((الْقُدْسُ إِسْلَامِيَّةٌ لَا عِبْرِيَّةٌ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((قَضِيَّةُ الْقُدْسِ قَضِيَّةُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ))
فَإِنَّ الْقَضِيَّةُ الَّتِي هِيَ وَجَعٌ فِي قَلْبِ الْأُمَّةِ، وَشُغُلٌ فِي عَقْلِهَا، وَهَاجِسٌ فِي ضَمِيرِهَا؛ هُيَ مَا تُرِيدُهُ تِلْكَ الْعِصَابَاتُ مِنَ الْيَهُودِ وَأَشْيَاعِهِمْ فِي مَدِينَةِ الْقُدْسِ.
وَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الَّتِي يَمُرُّ فِيهَا وَقْعُ الْأَحْدَاثِ كَمَا يَمُرُّ طَعْمُ الصَّدَأِ فِي الْأَفْوَاهِ؛ لَا نَمْلِكُ إِلَّا أَنْ نَنْظُرَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَأَصْلِهِ، وَأَنْ نَعُودَ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُ ﷺ.
((مَكَانَةُ الْقُدْسِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ))
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81].
وَقَالَ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ؛ قُمْتُ فِي الحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ؛ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
مُوجَزُ تَارِيخِ الْقُدْسِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
مَدِينَةُ الْقُدْسِ لَمْ تَكُنْ يَوْمًا لِلْيَهُودِ تَارِيخًا وَلَا وَطَنًا.
وَقَدْ يَسْأَلُ سَائِلٌ: أَلَمْ يَدْخُلِ الْيَهُودُ مَدِينَةَ الْقُدْسِ؟
أَلَمْ يُقِيمُوا فِيهَا مَمْلَكَةً لَهُمْ رَدْحًا مِنَ الزَّمَانِ؟
وَالْإِجَابَةُ التَّارِيخِيَّةُ عَنْ هَذَا: هِيَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَخَلُوا الْقُدْسَ فِعْلًا، وَأَقَامُوا فِيهَا مَمْلَكَةً لَهُمْ فِعْلًا، وَكَانَ هَذَا فِي عَهْدِ (دَاوُدَ) وَابْنِهِ (سُلَيْمَانَ) -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَقَدْ عَاشَتْ هَذِهِ الْمَمْلَكَةُ الْيَهُودِيَّةُ فِي الْقُدْسِ سَبْعِينَ سَنَةً - نَعَمْ سَبْعِينَ سَنَةً فَقَطْ هِيَ عُمُرُ الْيَهُودِ فِي الْقُدْسِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَهْدٌ بِتِلْكَ الْمَدِينَةِ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهِيَ فَتْرَةٌ قَصِيرَةٌ جِدًّا مِنْ تَارِيخِ مَدِينَةِ الْقُدْسِ، وَتَارِيخُ الْقُدْسِ يُضَاهِي تَارِيخَ مِصْرَ، وَهِيَ أَقْدَمُ بِلَادِ الْعَالَمِ.
وَتَارِيخُ الْقُدْسِ يَتَكَوَّنُ مِنْ مَرَاحِلَ طَوِيلَةٍ، كُلُّ مَرْحَلَةٍ دَامَتْ مِئَاتِ السِّنِينَ:
الْمَرْحَلَةُ الْعَرَبِيَّةُ الْأُولَی: الَّتِي جَاءَتْ فِيهَا (قَبَائِلُ كَنْعَانَ الْعَرَبِيَّةِ)، وَاسْتَوْطَنَتْ فِلَسْطِينَ، وَزَرَعَتْ أَرْضَهَا، وَبَنَتْ فِيهَا الْقُرَى، وَهِيَ مَرْحَلَةٌ طَوِيلَةٌ اسْتَمَرَّتْ زُهَاءَ أَلْفَيْنِ (2000) مِنَ السِّنِينَ.
تَعَاقَبَ بَعْدَهَا عَلَى الْقُدْسِ مَنْ تَعَاقَبَ، تَعَاقَبَ عَلَى غَزْوِ فِلَسْطِينَ وَحُكْمِهَا وَالْإِقَامَةِ فِيهَا أُمَمٌ عَدِيدَةٌ: هِيَ أُمَمُ الْآشُورِيِّينَ، وَالْبَابِلِيِّينَ، وَالْفُرْسِ، وَالْمِصْرِيِّينَ، وَالْيُونَانِ، وَالرُّومَانِ، وَقَدْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَرْحَلَةً تَارِيخِيَّةً أَطْوَلَ مِنَ السَّنَوَاتِ السَّبْعِينَ الَّتِي عَاشَهَا بَنُوا إِسْرَائِيلَ فِي الْقُدْسِ، دُونَ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا يَدَّعِيهِ الْيَهُودُ فِي زَمَانِنَا هَذَا مِنْ أَنَّ لَهُمْ حَقًّا تَارِيخِيًّا فِي الْقُدْسِ وَفِي فِلَسْطِينَ جَمِيعًا!!
بَدَأَتْ تِلْكَ السَّنَوَاتُ السَّبْعُونَ عِنْدَمَا دَخَلَ النَّبِيُّ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْقُدْسَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَلْفٍ قَبْلَ الْمِيلَادِ (1050 ق.م) أَوْ حَوْلَ هَذَا التَّارِيخِ، وَلَمْ يَبْنِ مَعْبَدًا، وَلَمْ يَبْنِ فِي الْقُدْسِ هَيْكَلًا؛ فَقَدْ جَاءَ فِي ((الْعَهْدِ الْقَدِيمِ فِي سِفْرِ الْأَيَّامِ الْأُوَلِ)) مَا يَلِي:
((قَالَ دَاوُدُ لِسُلَيْمَانَ: يَا بُنَيَّ، قَدْ كَانَ فِي قَلْبِي أَنْ أَبْنِيَ بَيْتًا لِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِي؛ فَكَانَ إِلَيَّ كَلَامُ الرَّبِّ قَائِلًا: قَدْ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً، وَعَمِلْتَ حُرُوبًا عَظِيمَةً، فَلَا تَبْنِ بَيْتًا لِاسْمِي؛ لِأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الْأَرْضِ أَمَامِي، هُوَ ذَا يُولَدُ لَكَ ابْنٌ اسْمُهُ يَكُونُ سُلَيْمَانَ، هُوَ يَبْنِي بَيْتًا لِاسْمِي)).
وَظَلَّ دَاوُدُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُؤَدِّي صَلَوَاتِهِ فِي خَيْمَةٍ مِنَ الشَّعَرِ، وَبَنَى سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- الْمَعْبَدَ، وَكَانَ مَعْبَدًا صَغِيرًا مُلْحَقًا بِالْقَصْرِ الْمَلَكِيِّ، وَبَابُهُ مَفْتُوحٌ مِنْ جِهَةِ الْقَصْرِ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَبِحَاشِيَتِهِ وَزَوْجَاتِهِ.
هَذَا الْمَعْبَدُ يُسَمُّونَهُ الْهَيْكَلَ الْأَوَّلَ، وَلَمْ يَدُمْ هَذَا الْمَعْبَدُ طَوِيلًا؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ قَدْ نَشِبَتْ بَيْنَهُمُ الْمُنَازَعَاتُ وَالْمُنَاوَشَاتُ؛ فَلَمْ يَسْتَمِرُّوا فِي حُكْمِ الْقُدْسِ وَفِلَسْطِينَ طَوِيلًا، أَغَارَ عَلَيْهَا (الْمِصْرِيُّونَ) مِنْ جَانِبٍ، وَ(الْآشُورِيُّونَ) مِنْ جَانِبٍ، وَصَارَتِ الْمَنْطِقَةُ كُلُّهَا مَنْطِقَةَ مَعَارِكَ وَحُرُوبٍ خَرَّبَتْ مُدُنَهَا وَشَتَّتَتْ سُكَّانَهَا.
* اقْتِحَامُ الْبَابِلِيِّينَ لِلْقُدْسِ:
ثُمَّ ظَهَرَتْ قُوَّةٌ كَبِيرَةٌ فِي الشَّرْقِ هُمُ (الْبَابِلِيُّونَ) فَاقْتَحَمُوا الْمَدِينَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِ مِائَةٍ قَبْلَ الْمِيلَادِ (587 ق.م)، وَدَخَلَهَا (نَبُوخَذ نُصَّرَ) مَلِكُ بَابِلَ؛ فَأَحْرَقَ الْهَيْكَلَ وَقَوَّضَ أَرْكَانَهُ، وَهَدَمَ جُدْرَانَهُ، وَسَبَى جَمِيعَ الرِّجَالِ وَالشُّبَّانِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ أَوْ مَاهِرًا فِي صَنْعَتِهِ أَوْ حِرْفَتِهِ، وَنَقَلَهُمْ جَمِيعًا إِلَى بِلَادِهِ، وَبَقِيَتْ (أُورَشَلِيمُ) مَدِينَةً مُخَرَّبَةً تَحْتَ حُكْمِ الْبَابِلِيِّينَ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَانِ.
* احْتِلَالُ الْفُرْسِ لِأُورشَلِيمَ:
ثُمَّ ظَهَرَتْ قُوَّةُ (الْفُرْسِ) وَمَلِكُهُمْ (قُورَش)، فَأَغَارَ عَلَى (أُورَشَلِيمَ) وَانْضَمَّ إِلَيْهِ أَشْتَاتُ الْيَهُودِ انْتِقَامًا مِنَ الْبَابِلِيِّينَ؛ فَسَمَحَ لَهُمْ حِينَئِذٍ بِالْعَوْدَةِ إِلَى (أُورَشَلِيمَ) وَبَنَى لَهُمْ فِيهَا مَعْبَدًا، وَهَذَا مَا يُسَمُّونَهُ: (الْهَيْكَلَ الثَّانِيَ).
* حُكْمُ الرُّومَانِ لِأُورشَلِيمَ:
وَكَمَا أُحْرِقَ وَدُمِّرَ الْهَيْكَلُ الْأَوَّلُ؛ أُحْرِقَ وَدُمِّرَ الْهَيْكَلُ الثَّانِي، وَذَلِكَ عِنْدَمَا جَاءَ (الْإِغْرِيقُ) وَحَكَمُوا (أُورَشَلِيمَ)، فَقَدْ جَاءَ (الْإِسْكَنْدَرُ الْمَقْدُونِيُّ) أَوَّلًا، وَكَانَ شَابًّا تَتَلْمَذَ عَلَى (أَرِسْطُو) وَعَلَى فَلَاسِفَةِ الْيُونَانِ، وَكَانَ يَحْلُمُ بِأَنْ يَنْشُرَ حَضَارَةَ الْيُونَانِ فِي بِلَادِ الشَّرْقِ؛ وَلِهَذَا اسْتُقْبِلَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّرْحِيبِ كَمَا حَدَثَ عِنْدَمَا جَاءَ إِلَى مِصْرَ، وَحَدَثَ مِثْلُهُ عِنْدَمَا وَصَلَ جَيْشُهُ إِلَى (أُورشَلِيمَ)، فَوَجَدَ أَحْبَارَ الْيَهُودِ فِي انْتِظَارِهِ مُرَحِّبِينَ، وَأَسْرَفُوا فِي التَّرْحِيبِ؛ فَأَعْلَنُوا أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَهُودِيٍّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ يُسَمَّی بِالْإِسْكَنْدَرِ.
وَلَمْ يَدُمِ الْوُدُّ بَيْنَ الْيُونَانِ وَالْيَهُودِ طَوِيلًا؛ فَجَاءَ أَحَدُ خُلَفَاءِ الْإِسْكَنْدَرِ وَأَذَلَّ الْيَهُودَ، وَهَدَمَ الْهَيْكَلَ، وَأَقَامَ مَكَانَهُ تِمْثَالًا لِرَئِيسِ آلِهَةِ الْيُونَانِ، وَأَمَرَ بِأَنْ تُذْبَحَ فِي هَذَا الْمَعْبَدِ الْخَنَازِيرُ، وَحَظَرَ عَلَى الْيَهُودِ الِاخْتِتَانَ، وَأَجْبَرَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَتْ عُقُوبَةُ مَنْ يُخَالِفُ هَذَا هِيَ الْإِعْدَامَ.
ظَلَّ الْأَمْرُ هَكَذَا حَتَّى دَخَلَ الرُّومَانُ مَدِينَةَ الْقُدْسِ، وَكَانَ هَذَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ قَبْلَ الْمِيلَادِ (63ق.م)، وَرَحَّبَ الْيَهُودُ بِالرُّومَانِ مِثْلَمَا رَحَّبُوا مِنْ قَبْلُ بِالْيُونَانِ.
فَأَقَامَ الْحَاكِمُ الرُّومَانِيُّ (هِيرُودُس) مَعْبَدًا كَبِيرًا يُسَمُّونَهُ هُمْ (الْهَيْكَلَ الثَّالِثَ)، وَلَمْ يَكُنْ مَعْبَدًا يَهُودِيًّا وَإِنْ كَانَ يُسْمَحُ لِلْيَهُودِ بِدُخُولِ بَعْضِ أَرْجَائِهِ، كَانَ مَعْبَدًا رُومَانِيًّا، بُنِيَ عَلَى الطِّرَازِ الرُّومَانِيِّ، وَعَلَى مِسَاحَةٍ تَبْلُغُ عِشْرِينَ فَدَّانًا، وَكَانَتِ الْأَلْعَابُ الْأُولِمْبِيَّةُ وَمُسَابَقَاتُ الْأُولِمْبِيَّاتِ تُقَامُ بِهِ، وَكَانَتِ الْحَفَلَاتُ السَّاهِرَةُ تُقَامُ بِهِ أَيْضًا؛ تَكْرِيمًا لِضُيُوفِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْكُبَرَاءِ وَالْعُظَمَاءِ.
ثُمَّ سَاءَتِ الْعَلَاقَاتُ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالرُّومَانِ؛ فَأَمَرَ الْإِمْبِرَاطُورُ الرُّومَانِيُّ (نِيرُون) بِأَنْ تُحْرَقَ (أُورَشَلِيمُ) كَمَا أُحْرِقَتْ رُومَا نَفْسُهَا، وَتَمَّ هَذَا عَلَى يَدِ أَحَدِ الْقُوَّادِ الرُّومَانِ، يُسَمَّى (تِيطَس)، الَّذِي أَشْعَلَ النَّارَ فِي الْمَدِينَةِ؛ فَظَلَّتْ مُشْتَعِلَةً شَهْرًا كَامِلًا.
وَأَمَرَ تِيطَسُ بِهَدْمِ ذَلِكَ الْهَيْكَلِ -وَمَا كَانَ هَيْكَلًا وَإِنَّمَا كَانَ مَعْبَدًا وَثَنِيًّا رُومَانِيًّا- فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا حَائِطٌ يَقُولُونَ هُمْ عَنْهُ: هُوَ (حَائِطُ الْمَبْكَى)، وَذَبَحَ جُنُودُهُ كُلَّ مَنْ وَجَدُوهُ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ سَبْعِينَ (70) بَعْدَ الْمِيلَادِ.
وَقَرَّرَ الْحَاكِمُ الرُّومَانِيُّ إِلْغَاءَ اسْمِ (أُورشَلِيمَ) وَأُطْلِقَ عَلَى الْمَدِينَةِ اسْمٌ جَدِيدٌ فَسَمَّاهَا (إِيليَّا كَابِيتُولِينَا)، وَظَلَّتْ تُعْرَفُ بِهَذَا الِاسْمِ حَتَّى دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمَدِينَةَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّ مِائَةٍ (636م) مِنَ الْمِيلَادِ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ فِي الْعَهْدِ الْعُمَرِِيِّ نَصًّا عَلَى أَنَّهُ عَهْدُ أَمَانٍ لِأَهْلِ إِيليَّا، وَهُوَ الِاسْمُ الْجَدِيدُ الَّذِي غُيِّرَ اسْمُ الْمَدِينَةِ الْقَدِيمَةِ إِلَيْهِ.
هَذِهِ إِلْمَامَةٌ سَرِيعَةٌ جِدًّا بِتَارِيخِ مَدِينَةِ الْقُدْسِ أَوْ بِعَلَاقَةِ الْيَهُودِ بِالْقُدْسِ، وَمِنْهَا تَتَبَيَّنُ أَنَّ آخِرَ مَعْبَدٍ يَهُودِيٍّ، أَوْ إِنْ شِئْتَ الدِّقَّةَ فَقُلْ: تَتَبَيَّنُ أَنَّ آخِرَ مَعْبَدٍ سُمِحَ لِلْيَهُودِ بِدُخُولِهِ - وَكَانَ مَعْبَدًا رُومَانِيًّا وَثَنِيًّا- سُمِحَ لَهُمْ بِدُخُولِهِ وَمُمَارَسَةِ طُقُوسِهِمْ فِي بَعْضِ أَرْجَائِهِ: هُوَ مَا سَمَّوْهُ بِالْهَيْكَلِ الثَّالِثِ الَّذِي أَحْرَقَهُ الرُّومَانُ وَهَدَمُوهُ، وَنَهَبَ جُنُودُهُمْ مَا فِيهِ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ مِنَ الْمِيلَادِ (70م) أَيْ: قَبْلَ دُخُولِ الْمُسْلِمِينَ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ قُرُونٍ وَنِصْفِ قَرْنٍ.
* دُخُولُ الْمُسْلِمِينَ مَدِينَةَ الْقُدْسِ وَفِرْيَةُ الْهَيْكَلِ الْيَهُودِيِّ:
لَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمَدِينَةَ؛ تَجَوَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ أُسْقُفِّ الْمَدِينَةِ (صَفَرْنِيُوس) -وَهُوَ أُسْقُفُّ الْمَدِينَةِ- لِيَرَى مَعَالِمَ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْبَدٌ وَلَا هَيْكَلٌ يَهُودِيٌّ وَاحِدٌ، انْدَثَرَ هَذَا كُلُّهُ مُنْذُ قُرُونٍ وَقُرُونٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَعَلَى رَأْسِهِمْ عُمَرُ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَقَرّ ُوا النَّصَارَى عَلَى مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ مَعَابِدِهِمْ وَلَمْ يَمَسُّوهَا بِسُوءٍ؛ فَلَمْ يَهْدِمُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَلَمْ يَسْتَوْلُوا مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ.
فَلَوْ كَانَ لِلْيَهُودِ مَعْبَدٌ فِي مَدِينَةِ الْقُدْسِ عِنْدَمَا فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ وَدَخَلَهَا بَعْدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عنه- لَأَبْقَى ذَلِكَ عَلَى حَالِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ شَيْءٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ يَدَّعُونَ الْحَقَّ التَّارِيخِيَّ فِي الْمَدِينَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُمْ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلُهَا، وَأَنَّهَا مِلْكٌ خَالِصٌ لَهُمْ، يُقَاتِلُونَ عَلَيْهَا؛ إِذْ هِيَ مَوْعُودُ الرَّبِّ بِزَعْمِهِمْ! وَهُمْ كَذَبَةٌ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ إِرْهَابَهُمُ الصِّهْيَوْنِيَّ يَرْتَكِزُ عَلَى عَقِيدَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ.
((عَقِيدَةُ الْيَهُودِ: أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ))
الْعَقِيدَةُ الصِّهْيُونِيَّةُ التَّوْرَاتِيَّةُ التَّلْمُودِيَّةُ تَقُومُ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ هُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ، وَأَنَّ بَاقِيَ الْبَشَرِ جُويِيم -أَيْ هُمْ أُمَمِيُّونَ أَغْيَارٌ- خَلَقَهُمُ اللهُ عَلَى هَيْئَةِ الْبَشَرِ؛ لِيَكُونُوا فِي خِدْمَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ!!
هَذِهِ عَقِيدَةُ الْيَهُودِ! أَنَّ اللهَ خَلَقَكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَأَنْتُمْ أَغْيَارٌ خَلَقَكُمْ عَلَى هَيْئَةِ الْبَشَرِ، لَا تَكْرِيمًا لَكُمْ، وَإِنَّمَا تَكْرِيمًا لِلْيَهُودِ؛ لِكَيْ تَصْلُحُوا أَنْ تَكُونُوا خَدَمًا عِنْدَهُمْ.
هَذَا الْمُعْتَقَدُ دَفَعَ الْيَهُودَ إِلَى الِانْزِوَاءِ وَالِانْغِلَاقِ فِي كَانتُونَاتٍ مُنْعَزِلَةٍ تَحْمِيهِمْ مِنَ الِانْخِرَاطِ وَالذَّوَبَانِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْأُخْرَى؛ وَذَلِكَ لِحِفْظِ التَّمَيُّزِ الْيَهُودِيِّ، وَصِيَانَةِ مَا يَجْعَلُ الشَّعْبَ الْيَهُودِيَّ شَعْبًا مُخْتَارًا، هَذَا مَا أَكَّدَهُ (التَّلْمُودُ) فِي الْعِبَارَةِ الَّتِي تَقُولُ: ((مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلَ الْيَهُودِيُّ كُلَّ كَافِرٍ؛ لِأَنَّ مَنْ يَسْفِكُ دَمَ الْكَافِرِ يُقَدِّمُ قُرْبَانًا لِلَّهِ)).
هَذَا فِي التَّلْمُودِ.
وَالتَّلْمُودُ: مَجْمُوعَةُ التَّعَالِيمِ وَالتَّقَالِيدِ الْيَهُودِيَّةِ، الْمَنْقُولَةُ شَفَهِيًّا عَنْ رِجَالِ الدِّينِ مِنْ حَاخَامَاتِهِمْ.
عَقِيدَةُ الْيَهُودِ التَّوْرَاتِيَّةُ الْقَتْلُ وَالذَّبْحُ
إِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْجَبُ مِنْ تَفَجُّرِ يَنَابِيعِ الْوَحْشِيَّةِ فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى الْمَدَى الَّذِي لَا يُعْقَلُ وَلَا يُصَدَّقُ، وَالنَّاسُ لَا يَصْدُرُونَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَلَا يَتَحَرَّكُونَ حَرَكَةً فِي حَيَاتِهِمْ إِلَّا بِبَاعِثٍ وَدَافِعٍ، وَأَكْبَرُ الْبَوَاعِثِ وَأَجَلُّ الدَّوَافِعِ مَا كَانَ عَقِيدَةً وَدِينًا، فَإِذَا كَانَتِ الْعَقِيدَةُ تَدْفَعُ إِلَى الْوَحْشِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الدِّينُ يَحُضُّ عَلَى الْعُنْفِ وَالْقَتْلِ وَالتَّدْمِيرِ وَالتَّخْرِيبِ وَالْإِرْهَابِ؛ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَاوَمَ إِلَّا بِمِثلِهِ، بِعَقِيدَةٍ بَنَّاءَةٍ وَدَافِعَةٍ إِلَى الرُّقِيِّ وَالْعَدْلِ، وَمُقِيمَةٍ لِصَرْحٍ شَامِخٍ مِنَ الْفَضْلِ.
* دَافِعٌ عَقَدِيٌّ دِينِيٌّ تَوْرَاتِيٌّ وَرَاءَ وَحْشِيَّةِ الْيَهُودِ:
لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَوَّرَ هَذَا الْكَمَّ الْفَظِيعَ مِنَ الْوَحْشِيَّةِ، تَنْطَلِقُ عَقَارِبُهَا، وَتَنْسَابُ حَيَّاتُهَا وَأَفَاعِيهَا تَدْمِيرًا وَتَخْرِيبًا وَتَقْتِيلًا، لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى اعْتِقَادٍ رَاسِخٍ فِي النَّفْسِ أَنَّ مَا يُفْعَلُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَرْضَاةِ الرَّبِّ، وَفِي تَحْصِيلِ رِضَاءِ الْإِلَهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَنْ وَهْمٍ، أَمْ كَانَ عَنْ خَدِيعَةٍ، أَمْ كَانَ عَنْ طَمَعٍ، أَمْ كَانَ عَنْ تَحْرِيضٍ وَفَزَعٍ، فَالْمُحَصِّلَةُ وَاحِدَةٌ، وَالنَّتِيجَةُ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا وَلَا مُسَاوَمَةَ عَلَيْهَا.
لَوْ نَظَرَ الْإِنْسَانُ فِي ((الْعَهْدِ الْقَدِيمِ)) وَنَظَرَ فِي ((سِفْرِ حِزْقِيَالَ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِن رَقْمِ 15 إِلَى 17))؛ لَعَرَفَ الدَّافِعَ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْبَاعِثِ، وَلَمْ يَعُدْ بَعْدُ مَجَالٌ لِلْعَجَبِ، وَلَا مَثَارٌ لِلدَّهَشِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ مُنَظَّمٌ فَاعِلٌ مُتَحَوِّلٌ فِي دُنْيَا اللهِ لِأَسَاطِيرَ مَكْتُوبَةٍ، وَلِأَسْفَارٍ مَعْلُومَةٍ يُحَوِّلُهَا الْقَوْمُ بِعَقِيدَتِهِمْ فِيهَا، وَإِيمَانِهِمْ بِهَا إِلَى وَاقِعٍ مَفْرُوضٍ.
يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ -كَمَا يَزْعُمُونَ- فِي الْمَوْضِعِ الْمَذْكُورِ: ((هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْفِلِسْطِينِيِّينَ قَدْ عَمِلُوا بِالِانْتِقَامِ، وَانْتَقَمُوا نِقْمَةً بِالْإِهَانَةِ إِلَى الْمَوْتِ لِلْخَرَابِ مِنْ عَدَاوَةٍ أَبَدِيَّةٍ)).
فَلِلْفِلِسْطِينِيِّينَ فِي ((الْعَهْدِ الْقَدِيمِ)) مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ -كَمَا يَزْعُمُونَ- الْعَدَاوَةُ الْأَبَدِيَّةُ، وَالْمَذْبَحَةُ الْجَمَاعِيَّةُ، بِكَلَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ وَحْيٌ مِنْ لَدُنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ! وَكَذَبُوا فِمَا زَعَمُوا، إِنَّمَا هُوَ مِمَّا ائْتَفَكُوهُ وَمِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ.
((فَلِذلِكَ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هَا أَنَا ذَا أَمُدُّ يَدِي عَلَى الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَأَسْتَأْصِلُ الْكِرِيتِيِّينَ، وَأُهْلِكُ بَقِيَّةَ سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَأُجْرِي عَلَيْهِمْ نَقْمَاتٍ عَظِيمَةً بِتَأْدِيبِ سَخَطٍ؛ فَيَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ؛ إِذْ أَجْعَلُ نَقْمَتِي عَلَيْهِمْ)).
هَذِهِ عَقِيدَتُهُمُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ! وَهَذَا دِينُهُمُ الَّذِي بِهِ يَدِينُونَ! وَهَذَا هُوَ الْوَحْيُ الْمَكْذُوبُ الَّذِي يَزْعُمُونَ! غَيْرَ أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا قَدْ حَوَّلُوهُ إِلَى وَاقِعٍ مَنْظُورٍ مَفْرُوضٍ بِمَذلَّةٍ مُهِينَةٍ نَازِلَةٍ عَلَى كُلِّ مَنْ حَادَ عَنْ دِينِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَخَالَفَ شَرِيعَةَ نَبِيِّهِ ﷺ.
* عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ لَيْسَ لِلْيَهُودِ إِسْهَامٌ يُذْكَرُ فِي الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ:
وَالْعَجِيبُ الْغَرِيبُ أَنَّ أُمَّةً بِهَذِهِ الضَّعَةِ وَبِهَذَا الْهَوَانِ، وَلُغَتُهَا مَيِّتَةٌ لَا قِيمَةَ لَهَا، الْعَجِيبُ الَّذِي لَا يَفْرُغُ مِنْهُ الْعَجَبُ أَنَّ أُمَّةً عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَجْعَلَ لُغَتَهَا لُغَةَ الْعُلُومِ الْحَدِيثَةِ!!
إِنَّ الْيَهُودَ كَمَا قَرَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْغَرْبِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ فِيهِمْ، كَمَا قَالَ (جُوستَاف لُوبُون) فِي كِتَابِهِ عَنِ الْيَهُودِ: عَلَى مَدَارِ التَّارِيخِ لَيْسَ لَهُمْ إِسْهَامٌ يُذْكَرُ فِي الْحَضَارَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، بَلْ هُمْ أَهْلُ الدَّسَائِسِ وَالْمِحَنِ، وَأَهْلُ الْفِتَنِ وَالْإِحَنِ، وَلَمْ يُسْهِمُوا قَطُّ فِي تَرْقِيَةِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَطُّ مُسَاهَمَةٌ فِي فِكْرٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا شَيْءٍ مِمَّا يَبْنِي صَرْحَ مَدَنِيَّةٍ، أَوْ يَشِيدُ حَضَارَةً إِنْسَانِيَّةً، بَعِيدًا عَنِ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ، لَمْ يَصْنَعُوا شَيْئًا.
إِنَّمَا عَلَّمُوا الْعَالَمَ الدَّسَائِسَ وَالْفِتَنَ، يُشْعِلُونَ الْحَرَائِقَ فِي كُلِّ مَكَانٍ! وَيُثِيرُونَ الْحُرُوبَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ! وَلَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً.
مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ أُمَّةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَتَمَكَّنُ مِنْ رِقَابِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ! وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَبُّهَا الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ سُوءٍ، الْمُبَرَّأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَنَبِيُّهَا مُحَمَّدٌ ﷺ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، النَّبِيُّ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ لَهُ الدِّينَ، وَكَمَّلَ لَهُ خُلُقَهُ، وَأَحْسَنَ لَهُ خَلْقَهُ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَأَفْضَلَ إِلَيْهِ، وَآتَاهُ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ؛ كَرَامَةً وَرِفْعَةً، وَعَطَاءً وَإِكْرَامًا.
وَكِتَابُهَا الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، الَّذِي لَمْ يَأْتَمِنِ اللهُ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ؛ فَحَفِظَهُ بِنَفْسِهِ، وَكُتُبُ الْأَقْدَمِينَ كَانُوا مُسْتَحْفَظِينَ عَلَيْهَا، فَبَدَّلُوهَا وَحَرَّفُوهَا، وَمَسَخُوهَا وَسَلَخُوهَا مِنْ سِيَاقَاتِهَا! حَتَّى وَضَعُوهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا!
سَلَامُهُمْ حَرْبٌ! وَعَطَاؤُهُمْ مَنْعٌ! وَإِكْرَامُهُمْ إِذْلَالٌ؛ لِأَنَّهُمْ مَهِينُونَ، أَهَانَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، هَؤُلَاءِ - وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ - يَتَمَكَّنُونَ مِنْ رِقَابِ أَبْنَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ؟!!
أَلَا إِنَّ الْخَلَلَ الْوَاقِعَ فِي الْأُمَّةِ إِذَنْ لَعَظِيمٌ!
إِنَّ الْيَهُودَ يَدَّعُونَ الْحَقَّ التَارِيخِيَّ فِي مَدِينَةِ الْقُدْسِ، وَيَقُولُونَ هُمْ: إِنَّهُم أَحَقُّ بِهَا وَأَهلُهَا، وَأَنَّهَا مِلْكٌ خَالِصٌ لَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ؛ إِذْ هِيَ مَوعُودُ الرَّبِّ بِزَعمِهِم! وَهُمْ كَذَبَةٌ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِرهَابَهُمُ الصِّهْيَوْنِيَّ يَرتَكِزُ عَلَى عَقِيدَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ!
فَحَرِيٌّ بِالشُّيُوخِ أَنْ يُعَلِّمُوا الْمُسْلِمِينَ طَبِيعَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْعَدَاءِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمُ الْأَكْبَرِ؛ إِذْ هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ إِنَّهُمْ لَيَأْتُونَ بِالْحِيَلِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي كُلِّ حِينٍ، وَيُثِيرُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يُثِيرُونَهُ، وَيَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ وَعْدَ الرَّبِّ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَمْتَلِكُونَ مَا تَحْتَ أَقْدَامِ الشُّيُوخِ، وَعْدًا مِنَ الرَّبِّ غَيْرَ مَكْذُوبٍ عِنْدَ أُولَئِكَ فِيمَا يَزْعُمُونَ! إِذْ إِنَّهَا كَلِمَةُ الرَّبِّ لَهُمْ بِوَعْدِهِ إِيَّاهُمْ، وَهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ رَبَّهُمْ بِزَعْمِهِمْ! وَإِنْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَقُوا مَا اخْتَلَقُوهُ وَأَفِكُوا مَا أَفِكُوهُ ثُمَّ صَدَّقُوهُ وَعَاشُوا بِهِ عَقِيدَةً يَتَحَرَّكُونَ بِهَا فِي النَّاسِ، وَيُنَفِّذُونَهَا فِي دُنْيَا اللهِ!
عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِمْ، وَأَنْ يَحْرِصُوا عَلَى عَقِيدَتِهِمْ، وَأَنْ يَعْرِفُوا عَدُوَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ ذَكَرَ الْيَهُودَ بِصِفَاتِهِمْ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ.
حَرِيٌّ بِمَنْ يَقُولُ عَدُوُّهُ: إِنَّ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ إِنَّمَا هُوَ وَعْدُ الرَّبِّ لِي؛ حَرِيٌّ بِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يُنَبِّهَ شَعْبَهُ وَمُوَاطِنِيهِ وَإِخْوَانَهُ، وَأَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ فِي الْقَضِيَّةِ، وَأَنْ يُنَبِّهَهُمْ إِلَى خُطُورَةِ هَذَا الْعَدُوِّ الرَّابِضِ الْجَاثِمِ عَلَى الْبَوَّابَةِ الشَّمَالِيَّةِ الشَّرْقِيَّةِ، يَنْتَظِرُ الْفُرْصَةَ تَسْنَحُ حَتَّى يَنْقَضَّ كَاسِرًا.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَجَمِيعَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.
((مَعْرَكَتُنَا مَعَ الْيَهُودِ مَعْرَكَةٌ عَقَائِدِيَّةٌ))
وَعْدُ الْإِلَهِ لِلْيَهُودِ جُزْءٌ مِنْ تَكْوِينِ كُلِّ بُرُوتِسْتَانْتِيِّ يَسْرِي فِي كِيَانِهِ، وَيَمْتَزِجُ بِكَيْنُونِيَّتِهِ، وَالْبُرُوتِسْتَانْتِيُّ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يُخَالِفُ وَعْدَ الْإِلَهِ التَّوْرَاتِيَّ، أَوْ مَا يُؤَخِّرُ إِتْمَامَهُ، إِنَّمَا يَهْدِمُ كِيَانَهُ وَوُجُودَهُ، وَيُنَاقِضُ تَكْويِنَهُ الذِّهْنِيَّ، وَيَنْقُضُ كَيْنُونَتَهُ النَّفْسِيَّةَ.
فَهْمُ الْمَسْأَلَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالتَّأْرِيخُ لِلْيَهُودِ مِنْ غَيْرِ الْعَقَائِدِ، هُوَ بِالضَّبْطِ مِثْلُ التَّأْرِيخِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَفَهْمِ أَثَرِهِ فِي الْعَالَمِ بَعْدَ إِسْقَاطِ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، هَذِهِ وَاحِدَةٌ.
وَالْأُخْرَى هِيَ أَنَّ تَفْرِيغَ الْمَعْرَكَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ مِنْ أَبْعَادِهَا الْعَقَائِدِيَّةِ يُفْقِدُهَا عُمْقَهَا الحَقِيقِيَّ الْمُرَابِطَ مِنْ خَلْفِهَا، وَهُوَ الْعَالَمُ الْإِسْلَامِيُّ كُلُّهُ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْقَضِيَّةُ صِرَاعًا بَيْنَ قَوْمٍ وَقَوْمٍ، بَيْنَ بَلَدٍ اسْمُهُ (فِلَسْطِينَ) وَجَيْبٍ اسْتِعْمَارِيٍّ غَرْبِيٍّ، وَلَا عَلَاقَةَ لِهَذَا الصِّرَاعِ بِالْعَقَائِدِ، حِينَئِذٍ يَقُولُ الْقَائِلُ: مَا شَأْنِي أَنَا -الْمِصْرِيُّ أَوْ النَّيْجِيرِيُّ أَوْ الْمَالِيزِيُّ- بِهَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، وَمَا لِي وَلَهَا؟!
وَمَنْ يُفَرِّغُون الْمَعْرَكَةَ مِنْ مَعْنَاهَا الصَّحِيحِ؛ لِيَفْقِدُوا مَعَهَا عُمْقَهَا التَّارِيخِيَّ الْحَقِيقِيَّ وَخَزَّانَهَا الطَّبِيعِيَّ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَحْتَ وَهْمِ أَنَّ اسْتِبْعَادَ الْعَقَائِدِ مَعَ الْبُكَاءِ عَلَى أَعْتَابِ الْغَرْبِ قَدْ يَحْمِلُ الْغَرْبَ يَوْمًا عَلَى إِنْصَافِنَا!
وَهِيَ الِاسْتِرَاتِيجِيَّةُ النِّضَالِيَّةُ الَّتِي تَدُورُ حَوْلَهَا سِيَاسَاتُ النُّخْبَةِ، وَتَنْبُعُ مِنْهَا خُطَطُ سَاسَتِهَا، وَهُوَ التِّكْتِيكُ التَّارِيخِيُّ الَّذِي يَتَبَنَّاهُ أَسَاتِذَةُ الْعُلُومِ السِّيَاسِيَّةِ، وَيُقِيمُونَ حَوْلَ مِحْوَرِهِ مَنَاهِجَهُمْ، وَمَنْطِقُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا فِي الْمَاضِي ضُعَفَاءَ، فَبَكَوْا عَلَى أَعْتَابِ الْغَرْبِ حَتَّى رَقَّ قَلْبُهُ لَهُمْ، وَجَلَبَهُمْ مِنْ زَوَايَا الْأَرْضِ وَطَوَايَاهَا إِلَى فِلَسْطِينَ، وَأَقَامَ لَهُمْ دَوْلَتَهُمْ، وَالْيَهُودُ الْيَوْمَ أَقْوِيَاءُ، وَنَحْنُ ضُعَفَاءُ؛ فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُحَاوِلَ إِقْنَاعَ الْغَرْبِ أَنَّنَا ضُعَفَاءُ، وَأَنْ نَذْرِفَ الدَّمْعَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَخِينًا، وَهُوَ عَلَى بَابِ الْجَامِعِ حَتَّى يَحِنَّ قَلْبُهُ الْعَطُوفُ، وَيَتَصَدَّقَ عَلَيْنَا بِمَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ قَبْلُ عَلَى الْيَهُودِ.
هَذِهِ هِيَ أَدْمِغَةُ مَنْ يَشْتَغِلُونَ بِالسِّيَاسَةِ الَّتِي يُوَاجِهُونَ بِهَا عُقُولَ الْجَبَابِرَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ بِهَذَا لَيْسُوا سِوَى أَطْفَالٍ تَلْعَبُ بِالْحَصَى عَلَى أَحَدِ شَوَاطِئِ مُحِيطِ الْعَقْلِ الْيَهُودِيِّ.
الْأُمِّيُّونَ مِنَ السَّاسَةِ وَمَنْ يَشْتَغِلُونَ بِالسِّيَاسَةِ لَا يُدْرِكُونَ أَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا ضُعَفَاءَ، وَمَا كَانُوا يَوْمًا ضُعَفَاءَ، وَأَنَّ الْغَرْبَ مَا مَنَحَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْهُ، بَلْ أَخَذُوهُ كُلَّهُ.
الْيَهُودِيُّ حِينَ يَبْكِي لَا يَبْكِي ضَعْفًا كَمَا فَهِمَ الْأُمِّيُّونَ، لَكِنَّهُ يَبْكِي وَهُوَ فِي ذِرْوَةِ الْقُوَّةِ، وَقَدْ أَخَذَ بِالْقُوَّةِ مَا أَرَادَهُ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ سِوَى الضَّعْفِ؛ فَلَا يَفْطِنُ أَحَدٌ إِلَى مَصْدَرِ قُوَّتِهِ وَحَقِيقَةِ فَعْلَتِهِ، وَهِيَ شِيمَةُ نَفْسِيَّةٌ، وَخَصِيصَةٌ ذِهْنِيَّةٌ فِي الْيَهُودِ، عَرِيقَةٌ فِيهِمْ، أَنْبَأَكَ الْإِلَهُ بِهَا فِي بَيَانِهِ الْخَاتَمِ فِيمَا فَعَلَهُ بَنُوا إِسْرَائِيلَ بِأَخِيهِمْ يُوسُفَ؛ فَهُمْ قَدْ كَادُوا لَهُ كَيْدًا، حَتَّى إِذَا أَتَمُّوا مَا دَبَّرُوا لَهُ، وَأَلْقَوْهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، كَانَ أَوَّلَ مَا فَعَلُوهُ هُوَ أَنَّهُمْ جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ.
الْغَرْبُ هُوَ عُمْقٌ تِلْقَائِيٌّ، وَخَزَّانٌ طَبِيعِيٌّ لِلْيَهُودِ، يَرَى الْمَعْرَكَةَ كُلَّهَا، أَهْدَافَهَا وَغَايَاتِهَا، وَوَسَائِلَهَا وَخُطَطَهَا بِمِنْظَارِ التَّوْرَاةِ، وَحُكْمُهُ عَلَيْهَا وَمَوْقِفُهُ مِنْ أَطْرَافِهَا تَحْكُمُهُ عَقِيدَةُ التَّوْرَاةِ، وَاتِّجَاهُ التَّارِيخِ، وَسِيرَةُ الْيَهُودِ فِيهَا وَمَوْقِعُهُمْ مِنْهَا، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ إِلَّا مِنْ خِلَالِ الْعَقَائِدِ، وَلَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ بِغَيْرِ مَعْرِفَةِ الرَّابِطَةِ الْعَقَائِدِيَّةِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْغَرْبِ.
الْغَرْبُ هُوَ ظَهِيرُ الْيَهُودِ التِّلْقَائِيُّ، ثُمَّ مَدَدُهُمُ الطَّبِيعِيُّ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ هُمْ عُمْقُهُ الْعَقَائِدِيُّ، وَخَزَّانُهُ الذِّهْنِيُّ وَالنَّفْسِيُّ، وَمَصْدَرُ فَهْمِهِ لِلْوُجُودِ وَوَعْيِهِ بِسِيرَةِ الْبَشَرِ، وَوَعْيِهِ بِسِيرَتِهِ هُوَ نَفْسِهِ.
وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الْغَائِرُ وَالتَّفْسِيرُ الْعَمِيقُ لِتَغَلْغُلِ الْيَهُودِ فِي بِنْيَةِ الْغَرْبِ، وَهُوَ مَا فَتَحَ أَذْهَانَ نُخَبِهِ لِتَسْرِيَ فِيهَا أَفْكَارُهُمْ، وَالْيَهْودُ اسْتَوْطَنُوا ذِهْنَ الْغَرْبِ، وَامْتَلَكُوا زِمَامَهُ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِاسْتِيطَانِهِمْ لَهُ، وَامْتِلَاكِهِمْ لِزِمَامِهِ.
فَالْيَهُودُ هُمْ إِفْرَازٌ لِلظَّاهِرَةِ الِاسْتِعْمَارِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ وَجُزْءٌ مِنْهَا، وَلَكِنَّ الْغَرْبَ كَلَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ التَّوْرَاةِ، وَأَفْكَارُهُ وَأَخْلَاقُهُ وَحَضَارَتُهُ وَظَاهِرَتُهُ الِاسْتِعْمَارِيَّةُ هِيَ إِفْرَازٌ لِلتَّوْرَاةِ وَلِسِيرَةِ الْيَهُودِ فِيهَا وَفِيهِ.
وَإِذَا كَانَ الْغَرْبُ مَدَدَ الْيَهُودِ وَظَهِيرَهُمْ؛ لِاتِّفَاقِ مَصَالِحِهِ مَعَ مَصَالِحِهِمْ؛ فَإِنَّ مَصَالِحَهُ هِيَ نَتَاجُ عَقَائِدِهِ الَّتِي كَوَّنَتْهَا التَّوْرَاةُ، وَيَسْتَقِرُّ فِي لُبِّهَا الْيَهُودُ.
مِنْ غَيْرِ الْعَقَائِدِ تَنْحَرِفُ الْمَسْأَلَةُ كُلُّهَا فِي الْأَذْهَانِ، وَتَفْقِدُ الْمَعْرَكَةُ رَصِيدَهَا وَظَهِيرَهَا مِنَ الْأَشِقَّاءِ، وَتَتَوَهَّمُ الْأَصْدَقَاءَ فِي الْأَعْدَاءِ، وَتَرَى الْوُسَطَاءَ فِي الْغُرَمَاءِ!
وَلَوْ أَنَّ الْعَقَائِدَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْيَهُودِ مُنْذُ بِدَايَتِهَا، وَلَوْ أَنَّ نُورَ الْوَحْيِ وَقَوَاعِدَهُ فِي الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ، وَرَكَائِزَهُ فِي فَهْمِ الرَّوَابِطِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَبَيْنَهُمْ مَعًا وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، لَوْ أَنَّ الْعَقَائِدَ كَانَتْ حَاضِرَةً فِي وَعْيِ النُّخَبِ الْحَاكِمَةِ، وَفَاعِلَةً فِي سِيَاسَاتِهَا؛ لَمَا سَارَ تَأْرِيخُهَا فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ فِي الْمَسَارِ الَّذِي سَارَ وَمَا زَالَ يَسِيرُ فِيهِ، وَمَا كَانَ لِإِسْرَائِيَل مْنُ وُجُودٍ.
وَمَا كَانَ جَائِزًا قَطُّ وَلَا يَكُونُ تَفْرِيغُ الْمَعْرَكَةِ مِنْ أَبْعَادِهَا الْعَقَائِدِيَّةِ وَالذِّهْنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَإِفْقَادُهَا مِنْ ثَمَّ الْعَالَمَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ ظَهِيرًا وَنَصِيرًا، وَهُوَ الْعَالَمُ الَّذِي يَتَكَوَّنُ مَوْقِفُهُ وَدَعْمُهُ مِنَ النَّمُوذَجِ الْقُرْآنِيِّ بِالْمَسْأَلَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَمِنَ التَّجْرِبَةِ النَّبَوِيَّةِ مَعَ الْيَهُودِ.
الْمَعْرَكُةُ مَعَ الْيَهُودِ وَغَرْبِهِمْ هِيَ مَعْرَكَةُ الْأَفْكَارِ وَالْعَقَائِدِ، أَمَّا الْجُيُوشُ وَالسِّلَاحُ، وَالتَّفَاوُضُ وَالسِّيَاسَةُ، وَالْأَرْضُ وَالْآثَارُ، وَالتَّارِيخُ وَالْجُغْرَافِيَا، فَهِيَ بَعْضُ أَسْلَحَةِ تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ وَوَسَائِلِهَا، أَوْ هِيَ بَعْضُ تَوَابِعِهَا وَنَتَائِجِهَا.
الْمَعْرَكَةُ مَعَ الْيَهُودِ وَالْغَرْبِ مِنْ خَلْفِهِمْ وَمِنْ أَمَامِهِمْ هِيَ مَعْرَكَةُ الْقُرْآنِ وَأَهْلِهِ، وَلَنْ تَنْتَصِرَ الْجُيُوشُ الْمُحَارِبَةُ فِي مَعْرَكَةِ السِّلَاحِ وَاسْتِعَادَةِ الْأَرْضِ مَهْمَا فَعَلَتْ، قَبْلَ أَنْ تَفْطِنَ إِلَى الْمَعْرَكَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي يَخُوضُهَا الْيَهُودُ فِي مُوَاجَهَةِ الْفَرَاغِ.
مَعْرَكَةِ الْأَفْكَارِ وَالْعَقَائِدِ وَإِعَادَةِ الْوَحْيِ لِلْحَيَاةِ وَتَكْوِينِهَا بِهِ، وَفَهْمِ كُلِّ شَيْءٍ فِي نُورِ الْوَحْيِ وَمِنْ خِلَالِ الْوَحْيِ.
((خُطَّةُ الْيَهُودِ: إِفْسَادُ الْعَالَمِ بِإِزَالَةِ الْوَحْيِ مِنْهُ وَبَثِّ نَقِيضِ الْوَحْيِ فِيهِ))
مَعْرَكَتُنَا مَعَ الْيَهُودِ هِيَ مَعْرَكَةُ إِعَادَةِ فَتْحِ الْعَالَمِ وَإِصْلَاحِهِ بِالْوَحْيِ، بَعْدَ أَنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْيَهُودُ، وَأَفْسَدُوهُ بِإِزَالَةِ الْوَحْيِ مِنْهُ، وَبَثِّ نَقِيضِ الْوَحْيِ فِيهِ؛ مِنْ تَحْرِيفِ التَّعَالِيمِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَقَائِدِيَّةِ لِلْبَشَرِ، وَتَرْسِيخِ الْخَرِيطَةِ الْمُحَرَّفَةِ الْمُزَوَّرِةِ فِي أَذْهَانِهِمْ، وَتَكَوُّنِ عُقُولِهِمْ وَنُفُوسِهِمْ بِهَا، مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ جَاءَ كُلُّ إِفْسَادٍ لِلْيَهُودِ.
فَخُطَّةُ الْيَهُودِ لِإِفْسَادِ الْأُمَمِ وَإِزَالَتِهَا هِيَ فِي تَغْيِيرِ تَعَالِيمِ الْإِلَهِ مِنْ أَذْهَانِهِمْ، وَحَجْبِ وَحْيِهِ وَخُطَّةِ هِدَايَتِهِ لَهُمْ عَنْهُمْ، ثُمَّ إِرْشَادِ الْأُمَمِ إِلَى نَقِيضِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ فِي كُلِّ أَمْرٍ؛ كَيْ لَا تَصِلَ الْأُمُمُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ - كَنْزِ الْيَهُودِ - فَيَزُولُ التَّقْدِيسُ وَتَتَسَاوَى مَعَهُمُ الْأُمَمُ، وَهُمْ مَا امْتَازُوا عَلَيْهَا إِلَّا بِمَعْرِفَتِهِمْ بِالْإِلَهِ، وَجَهْلِ الْأُمَمِ بِهِ، وَهِيَ خُطَّةٌ جَبَّارَةٌ، لَكِنَّهُا شَدِيدَةَ الْبَسَاطَةِ؛ إِذْ يَكْفِي لِتَنْفِيذِهَا وَدَفْعِ التَّارِيخِ وَالْأُمَمِ بِهَا وَفِي اتِّجَاهِهَا؛ تَضْلِيلُ الْأُمِّيِّينَ عَنِ الْوَحْيِ، وَقِيَادَتُهُمْ أَخْلَاقِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا وَسِيَاسِيًّا بِمَنْهَجٍ هُوَ بِالضَّبْطِ نَقِيضُ وَحْيِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَكُلُّ مَا نَزَلَ الْوَحْيُ لِيَدُلَّ النَّاسَ عَلَيْهِ؛ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِهِمْ وَصَلَاحِ الدُّنْيَا، يَدُلُّ الْيَهُودُ الْأُمَمَ عَلَى خِلَافِهِ؛ فَإِذَا أَمَرَ الْوَحْيُ بِحِجَابِ الْمَرْأَةِ، أَغْرَوْهَا بِالْعُرْيِ، وَتَفَنَّنُوا فِي إِغْرَائِهَا، وَإِذَا نَهَى عَنِ الرِّبَا أَشَاعُوهُ، وَأَقَامُوا نُظُمَ الْمَالِ وَابْتَدَعُوا النَّظَرِيَّاتِ الِاقْتِصَادِيَّةَ وَالرِّبَا فِي لُبِّهَا.
وَإِذَا حَذَّرَ الْوَحْيُ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالشِّقَاقِ، أَوْقَدُوا نِيرَانَهَا، وَإِذَا أَخْبَرَهُمُ الْوَحْيُ أَنَّ الْهُدَى وَالنُّورَ فِيهِ حَجَبُوهُ، وَضَلَّلُوا النَّاسَ عَنْهُ، وَأَزَالُوا آثَارَهُ فِيهِمْ.
وَإِذَا أَرَادَ الْإِلَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- شَرْعًا أَنْ يَكُونَ مِفْتَاحُ تَصْنِيفِ الْبَشَرِ فِي خُطَّةِ صَلَاحِ الْبَشَرِ مَرْجِعِيَّةَ الْإِلَهِ وَوَحْيَهِ؛ لِكَيْ تَكُونَ هُنَاكَ دَائِمًا دَاخِلَ هَذَا التَّصْنِيفِ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ الَّتِي عَلَى الْحَقِّ، وَمَا عَدَاهَا فَتَحْرِيفٌ أَوْ وَهْمٌ وَضَلَالٌ؛ فَتَرَى بَاقِي أَقْسَامِ التَّصْنِيفِ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَتَعْرِفُ مِنْ سِيرَتِهَا وَمِنْ آثَارِ الْوَحْيِ فِيهَا الْحَقَّ وَتَهْتَدِي بِهَا وَتَقْتَدِي، كَمَا أَخْبَرَنَا الْإِلَهُ ذَاتُهُ فِي مَنَاهِجِ الْإِصْلَاحِ الَّتِي تَكْفُلُ هُوَ -جَلَّ وَعَلَا- بِحِفْظِهَا: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181].
إِذَا أَرَادَ الْإِلَهُ -جَلَّ وَعَلَا- ذَلِكَ شَرْعًا؛ جَاءَ الْيَهُودُ فَطَمَسُوا مِفْتَاحَ التَّصْنِيفِ الْحَقِيقِيَّ، وَأَحَلُّوا مَحَلَّهُ كُلَّ قَوْمٍ وَمَا يَشْتَهُونَ؛ لِيَضِيعَ الْمِيزَانُ، وَيَغِيبَ الْمَرْجِعُ، وَيَخْتَفِيَ فَيْصَلُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؛ فَيَصِيرَ كُلُّ قَوْمٌ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى حَقٍّ، وَالْجَمِيعُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى الْبَاطِلِ!
فَإِذَا كَانَ الْوَحْيُ قَدْ نَزَلَ عَلَى مَنْ اخْتَارَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِلْهِدَايَةِ، وَالْإِصْلَاحِ وَالْمَسِيرَةِ الرَّاشِدَةِ، فَإِنَّ تَسْيِيرَ الْأُمَمِ عَلَى نَقِيضِ الْوَحْيِ، وَتَحَرِّي مَا يُخَالِفُهُ، مَآلُهُ حَتْمًا الْفَسَادُ وَالشِّقَاقُ وَالضَّلَالُ، وَتَآكُلُ الْمُجْتَمَعَاتِ وَانْهِيَارُهَا، وَهُوَ مَا يَعْلَمُهُ الْيَهُودُ - وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ - وَيَعُونَهُ وَيَتَوَخَّوْنَهُ.
هَذِهِ الْخُطَّةُ الْبَسِيطَةُ الْجَبَّارَةُ هِيَ الَّتِي بَدَأَهَا الْيَهُودُ فِعْلًا، وَشَرَعُوا فِي تَنْفِيذِهَا مُنْذُ بَعْثَرَهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْأَرْضِ عِقَابًا لَهُمْ، فَاسْتَبْدَلُوا بِقُوَّتِهِمْ مِنْ قُوَّةِ الْوَحْيِ فِي خُطَّةِ الْإِصْلَاحِ إِفْسَادَ الْأُمَمِ وَإِضْعَافَهَا بِنَقِيضِ الْوَحْيِ فِي خُطَّةِ الْإِفْسَادِ؛ فَيَكُونُ أَثَرُ هَذِهِ فِي الْعَالَمِ كِتِلْكَ، السَّيْطَرَةُ وَالِاسْتِعْلَاءُ الْيَهُودِيُّ، وَالْوُصُولُ إِلَى حُكْمِ الْعَالَمِ وَالتَّحَكُّمِ فِيهِ.
وَالْخُطَّةُ الَّتِي شَرَعَ الْيَهُودُ فِي تَنْفِيذِهَا هِيَ مَا وَبَّخَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ مِيخَا؛ إِذْ نَصَّ فِي تَوْبِيخِهِ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الْحَقَّ، وَيُعَوِّجُونَ كُلَّ مُسْتَقِيمٍ؛ أَيْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ الْهُدَى وَالرُّشْدَ، وَيَفْعَلُونَ نَقِيضَهُ عَمْدًا، ((اسْمَعُوا هَذَا يَا رُؤَسَاءَ بَيْتِ يَعْقُوبَ، وَقُضَاةَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الْحَقَّ وَيُعَوِّجُونَ كُلَّ مُسْتَقِيمٍ، الَّذِينَ يَبْنُونَ صِهْيَوْنَ بِالدِّمَاءِ وَأُورَشَلِيمَ بِالظُّلْمِ)).
وَمَا كَانَ يَكْذِبُ الْمُفْسِدُ الْعَلِيمُ وَهُوَ يَقُولُ فِي ((الْبُرُوتُوكُولِ التَّاسِعِ)): ((لَقَدْ خَدَعْنَا الْأَجْيَالَ النَّاشِئَةَ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، وَجَعَلْنَاهَا فَاسِدَةً مُتَعَفِّنَةً، بِمَا عَلَّمْنَاهَا مِنْ مَبَادِئَ وَنَظَرِيَّاتٍ نَعْرِفُ زَيْفَهَا التَّامَّ؛ لِأَنَّنَا نَحْنُ أَنْفُسَنَا الْمُلَفِّقُونَ لَهَا)).
فَالْيَهُودُ يَعْلَمُونَ مِنْ خُطَّةِ الْإِصْلَاحِ الَّتِي أُوتُوهَا وَيَكْذِبُونَهَا، وَمِنْ سِيرَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِمْ بِهَا، وَقَوَامَتِهِمْ عَلَيْهَا، يَعْلَمُونَ مَنْهَجَ سِيَاسَةِ الْبَشَرِ الصَّحِيحَ، وَمَا يَضْبِطُ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْحَاكِمِ وَمَنْ يَحْكُمُهُ، وَهُمْ يَفْهَمُونَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الصِّلَةُ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَالِ وَالْعُمَّالِ، وَبَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَبَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، كَيْفَ تَكُونُ صِلَةً رَشِيدَةً، صِلَةً يَتَوَافَقُ فِيهَا الْجَمِيعُ، وَيَتَعَاضَدُونَ مِنْ أَجْلِ غَايَةِ الْخَالِقِ مِنْ خَلْقِهِمْ.
مَا فَعَلَهُ الْيَهُودُ فِي الْغَرْبِ الْأُمَمِيِّ هُوَ تَسْيِيرُ شُعُوبِهِ وَأُمَمِهِ فِي كُلِّ عِلْمٍ، وَفِي كُلِّ فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْمَعْرِفَةِ، بِمَنَاهِجَ وَقَوَاعِدَ وَعَلَاقَاتٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَفِي كُلِّ اتِّجَاهٍ يَمِينًا وَيَسَارًا، وَأَمَامًا وَخَلْفًا، وَلَكِنْ بَعِيدًا عَنْ مَنْهَجِ الْوَحْيِ وَقَوَاعِدِهِ وَإِرْشَادِهِ وَضَوَابِطِهِ!
فَالْيَهُودُ فِي ذَلِكَ كَجُنْدِيِّ الْمُرُورِ، الَّذِي مَا وُضِعَ فِي مَكَانِهِ إِلَّا مِنْ أَجْلِ مُهِمَّةٍ أُنِيطَتْ بِهِ، هِيَ تَنْظِيمُ حَرَكَةِ الْبَشَرِ، وَهِدَايَتُهُمْ إِلَى الِاتِّجَاهِ الصَّحِيحِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ بَدَّلَ الْإِشَارَاتِ، وَغَيَّرَ الِاتِّجَاهَاتِ، وَأَخْفَى الْإِرْشَادَاتِ، وَوَقَفَ يَلْهُو بِضَلَالِ الْجَمِيعِ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ يَقِينًا دُونَ عَبْقَرِيَّةٍ وَلَا أَدْنَى دَرَجَةٍ مِنْ ذَكَاءٍ أَنَّهُ لَا أَحَدَ سَيَصِلُ إِلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ - وَهُوَ الْأُمِّيُّ - الْوَحِيدُ الَّذِي يَعْلَمُهَا.
وَأَدْنَى شُرُورِ الْيَهُودِيِّ - جُنْدِيِّ الْمُرُورِ - الَّذِي أَضَلَّ الْبَشَرِيَّةَ هُوَ الصَّمْتُ، وَأَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ فِي جَيْبَيْهِ مُتَرَنِّمًا، وَالنَّاسُ تَضْرِبُ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَتَسِيرُ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ، وَيَصْطَدِمُ مَنْ تَاهَ مِنْهُمْ فِي الْيَمِينِ بِمَنْ ضَلَّ فِي الْيَسَارِ، وَيَتَنَاطَحُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَيَدُوسُ الْأَقْوِيَاءُ الضُّعَفَاءَ؛ لِيَنْفَجِرَ الْفُقَرَاءُ فِي الْأَغْنِيَاءِ، وَيَبْقَى مَنْ يَحْكُمُ لِيَكْتَسِحَهُ مَنْ يَحْكُمُهُمْ.
وَكُلٌّ يَدَّعِي صَوَابَ الطَّرِيقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا وَالنَّهْجِ الَّذِي نَهَجَهُ، وَالْجَمِيعُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى ضَلَالٍ، وَلَنْ يَصلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى النَّهْجِ الْحَقِّ وَلَا الطَّرِيقِ الصَّحِيحِ أَبَدًا.
فَهَذَا مَا صَنَعُوهُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71].
هَذَا مَا صَنَعُوهُ، حَتَّى أَضَلُّوا الْبَشَرِيَّةَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَمَلَّكُوا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَلِكُهُمُ الَّذِي هُوَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، يَحْكُمُ الْعَالَمَ، مِنْ أَورَشَلِيمَ - مِنَ الْهَيْكَلِ الثَّالِثِ - الَّذِي يَدَّعُونَ أَنَّهُ تَحْتَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
فَالْحَرْبُ بَيْنَ الْيَهُودِ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ ظَهِيرِهِمْ وَنَصِيرِهِمْ مِنَ الْغَرْبِ إِنَّمَا هِيَ حَرْبٌ بَيْنَ الْوَحْيِ وَنَقِيضِ الْوَحْيِ، بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ.
فَعَسَى قَوْمِي أَنْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ وَأَنْ يَفْقَهُوهُ!
وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَمَا وَصَلْنَا إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ بِالْحُيُودِ عَنِ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ، عَنْ كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا ﷺ ، مَعَ الْعَمَلِ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ بِنَقِيضِ الْوَحْيِ فِي جَمِيعِ الِاتِّجَاهَاتِ عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَاتٍ، حَتَّى نَشَأَ جِيلٌ مُشَوَّهٌ شَائِهٌ، قَدْ لَا يَمُتُّ إِلَى الْإِنْسَانِيَّةِ نَفْسِهَا بِصِلَةٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمُتَّ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
بِأَيِّ لَوْنٍ أَخُطُّ الْحَرْفَ يَا عَرَبُ *** وَهَلْ تَبَقَّى دَمٌ فِي الْقَلْبِ يَنْسَكِبُ مَاذَا أَقُولُ لِمَنْ قَالُوا وَمَا فَعَلُوا *** مَاذَا أَقُولُ لِمَنْ هَمُّوا وَمَا وَثَبُوا
ظَمْآنُ ظَمْآنُ وَالصَّحَرَاءُ قَاتِلَةٌ *** وَفَوْقَ كَفَّيَّ رَاحَتْ تَرْقُصُ السُّحُبُ نَخُوضُ بَحْرَ جَهَالَاتٍ مُدَجَّجَةٍ *** وَكَمْ يَهُونُ عَلَيْنَا الْعِلْمُ وَالْأَدَبُ
أَيْنَ الْجُذُورُ الَّتِي غَاصَتْ بِتُرْبَتِنَا *** وَأَيْنَ آفَاقُنَا وَالْبَدْرُ وَالشُّهُبُ
لَقَدْ غَدَوْنَا كَبَعْضِ الزَّاحِفَاتِ فلا *** تَشْكُو الْبُطُونُ وَلَا الْأَيْدِي وَلَا الرُّكَبُ
لَيْتَ الْمَرْابِعَ تَدْرِي أَنَّ فِتْيَتَهَا *** فِي عَالَمِ اللَّيْلِ كَمْ عَاثُوَا وَكَمْ نَهَبُوْا
خَاضُوا الوُحُولَ وَغَاصُوا فِي مَبَاذِلِهَا * وَفِي النَّهَارِ عَلَيْنَا تَشْمَخُ الرُّتَبُ
وَالجُرْحُ قَدْ خُمَّ لَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ * وَنَحْوُ قَرْنٍ مَضَى وَالزَّيْفُ وَالكَذِبُ
عَلَى المَسَارِحِ أَبْطَالٌ غَضَارِفَةٌ * وَفِي المَسَارِحِ رَاحَتْ تَرْقُصُ الدُّبَبُ
كُلُّ الشُّعُوبِ لَهَا سَيْفٌ تَصُولُ بِهِ * عِنْدَ المُلِمَّاتِ لَمَّا يَعْصِفُ الْغَضَبُ
تَجُوعُ تَعْرَى وَيَبْقَى الصَّبْرُ دَيْدَنَهَا * وَلَا يُسَامُ بِهِ اليَاقُوتُ وَالذَّهَبُ
وَحِينَمَا تَرْجُفُ الأَيَّامُ رَجْفَتَهَا * تَرَاهُ مِثْلَ عَمُودِ النُّورِ يَنْتَصِبُ
تَنَامُ تَحْتَ جَنَاحِ الْقَلْبِ شَفْرَتُهُ * وَلَا تُفَارِقُهُ عَيْنٌ وَلَا هُدُبُ
كُلُّ الشُّعُوبِ لَهَا وَزْنٌ وَقَافِيَةٌ * لَهَا شِرَاعٌ لَهَا سَمْتٌ لَهَا أَرَبُ
وَنَحْنُ مِثْلُ هَشِيمٍ ضَلَّ وِجْهَتَهُ * فَحَيْثُمَا قَلَّبَتْهُ الرِّيحُ يَنْقَلِبُ
هَذَا يُشَرِّقُ إِنَّ الشَّرْقَ كَعْبَتُهُ * وَذَا يُغَرِّبُ إِلَّا أَنَّهُ الذَّنَبُ
وَكُلَّمَا قُلْتُ هَلَّ الفَجْرُ يَا وَطَنِي * تَعَاظَمَ الأَسْوَدَانِ اللَّيْلُ وَالرَّهَبُ
وَقَدْ عَجِبْتُ لِقَوْلٍ إِنَّنَا عَرَبٌ * وَوَاقِعُ الحَالِ يَنْفِي أَنَّنَا عَرَبُ
فَلَا رَغِيفٌ إِذَا جُعْنَا يُوَحِّدُنَا * وَلَا عَلَى المَاءِ يَصْفُو بَيْنَنَا العَتَبُ!!
الزَّارُ وَالعَارُ وَالأَوْتَارُ تَعْرِفُنَا*** وَالعَزْفُ وَالقَصْفُ وَالإِدْبَارُ وَالهَرَبُ
الزَّارُ وَالعَارُ وَالأَوْتَارُ تَعْرِفُنَا*** وَالعَزْفُ وَالقَصْفُ وَالإِدْبَارُ وَالهَرَبُ
يَا أُمَّتِي إِنْ قَسَوْتُ اليَوْمَ مَعْذِرَةً * فَإنَّ كَفِّي فِي النِّيرَانِ تَلْتَهِبُ
وَإِنَّ قَلْبِي قَدْ طَافَ الرَّمَادُ بِهِ * وَقَدْ تَدَفَّقَ مِنْهُ المَاءُ وَالعَشَبُ
فَكَم يَحُزُّ بِقَلْبِي أَنْ أَرَى أُمَمًا * طَارَتْ إِلَى الْمَجْدِ وَالْعُرْبَانُ قَدْ رَسَبُوَا
وَنَحْنُ كُنَّا بِهَذَا الْكَوْنِ أَلْوِيَةً * وَنَحْنُ كُنَّا لِمَجْدِ الْشَّمْسِ نَنْتَسِبُ
مَهْمَا دَجَا اللَّيْلُ فَالتَّارِيخُ أَنْبَانِي * أَنَّ النَّهَارَ بِأَحْشَاءِ الدُّجَى يَثِبُ
مُسْتَمْسِكٌ بِكِتَابِ اللَّهِ مُعْتَصِمٌ * وَالرِّيحُ حَوْلِي وَالأَوْثَانُ وَالنُّصُبُ
***
وَهْمٌ يُقَيِّدُ بَعضُهُمْ بَعْضًا بِهِ * وَقُيُودُ هَذَا العَالَمِ الأَوْهَامُ
صُوَرُ العَمَى شَتَّى وَأَقْبَحُهَا إِذَا * نَظَرَتْ بِغَيرِ عِيُونِهِنَّ الهَامُ
وَلَقَدْ يُقَامُ مِنَ السِّيُوفِ وَلَيسَ مِنْ * عَثَراتِ أَخْلَاقِ الشُّعُوبِ قِيَامُ
وَلَقَدْ يُقَامُ مِنَ السِّيُوفِ وَلَيسَ مِنْ * عَثَراتِ أَخْلَاقِ الشُّعُوبِ قِيَامُ
***
وَلَكِنْ صَبْرًا فَإِنَّهُ:
لَمَّا عَلَتْ وَجْهَ الهِلَالِ غِشَاوَةٌ وَاللَّيْلُ قَاتِمْ
وَاسْتَشْكَلَتْ عَيْنُ الفَتَى مَا كَانَ وَضَّاحَ المَعَالِمْ
وَجَفَا الطَّرِيقَ مُشَاتُهَا مِنْ غَيْرِ أَرْبَابِ الجَرَائِمْ
وَاسْطَالَ تَفْحَاحُ الأَفَاعِي فَوْقَ صَيْحَاتِ الضَّيَاغِمْ
وَرَأَيْتُ خُفَّاشًا يَتِيهُ مُحَلِّقًا وَالصَّقْرُ جَاثِمْ
وَسَمِعْتُ أَنَّاتِ الظَّلِيمِ تَخَاشَعَتْ لِغَطِيطِ ظَالِم
أَيْقَنْتُ أَنَّ اللَّيْلَ تُنْزَعُ رُوحُهُ وَالفَجْرَ قَادِم
أَيْقَنْتُ أَنَّ اللَّيْلَ تُنْزَعُ رُوحُهُ وَالفَجْرَ قَادِم
إِنَّ الصِّرَاعَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ صِرَاعٌ أَزَلِيٌّ يَمْتَدُّ مُنْذُ فَجْرِ التَّارِيخِ عَبْرَ الْقُرُونِ، وَلَمْ يَهْدَأْ هَذَا الصِّرَاعُ يَوْمًا، وَالشُّعُوبُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْيَوْمَ تَعِيشُ مَرْحَلَةً دَقِيقَةً مِنَ مَرَاحِلَ هَذَا الصِّرَاعِ مَعَ قُوَى الصُّهْيُونِيَّةِ وَالصَّلِيبِيَّةِ، الَّتِي اخْتَارَتْ وَخَطَّطَتْ، وَعَمِلَتْ أَنْ تَجْعَلَ دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ مَيْدَانًا لِهَذَا الصِّرَاعِ، وَحَشَدَتْ كُلَّ إِمْكَانَاتِهَا فِي هَذِهِ السَّبِيلِ.
الْأَمْرُ الَّذِي تَمَخَّضَتْ عَنْهُ الدَّوْلَةُ الْعِبْرِيَّةُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ فِي مَايُو سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَتِسْعِمِئَةٍ وَأَلْفٍ (مَايُو 1948م)، كَرَدِّ فِعْلٍ مُبَاشِرٍ لِغَفْلَةِ الْعَرَبِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَتَبَاعُدِهِمْ عَنْ دِينِهِمُ الْحَنِيفِ، وَنَجَاحِ الْمُؤَامَرَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ الَّتِي بَدَأَتْ خُيُوطُهَا مُنْذُ أَنْ وَضَعَتِ الْحَرَبُ الصَّلِيبِيَّةُ أَوْزَارَهَا بِتَرَاجُعِ الْمَدِّ الصَّلِيبِيِّ الِاسْتِعْمَارِيِّ، وَانْحِسَارِهِ عَنِ الدِّيَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
تِلْكَ الْمُؤَامَرَةُ الَّتِي اعْتَمَدَتْ فِي مَسَارِهَا وَمَا تَزَالُ عَلَى هَدْمِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ، وَفِي ظِلِّ هَذِهِ الْأَوْضَاعِ اسْتَحْوَذَ الْيَهُودُ عَلَى فِلَسْطِينَ، وَحَلَّ بِالْعَرَبِ عَلَى أَيْدِيهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْبَلَاءِ، وَسَقَطَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَكْتَفِ الْيَهُودُ بِمَا اغْتَصَبُوا، بَلْ رَاحُوا يَشُنُّونَ حَرْبَ إِبَادَةٍ جَمَاعِيَّةٍ ضِدَّ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، وَتَرَبَّصُوا بِهِمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
وَهُوَ مَا يُلْقِي الضَّوْءَ عَلَى حَقِيقَةِ الصِّرَاعِ الدَّائِرِ الْيَوْمَ، وَهُوَ لَيْسَ صِرَاعًا إِقْلِيمِيًّا عَلَى أَرْضٍ مُعَيِّنَةٍ، وَلَيْسَ صِرَاعَ قَوْمِيَّةٍ ضِدَّ أُخْرَى، وَلَا صِرَاعَ مَصَالِحَ سِيَاسِيَّةٍ، لَكِنَّهُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ صِرَاعُ عَقِيدَةٍ، صِرَاعٌ بَيْنَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ مُمَثَّلَةً فِي الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَبَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ الْمُحَرَّفَةِ.
الْأَمْرُ الَّذِي يَفْرِضُ التَّعَامُلَ مَعَ هَذَا الصِّرَاعِ مِنْ مُنْطَلَقِ الْعَقِيدَةِ؛ إِذَ لَا يَفُلُّ الْعَقِيدَةَ إِلَّا الْعَقِيدَةُ، وَلَا يُجَابِهُ الْفِكْرَ إِلَّا الْفِكْرُ، وَهُوَ مَا يَسْتَوْجِبُ اسْتِدْعَاءَ خِبْرَاتِ وَتَجَارِبِ تَارِيخِ اللِّقَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ، وَالِاسْتِفَادَةَ مِنْ حَقَائِقِ التَّارِيخِ فِي إِبْطَالِ الْمَزَاعِمِ وَالْأَسَانِيدِ الْيَهُودِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، سَوَاءٌ الْعَقَدِيَّةُ أَوْ التَّارِيخِيَّةُ حَوْلَ أَحَقِّيَّتِهِمْ بِأَرْضِ الْمِيعَادِ الَّتِي سَيُقِيمُونَ عَلَيْهَا إِسْرَائِيلَ الْكُبْرَى مِنَ النِّيلِ إِلَى الْفُرَاتِ، الَّتِي وَعَدَتْهُمْ بِهَا التَّوْرَاةُكَمَا يَزْعَمُونَ!
الْأَمْرُ يَتَطَلَّبُ كَذَلِكَ مُعَالَجَةَ طَبَائِعِ الْيَهُودِ وَخَصَائِصِهَمْ كَمَا عَرَضَهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ اسْتِقَاءً مِنْ قِصَصِ الْيَهُودِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى مُخَطَّطَاتِهِمْ وَأَسَالِيبِهِمُ الذَّاتِيَّةِ أَوْ الْخَارِجِيَّةِ؛ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْمُخَطَّطَاتِ.
ثُمَّ الْإِشَارَةُ إِلَى عَوَامِلِ نَجَاحِهِمْ وَمُضِيِّهِمْ فِي تَحْقِيقِ جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنْ مُخَطَّطَاتِهِمْ مُنْذُ نِهَايَةِ الْقَرْنِ الْمَاضِي، سَوَاءٌ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِسِيَاسَاتِهِمْ وَمَهَارَتِهِمْ فِي التَّخْطِيطِ وَالتَّنْفِيذِ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّعْمِ وَالْمُسَانَدَةِ نَتِيجَةً لِتَلَاقِي الْمَصَالِحِ وَالْعَدَاءِ الْمُشْتَرَكِ لِلْإِسْلَامِ مِنْ جَانِبِ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ وَغَرْبِ أُورَبَّةَ، أَوْ مَا يَرْتَبِطُ بِحَالَةِ الْوَهَنِ وَالتَّرَاجُعِ الَّتِي تَجْتَاحُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ عُمُومًا، حَتَّى يَصِلَ الْحَدِيثُ إِلَى تَحْدِيدِ مَلَامِحِ الْمُوَاجَهَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ لِضَرْبِ هَذِهِ الْمُخَطَّطَاتِ، وَالذَّوْدُ عَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فِي فِلَسْطِينَ، وَاسْتِعَادَةِ الدَّوْرِ الْقِيَادِيِّ الْوَسَطِيِّ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِمُقْتَضَى الشَّهَادَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ.
إِنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ هِيَ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ، يُفْرِدُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ، يُوَحِّدُونَهُ حَقَّ التَّوْحِيدِ، وَغَيْرُهُمْ إِنَّمَا يَسْرَحُونَ وَيَمْرَحُونَ فِي أَوْدِيَةٍ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ التَّوْحِيدِ الْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الْيَهُودَ - عَلَى حَسَبِ الْوَعْدِ وَالْمَوْعُودِ فِي كِتَابِهِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى مُوسَى مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- وَإِلَهُهُمْ (يَهْوَهْ) رَبُّ الْجُنُودِ - إِنَّ الْيَهُودَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تَجْلِسُونَ عَلَيْهَا وَتَطَؤُونَهَا بِأَقْدَامِكُمْ وَعَدَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاهَا فِي كِتَابِهِمُ الْمُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِمْ!
فَهَذَا وَعْدُ رَبِّهِمْ لَهُمْ بِاعْتِقَادِهِمْ وَزَعْمِهِمْ، فَمَاذَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟!!
تَخَالَفُوا!!
تَمَزَّقُوا!!
تَشَرْذَمُوا!!
فَلْيَأْكُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ يَأْكُلُكُمْ جَمِيعًا!!
اتَّقُوا اللهَ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، يَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ!
مَزَّقَتْ ثَارَاتُكُمْ حُقُوقَكُمْ، وَبَدَّدَتْ قُوَّاتِكُمْ أَوْهَامُكُمْ، خِلَافَاتُكُمْ، تَشَرْذُمُكُمْ، انْقِسَامَاتُكُمْ عَلَى الْجَمَاعَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي تَتَنَاحَرُ بَيْنَهَا وَهِيَ تَدَّعِي أَنَّهَا تَمْلِكُ الْحَقَّ الْمُطْلَقَ، وَالْحَقُّ الَّذِي مَعَهَا مَعَهُ بَاطِلٌ كَثِيرٌ، يَتَقَاتَلُونَ، يَتَنَاحَرُونَ!
إِلَى مَتَى يَا أُمَّةَ رَسُولِ اللهِ؟!
هَذَا هَوُ سَيِّدُ الْعَالَمِ فِي نَفْسِهِ -كَمَا يَظُنُّ وَيَظُنُّ غَيْرُهُ- يُعْلِنُ -هَكَذَا صَرَاحَةً- لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي تَارِيخِ الْمَمْلَكَةِ الْمَاسُونِيَّةِ الْعُظْمَى؛ لِأَنَّ أَمِرِيكَا هِيَ مَمْلَكَةُ الْمَاسُونِ، يُعْلِنُ هَكَذَا جَهَارًا: إِنَّ الْقُدْسَ هِيَ الْعَاصِمَةُ الْأَبَدِيَّةُ لِإِسْرَائِيلَ! وَيُقَرِّرُ نَقْلَ السِّفَارَةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ إِلَى الْقُدْسِ الْعَاصِمَةِ الْجَدِيدَةِ!
فَلْيَقُلْ مَا شَاءَ أَنْ يَقُولَ، هَذَا كُلُّهُ وَهْمٌ بَاطِلٌ، وَزَيْفٌ زَائِفٌ، وَلَنْ يَكُونَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَكِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ؟!
أَيْنَ تَمَاسُكُكُمْ؟!
أَيْنَ تَرَابُطُكُمْ؟!
أَيْنَ تَعَاوُنُكُمْ؟!
أَيْنَ نَفْيُكُمْ وَنَبْذُكُمْ لِخِلَافَاتِكُمْ؟!
تَضَعُونَهَا تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُوَحِّدُوا غَايَتَكُمْ، لِتَعْرِفُوا طَرَيقَكُمْ؛ لِتَسْتَقِيمُوا عَلَى دِينِ رَبِّكُمْ؟!!
أَيْنَ أَنْتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ؟! وَكُلُّكُمْ مُسْتَهْدَفٌ بِالذَّبْحِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْهَيْكَلُ الثَّالِثُ قَائِمًا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الذَّبَائِحِ الْكَفَّارِيَّةِ عَلَى دَرَجَاتِ سُلَّمِهِ، وَأَنْتُمُ الذَّبَائِحُ الْكَفَّارِيَّةُ، ذَبَائِحُ الْأُمَمِيِّينَ الْكَفَّارِيَّةُ عَلَى دَرَجَاتِ الْهَيْكَلِ؛ لِتَكُونُوا عَبِيدًا إِنْ عِشْتُمْ، وَمَذْبُوحِينَ كَالشِّيَاةِ إِنْ قُتِلْتُمْ.
أَيْنَ أَنْتُمْ؟!
لِمَاذَا لَا تُفِيقُونَ؟!
لِمَ لَا تَتَعَلَّمُونَ دِيَن رَبِّكُمْ؟!
إِلَى مَتَى؟!! حَتَّى يَذْبَحُونَكُمْ ذَبْحًا؟!!
اتَّقُوا اللهَ، اتَّقُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، إِنْ لَمْ تَتَّقُوا اللهَ فِي دِينِكُمْ، فِي وَطَنِكُمْ، اتَّقُوا اللهَ فِي أَبْدَانِكُمْ، فِي أَعْرَاضِكُمْ، فِي نِسَائِكُمْ، فِي بَنَاتِكُمْ، فِي زَوْجَاتِكُمْ، فِي أُمَّهَاتِكُمْ، فِي أَخَوَاتِكُمْ.
اتَّقُوا اللهَ، أَفِيقُوا؛ عَسَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَرْفَعَ الغُمَّةَ عَنَّا، وَأَنْ يُفَرِّجَ كُرُوبَنَا، وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.