((الدِّفَاعُ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ
وَمَنْزِلَةُ الْمَسَاجِدِ وَوُجُوبُ حِمَايَتِهَا فِي الْإِسْلَامِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْحُبُّ الْفِطْرِيُّ لِلْأَوْطَانِ))
فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى ذَاكِرًا الأَوْطَانَ وَمَوَاقِعَهَا فِي القُلُوبِ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66].
فَسَوَّى بينَ قَتْلِ أَنْفُسِهِم والخُرُوجِ مِن دِيَارِهِم، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لو كَتَبَ على عِبَادِهِ الأَوَامِرَ الشَّاقَّةَ عَلَى النُّفُوسِ مِن قَتْلِ النُّفُوسِ، والْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَالنَّادِرُ.
وَنَسَبَ اللهُ الدِّيَارَ إِلَى مُلَّاكِهَا: قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40].
وَلَو قَنَعَ النَّاسُ بِأَرْزَاقِهِمْ قَنَاعَتَهُمْ بِأَوْطَانِهِمْ، مَا اشْتَكَى عَبْدٌ الرِّزْقَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ بِأَوْطَانِهِم أَقْنَعُ مِنْهُم بِأَرْزَاقِهِمْ.
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ؛ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ دِيَارِنَا».
فَدَعَا ﷺ أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِهِ، وَأَنْ يُبْعِدَ اللهُ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ وَطَنِهِ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ».
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَه: «وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِليَّ». صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
((وَطَنُنَا إِسْلَامِيُّ، وَحُبُّهُ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ))
لَقَدْ عَرَّفَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ- دَارَ الْإِسْلَامِ فِي مَعْرِضِ تَعْرِيفِهِ لِدَارِ الشِّركِ فَقَالَ: «بَلَدُ الشِّرْكِ هُوَ: الَّذِي تُقَامُ فِيهِ شَعَائِرُ الْكُفْرِ وَلَا تُقَامُ فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ كَالْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ جَمَاعَةً، وَالْأَعْيَادِ وَالْجُمُعَةِ عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ؛ لِيَخْرُجَ مَا تُقَامُ فِيهِ هَذِهِ الشَّعَائِرُ -يَعْنِي الْأَذَانَ وَالصَّلَاةَ جَمَاعَةً، وَالْأَعْيَادَ وَالْجُمُعَةَ- عَلَى وَجْهٍ مَحْصُورٍ؛ كَبِلَادِ الْكُفَّارِ الَّتِي فِيهَا أَقَلِّيَّاتٌ مُسْلِمَةٌ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ بِلَادَ إِسْلَامٍ بِمَا تُقِيمُهُ الْأَقَلِّيَّاتُ الْمُسْلِمَةُ فِيهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإسْلَامِ، أَمَّا بِلَادُ الْإِسْلَامِ فَهِيَ الْبِلَادُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا هَذِهِ الشَّعَائِرُ عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ».
فَبِلَادُنَا بِلَادٌ إِسْلَامِيَّةٌ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَالَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي بَعْضِ فُصُولِ فَتَاوِيهِ: أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِالْجُدْرَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِالسُّكَّانِ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَلَدِ وَنِظَامِهِمُ الْإِسْلَامَ فَهِيَ دَارُ إِسْلَامٍ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُحْكَمُونَ بِنِظَامٍ لَيْسَ إِسْلَامِيًّا صِرْفًا أَوْ مَحْضًا)).
وَمَا دَامَتْ بِلَادُنَا إِسْلَامِيَّةً فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِاسْتِقْرَارِهَا, وَاكْتِمَالِ أَمْنِهَا, وَيَجِبُ حِيَاطَتُهَا بالرِّعَايَةِ، وَالْحِفَاظِ وَالْبَذْلِ.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ)) -: ((حُبُّ الْوَطَنِ: إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).
الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يُسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.
وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا؛ يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.
((حُبُّ الوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد شَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الصَّلَاةُ والصِّيَامُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَطْ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ تَدْخُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَاتَّقِ اللهَ فِي عِبَادَةِ مَوْلَاكَ، لَا تُفَرِّطْ فِيهَا، وَاتَّقِ اللهَ فِي إِخْوَانِكَ لَا تُؤْذِ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَاتَّقِ اللهَ فِي بَلَدِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَلَا تُهْمِلْ فِي صِحَّتِكَ، وَلَا تَتَخَلَّقْ بِسِوَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ».
* اتَّقِ اللهَ فِي وَطَنِكَ:
اتَّقِ اللهَ فِي وَطَنِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَا تَدْفَعْهُ إِلَى الْفَوْضَى وَالشِّقَاقِ.
إِنِّي لِأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الْخَائِنُونَ؟!!
أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهُ؟!!
إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!
وَقَدْ تَضِيقُ أَخْلَاقُ الرَّجُلِ فَيَظُنُّ أَنَّ وَطَنَهُ قَدْ ضَاقَ بِهِ، وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
وَرَبُّكَ مَا ضَاقَتْ بِلَادٌ بِأَهْلِهَا* * * وَلَكِنَّ أَخْلَاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ
وَحَالُ مَنْ فَارَقَ وَطَنَهُ هُوَ:
شَوْقٌ يَخُضُّ دَمِي إِلَيْهِ، كَأَنَّ كُلَّ دَمِي اشْتِهَاء
جُوعٌ إِلَيْهِ... كَجُوعِ دَمِ الغَرِيقِ إِلَى الهَوَاء
شَوْقُ الجَنِينِ إِذَا اشْرَأَبَّ مِنَ الظَّلَامِ إِلَى الوِلَادَه
إِنِّي لأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الخَائِنُون
أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَه؟!!
إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُون؟!!
الشَّمْسُ أَجْمَلُ فِي بِلَادِي مِن سِوَاهَا، وَالظَّلَام
حَتَّى الظَّلَامُ هُنَاكَ أَجْمَلُ، فَهُوَ يَحْتَضِنُ الكِنَانَه
وَا حَسْرَتَاهُ!! مَتَى أَنَام
فَأُحِسُّ أَنَّ عَلَى الوِسَادَه
مِنْ لَيْلِكِ الصَّيْفيِّ طَلًّا فِيهِ عِطْرُكِ يَا كِنَانَه؟
فَمَا دَامَ الْوَطَنُ إِسْلَامِيًّا فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ الْإِضْرَارُ بِهِ.
((فَضْلُ الْجِهَادِ وَمَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))
* فَضْلُ الْجِهَادِ الشَّرْعِيِّ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى:
لَقَدِ امْتَحَنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالزَّكَاةِ وَدَفْعِ الْمَالِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَلَبَّوْا كَذَلِكَ طَائِعِينَ.
ثُمَّ جَاءَ الِامْتِحَانُ الْأَكْبَرُ وَالِاخْتِبَارُ الْأَعْظَمُ، فَكَانَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَرْوَاحَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ يَبْذُلُونَهَا فِي سَاحَاتِ الْجِهَادِ فَتَقَدَّمَ أَقْوَامٌ وَتَأخَّرَ آخَرُونَ.
تَأَخَّرَ الْمُنَافِقُونَ: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 86].
وَتَقَدَّمَ الصَّادِقُونَ, قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88].
فَفَرَّقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْجِهَادِ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ, بَيْنَ الْمُحِبِّينَ للهِ وَرَسولِهِ ﷺ وَالْمُدَّعِينَ.
إِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا, وَهُوَ أَيْسَرُ الطُّرُقِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى وَالْجَنَّةِ, وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْلا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ بَذْلَ أَعْظَمِ وَأَنْفَسِ مَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ أَنْفُسَهُمْ يَبْذُلُونهَا دُونَ خَوْفٍ وَلَا تَرَدُّدٍ, وَلَمَّا كَانَ فِيهِ بَذْلُ الْأَمْوَالِ وَتَرْكُ الزَّوْجَاتِ وَالذُّرِّيَّاتِ، وَهَجْرُ الْمَسَاكِنِ وَالْأَوْطَانِ وَالْمَلَذَّاتِ.
وَلَمَّا كَانَ فِيهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ؛ كَانَ حَرِيًّا بِالشَّرْعِ أَنْ يَضَعَ لَهُ أَعْظَمَ الضَّوَابِطِ وَأَقْوَى الْأَحْكَامِ؛ حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي كُلِّ وَادٍ وَبِكُلِّ سَبِيلٍ, وَحَتَّى لَا يَخْتَلِطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ, وَلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ.
إِنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْوَاحَهُمْ هِيَ أَعْظَمُ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ؛ لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَزَوَالُ الدُّنيَا أَهوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ﷺ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ: ((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ, مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ)).
وَقَدْ بَيَّنَ الدِّينُ الْعَظِيمُ -كِتَابًا وَسُنَّةً- أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ.
فَالْجِهَادُ لَيْسَ هَدَفًا فِي ذَاتِهِ وَلَا غَايَةً، إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِرَفْعِ رَايَةِ الدِّينِ, وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
* مَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
وَلَا تَظُنَّنَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أُمَّتِهِ، أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ، يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَنَعَّمُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتُحَفِهَا.
إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانُوا رِجَالًا صَابِرِينَ، إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَوْنَهَا يَشْعُرُونَ بِسَعَادَةٍ عَظِيمَةٍ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 170].
وَهُمْ يَفْرَحُونَ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْهَجِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ الله مُخْلِصِينَ لَهُ لَحِقُوا بِهِمْ، وَنَالُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مِثْلَ الَّذِينَ نَالُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهُمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.
وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا؛ يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.
((تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
*الْمَسَاجِدُ للهِ وَحْدَهُ، وَإِضَافَتُهَا إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ إِضَافَةُ تَعْظِيمٍ وَتَشْرِيفٍ:
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
وَأَنَّ السُّجُودَ وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ، وَالْعِبَادَةِ، وَذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- للهِ وَحْدَهُ، فَلَا تَعْبُدُوا أَيُّهَا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ مَعَ اللهِ تَعَالَى أَحَدًا، وَأَخْلِصُوا الدُّعَاءَ لَهُ.
*الْمَسَاجِدُ مَرْفُوعٌ بُنْيَانُهَا بِإِذْنِ اللهِ، وَمَعَالِمُ لِبُلْدَانِ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ:
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36].
بُيُوتُ اللهِ الَّتِي أَذِنَ اللهُ بِرَفْعِ بُنْيَانِهَا؛ لِيَكُونَ إِعْلَاؤُهَا مَعَالِمَ بَارِزَةً لِبُلْدَانِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِجَذْبِ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ عَلَيْهَا، وَأَمَرَ بِأَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، يُنَزِّهُهُ سُبْحَانَهُ، وَيَذْكُرُهُ فِي بُيُوتِهِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ؛ بِالْغُدْوَةِ: مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْآصَالِ: حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ مَسَاءً حَتَّى الْغُرُوبَ.
*الْمُؤْمِنُونَ الْأَتْقِيَاءُ الْمُهْتَدُونَ عُمَّارُ بُيُوتِ الرَّحْمَنِ:
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
لَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ عِمَارَةً مَعْنَوِيَّةً بِعِبَادَةِ اللهِ فِيهَا وَالدَّعْوَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَعِمَارَةً مَادِّيَّةً بِبِنَائِهَا وَتَرْمِيمِهَا وَتَنْظِيفِهَا إِلَّا مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ الْجَامِعَةِ لْخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:
*الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ؛ مِنْ بَعْثٍ، وَحَشْرٍ، وَحِسَابٍ، وَجَنَّةٍ وَنَارٍ، آمَنَ بِذَلِكَ إِيمَانًا صَحِيحًا.
*وَالْوَصْفُ الثَّانِي: أَقَامَ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتِهَا بِحُدُودِهَا، وَإِتْمَامِ أَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَآدَابِهَا.
*وَالْوَصْفُ الثَّالِثُ: آتَى الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ لِمُسْتَحِقِّيهَا، طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ.
*وَالْوَصْفُ الرَّابِعُ: لَمْ يَخَفْ فِي الدِّينِ غَيْرَ اللهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ أَمْرَ اللهِ لِخَشْيَةِ النَّاسِ.
وَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ رَفِيعُو الْمَنْزِلَةِ هُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ الْمُهْتَدُونَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِطَاعَةِ اللهِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْجَنَّةِ.
*وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ تَعَدَّى عَلَى مَسَاجِدِ اللهِ بِالْهَدْمِ وَالتَّخْرِيبِ:
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [ البقرة: 114].
لَا أَحَدَ أَكْفَرُ وَأَبْغَضُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ؛ كَرَاهَةَ أَنْ يُعْبَدَ وَيُصَلَّى لَهُ فِيهَا، وَأَنْ يُذْكَرَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ، وَجَدَّ فِي خَرَابِهَا بِالْهَدْمِ أَوْ الْإِغْلَاقِ، أَوْ بِمَنْعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا.
أُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ، الَّذِينَ مَنَعُوا مَسَاجِدَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ؛ مَا كَانَ يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَ اللهِ إِلَّا خَائِفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْطِشُوا بِهِمْ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهَا وَيَمْنَعُوا الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا، لَهُمْ صَغَارٌ وَذُلٌّ وَمَهَانَةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، جَزَاءَ اسْتِكْبَارِهِمْ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ فِي النَّارِ.
((تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ))
النَّبِيُّ ﷺ -بِأَمْرِ اللهِ- يُعَظِّمُ شَعَائِرَ اللهِ، وَيُرَاعِي حُرَمَاتِ اللهِ، وَهُوَ أَتْقَى الْخَلْقِ قَلْبًا ﷺ.
رِعَايَةُ شَعَائِرِ اللهِ، وَاحْتِرَامُ شَعَائِرِ اللهِ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ، لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَّا مَنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]؛ لَا تُمَسُّ، هِيَ للهِ خَالِصَةٌ.
عَظِّمُوا شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، عَظِّمُوا حُرَمَاتِ اللهِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
*تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:
دِينُ اللهِ بِنِظَامِ الشَّرِيعَةِ فِيهِ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْقَانُ، فِيهِ السَّعَادَةُ وَالْفَلَاحُ، وَفِيهِ الْفَوْزُ وَالنَّجَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ هُوَ أَوْلَى مَنْ رَاعَى الْحُرُمَاتِ -حُرَمَاتِ اللهِ-، هُوَ أَعْظَمُ مَنْ قَدَّرَ شَعَائِرَ اللهِ، لَمَّا رَأَى النُّخَامَةَ فِي الْقِبْلَةِ، قَامَ يَحُكُّهَا بِثَوْبِهِ بِنَفْسِهِ ﷺ ، وَقَدْ تَغَيَّظَ عَلَى فَاعِلِهَا جِدًّا، وَقَالَ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ)).
النَّبِيُّ ﷺ قَدْ حَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى تَعْظِيمِ شَعَائرِ اللهِ وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّ بُيُوتَ اللهِ لَهُ حُرْمَةٌ، وَهِيَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، لَيْسَتْ كَسَائِرِ بُيُوتِ الْخَلْقِ، سُبْحَانَ اللهِ!! وَهَلْ يُمَارِي فِي هَذَا أَحَدٌ؟!!
وَهَلْ يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ؟!!
بَيْتُ اللهِ؛ وَقَدْ رَفَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِإِذْنِهِ {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، هِيَ بُيُوتٌ مَرْفُوعَةٌ بِإِذْنِ اللهِ، فَلَهُ خَاصِيَّةٌ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَحُرْمَةً، لَيْسَتْ كَسَائِرِ بُيُوتِ الْخَلْقِ.
وَالْخَلْقُ أَمْرُهُمْ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَقْبَلُ عَلَى بَيْتِهِ الِاعْتِدَاءُ لَا مِنْ دَاخِلٍ وَلَا مِنْ خَارِجٍ، وَيَرْضَى لِبَيْتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الِاعْتِدَاءَ!!
بَيْتُ اللهِ لَهُ حُرْمُتُهُ، كَمَا بَيَّنَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَكَمَا بَيَّنَهَا نَبِيَّهُ الْكَرِيمُ، يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، فَهُوَ مَسْجِدُ اللهِ، هُوَ بَيْتُ اللهِ.
*حَائِطُ الْمَسْجِدِ مِنْ خَارِجٍ كَالْمَسْجِدِ فِي الْحُرْمَةِ:
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}، فَجَعَلَهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ مَأْذُونٌ بِرَفْعِهَا مِنْ لَدْنُهُ؛ لِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: ((وَحَائِطُ الْمَسْجِدِ كَهُوَ))، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَبَدًا لِأَحَدٍ أَنْ يُلَطِّخَ الْمَسْجِدَ، أَوْ أَنْ يَعْبَثَ بِهِ، أَوْ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ، فَحَائِطُ الْمَسْجِدِ كَالْمَسْجِدِ فِي الْحُرْمَةِ مِنْ خَارِجٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي كَلَامِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ مِنَ الْمَسْجِدِ بِلَا نِزَاعٍ وَلَا خِلَافٍ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وَإِهَانَتُهُ وَاضِحَةٌ، وَلَكِنْ ((وَحَائِطُ الْمَسْجِدِ كَهُوَ))، فَمَنْ اعْتَدَى عَلَى حَائِطِ الْمَسْجِدِ مِنْ خَارِجٍ فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى بَيْتِ اللهِ، مَاذَا يَنْتَظِرُ هَذَا؟!!
*سَنَّ النَّبِيُّ ﷺ صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ:
النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا إِذَا دَخَلْنَا مَسَاجِدَ اللهِ أَلَّا نَجْلِسَ حَتَّى نُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، الْمَسْجِدُ مُحْتَرَمٌ؛ لِأَنَّهُ بَيْتُ اللهِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: ((إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ)).
وَفِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: ((صَلِّ رَكْعَتَيْنِ)).
فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ وَفِي غَيْرِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ، وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ جَاءَ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ -وَقَدْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ-: ((قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا))، تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، مَكَانٌ مُحْتَرَمٌ، مُحَجَّرٌ وَقْفٌ للهِ، هَذَا بَيْتُهُ، فَالِاعْتِدَاءُ عَلَى هَوَائِهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى شَعَائِرِ اللهِ، فَكَيْفَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ لِذِكْرِ اللهِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ؟!!
لَا يَجُوزُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ حَتَّى بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الدَّاخِلِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّشْوِيشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ مِنْ خَارِجٍ، لَا بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا بِالسَّفَهِ وَالْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَالطُّغْيَانِ، أَيْنَ يُذْهَبُ بِالْمُسْلِمِينَ؟!!
دَاءُ الِاسْتِهَانَةِ، اسْتَهَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ بِشَعَائِرِ اللهِ، وَاسْتَهَانُوا بِحُرُمَاتِ اللهِ، وَلَمْ يَرْقُبْ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي بُيُوتِ اللهِ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَإِنَّمَا يَعْتَدُونَ كَأَنَّمَا يَعْتَدُونَ عَلَى بُيُوتِ السِّفْلَةِ مِنَ الْبَشَرِ!!
*خَيْرُ الْبِلَادِ وَأَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا:
الْمَسَاجِدُ هِيَ خَيْرُ الْبِقَاعِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ، فَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((خَيْرُ الْبِلَادِ وَأَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا))، فَهَذَا نَقِيضٌ وَنَقِيضٌ، هَذَا ضِدٌّ وَضِدُّهُ، مَسْجِدٌ وَسُوقٌ، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
رَايَةُ الْهُدَى مَرْفُوعَةٌ فِي مَسَاجِدِ اللهِ، أَعْلَامُ الْهُدَى مَنْصُوبَةٌ فِي بُيُوتِ اللهِ، وَرَايَةُ الشَّيْطَانِ مَرْفُوعَةٌ فِي الْأَسْوَاقِ، يَنْصِبُ الشَّيْطَانُ وَيَرْفَعُ رَايَتَهُ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْأَسْوَاقِ؛ لِأَنَّهَا مَرَاتِعُ الشَّيَاطِينِ، ((شَرُّ الْبِقَاعِ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ ، فَكَيْفَ يَصِيرُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ حُكْمَ السُّوقِ؟!!
كَيْفَ يَتَعَامَلُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ كَمَا يَتَعَامَلُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ؟!!
فَالْمَعَاصِي هِيَ هِيَ، وَالِانْحِرَافَاتُ هِيَ هِيَ، وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ هِيَ بِغَيْرِ فَارِقٍ وَمِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ!! أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!! أَيْنَ يُذْهَبُ بِالْمُسْلِمِينَ؟!!
إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَغَارُ عَلَى حُرُمَاتِهِ أَنْ تُنْتَهَكَ فِي أَرْضِهِ، فَإِنْ قَامَ أَهْلُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ بِوَاجِبِهِمْ؛ فَذَلِكَ، وَإِلَّا عَمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، يَغَارُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَغَيْرَتُهُ غَيْرَتُهُ، وَغَيْرَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ تُوْتَ فِي الْأَرْضِ مَحَارِمُهُ.
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ ((خَيْرَ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ))، خَيْرُ بُقْعَةٍ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ يَقُومُ فِيهِ الْعَبْدُ للهِ مُصَلِّيًا، يَرْكَعُ فِيهِ لِرَبِّهِ حَانِيًا صُلْبَهُ مُتَذَلِّلًا، وَاضِعًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ فِي التُّرَابِ رَاغِمًا، يُسَبِّحُ رَبَّهُ مُعَظِّمًا وَمُبَجِّلًا، خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ، ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا))، فَأَحَبُّ بُقْعَةٍ فِي بَلَدٍ الْمَسْجِدُ.
الْمَسْجِدُ فِي الْبَلَدِ أَحَبُّ بِقَاعِ الْبَلَدِ إِلَى اللهِ، أَحَبُّ الْأَمَاكِنِ فِي كَلِّ بَلَدٍ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَسَاجِدُهَا، ((أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا))، فَذَكَرَ النَّقِيضَ وَالنَّقِيضَ؛ لِكَيْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ وَاعِيًا، إِذَا دَخَلَ بَيْتَ اللهِ يَدْخُلُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهُ إِلَى الْيُمْنَى يَسْعَى، وَإِذَا خَرَجَ فَخَارِجٌ إِلَى اضْطِرَابٍ، إِلَى قَلَقٍ وَنَصَبٍ وَتَعَبٍ وَعَذَابٍ، فَيَخْرُجُ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى.
*فَضَائِلُ وَثَمَرَاتُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْعِلْمِ فِي بُيُوتِ اللهِ خَاصَّةً:
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ -بُيُوتَ اللهِ- فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، ((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشَيْتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)).
هَذَا فِي بَيْتِ اللهِ، صَحِيحٌ؛ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ((وَيَصْدُقُ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى الْمَدَارِسِ والرُّبُطِ -جَمْعُ رِبَاطٍ- إِذَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ، وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ وَدَرْسِهِ، وَتَلَّقِيهِ وَحَمْلِهِ، فَلَهَا فَضْلُ الْمَسْجِدِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ)).
((مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ))، هُوَ بَيْتُ اللهِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ، وَتَكْرِيمٍ وَإِعْلَاءٍ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، تَسْكُنُ الْأَرْوَاحُ، يَنْتَفِي الْقَلَقُ، يَنْمَحِي الِاضْطِرَابُ، تَسْكُنُ الرُّوحُ إِلَى رَحْمَةِ بَارِيهَا، إِذْ تَغْشَاهُمُ الرَّحْمَةُ، وَتَحُفُّهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: ((تَحُفُّهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُمْ فِي حِلَقٍ؛ لِأَخْذِهِمْ بِهَذَا الْمَقْصِدِ الْجَلِيلِ، لَا كَالَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ يَجْعَلُونَ أَحَادِيثَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ، يَتَحَلَّقُونَ حِلَقًا حِلَقًا، لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْآخِرَةَ، أُولَئِكَ لَيْسَ للهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ)).
الْمَسَاجِدُ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، وَأَنَّ هَذِهِ الْحِلَقَ لِدَرْسِ الْعِلْمِ، لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ، لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَتَدَارُسِ الْقُرْآنِ، لِمَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ، وَالْإِحَاطَةِ بِأَحْكَامِ اللهِ، هَذِهِ تَحُفُّهَا الْمَلَائِكَةُ.
أُولَئِكَ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَسْأَلُ الْمَلَائِكَةَ -وَهُوَ بِخَلْقِهِ أَعْلَمُ- عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ فِي الْمَسَاجِدِ -مَسَاجِدِ اللهِ-، يَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ-، فَيَذْكُرُونَ وَيَذْكُرُونَ، فَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ((اشْهَدُوا يَا مَلَائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ)).
تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: ((يَا رَبِّ! فِيهِمْ فُلَانٌ -فِي هَؤُلَاءِ الْمُجْتَمِعِينَ فِي بَيْتِكَ، التَّالِينَ لِكِتَابِكَ، الْمُقْبِلِينَ عَلَى ذِكْرِكَ، الْمُتَحَلِّقِينَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ بِحِلَقِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ- فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ)).
قَالَ: ((هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)).
غَفَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَعَهُمْ، وَمَعِيَّتُهُمْ لَهَا قَدْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَغَفَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ.
*أَهَمِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَالْحِفَاظُ عَلَيْهِ فِي ضَوْءِ سِيرَةِ الرَّسُولِ ﷺ:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ بَنَى مَسْجِدَهُ ﷺ ، ثُمَّ آخَى ﷺ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا دَخَلَ الْأَعْرَابِيُّ فَبَالَ فِي مَسْجِدِهِ ﷺ وَبِمَحْضَرٍ مِنْهُ، وَهَمَّ بِهِ الْأَصْحَابُ، غَلَّبَ جَانِبَ الْمَصْلَحَةِ، وَرَاعَى دَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الرَّجُلِ، وَقَالَ الصَّحَابَةُ: ((مَهْ مَهْ))، يَزْجُرُونَهُ، مَاذَا تَفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ -فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ-، وَالرَّجُلُ لَا يَعْلَمُ الْأَحْكَامَ، حَدِيثُ عَهْدٍ هُوَ بِهَذَا الْحُكْمِ، لَا يَعْلَمُهُ، فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ.
فَنَهَاهُمُ الرَّسُولُ ﷺ ، وَقَالَ: ((لَا تُزْرِمُوهُ)).
وَالْإِزْرَامُ: قَطْعُ الْبَوْلِ وَالدَّمْعِ وَمَا أَشْبَهَ، فَقَطْعُهُ يَضُرُّ -يَضُرُّ فَاعِلَهُ-.
قَالَ: ((لَا تُزْرِمُوهُ))، فَلَمَّا قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ، أَتَى النَّبِيُّ ﷺ بِأَمْرَيْنِ، أَزَالَ جَهَالَةٍ الرَّجُلِ، وَأَمَرَ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَتَطْهِيرِ الْأَرْضِ، فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُرَاقَ عَلَى مَوْضِعِ بَوْلِ الرَّجُلِ، فَطَهَّرَ الْمَوْضِعَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا، إِنَّمَا بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللهِ)).
وَنَبِيُّكُمْ ﷺ قَدْ مَنَعَ مَنْ كَانَ ذَا رِيحٍ خَبِيثَةٍ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ اللهِ، يَقُولُ نَبِيُّكُمْ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوْ الْبَصَلَ أَوْ الْكُرَّاتَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتِزْلْ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
هُوَ بَيْتُ اللهِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَمَ، وَأَنْ يُعَظَّمَ، إِذَا أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاتًا، أَوْ كَانَ آتِيًا بِمَا عَلَى قَانُونِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ مِنَ الرَّوَائِحِ لَا مِنْ أَصْلِ الْمَطْعُومِ -فَأَصْلُهَا حَلَالٌ- فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ، وَلْيَعْتَزِلْ بُيُوتَ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسَاجِدِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ الْمُصَلِّينَ فِي بُيُوتِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ مَلَائِكَةَ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ، ((فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
*أَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ لِلسَّعْيِ إِلَى الْمَسَاجِدِ:
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ مِنْ فَضَائِلِ بُيُوتِ اللهِ ((أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ، وَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ، كَانَتْ خُطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَرْفَعُ دَرَجَةً، وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً مَهْمَا بَعُدَ مَمْشَاهُ))، تُكْتَبُ آثَارُهُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ، ((إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَانْتَظَرَ الصَّلَاةَ، فَهُوَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا صَلَّى فَظَّلَ فِي مُصَلَّاهُ، مَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ)).
أَيُّ عَظَمَةٍ، وَأَيُّ شَرَفٍ، وَأَيُّ جَلَالٍ لِمَسَاجِدِ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ!
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ ((أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ -فِي مَسْجِدِهِ؛ يَعْنِي الَّذِي صَلَّى فِيهِ- يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَ كَحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
أَيُّ فَضْلٍ، وَأَيِّ شَرَفٍ، وَأَيُّ جَلَالٍ لِبُيُوتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ عَنْ شَرَفِ وَعُلُوِّ قَدْرِ بُيُوتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ! اتَّقُوا اللهَ فِي شَعَائِرِ اللهِ، وَفِي حُرُمَاتِ اللهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((خَوَارِجُ الْعَصْرِ وَتَكْفِيرُ الْمُجْتَمَعَاتِ))
*سَيِّد قُطْب مَنْبَعُ التَّكْفِيرِ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ:
فَفِي عَصْرِنَا هَذَا؛ تَوَلَّى سَيِّد قُطْب كِبْرَ وَصْمِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْجَاهِلِيَّةِ, وَكَفَّرَ أَهْلَ الْأَرْضِ جَمِيعًا، فَقَالَ:((يَدْخُلُ فِي إِطَارِ الْمُجْتَمَعِ الْجَاهِلِيِّ تِلْكَ الْمُجْتَمَعَاتُ الَّتِي تَزْعَمُ لِنَفْسِهَا أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ، لَا لِأَنَّهَا تَعْتَقِدُ بِأُلُوهِيَّةِ أَحَدٍ غَيْرِ اللهِ، وَلَا لِأَنَّهَا تُقَدِّمُ الشَّعَائِرَ التَّعَبُّدِيَّةَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِطَارِ -يَعْنِي الْإِطَارَ الْجَاهِلِيِّ وَالرِّدَّةَ عَنْ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّهَا لَا تَدِينُ بِالْعُبُودِيَّةِ للهِ وَحْدَهُ فِي نِظَامِ حَيَاتِهَا.
فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَعْتَقِدْ بِأُلُوهِيَّةِ أَحَدٍ إِلَّا الله؛ تُعْطِي أَخَصَّ خَصَائِصِ الْأُلُوهِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ، فَتَدِينُ بِحَاكِمِيَّةِ غَيْرِ اللهِ، فَتَتَلَقَّى مِنْ هَذِهِ الْحَاكِمِيَّةِ نِظَامَهَا، وَشَرَائِعَهَا وَقِيمَهَا، وَمَوَازِينَهَا، وَعَادَاتِهَا وَتَقَالِيدَهَا.
مَوْقِفُ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ كُلِّهَا يَتَحَدَّدُ فِي عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ: أَنْ يَرْفُضَ الِاعْتِرَافَ بِإِسْلَامِيَّةِ هَذِهِ الْمُجْتَمَعَاتِ كُلِّهَا!!))
قَالَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: ((مَعَالِمُ فِي الطَّرِيقِ)).
وَقَالَ: ((ارْتَدَّتِ الْبَشَرِيَّةُ إِلَى عِبَادَةِ الْعِبَادِ، وَإِلَى جَوْرِ الْأَدْيَانِ؛ وَنَكَصَتْ عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَإِنْ ظَلَّ فَرِيقٌ مِنْهَا يُرَدِّدُ عَلَى الْمَآذِنِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ!!))
قَالَ: ((إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ دَوْلَةٌ مُسْلِمَةٌ وَلَا مُجْتَمَعٌ مُسْلِمٌ، قَاعِدَةُ التَّعَامُلِ فِيهِ: هِيَ شَرِيعَةُ اللهِ وَالْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ)).
وَقَالَ: ((وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَاةَ الْإِسْلَامِيَّةَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ قَدْ تَوَقَّفَتْ مُنْذُ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْأَرْضِ، وَأَنَّ وُجُودَ الْإِسْلَامِ ذَاتِهِ مِنْ ثَمَّ قَدْ تَوَّقَفَ كَذَلِكَ)).
فَهَذَا تَكْفِيرٌ لِلْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ كُلِّهَا!!
((لَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أُمَّةٌ مُسْلِمَةٌ الْيَوْمَ)) يَقُولُ ذَلِكَ سَيِّد قُطْب.
مَنْ أَخَذَ بِهَذَا الْفِكْرِ، ثُمَّ اعْتَقَدَهُ اعْتِقَادًا، ثُمَّ سَبَحَ فِي دِمَائِهِ سَبْحًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَحْشًا آدَمِيًّا، إِذْ كُلُّ مَنْ يَرَاهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ؛ حَلَالُ الدَّمِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ!!
وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَقَعُ فِي قَبْضَتِهِ؛ فَهِيَ أَمَةٌ سَبِيَّةٌ، إِذْ هِيَ عَلَى دِينِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ، فَيَحِلُّ لَهُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ!!
وَهَذَا مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى دَمَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ وَقَدْ وَقَعَ إِلَّا مَا عَصَمَ اللهُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
((خَوَارِجِ الْعَصْرِ وَتَفْجِيرُ الْمَسَاجِدِ!!))
قَالَ سَيِّد قُطْب فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] -بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ دُخُولَ مُسْلِمِي الْعَصْرِ فِي إِطَارِ الْمُجْتَمَعِ الْجَاهِلِيِّ-: ((وَهُنَا يُرْشِدُهُمُ اللهُ إِلَى اعْتِزَالِ مَعَابِدِ الْجَاهِلِيَّةِ -يَعْنِي مَسَاجِدَهَا!!-، وَاتِّخَاذِ بُيُوتِ الْعُصْبَةِ الْمُسْلِمَةِ مَسَاجِدَ تُحِسُّ فِيهَا بِالِانْعِزَالِ عَنِ الْمُجْتَمَعِ الْجَاهِلِيِّ)).
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَرَّرَ نَظَرِيَّةَ ((الْعُصْبَةِ الْمُسْلِمَةِ)) فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَهِيَ وَهْمٌ كَبِيرٌ أَدَّى إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الشُّرُورِ؛ فَكَمْ أُرِيقَ بِسَبَبِها مِنْ دِمَاءٍ؟!!
وَكَمْ وَقَعَ بِسَبَبِهَا مِنْ فَسَادٍ؟!!
وَكَمْ انْتُهِكَتْ بِسَبَبِهَا وَمِنْ جَرَّائِهَا مِنْ أَعْرَاضٍ؟!!
وَكَمْ اضْطَرَبَتْ بِسَبِبِها أَحْوَالُ الْأُمَمِ حَتَّى صِرْنَا إِلَى مَا وَقَعَ؛ مِمَّا عُرِفَ بِالرَّبِيعِ الْعِبْرِيِّ، وَسَقَطَتْ بِسَبِبِهِ كَثِيرٌ مِنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ, وَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى وَحْدَهُ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلِ.
وَقَالَ: ((وَنِقْطَةُ الْبَدْءِ الصَّحِيحَةِ فِي الطَّرِيقِ الصَّحِيحَةِ هِيَ: أَنْ تَتَبَيَّنَ حَرَكَاتُ الْبَعْثِ الْإِسْلَامِيِّ أَنَّ وُجُودَ الْإِسْلَامِ قَدْ تَوَقَّفَ، هَذَا طَرِيقٌ.
وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ: أَنْ تَظُنَّ هَذِهِ الْحَرَكَاتُ لَحْظَةً وَاحِدَةً أَنَّ الْإِسْلَامَ قَائِمٌ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ، وَيَتَسَمَّوْنَ بِأَسْمَاءِ الْمُسْلِمِينَ هُمْ فِعْلًا مُسْلِمُونَ.
فَإِنْ سَارَتِ الْحَرَكَاتُ فِي الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ؛ سَارَتْ عَلَى صِرَاطِ اللهِ وَهُدَاهُ، وَإِنْ سَارَتْ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِي؛ فَسَتَسِيرُ وَرَاءَ سَرَابٍ كَاذِبٍ، تَلُوحُ لَهَا فِيهِ عَمَائِمُ تُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَتَشْتَرِي بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَتَرْفَعُ رَايَةَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَسَاجِدِ الضِّرَارِ -يَعْنِي مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ!!-))
لَقَدْ غَلَا خَوَارِجُ عَصْرِنَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ أَنَّهُمْ تَجَاوَزُوا هِجْرَانَهَا -أَيْ: الْمَسَاجِدَ- إِلَى الْأَمْرِ بِهَدْمِهَا:
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: ((وَمِمَّا تَدْخُلُ فِي مَعْنَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَيَنْطَبِقُ عَلَيْهَا الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ؛ تِلْكَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي بَنَاهَا الطَّوَاغِيتُ، لِتُذْكَرَ فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ، وَتُسَمَّى بِهِمْ، وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ فِيهَا الْكَثِيرُ مِنْ مَعَانِي الضِّرَارِ؛ مِنْهَا: أَنَّهَا بُنِيَتْ رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَأَمْوَالُهَا إِنَّمَا بُنِيَتْ مِنْ سَرِقَاتِ هَؤُلَاءِ الطَّوَاغِيتِ وَبَعْضُهَا مِنَ الرِّبَا)).
*يَدْخُلُ الْخَارِجِيُّ الْمَسْجِدَ لِيُفَجِّرَ نَفْسَهُ!!
النَّبِيُّ ﷺ ؛ مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَنَّهُ {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}؛ مَنَعَنَا بِأَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنَّا مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ, أَوْ سُوقًا مِنْ أَسْوَاقِهِم وَمَعَهُ نِصَالٌ إِلَّا وَقَدْ قَبَضَ عَلَيْهَا.
النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يُرَوِّعَ أَخَاهُ وَكَانَ نَائِمًا, فَصَنَعَ مَعَهُ صَنِيعًا فَقَامَ مَفْزُوعًا, فَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ تَرْوِيعِ الْمُسْلِمِينَ, عَنْ تَفْزِيعِهِمْ.
أَيْنَ هَذَا النَّهْيُ النَّبَوِيُّ الْكَرِيمُ عَنْ تَفْزِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِيُفَجِّرَ نَفْسَهُ؛ لِيَصِيرَ الْمُصَلُّونَ أَشْلَاءً!! يَصِيرَ الرُّكَّعُ السُّجُودُ قِطَعًا مُتَنَاثِرَةً مُخْتَلِطَةً!! حَتَّى الْجُثَّةَ لَا يَتَحَصَّلُ ذَوُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا, صَارَتْ فُتَاتًا مَحْرُوقًا, بَعْضُهَا الْتَصَقَ بِالسَّقْفِ إِنْ كَانَ بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ سَقْفٌ! وَسَائِرُهَا عَلَى الْحَوَائِطِ وَالْجُدْرَانِ وَالسَّوَارِي, وَتَطُؤُهَا الْأَقْدَامُ بِلَا حُرْمَةٍ وَلَا اسْتِكَانَةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ, صَارَ الْمَوْتُ هَيِّنًا!!
أَيْنَ النَّهْيُ عَنِ التَّفْزِيعِ وَالتَّرْوِيعِ لِلْمُسْلِمِينَ, مِنْ دُخُولِ الْوَاحِدِ مِنْ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ -عَامَلَهُمُ اللهُ بِعَدلْهِ – بِسَيَّارَةٍ يَجْعَلُ فِيهَا نِصْفَ طَنٍّ مِنَ الْمُتَفَجِّرَاتِ، وَيْحَك!! مَاذَا تُرِيدُ؟!!
تُرِيدُ الْإِثْخَانَ فِي الْمُرْتَدِّينَ!! فِي الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ!! فِي الْمُصَلِّينَ!! فِي الصَّائِمِينَ!! فِي الْمُعْتَكِفِينَ!! فِي الْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرِينَ!! فِي الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا عَلِمُوا مِنَ الدِّينِ الَّذِي شَوَهْتُمُوهُ!! وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ أَذْهَبْتُمُوهُ!!
عَلِّمُوهُمْ..
كَفَّرُوهُمْ!! جَعَلُوهُمْ مُرْتَدِّينَ!! إِذَنْ؛ حَلَالٌ دَمُهُمْ, حَرَامٌ حَيَاتُهُمْ, حَلَالٌ أَعْرَاضُهُمْ, حَرَامٌ بَقَاؤُهُمْ, فَلْيَذْهَبُوا إِلَى الْجَحِيمِ!!
أَيْنَ النَّهْيُ النَّبَوِيُّ الْكَرِيمُ عَنْ تَرْوِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَتَفْزِيعِهِمْ, مِنْ هَذَا الْعَبَثِ الْعَابِثِ, وَالطُّغْيَانِ الطَّاغِي, وَالْهَمِّ الْقَائِمِ الْقَاعِدِ الْمُقِيمِ؟!!
أَلَا إِنَّهَا كُرْبَةٌ، وَلَكِنْ هَذِهِ الْأُمَّةُ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ, لَا تُرَاعُوا, إِنْ قَتَلُوكُمْ فَخَيْرُ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ, إِنْ قَتَلُوكُمْ -إِنْ قَتَلَكُمُ الْخَوَارِجُ- فَخَيْرُ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مَنْ قَتَلُوهُ, وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ فَهُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ, قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَئِنْ لَقِيتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ».
((بَعْضُ عِلَاجَاتِ ظَاهِرَةِ الْإِرْهَابِ))
لَا شَكَّ أَنَّ عَقِيدَةَ الْخَوَارِجِ مُنْتَشِرَةٌ بَيْنَ الشَّبَابِ، فَكَيْفَ نُعَالِجُ هَذَا الِانْحِرَافَ وَنُنَجِّي أَنْفُسَنَا وَأَوْطَانَنَا مِنَ الدَّمَارِ؟
مِنْ وَسَائِلِ عِلَاجِ ظَاهِرَةِ الْإِرْهَابِ:
*تَمْكِينُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ لِمُحَارَبَةِ الْإِرْهَابِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ:
لَقَدْ تَصَدَّى الْعُلَمَاءُ الرَّبَانِيُّونَ لِلْخَوَارِجِ مُنْذُ ظُهُورِهِمْ, فَنَسَفُوا شُبُهَاتِهِمْ, وَأَحْكَمُوا قَبْضَةَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رِقَابِ حُجَجِهِمْ, فَهَدَى اللهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَحَمَى كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي شِبَاكِهِمْ.
كَمُنَاظَرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَعَ الْحَرُورِيَّةِ -وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ, خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَنَزَلُوا حَرُورَاءَ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ، فَنُسِبُوا إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ-.
وَمِنْ إِرْشَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مَسْأَلَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ الْخَوارِجِ وَمَعَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيِّ.
وَمِثَالٌ ظَاهِرٌ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ لِمُحَارَبَةِ الْعُلَمَاءِ الْأَكَابِرِ لِلتَّطَرُّفِ وَالْإِرْهَابِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ:
جَاءَ فِي ((الْقِصَّةِ الْكَامِلَةِ لِخَوَارِجِ عَصْرِنَا)):
دَوْرُ عُلَمَائِنَا فِي إِخْمَادِ فِتْنَةِ الْجَزَائِرِ:
إِنَّ فِتْنَةَ خَوَارِجِ الْجَزَائِرِ لَمْ تَنْتَهِ حَتَّى هَذِهِ السَّاعَةِ؛ لَكِنْ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِجُهُودِ عُلَمَائِنَا خَمَدَتِ الْفِتْنَةُ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، حَيْثُ قَامَ بَعْضُ الْعُقَلَاءِ بِنَشْرِ فَتَاوَى أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ -فِي هَذَا الْعَصْرِ- عَنْ مَسَائِلِ الْخُرُوجِ.
عِبَادَ اللهِ! يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِ شَيْءٌ، وَالْجِدَالَ وَالْمِرَاءَ وَالْخُصُومَةَ شَيْءٌ آخَرُ, هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَذَاكَ مُرَغَّبٌ فِيهِ.
يَنْبَغِي لِمَنْ يُنَاظِرُهُمْ أَنْ يَكُونَ مُتَثَبِّتًا نَاطِقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ, أَمَّا أَنْ يُقَدَّمَ إِلَى هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِمَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, فَهَذَا هُوَ الْعَبَثُ بِعَيْنِهِ, وَهَذَا يُمَكِّنُ لِهَؤُلَاءِ فِي ضَلَالَاتِهِمْ.
فَخَلُّوا -عِبَادَ اللهِ- عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَتَّى يَتَكَلَّمُوا مَعَ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ الْمَعْرَكَةَ مَعْرَكَةُ عَقِيدَةٍ، لَا يُفْلِحُ فِي خَوْضِهَا الزَّائِغُونَ، وَلَا الْمُنْحَرِفُونَ، وَلَا الْمُتَحَلِّلُونَ، وَلَا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الدِّينَ، وَلَا الَّذِينَ يَنْسِفُونَ تُرَاثَ الْمُسْلِمِينَ، هَؤُلَاءِ يَزِيدُونَ النَّارَ اشْتِعَالًا.
*آخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ: مُعَالَجَةُ التَّطَرُّفِ وَالْإِرْهَابِ بِتَطْبِيقِ حَدِّ الْحِرَابَةِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ:
عَالَجَ الْإِسْلَامُ الْإِرْهَابَ بِعِلَاجٍ حَاسِمٍ، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ، فَشَرَعَ حَدَّ الْحِرَابَةِ، وَهُوَ حَدٌّ شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلِلْقَضَاءِ عَلَى جَرِيمَةِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، الَّتِي تُرَوِّعُ الْأَبْرِيَاءَ وَتَقْتُلُهُمْ، وَتُخِيفُ سُبُلَهُمْ، وَتُضْعِفُ أَمْنَهُمْ، وَتُفَجِّرُ دُورَهُمْ وَمُنْشَآتِهِمْ، وَتُبَدِّدُ ثَرْوَاتِهِمْ، وَتُضَيِّعُ أَوْطَانَ الْمُسْلِمِينَ، فَشَرَعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ حَدًّا، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33].
المُحَارِبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الذينَ بَارَزُوهُ بِالعَدَاوَةِ، وَأَفْسَدُوا في الأَرْضِ؛ بِالكُفرِ، والقَتْلِ، وَأَخْذِ الأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ.
وَالمَشْهُورُ أَنَّ هذه الآيَةَ الكَرِيمَةَ في أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الذينَ يَعْرِضُونَ للنَّاسِ في القُرَى والبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُم أَمْوَالَهُم، وَيَقْتُلُونَهُم، وَيُخِيفُونَهُم فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطريقِ التي هُم بها، فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.
فَأَخْبَرَ اللهُ أنَّ جَزَاءَهُم وَنَكَالَهُم عِنْدَ إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم أَنْ يُفْعَلَ بهم وَاحِدٌ مِنْ هذه الأُمُورِ.
((خُطُورَةُ التَّسَتُّرِ عَلَى الْإِرْهَابِيِّينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْعَصِيبِ))
أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! لِنَعْلَمْ أَنَّ مَنْ تَسَتَّرَ عَلَى فَاجِرٍ مِنْ أُولَئِكَ الْفَجَرَةِ؛ سَهَّلَ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْهُرُوبِ وَمُغَادَرَةِ الْبِلَادِ، أَوْ آوَاهُ بِحَيْثُ لَا يُطْلُبُ، أَوْ تَسَتَّرَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ حَالَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَهُوَ مَلْعُونٌ بِلَعْنَةِ اللهِ، ((مَلْعُونٌ مَنْ آوَى مُحْدِثًا)) ؛ لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، بَلْ يُفْسِدُونَ الدِّينَ اسْتِقْلَالًا وَابْتِدَاءً.
حَتَّى إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ إِنَّ أُولَئِكَ الْمُبْتَدِعَةَ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ انْتَشَرُوا فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، فَأَفْسَدُوهُ عَلَى أَهْلِهَا، وَدَمَّرُوا عَلَيْهِمْ حَيَاتَهُمْ وَاقْتِصَادَهُمْ وَمُسْتَقْبَلَهُمْ وَمُسْتَقْبَلَ أَبْنَائِهِمْ، وَأَمْنَهُمْ وَأَمْنَ أَحْفَادِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْمَخَاطِرِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانُوا سَبَبًا فِيهَا.
((اثْبُتُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَمَامَ هَذِهِ الْفِتَنِ))
عِبَادَ اللهِ! الرَّسُولُ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْفِتَنِ الَّتِي مَا تَزَالُ تَقَعُ صَبَاحَ مَسَاءَ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ عَلَى فَعْلَةٍ شَنِيعَةٍ مِنْ أَفعَالِ الْخَوَارِجِ, الَّذِينَ لَا هَمَّ لهُم إِلَّا فِي إِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ!!
يَقْتُلُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ الْمُبِينِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلَّمَا طَلَعَ قَرْنٌ قُطِعَ)).
فَلَا تَخَافُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- فَمَا يَصْنَعُونَ؟!!
قَتِيلُهُمْ -الَّذِي يَقْتُلُونَهُ- خَيْرُ قَتِيلٍ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاء، وَقَتْلَاهُمْ -أَيْ: الَّذِينَ يُقْتَلُونَ مِنْهُمْ- شَرُّ الْقَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ.. فَمَاذَا تَحْذَرُونَ؟!!
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ؛ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ إِذَا مَا فَجَّرَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ نَفْسَهُ, إِذَا مَا أَوْرَدَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ نَفْسَهُ حَتْفَهُ، إِذَا مَا قَتَلَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ نَفْسَهُ مُنْتَحِرًا؛ فَمَا هِيَ إِلَّا طَرْفَةُ الْعَيْنِ أَوْ انتِبَاهَتِهَا أَوْ مَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى الْجَنَّةِ بِأَنْهَارِهَا, وَحُورِ عِينِهَا عَلَى حَسَبِ أَوْهَامِهِمْ وَخُرَافَاتِهِمْ!!
وَلَكِنْ؛ هَذَا لَكُمْ إِنْ قَتَلُوكُمْ، فَمَا يَضُرُّكُمْ لَوْ ثَبَتُّمْ؟!!
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ أَمَامَ أُولَئِكَ الْمُجْرِمِينَ فَلَنْ يَضُرُّوكُمْ شَيْئًا ((كُلَّمَا طَلَعَ قَرْنٌ مِنْهُم قُطِعَ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنْ يُنَجِّيَنَا جَمِيعًا مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ, وَأَنْ يَأْخُذَ عَلَى أَيْدِي الْمُجْرِمِينَ الْمُفْسِدِينَ, وَأَنْ يُمَكِّنَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ, إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:الدِّفَاعُ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَمَنْزِلَةُ الْمَسَاجِدِ وَوُجُوبُ حِمَايَتِهَا فِي الْإِسْلَامِ