَامِ شَيْئًا حَتَّى نَعُودَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((بِمَ رَقَيْتَهُ؟))
قَالَ: وَاللَّهِ, يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَقَيْتُهُ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ.
وَلَكِنِ السِّرُّ هَاهُنَا فِي فَاتِحَةِ الْمَرْقِيِّ بِهَا وَفِي الرَّاقِي أَيْضًا؛ لِأَنَّ الطَّبِيبَ يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ حَاذِقًا, وَالدَّوَاءُ لَا عَيْبَ فِيهِ, غَيْرَ أَنَّ الْمَرِيضَ يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ قَابِلًا, وَلِأَنَّ الطَّبِيبَ يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ حَاذِقًا, وَلِأَنَّ الدَّوَاءَ يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ مُوَافِقًا, فَإِذَا لَمْ تَتَوَفَّرْ هَذِهِ الشُّرُوطُ لَا يَتَأَتَّى الشِّفَاءُ بِقَدَرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ قَابِلًا, وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ الطَّبِيبُ حَاذِقًا, وَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ الدَّوَاءُ مُوَافِقًا, وَقَدْ تَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ هَاهُنا, فَقَامَ كَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَرْقِ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ, قَالَ: ((اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ ﷺ » .
النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا أُبَيُّ, إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَمَرَنِي -قَدْ أَرْسَلَ إِلَيَّ جِبْرِيلَ أَمِينَ الْوَحْيِ يَأْمُرُنِي- بِأَنْ أَتْلُوَ عَلَيْكَ سُورَةَ الْبَيِّنَةِ)).
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, وَسَمَّانِي؟
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَسَمَّاكَ يَا أُبَيُّ)).
فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ الدُّمُوعَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- » .
عِبَادَ اللهِ! يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ((عَلَيْكُمْ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ لَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ -أَيِ السَّحَرَةُ- وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» .
النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِي لَكُمْ بِالْحِفْظِ مِنَ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ: ((مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ, قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ, ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ» .
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تُفِيدُ الْعُمُومَ كَمَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ, فَهَاهُنَا لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ, أَيْ لَا يَضُرُّهُ مُطْلَقُ شَيْءٍ, كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ.
فَاللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ, وَاجْعَلْهُ لَنَا قَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ, وَلَا تَجْعَلْهُ سَائِقًا لَنَا إِلَى النَّارِ.
اللَّهُمَّ حَمِّلْنَا كِتَابَكَ الْمَجِيدَ, وَاجْعَلْنَا تَالِينَ لَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((أَثَرُ كَلَامِ الرَّحْمَنِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ))
*تَعْرِيفُ الْإِيمَانِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ:
فَمِنَ الْمُقَرَّرِ الْمَعْلُومِ -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
لَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ، وَأَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ، فَإِذَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا.
*وَالْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ، وَاعْتِقَادٌ، وَعَمَلٌ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ:
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2-4].
فَوَصَفَهُمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ؛ {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} -وَهَذَا عَمَلٌ-، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، وَهَذَا عَمَلٌ.
وَقَالَ: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)) .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَاعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، هَذَا نُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، هَذَا عَمَلُ الْيَدِ جَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، وَهُوَ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ.
فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ -وَسِوَاهَا كَثِيرٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ- تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاعْتِقَادٌ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
((زِيَادَةُ الْإِيمَانِ مِنْ ثَمَرَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ))
إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَبِهِ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ السَّبَبُ وَالطَّرِيقُ لِكُلِّ خَيْرٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ، وَلَا يَقْوَى، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا مِنْهُ يُسْتَمَدُّ، وَإِلَى يَنْبُوعِهِ وَأَسْبَابِهِ وَطُرُقِهِ.
وَاللهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ سَبَبًا وَطَرِيقًا يُوصِلُ إِلَيْهِ، وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْمَطَالِبِ وَأَهَمُّهَا وَأَعَمُّهَا؛ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ مَوَادَّ كَبِيرَةً تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيهِ، كَمَا كَانَ لَهُ أَسْبَابٌ تُضْعِفُهُ وَتُوِهِيهِ.
وَمَوَادُّهُ الَّتِي تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيه أَمْرَانِ: مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ:
*أَمَّا الْمُجْمَلُ فَهُوُ:
التَّدَبُّرُ لِآيَاتِ اللهِ الْمَتْلُوَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَالتَّأَمُّلُ لِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا؛ وَالْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَ لَهُ الْعَبْدُ؛ وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ؛ فَجَمِيعُ الْأَسْبَابِ مَرْجِعُهَا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.
*وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَالْإِيمَانُ يَحْصُلُ وَيَقْوَى بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ:
1*مِنْهَا -بَلْ أَعْظَمُهَا-: مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْحِرْصُ عَلَى فَهْمِ مَعَانِيهَا، وَالتَّعَبُّدُ للهِ فِيهَا.
فَقَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا، دَخَلَ الْجَنَّةَ))؛ أَيْ مِنْ حَفِظَهَا، وَفَهِمَ مَعَانِيهَا، وَاعْتَقَدَهَا، وَتَعَبَّدَ للهِ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.
فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ يَنْبُوعٍ وَمَادَّةٍ لِحُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَثَبَاتِهِ؛ وَمَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ يَرْجِعُ إِلَيْهَا.
وَمَعْرِفَتُهَا تَتَضَمَّنُ أَنْوَاعَ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةَ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ هِيَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَرَوْحُهُ، وَأَصْلُهُ وَغَايَتُهُ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، ازْدَادَ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ.
فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْذُلَ مَقْدُورَهُ وَمُسْتَطَاعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ سَالِمَةً مِنْ دَاءِ التَّعْطِيلِ، وَمِنْ دَاءِ التَّمْثِيلِ؛ اللَّذَيْنِ ابْتُلِيَ بِهِمَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ بَلْ تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ مُتْلَقَّاةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ النَّافِعَةُ الَّتِي لَا يَزَالُ صَاحِبُهَا فِي زِيَادَةٍ فِي إِيمَانِهِ، وَقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَطُمْأْنِينَةٍ فِي أَحْوَالِهِ.
2*وَمِنْهَا -مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ-: تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.
فَإِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَزَالُ يَسْتَفِيدُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِهِ؛ مَا يَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وَكَذَلِكَ: إِذَا نَظَرَ إِلَى انْتِظَامِهِ وَإِحْكَامِهِ -أَيْ إِلَى انْتِظَامِ الْقُرْآنِ وَإِحْكَامِهِ-؛ وَأَنَّهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُوَافِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ؛ تَيَقَّنَ أَنَّهُ: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، لَوَجَدَ فِيهِ -مِنَ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ- أُمُورًا كَثِيرَةً، قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّيَاتِ الْإِيمَانِ، وَيُقَوِّيهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: فَالْمُؤْمِنُ بِمُجَرَّدِ مَا يَتْلُو آيَاتِ اللهِ، وَيَعْرِفُ مَا رُكِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْحَسَنَةِ، يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ خَيْرٌ كَبِيرٌ، فَكَيْفَ إِذَا أَحْسَنَ تَأَمُّلَهُ، وَفَهِمَ مَقَاصِدَهُ وَأَسْرَارَهُ؟!!
وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ الْكُمَّلُ يَقُولُونَ: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا} [آل عمران: 193].
3*وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ:كُلُّهَا مِنْ مُحَصِّلَاتِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ.
فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ازْدَاَدَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ، وَقَدْ يَصِلُ فِي عِلْمِهِ وَإِيمَانِهِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ.
فَقَدْ وَصَفَ اللهُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ التَّامُّ الْقَوِيُّ الَّذِي يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ وَالرَّيْبَ، وَيُوجِبُ الْيَقِينَ التَّامَّ؛ وَلِهَذَا كَانُوا سَادَةَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ اسْتَشْهَدَ اللهُ بِهِمْ، وَاحْتَجَّ بِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُرْتَابِينَ وَالْجَاحِدِينَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
فَالرَّاسِخُونَ زَالَ عَنْهُمُ الْجَهْلُ وَالرَّيْبُ وَأَنْوَاعُ الشُّبُهَاتِ؛ وَرَدُّوا الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى الْمُحْكَمِ مِنْهَا، وَقَالُوا: آمَنَّا بِالْجَمِيعِ، فَكُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ وَمَا مِنْهُ، وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ وَحَكَمَ بِهِ؛ كَلُّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ .
وَقَالَ تَعَالَى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 162].
وَقَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
وَلِعْلِمِهِمْ بِالْقُرْآنِ الْعِلْمَ التَّامَّ، وَإِيمَانِهِمُ الصَّحِيحِ؛ اسْتَشْهَدَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56].
وَأَخْبَرَ تَعَالَى فِي عِدَّةِ آيَاتٍ أَنَّ الْقُرْآنَ آيَاتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَآيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِتِلَاوَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، فَلَا يَزَالُونَ يَزْدَادُونَ عِلْمًا وَإِيمَانًا وَيَقِينًا.
فَالتَّدَبُّرُ لِلْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ وَالْوَسَائِلِ الْجَالِبَةِ لِلْإِيمَانِ، وَالْمُقَوِّيَةِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
فَاسْتِخْرَاجُ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ -الَّتِي مِنْ أَهَمِّهَا حُصُولُ الْإِيمَانِ- سَبِيلُهُ وَطَرِيقُهُ تَدَبُّرُ آيَاتِهِ وَتَأَمُّلُهَا؛ كَمَا ذَكَرَ أَنَّ تَدَبُّرَهُ يُوقِفُ الْجَاحِدَ عَنْ جُحُودِهِ، وَيَمْنَعُ الْمُعْتَدِي عَلَى الدِّينِ مِنْ اعْتِدَائِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]؛ أَيْ: فَلَوْ تَدَبَّرُوهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، لَمَنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، وَأَوْجَبَ لَهُمُ الْإِيمَانَ وَاتِّبَاعَ مَنْ جَاءَ بِهِ .
وَقَالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]؛ أَيْ: فَلَوْ حَصَلَ لَهُمُ الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهِ، لَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَأَوْجَبَ لَهُمُ الْإِيمَانَ.
الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ تَدَبُّرُهُ وَكَذَا أَحَادِيثُ النَّبِيِّ الْعَظِيمِ ﷺ؛ تَدَبُّرُ ذَلِكَ وَالنَّظَرُ فِيهِ وَبَحْثُهُ وَتَعَلُّمُهُ يُوجِبُ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الْفَوَائِدِ)) : ((الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كِتَابُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ جَعَلَهُ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهِ شِفَاءً مِنَ الْأَسْقَامِ، سِيَّمَا أَسْقَامُ الْقُلُوبِ وَأَمْرَاضُهَا مِنْ شُبُهَاتٍ وَشَهَوَاتٍ.
وَجَعَلَهُ بُشْرَى وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَجَعَلَهُ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَصَرَّفَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا.
فَالَّذِي يَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَّبَرُ آيَاتِهِ، وَيَتَأَمَّلُهَا؛ يَجِدُ فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا يُقَوِّي إِيمَانَهُ وَيَزِيدُهُ وَيُنَمِّيهِ،ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِدُ فِي خِطَابِ الْقُرْآنِ مَلِكًا لَهُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، أَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ، وَمَصْدَرُهَا مِنْهُ وَمَوْرِدُهَا إِلَيْهِ، مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَقْطَارِ مَمْلَكَتِهِ، عَالِمًا بِمَا فِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى أَسْرَارِهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ، مُنْفَرِدًا بِتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، يَسْمَعُ وَيَرَى وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ، وَيُكْرِمُ وَيُهِينُ، وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُقَدِّرُ وَيَقْضِي وَيُدَبِّرُ.
وَيَدْعُو عِبَادَهُ وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهِ وَيُحَذِّرُهُمْ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهُمْ، وَيَتَعَرَّفُ إِلَيْهِمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ، فَيُذَكِّرُهُمْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِمَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ تَمَامَهَا، وَيُحَذِّرُهُمْ مَنْ نِقَمِهِ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ إِنْ أَطَاعُوهُ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ إِنْ عَصَوْهُ.
وَيُخْبِرُهُمْ بِصُنْعِهِ فِي أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَيُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ وَأَحْسَنِ أَوْصَافِهِمْ، وَيَذُمُّ أَعْدَاءَهُ بِسَيِّئِ أَعْمَالِهِمْ وَقَبِيحِ صِفَاتِهِمْ، وَيَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، وَيُنَوِّعُ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ، وَيُجِيبُ عَنْ شُبَهِ أَعْدَائِهِ أَحْسَنَ الْأَجْوِبَةِ، وَيُصَدِّقُ الصَّادِقَ، وَيَكْذِّبُ الْكَاذِبَ، وَيَقُولُ الْحَقَّ وَيَهْدِي السَّبِيلَ وَيَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَيَذْكُرُ أَوْصَافَهَا وَحُسْنَهَا وَنَعِيمَهَا، وَيُحَذِّرُ مِنْ دَارِ الْبَوَارِ وَيَذْكُرُ عَذَابَهَا وَقُبْحَهَا وَآلَامَهَا.
وَيُذَكِّرُ عِبَادَهُ فَقْرَهُمْ إِلَيْهِ، وَشَدَّةَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَنَّهُمْ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيَذْكُرُ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّهُ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُ أَحَدٌ ذَرَّةً مِنَ الْخَيْرِ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا ذَرَّةً مِنَ الشَّرِّ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَتَشْهَدُ مِنْ خِطَابِهِ عِتَابَهُ لِأَحْبَابِهِ أَلْطَفَ عِتَابٍ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُقِيلٌ عَثَرَاتِهِمْ، وَغَافِرٌ ذِلَّاتِهِمْ، وَمُقِيمٌ أَعْذَارَهُمْ، وَمُصْلِحٌ فَسَادَهُمْ، وَالدَّافِعُ عَنْهُمْ، وَالْمُحَامِي عَنْهُمْ، وَالنَّاصِرُ لَهُمْ، وَالْكَفِيلُ بِمَصَالِحِهِمْ، وَالْمُنْجِي لَهُمْ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ، وَالْمُوَفِّي لَهُمْ بِوَعْدِهِ، وَأَنَّهُ وَلِيُّهُمُ الَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُمْ سِوَاهُ، فَهُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ وَنَصِيرُهُمْ عَلَى عَدْوِّهِمْ فَنِعَمَ الْمَوْلَى وَنَعِمَ النَّصِيرُ .
فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا التَّدَبُّرِ لِكِتَابِ اللهِ، وَيَشْهَدُ قَلْبُهُ فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ مَا يَزِيدُ إِيمَانَهُ وَيُقَوِّيهِ، وَكَيْفَ لَا وَهُوَ يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ مَلِكًا عَظِيمًا، رَحِيمًا جَوَادًا رَؤُوفًا هَذَا شَأْنُهُ، فَكَيْفَ لَا يُحِبُّهُ وَيُنَافِسُ فِي الْقُرْبِ مِنْهُ، وَيُنْفِقُ أَنْفَاسَهُ فِي التَّوَدُّدِ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ، وَكَيْفَ لَا يُؤْثِرُ رِضَاهُ عَلَى رِضَا كُلِّ مَنْ سِوَاهُ، وَكَيْفَ لَا يَلْهَجُ بِذِكْرِهِ، وَيَصَيِّرُ حُبَّهُ وَالشَّوْقَ إِلَيْهِ وَالْأُنْسَ بِهِ غِذَاءَهُ وَقُوَّتَهُ وَدَوَاءَهُ، بِحَيْثُ إِنْ فَقَدَ ذَلِكَ فَسَدَ وَهَلَكَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِحَيَاتِهِ)).
*تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ تُثْمِرُ زِيَادَةَ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِ وَخَوْفَهُ وَوَجَلَهُ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-:
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4].
فَوَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقِيَامِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ.
فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ إِيمَانًا ظَهَرَتْ آثَارُهُ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَأَنَّهُ مَعَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، يَزْدَادُ إِيمَانُهُمْ كُلَّمَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللهِ، وَيَزْدَادُ خَوْفُهُمْ وَوَجَلُهُمْ كُلَّمَا ذُكِرَ اللهُ.
وَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَسِرَّهِمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللهِ، وَمُعْتَمِدُونَ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا عَلَيْهِ، مُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ.
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا)، يُقِيمُونَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ.
وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُحَقِّقُونَ الْقِيَامَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
ثُمَّ ذَكَرَ ثَوَابَهُمُ الْجَزِيلَ:
1*الْمَغْفِرَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِزَوَالِ كُلِّ شَرٍّ وَمَحْذُورٍ.
2*وَرِفْعَةَ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
3*وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ الْمُتَضَمِّنَ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-
عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ))
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَشَّرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْقُرْآنَ غَضًّا طَرِيًّا, فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ)) . هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ -يَعْنِي ذَاتَ يَوْمٍ-: ((اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ)).
قَالَ: قُلْتُ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟
فَقَالَ: ((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)) ﷺ.
قَالَ: فَاسْتَفْتَحْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا وَصَلْتُ إِلَى قَوْلِ اللهِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41].
قَالَ: ((حَسْبُكَ الْآنَ)).
قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ﷺ.
اسْتَغْرَقَتِ النَّبِيَّ ﷺ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَفِيهَا يَتَوَجَّهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْخِطَابِ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}: يَعْنِي وَجِيءَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاتَمَةِ شَهِيدًا, بَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ, وَأَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ, وَنَصَحْتَ الْأُمَّةَ, وَكَشَفْتَ الْغُمَّةَ, وَبَلَّغْتَهُمْ أَوَامِرَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَفَصَّلْتَ لَهُمْ, وَوَضَّحْتَ لَهُمْ مَا غَمَضَ عَلَيْهِمْ, وَجَلَّيْتَ لَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَى أَفْهَامِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذَا الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ الَّذِي وَصَفَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الْمُشَرَّفَةُ, يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِمِيقَاتِ يَوْمِ مَعْلُومٍ, وَتَأْتِي الْأُمَمُ, وَتَأْتِي هَذِهِ الْأُمَمُ خَلْفَ أَنْبِيَائِهَا؛ يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدٌ مِنْهُمْ, وَيَجِيءُ مُحَمَّدٌ ﷺ شَهِيدًا عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاتَمَةِ, وَعِنْدَئِذٍ فَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالدَّمْعِ بُكَاءً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- تَمَثُّلًا لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْمَوْقِفِ الْأَعْظَمِ وَالْمَشْهَدِ الْأَكْبَرِ.
قَالَ: فَقَالَ لِي: ((حَسْبُكَ الْآنَ))؛ يَعْنِي يَكْفِي مَا قَرَأْتَ.
قَالَ : فَالْتَفَتُّ يَعْنِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ.
وَلَعَلَّ الَّذِي جَعَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَلْتَفِتُ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ هُوَ تَغَيُّرُ نَغْمَةِ الصَّوْتِ الَّتِي قَالَ بِهَا لَهُ حَسْبُكَ الْآنَ؛ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَتْ عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ الدَّمْعَ الْمِدْرَارَ الْغَزِيرَ, فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ, تَأَثَّرَ صَوْتُهُ بَعْضَ تَأَثُّرٍ, فَقَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: ((حَسْبُكَ الْآنَ))، فَكَانَ فِي نَبْرَةِ الصَّوْتِ تَأَثُّرُهُ وَبُكَاؤُهُ.
قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ﷺ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي وَصْفِ حَالِهِ دَائِمَ الْعَبْرَةِ, مُتَّصِلَ الْفِكْرَةِ, نَظَرُهُ إِلَى الْأَرْضِ أَكْثَرُ وَأَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ, لَمْ يُرَ ضَاحِكًا -قطُّ- حَتَّى تَبْدُوَ لَهَوَاتُهُ, وَإِنَّمَا كَانَ جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمَ, فَإِذَا زَادَ ضَحِكُهُ بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ﷺ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الشِّخِّيرِ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ .
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يُصَلِّي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَيَتْلُو آيَاتِ كِتَابِهِ الْمَجِيدِ, يَكُونُ لِصَدْرِهِ مِنَ الْبُكَاءِ وَمِنَ الْخَشْيَةِ مِنْ جَنَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ, وَهُوَ صَوْتُ الْقِدْرِ إِذَا فَارَ بِمَا فِيهِ عِنْدَ غَلَيَانِ مَائِهِ, فَكَذَلِكَ يَكُونُ جَيَشَانُ الْعَوَاطِفِ, وَثَوَرَانُهَا فِي قَلْبِ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ مُحَمَّدٍ ﷺ خَشْيَةً مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- وَصَفَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَقْوَامًا -مِنْ أَهْلِ الْإِنَابَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْإِخْبَاتِ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-- وَصَفَهُمْ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُمْ عِنْدَمَا يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا, وَهُمْ فِي حَالَةٍ مِنَ الْبُكَاءِ الْمَرِيرِ, يَعْتَمِلُ بِذَلِكَ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ هَمٍّ مَقْعِدٍ مُقِيمٍ مِمَّا يَسْمَعُونَ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ, وَمِنَ التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ, وَمِنَ التَّرْغِيبِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.
بَلْ إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَذْكُرُ مُسْتَفْهِمًا مُسْتَنْكِرًا, -جَلَّ وَعَلَا-: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)} [ النجم: ٥٩ - ٦٠].
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَسْتَفْهِمُ هَاهُنَا, وَالِاسْتِفْهَامُ هَاهُنَا اسْتِفْهَامٌ لِلِاسْتِنْكَارِ وَالتَّبْكِيتِ، {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)}: يَعْنِي مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَعْجَبُونَ؟!! وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ؟!! يَعْنِي الْأَصْلُ أَنْ تَبْكُوا عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَانُوا إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا.
{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: ١٠٩]، كَانُوا يَبْكُونَ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بِالتَّخْصِيصِ, يَعْنِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَسْمَعُ كَلَامَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي, وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَا أَمَرَ مِنْ أَمْرٍ إِلَّا وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ عِنْدَ سَمَاعِهِ, وَكَذَلِكَ مَا نَهَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِهِ عِنْدَمَا يُتْلَى عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ وَأَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَنْ يُؤْمَرَ بِأَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ فِي مَرَضِ رَسُولِ اللهِ ﷺ خَافَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ -يَعْنِي رَجُلٌ دَائِمُ الْحُزْنِ مُتَّصِلُ الْعَبَرَاتِ- إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ, وَإِنَّهُ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنْ غَلَبَةِ الْبُكَاءِ)) .
وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا قَامَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ, لَا يَتَمَالَكُ نَفْسَهُ مِنَ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
((تَفَاعُلُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ الْقُرْآنِ الكريم))
قَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [ الحشر: ٢١]
لَوْ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَ الْقُرْآنَ تَكْلِيفًا وَتِلَاوَةً عَلَى جَبَلٍ فِي وُعُورَتِهِ وَقَسْوَتِهِ وَصَلَادَتِهِ وَصَلَابَتِهِ, فِي حُزُونَتِهِ وَسُمُوقِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَثَبَاتِهِ, لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ﷺ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ, وَلَكِنْ أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ بِأَنْ ثَبَّتَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتَلَقُّونَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ, ثُمَّ زَادَ فِي الْإِنْعَامِ عَلَيْكُمْ فَيَسَّرَهُ لَكُمْ, وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْهُ حَرْفًا.
لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- ذكَّرَنَا بِالْإِنْعَامِ عَلَيْنَا وَاصْطِفَائِنَا, فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- إِنَّ ظَالِمَنَا الَّذِي يَظْلِمُ نَفْسَهُ هُوَ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ, كَمَا أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ .
فَمَا تَقُولُ فِي أُمَّةٍ ظَالِمُهَا مِمَّنِ اصْطَفَاهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؟!
يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [ فاطر: ٣٢ ]
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ تَتَفَاعَلُ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ, مَا مَرَّ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) بِسَنَدِهِ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لَمَّا أَوْفَدَتْهُ قُرَيْشٌ لِيُكَلِّمَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَوَافَى النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ بِأَصْحَابِهِ، يَقْرَأُ سُورَةَ الطُّورِ، قَالَ: ((سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، وَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَسَمِعْتُ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ*أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36]، قَالَ: فَكَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ : ((فَذَلِكَ حِينَ دَخَلَ الْإِسْلَامُ قَلْبِي))، لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَهَذَا أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مِرْبَدِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ -وَالْمِرْبَدُ: هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُيَبَّسُ فِيهِ التَّمْرُ وَيُجَفَّفُ-, فَأُسَيْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مِرْبَدِهِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ بِشَطَنٍ -أَيْ بِحَبْلٍ هُنَالِكَ-, وَعِنْدَهَا وَلَدُهُ يَحْيَى.
أَخَذَ أُسَيْدٌ يَتْلُو كَلَامَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَأَخَذَتِ الْفَرَسُ تَجُولُ -أَيْ تَتَحَرَّكُ فِي مَوْضِعِهَا، تَرْفَعُ حَوَافِرَهَا وَتَخْفِضُهَا-, فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ.
ثُمَّ قَرَأَ أُسَيْدٌ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ, فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ.
ثُمَّ قَرَأَ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا؛ فَخَشِيَ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى بِحَافِرِهَا, فَقَامَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَرَأَى كَمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا كَأَمْثَالِ السُّرُجِ, غَيْرَ أَنَّهَا تَعْرُجُ فِي السَّمَاءِ حَتَّى ذَهَبَتْ, فَخَشِيَ عَلَى يَحْيَى فَسَكَتَ.
ثُمَّ غَدَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي كُنْتُ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْبَارِحَةَ.
قَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)).
قَالَ: ثُمَّ إِنِّي قَرَأْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ.
قَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)).
قَالَ: ثُمَّ إِنِّي قَرَأْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ.
قَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)).
قال: يَا رَسُولَ اللهِ, خِفْتُ عَلَى يَحْيَى أَنْ تَطَأَهُ الْفَرَسُ بِحَافِرِهَا, ثُمَّ إِنِّي رَأَيْتُ كَمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا كَأَمْثَالِ السُّرُجِ, فَلَمَّا سَكَتُّ تَوَارَتْ وَعُرِجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ.
فَقَالَ: ((تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ, وَلَوْ أَنَّكَ ظَلَلْتَ فِي قِرَاءَتِكَ وَعَلَيْهَا؛ لَأَصْبَحَ النَّاسُ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ » .
{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: ١٧ ]، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ وَحْدَهُ الَّذِي يَصْلُدُ قَلْبُهُ فَوْقَ صَلَادَةِ الْجِبَالِ, وَيَصْلُبُ فُؤَادُهُ فَوْقَ صَلَابَتِهَا!! فَاللَّهُمَّ لَيِّنْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ وَلِذِكْرِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
((أَثَرُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي تَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ))
لَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ؛ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)) .
فَلَا عَجَبَ إِذَنْ أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِي سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.
وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وَهُوَ ﷺ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَدْعُو رَبَّهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، فَإِنَّهُ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .
يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ لِصَوَابِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلتَّخَلُّقِ بِهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ قَبِيحَ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومَ الصِّفَاتِ، وَيُبْعِدَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ ﷺ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَمَعَ أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَالَ: ((قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَعْنَى أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، وَيَعْتَبِرُ بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصِهِ، وَيَتَدَّبَرُهُ، وَيُحْسِنُ تِلَاوَتَهُ.
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْقَرِيبَ مِنْكُمْ، الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ لَهُ وَظَائِفُ كُبْرَى:
مِنْهَا: أَنَّهُ يَدُلُّ وَيُرْشِدُ إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الِاعْتِدَالِ الْكَامِلِ فِي كُلِّ سُلُوكٍ بَشَرِيٍّ، وَيُبَشِّرُ الْقُرْآنُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بِأَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا يَنَالُونَهُ فِي الْجَنَّةِ.
*الْقُرْآنُ سَبَبٌ فِي تَزْكِيَةِ نَفْسِ الْمُسْلِمِ:
إِنَّ مِمَّا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ وَيَزِيدُ بِهِ الْإِيمَانُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَوْصُولَةً وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي افْتَرَضَ عَلَيْنَا وَالَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا نَبِيُّنَا ﷺ، جَعَلَ لَهَا مَرْدُودًا فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَفِي تَطْهِيرِهَا وَبُعْدِهَا عَمَّا يُشِينُهَا دُنْيَا وَآخِرَة.
وَمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ إِلَى اللهِ بِمِثْلِ كَلَامِهِ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ، وَكَلَامُ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النَّاسِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَمَنْ قَدَّرَ الْقُرْآنَ قَدْرَهُ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَأَشْبَعَ بِهِ قَلْبَهُ وَنَفْسَهُ زَكَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
*أَثَرُ الْقُرْآنِ فِي تَغْيِيرِ عَادَاتِ الْمُسْلِمِ وَسُلُوكِهِ:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَجْسَادَ تَتَفَاعَلُ مَعَ الْإِيمَانِ حَتَّى تَتَحَوَّلَ إِلَى شَيْءٍ جَدِيدٍ.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا تَدَرَّجَ بِهِمْ فِي أَمْرِ الْخَمْرِ حَتَّى حَرَّمَهَا {فَاجْتَنِبُوهُ}؛ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ -كَلِمَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى- ذَهَبَ الِاعْتِمَادُ مِنَ الْخَلَايَا الْعَصَبِيَّةِ، مِنْ خَلَايَا الْمُخِّ، فَصَارُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَقَامُوا لِتَوِّهِمْ، لِسَاعَتِهِمْ، لِفَوْرِهِمْ، فَأَرَاقُوهَا وَأَمَرُوا بِإِرَاقَتِهَا فِي الشَّوَارِعِ -شَوَارِعِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ-، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَصْبَحَ وَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا مَضَى فِي شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ، يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهَا مَطَرٌ بِلَيْلٍ؛ لِكَثْرَةِ مَا أُرِيقَ مِنَ الْخَمْرِ فِي شَوَارِعِهَا، بِكَلِمَةٍ!
كَيْفَ تُحَوِّلُ الْكَلِمَةُ -كَلِمَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ- هَذَا الِاعْتِمَادَ فِي الْخَلَايَا الْمُخِّيَّةِ، فِي الْخَلَايَا الْعَصَبِيَّةِ، كَيْفَ تُحَوِّلُهَا إِلَى لَا شَيْء؟
كَيْفَ تُعِيدُهُ إِلَى السَّوَاءِ نَفْسِيًّا وَجَسَدِيًّا وَعَصَبِيًّا، حَتَّى تَصِيرَ كَمَا أَرَادَ اللهُ؟
إِنَّهُ الْإِيمَانُ...
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ مُتَعَلِّلًا: لَا أَسْتَطِيعُ!
قِيلَ لَهُ: لَا اسْتَطَعْتَ.
فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَكَبَّرَ أَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ: ((لَا اسْتَطَعْتَ)) .
فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَرْفَعَهَا بَعْدُ إِلَى فِيهِ.
وَيْحَ النَّاسِ مَاذَا دَهَاهُمْ؟!! إِنَّهُ دِينُ اللهِ، يُعِيدُ صِيَاغَةَ الْحَيَاةِ عَلَى: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، عَلَى الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ، لَا عَلَى الْفِكْرِ الْمَوْهُومِ.
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَعُودُوا إِلَى دِينِكُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَنْفُسِكُمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
*عَلَامَاتُ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي الْقُرْآنِ:
قَدْ تَشْتَبِهُ الْمَسَالِكُ، وَتَتَشَابَهُ الدُّرُوبُ، وَتَضِلُّ الْأَفْهَامُ، وَتَزِلُّ الْأَقْدَامُ، وَتَعْظُمُ حَاجَةُ الْعَبْدِ إِلَى عَلَامَةٍ يَعْرِفُ بِهَا حُسْنَ الْخُلُقِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَتَحْصِيلًا وَفَقْدًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ مَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ حَالُهُ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى تِلْكَ الْعَلَامَةِ فَعَرَفَ أَيْنَ يَكُونُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَسُوئِهِ.
إِيرَادُ جُمْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ تُعْلِمُ الْعَبْدَ آيَةَ حُسْنِ الْخُلُقِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 63-74].
فَدُونَكَ الْمِيزَانَ الَّذِي يَزِنُ بِهِ الْعَبْدُ خُلُقَهُ، فَلْتَعْرِضْ عَلَيْهِ نَفْسَكَ، ثُمَّ فَلْتُنْزِلْهَا بَعْدُ حَيْثُ هِيَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا إِفْرَاطٍ.
*وَحَرَّمَ الْقُرْآنُ كُلَّ مَا يُضَادُّ الْأَخْلْاقَ الْفَاضِلَةَ:
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ، وَالْفَوَاحِشَ كَالزِّنَا، وَاللِّوَاطِ، وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ النِّسَاء، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ ظَاهِرًا، وَحَرَّمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا بَطَنَ مِنَ الْفَوَاحِشِ -أَيْضًا- مِنَ النِّفَاقِ وَمِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ، وَالْغِلِّ وَالضَّغِينَةِ، وَمِنْ الْعُجْبِ، وَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَحْمَدَةِ وَالسُّمْعَةِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْقُلُوبِ.
((الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ سَبِيلُ الْفَلَاحِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ, وَلِذَلِكَ لَمَّا أَقْرَأَ شَيْخٌ تِلْمِيذَهُ خَتْمَةً فَجَوَّدَهَا عَلَيْهِ تَجْوِيدًا, وَأَتْقَنَهَا عَلَيْهِ إِتْقَانًا, ثُمَّ جَاءَ لِكَيْ يَقْرَأَهَا عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى قَالَ: أَتَّخَذْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَلَيَّ عَمَلًا؟!!
قَدْ تَلَوْتَهُ عَلَيَّ فَأَحْكَمْتَهُ, فَالْآنَ فَاذْهَبْ فَاتْلُهُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَعْنِي انْظُرْ إِلَى أَوَامِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ فَاعْمَلْ بِهَا, وَانْظُرْ إِلَى نَوَاهِي اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ فَاجْتَنِبْهَا, وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ لَكَ دُسْتُورًا وَإِمَامًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْأَكْرَمُ ﷺ.
النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ نُصْبَ عَيْنَيْهَا, وَأَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ إِمَامًا لَهَا, وَهَذَا هُوَ السِّرُّ فِي التَّرْكِيزِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ فِي وَسَطِ الظُّلْمَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ الَّتِي تَمُرُّ بِهَا الْأُمَّةُ, وَفِي وَسَطِ الْخُطُوبِ الْمُتَنَاثِرَاتِ, وَفِي وَسَطِ هَذِهِ الْمُعْتَرَكَاتِ الَّتِي تُعَانِي مِنْهَا الْأُمَّةُ الْيَوْمَ, كَأَنَّمَا هِيَ عَلَى شَفَا الْإِبَادَةِ, نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
وَلَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: أَوَ فِي هَذَا الظَّرْفِ الْعَصِيبِ وَالْقَدَرِ الَّذِي قُدِّرَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي مَا مَرَّتْ بِمِثْلِهِ قَطُّ؛ يُجْنَحُ إِلَى الْكَلَامِ عَنْ حَمْلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَعَنْ فَضْلِ وَشَرَفِ حَمَلَتِهِ, وَعَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَجْرِ الْعَظِيمِ مِنَ الْأَخْذِ بِالنَّظَرِ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَمِنْ تِلَاوَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ مَعَ التَّغَاضِي عَمَّا تَمُرُّ بِهِ الْأُمَّةُ مِنْ سَيِّئَاتِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهَا مِمَّا قُدِّرَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَهْوَالِ وَمِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ؟!!
لَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ ذَلِكَ, وَلَكِنَّمَا هِيَ النَّظْرَةُ الْأُولَى وَالنَّظْرَةُ الْأُولَى حَمْقَاءُ.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَلْتَفِتُ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ إِلَى أَحْوَالِ الْعَالَمِ مِنْ حَوْلِهِ لَا يُقَالُ ذَلِكَ دَعْوَةً إِلَى عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى أَحْوَالِ الْعَالَمِ, فَالصِّرَاعُ دَائِرٌ, وَالْجِلَادُ قَائِمٌ, وَالْمَعْرَكَةُ دَائِرَةٌ فِي كُلِّ بَيْتٍ, أَسْتَغْفِرُ اللهَ, بَلِ الْمَعْرَكَةُ دَائِرَةٌ فِي كُلِّ نَفْسٍ.
الْمَعْرَكَةُ وَصَلَتِ الْآنَ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ, فَقَامَ الْخِصَامُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ, وَقَامَ الْخِصَامُ وَالْجِدَالُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْغَيْرِ, وَلَمْ يَعُدِ اسْتِقْرَارٌ عَلَى قَرَارٍ, وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ .
لَيْسَ هَذَا تَغَاضِيًا, وَلَكِنَّمَا هُوَ عَوْدٌ إِلَى الْمَنْبَعِ الْأَوَّلِ, إِلَى الْأَمْرِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَصِمَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ, إِلَى الْحَبْلِ الْمَتِينِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَلَّ عُرْوَتُهُ ,وَلَا أَنْ تُفْصَمَ قُوَّتُهُ, إِلَى حَبْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- الَّذِي أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ تَعْتَصِمَ بِهِ الْأُمَّةُ, وَبِخَاصَّةٍ إِذَا مَا اشْتَدَّ الْكَرْبُ, وَإِذَا مَا عَمَّ الظَّلَامُ, وَإِذَا مَا اضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ, وَإِذَا مَا أَحَاطَ الْقَلَقُ بِالنُّفُوسِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ عَلَى الْأُمَّةِ شَخْصِيَّتَهَا.
الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ عَلَى الْأُمَّةِ هُوِيَّتَهَا.
الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي تَفِيءُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ إِذَا مَا ادْلَهَمَّ الْخَطْبُ, وَعَمَّ الْكَرْبُ, وَوَقَعَ الظَّلَامُ, وَانْتَشَرَ الْقَلَقُ .
الْقُرْآنُ هُوَ الْمَنْبَعُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تَرِدَهُ الْأُمَّةُ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ, أُمَمًا وَكُتَلًا مُتَكَتِّلَاتٍ.
الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْأُمَّةَ مِنْ حَالِ التَّفَكُّكِ وَالتَّرَهُّلِ إِلَى حَالِ التَّآزُرِ وَالتَّآصُرِ.
الْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْأُمَّةَ مِنَ الشَّتَاتِ, وَيُخْرِجُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنَ التِّيهِ.
الْعَوْدَةُ إِلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَوَّلُ الطَّرِيقِ وَأَوْسَطُهُ وَآخِرُهُ.
الْعَوْدَةُ إِلَى الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ سِرُّ حَيَاةِ الْأُمَّةِ.
التَّأَمُّلُ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ طَوْقُ النَّجَاةِ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَوَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ قَسَمًا غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِيهِ وَلَا حَانِثٍ, أَلَّا مَخْرَجَ وَلَا مَنْجَى مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ بِالْعَوْدَةِ إِلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ؛ لِلْخُرُوجِ مِنْ حَالَةِ الشَّتَاتِ، لِلْعَوْدَةِ مِنَ التِّيهِ إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ.
نَسْأَلُ اللهَ - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ - أَنْ يُبَارِكَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ
اللَّهُمَّ آتِنَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا تِلَاوَتَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ افْتَحْ لَنَا فِي الْقُرْآنِ فَتْحًا مُبَارَكًا، افْتَحْ لَنَا فِي قِيَامِ اللَّيْلِ فَتْحًا مُبَارَكًا.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَأَثَرُهُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ