((صِلَةُ الرَّحِمِ وَأَثَرُهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْأُخُوَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ وَرَحِمُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ))
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أُخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أُخْوَةٌ فِي الِالْتِقَاءِ الْفِكْرِيِّ عَلَى عَقِيدَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَاءِ الْقُلُوبِ عَلَى عَاطِفَةٍ دِينِيَّةٍ وَأَهْدَافٍ غَائِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْتِقَائِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ تَشْرِيعِيَّةٍ وَقِيادَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَنَصَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى ذَلِكَ صَرَاحَةً، قَالَ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).
جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ لِيُخْرِجَ النَّاسُ مِنْ الِاخْتِلَافِ إِلَى الِائْتِلَافِ، وَلِيُخْرِجَ النَّاسُ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ التَّمَزُّقِ وَالتَّفَرُّقِ إِلَى الْعَوْدَةِ مُتَمَسِّكِينَ بِحَبْلِ اللهِ الْمَتِينِ، مُتَآلِفَةً قُلُوبُهُمْ، عَائِدَةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِجَمْعِيَّتِهَا وَبِكُلِيَّتِهَا كَمَا يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَى.
*سَتْرُ الْمُسْلِمِ وَوَحْدَةُ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ:
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ)) عَنْ مَكْحُولٍ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ إِلَىٰ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ، جَاءَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَمِيرًا عَلىٰ مِصْرَ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَوَّابِ كَلَامٌ، فَسَمِعَ مَسْلَمَةُ صَوْتَهُ مِنْ بَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَهُمَا: عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ مِنْ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ إِلىٰ مِصْرَ عَلىٰ ظَهْرِ نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ، أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَىٰ أَمِيرِهَا، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَوَّابِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، فَسَمِعَ مَسْلَمَةُ صَوْتَهُ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: ادْخُلْ تَفَضَّلْ.
فَقَالَ: إِنِّي مَا جِئْتُكَ زَائِرًا، وَإِنَّمَا جِئْتُكَ لِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ مِنْهُ؛ لِأَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْهُ مَعِي، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟
فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ عَلِمَ مِنْ أَخِيهِ سَيِّئَةً فَسَتَرَهَا، سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
فَقَالَ: اللهم بَلَى.
فَقَالَ: سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَفَلَ عُقْبَةُ رَاجِعًا إِلَىٰ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ )).
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْأَوْسَطِ)) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ﷺ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: (( أَنَّهُ جَاءَ إِلَىٰ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ فِي مِصْرَ أَيْضًا، جَاءَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَنَادَى عَلَيْهِ، فَسَمِعَ صَوْتَهُ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ مِنْ عُلْوٍ، فَقَالَ: إِمَّا أَنْ أَنْزِلَ إِلَيْكَ وَإِمَّا أَنْ تَصْعَدَ إِلَيَّ.
فَقَالَ: لَا تَنْزِلْ وَلَا أَصْعَدُ، وَإِنَّمَا جِئْتُكَ لِحَدِيثٍ عِنْدَكَ فِي سِتْرِ الْمُؤْمِنِ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ، فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْءُودَةً».
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السِّتْرَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجْزِي مَنْ يَسْتُرُ عَلَىٰ أَخِيهِ بِهَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ، وَيُعَاقِبُ الَّذِينَ يَتَتَبَّعُونَ عَوَرَاتِ النَّاسِ بِفَضِيحَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَعَلىٰ رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَسْتُرَنَا دُنْيَا وَآخِرَةً.
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّىٰ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ».
النَّبِيُّ ﷺ يَنْفِي كَمَالَ الْإِيمَانِ عَنِ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَتَبَّعُونَ عَوْرَاتِهِمْ، عَنِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إِلَّا ظَنَّ السُّوءِ بِإِخْوَانِهِمْ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».
وَمَفْهُومُ هَذَا النَّصِ، أَنَّ مَنْ فَضَحَ مُسْلِمًا، فَضَحَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَأَنَّ مَنْ هَتَكَ سِتْرَ مُسْلِمٍ، هَتَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سِتْرَهُ دُنْيَا وَآخِرَةً.
النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنَا بِبِنَاءِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي يَرْتَكِزُ عَلَيْهَا أَسَاسُ بُنْيَانِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، الرَّسُولُ ﷺ يُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ نُجَابِهَ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ وَأَعْدَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَبُنْيَانُنَا وَحُصُونُنَا مُتَصَدِّعَةً مِنَ الدَّاخِلِ، لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تَكُونَ الْقَاعِدَةُ الدَاخِلِيَّةُ مُتَهَرِّئَةً ثُمَّ تَحْتَمِلُ الْجَبْهَةُ الْخَارِجِيَّةُ مُجَابَهَةً، وَلَا مُجَالَدَةً، وَلَا صِدَامًا، وَلَا كِفَاحًا، وَلَا نِزَالًا، وَلَا مُعَارَكَةً، وَلَا مُهَارَشَةً، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ النَّبِيُّ ﷺ بِتَوْحِيدِ الصَّفِّ، وَيَأْمُرُ الرَّسُولُ ﷺ بِتَمَاسُكِ الْبُنْيَانِ.
*خُطُورَةُ الْهَجْرِ وَالْخِصَامِ عَلَى تَمَاسُكِ بُنْيَانِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ:
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْنَا مَا حَرَّمَ مِنْ أُمُورِ الْمُحَرَّمَاتِ وَجَعَلَ الْكَبَائِرَ بَارِزَاتٍ وَاضِحَاتٍ، جَعَلَ مِنْهَا هَذَا التَّدَابُرَ وَالتَّنَاحُرَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَأَخِيهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ»، يَعْنِي: الَّذِي يُخَاصِمُ أَخَاهُ سَنَةً هُوَ فِي الذَّنْبِ وَالْوِزْرِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَالَّذِي يَقْتُلُهُ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي مِيزَانِ سَيِّئَاتِهِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ، دَخَلَ النَّارَ».
النَّبِيُّ ﷺ يُرِشْدُنَا إِلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ فَوْقَ ثَلَاثٍ تُدْخِلُ صَاحِبَهَا النَّارَ، «فَمَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ دَخَلَ النَّارَ».
وَيُوَضِّحُ لَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَنَّ النِّزَاعَ وَالْخِلَافَ وَالْخِصَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا، يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: «مَا تَوَادَّ اثْنَانِ فِي اللهِ -أَوْ قَالَ: فِي الْإِسْلَامِ- فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، إِلَّا بِذَنْبٍ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا».
يَعْنِي: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُخْبِرُنَا أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَحَبَّ أَخَاهُ فِي اللهِ، وَإِذَا وَدَّ أَخَاهُ فِي اللهِ، وَإِذَا أَحَبَّ أَخَاهُ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ حَدَثَتِ الْجَفْوَةِ بَعْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، فَمَا هَذَا إِلَّا لِذَنْبٍ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَا يَلُومَنَّ امْرُؤٌ إِلَّا نَفْسَهُ.
الرَّسُولُ ﷺ يُشَدِّدُ هَاهُنَا جِدًّا مِنْ هَذَا الْخِصَامِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يُرَخِّصْ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ)). ثُمَّ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرًا نَفْسِيًّا يَعْتَرِي النَّاسَ عِنْدَمَا لَا يَكْسِرُونَ حِدَّةَ الْبَشَرِيَّةِ الْمُوغِلَةِ فِي الطِّينِيَّةِ فِيهِمْ، فَيَتَرَفَّعُ الْأَخُ عَلَى أَخِيهِ، عِنْدَمَا يَلْقَاهُ وَهُوَ لَهُ مُخَاصِمٌ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ)).
النَّبِيُّ ﷺ يَرْعَى هَذَا الْجَانِبَ النَّفْسِيَّ فِي النَّاسِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، ثُمَّ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ ﷺ بِأَحْوَالِ النَّاسِ، فَجَاءَ كَلَامُ النَّبِيُّ ﷺ مُتَّسِقًا مَعَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا قِيدَ أُنْمَلَةٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا؛ لِكَيْ يَسِيرَ النَّاسُ عَلَى أَمْرِ الْفِطْرَةِ كَمَا خَلَقَهُمْ رَبُّهُمْ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.
النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ أَنَّ أَمْرَ الْخِصَامِ قَدْ يَكُونُ مُسْتَفْشِيًا، وَيَكُونُ مُتَأَصِّلًا فِي بَعْضِ الصُّدُورِ، مُتَغْلْغِلًا فِي بَعْضِ الْقُلُوبِ، فَمَا الْحَلُّ إِذَا عَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعُدِ الْآخَرُ؟
يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَإِذَا مَرَّتْ ثَلَاثٌ فَلْيَلْقَهُ -أَيْ: فَلْيُقَابِلْهُ- فَلْيُلْقِي عَلَيْهْ السَّلَامَ، فَإِنْ أَجَابَهُ -يَعْنِي: فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ- وَإِلَّا فَقَدْ بَرِئَ الْمُسْلِمُ مِنَ الْهِجْرَةِ)).
فَإِذَا مَرَّتْ ثَلَاثٌ عَلَى مُتَخَاصِمَيْنِ، ثُمَّ لَقِيَ أَحَدُهُمَا أَخَاهُ يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَخْرُجَ مِنَ الْهِجْرَةِ الْمَذْمُومَةِ -أَيْ: مِنْ هَجْرِهِ لِأَخِيهِ- إِلَّا أَنَّ الْآخَرَ قَدْ رَكِبَ رَأْسَهُ وَقَادَهُ شَيْطَانُهُ إِلَى مَهَاوِي الضَّلَالِ وَالْعِنَادِ وَالزَّيْغِ، فَيُقْبِلُ عَلَيْهِ أَخُوهُ فَيُلْقِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، إِنْ رَدَّا فَقَدْ بَرِئَا مِنْ أَمْرِ الْهِجْرَةِ وَمِنْ أَمْرِ الْخِصَامِ، وَإِنْ رَكِبَ رَأْسَهُ وَأَبَى إِلَّا الْخِصَامَ وَالْمُخَاصَمَةَ وَالْعِنَادَ وَالْمُعَانَدَةَ، فَإِنَّ الَّذِي سَلَّمَ -أَيْ: الْمُسَلِّمُ- كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ بَرِئَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَلَا يُعَدُّ هَاجِرًا، وَبَاءَ الْآخَرُ بِالذَّنْبِ.
((أَمْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ فِي كِتَابِهِ))
الرَّسُولُ ﷺ يُحَرِّمُ هَذَا الْخِصَامَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحَرِّمُ الْهِجْرَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمُرُ بِالتَّوَاصُلِ وَبِالتَّوَادِّ، وَبِالتَّحَابِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ يُضِيِّقُ الدَّائِرَةَ فِي أَمْرِ الْهِجْرَةِ تَضْيِيقًا مِنْ بَعْدِ تَضْيِيقٍ، فَيُبَيِّنُ لَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْهَجْرِ هَذَا الْهَجْرُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
فَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ بَيَّنَ فِيمَا أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ أَنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ أَرْحَامَهُمْ وَيَهْجُرُونَ إِخْوَانَهُمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَبِيحُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، هَؤُلَاءِ لَعَنَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَصَمَّهُمْ، وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22-23].
فَلَعَلَّكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَدْبَرْتُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ أَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ وَأَصْحَابَ الْقُوَّةِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِخَرَابِ الْعُمْرَانِ الْحَضَارِيِّ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَالْبَغْيِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَفْكَارِهِمْ وَمَفْهُومَاتِهِمْ، وَتَقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ لِتَحْقِيقِ أَغْرَاضَكُمُ الشَّخْصِيَّةَ وَمَصَالِحَكَمُ الدُّنْيَوِيَّةَ.
*نِدَاءُ اللهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ: اتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا:
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ! احْذَرُوا أَمْرَ رَبِّكُمْ أَنْ تُخَالِفُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، الَّذِي خَلَقَ السُّلُالَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ كُلَّهَا مُشْتَقَّةً مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَخَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوْجَهُ حَوَّاءَ، وَنَشَرَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِالتَّلَازُمِ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً كَثِيرَاتٍ.
وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي يَسْأَلُهُ بِهِ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا فَلَا تَصِلُوهَا.
*صِلَةُ الرَّحِمِ مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21].
فَمِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مُنْقَطِعًا أَمَرَ اللهُ بِأَنْ يُوصَلَ إِلَّا وَصَلُوهُ؛ كَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْأُخُوَّةِ فِي اللهِ، وَصِلَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَكُلِّ ذِي رُوحٍ.
*أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحَقِّ الرَّحِمِ:
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].
وذَوُوا الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحَقِّ الرَّحِمِ، فَأَحْكَامُ الْمُوَالَاةِ الْعَامَّةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَتَعَارَضُ مَعَ أَوْلَوِيَّةِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَصْحَابُ الْقَرَابَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ، وَمِنْهَا أَحْكَامُ التَّوَارُثِ.
*وَمِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْجَامِعِ: إِيتَاءُ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ مِنَ الْأَقَارِبِ:
قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [البقرة: 177].
الْبِرُّ الْجَامِعُ لِأَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُقَرَبَّةِ إِلَى اللهِ وَالْمُؤَدِّيَةِ إِلَى جَنَّتِهِ بِرُّ مَنْ تَحَقَّقَ بِمَرْتَبَةِ التَّقْوَى أَوَّلًا، وَأَعْطَى الْمَالَ عَلَى شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ قَرَابَتِهِ وَالْيَتَامَى الَّذِينَ تُوِفِّيَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ.
*صِلَةُ الرَّحِمِ مِنْ أَنْوَاعِ السُّلُوكِ الْحَسَنِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا:
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].
إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّلُوكِ الْفَاضِلِ الْحَسَنِ:
*الْأَوَّلُ: الْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ سُبْحَانَهُ؛ بِتَوْحِيدِهِ، وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتِهِ، وَالْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ؛ بِمَنْعِهَا مِمَّا فِيهَا هَلَاكُهَا وَفَسَادُهَا، وَالْعَدْلُ مَعَ الْخَلْقِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
*الثَّانِي: الْإِحْسَانُ مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَعِبَادَتِهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَمَعَ الْخَلْقِ؛ بِأَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَبِإِتْقَانِ الْعَمَلِ وَإِكْمَالِهِ.
*الثَّالِثُ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهُمُ الْقَرَابَةُ الْأَدْنَوْنَ وَالْأَبْعَدُونَ مِنْكَ، فَتُسْتَحَبُّ صِلَتُهُمْ بِمَا فَضُلَ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي آتَاكَ اللهُ إِيَّاهُ.
((أَمْرُ النَّبِيِّ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَتَرْغِيبُهُ فِيهَا))
*النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَيُرَغِّبُ فِيهَا، وَيُخْبِرُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ وَتُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ:
(1فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟
قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
«تَصِلُ الرَّحِمَ»؛ أَيْ: تُحْسِنُ إِلَى أَقَارِبِكَ، وَتُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.
وَالرَّحِمُ: الْمُرَادُ بِهَا مَنْ يَمُتُّ إِلَيْهِمْ بِصِلَةٍ مِنْ جِهَةِ الْأُبُوَّةِ أَوِ الْأُمُومَةِ؛ فَكُلُّ قَرِيبٍ لِلشَّخْصِ يُعْتَبَرُ رَحِمًا لَهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ.
* وَالرَّحِمُ الَّتِي تُوصَلُ:
1- عَامَّةٌ: وَهِيَ رَحِمُ الدِّينِ وَتَجِبُ مُوَاصَلَتُهَا بِالتَّوَادُدِ، وَالتَّنَاصُحِ، وَالْعَدْلِ، وَالْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.
2- خَاصَّةٌ: فَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي تَعْرِيفِ الرَّحِمِ، وَتَزِيدُ النَّفَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ، مَعَ تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِ.
وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِي «صِلَةِ الرَّحِمِ» هُوَ: أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ إِيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْخَيْرِ، وَدَفْعُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.
*اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَصِلُ مَنْ وَصَلَ الرَّحِمَ، وَيَقْطَعُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَنْ قَطَعَهَا:
(1فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:
«قَالَ اللَّهُ ﻷ: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَاشْتَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ». وَالْحَدِيثُ «صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ».
وَالْمَعْنَى: «قَالَ اللَّهُ ﻷ: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، «وَاشْتَقَقْتُ»: أَيْ أَخْرَجْتُ وَأَخَذَتُ اسْمَهَا «مِنَ اسْمِي»: الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ، «فَمَنْ وَصَلَهَا»: رَاعَى حُقُوقَهَا «وَصَلْتُهُ»: رَاعَيْتُ حُقُوقَهُ وَوَفَّيْتُ ثَوَابَهُ، «وَمَنْ قَطَعَهَا»: وَمَنْ قَطَعَ الرَّحِمَ «قَطَعْتُهُ»: مِنْ رَحْمَتِي الْخَاصَّةِ.
«وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ»: وَالْبَتُّ الْقَطْعُ، فَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللهُ، وَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللهُ ﻷ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ تَعْظِيمُ شَأْنِ الرَّحِمِ، وَبَيَانُ فَضِيلَةِ وَصْلِهَا وَعِظَمِ الْإِثْمِ بِقَطِيعَتِهَا.
*تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ:
أَخْبَرَ جُبَيْرُ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «تَعَلَّمُوا أَنْسَابَكُمْ، ثُمَّ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لِيَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ الشَّيْءُ، وَلَوْ يَعْلَمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ دَاخِلَةِ الرَّحِمِ، لَأَوْزَعَهُ ذَلِكَ عَنِ انْتِهَاكِه». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَصَحَّ مَرْفُوعًا». أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ بِطُرُقِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ»، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
«تَعَلَّمُوا أَنْسَابَكُمْ»: مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالصِّهْرِيَّةِ، وَتَعَرَّفُوا أَسْمَاءَ أَقَارِبِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْكُمْ وَالْأَقَارِبَ، وَكَمْ مِنْ رَحِمٍ مَقْطُوعَةٍ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ! وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ يُعْتَدَى عَلَيْهِ لَا يَحْسَبُ الْمَرْءُ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ رَحِمًا! وَمَا وَقَعَ مِنْهُ هَذَا الِاعْتِدَاءُ، وَمَا صَارَ فِيهِ فِي غَلَوَائِهِ إِلَّا بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِالرَّحِمْ الَّتِي عِنْدَهُ.
فَيَقُولُ لَنَا نَبِيُّنَا وَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ عُمَرَ ﭬ وَكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﭭ وَقَدْ صَحَّ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ ص: «احْفَظُوا أَنْسَابَكُمْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ».
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَحْفَظْ نَسَبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاصِلًا لِرَحِمِهِ، وَالنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَيْسَتْ عِنْدَ أُمَّةٌ سِوَى الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَحْفَظُ أَنْسَابَهَا، وَيُمْكِنُ لِلْعَرَبِيِّ -إِنْ كَانَ وَاعِيًا مُتَتَبِّعًا- أَنْ يَرْجِعَ بِنَسَبِهِ إِلَى أَسْلَافِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْعَرَبِ فَأَنْسَابُهُمْ مَقْطُوعَةٌ وَمُخْتَلِطَةٌ، وَلَا يَحُطُّ هَذَا مِنْ قَدْرِهِمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ فَضَّلَهَا اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ.
النَّبِيُّ ص -كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَصَحَّ مَرْفُوعًا أَيْضًا- يَأْمُرُنَا بِهَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ: «احْفَظُوا أَنْسَابَكُمْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ».
فَإِذَنْ؛ «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ».
«تَعَلَّمُوا أَنْسَابَكُمْ، ثُمَّ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لِيَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ الشَّيْءُ، وَلَوْ يَعْلَمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ دَاخِلَةِ الرَّحِمِ -أَيْ: مِنْ عَلَاقَةِ الْقَرَابَةِ-، لَأَوْزَعَهُ ذَلِكَ -أَيْ: لَكَفَّهُ وَمَنَعَهُ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِدَاخِلَةِ الرَّحِمِ- عَنِ انْتِهَاكِه -أَيْ: عَنْ نَقْضِهِ عَهْدَ اللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الْعَرَبُ الْمُتَقَدِّمُونَ: «فَعَطَفَتْهُ عَلَيْهِ الرَّحِمُ».
فِي هَذَا الْحَدِيثِ:
الْحَثُّ عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الْأَقَارِبِ؛ لِتَسْهِيلِ سُبُلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَقَارِبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا حَقَّ الرَّحِمِ، بَيَانُ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَرَابَةِ تَمْنَعُ مِنَ الْقَطِيعَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ السَّيِّئَةِ، كَمَا فِي كَلَامِ عُمَرَ ﭬ: «وَلَوْ يَعْلَمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ دَاخِلَةِ الرَّحِمِ، لَأَوْزَعَهُ ذَلِكَ عَنِ انْتِهَاكِهِ» فَمَعْرِفَةُ الْأَنْسَابِ مَدْعَاةٌ لِصَلَةِ الْأَرْحَامِ.
فَالرَّحِمُ عَلَاقَةُ جَذْبٍ تُقَرِّبُ الْعَلَاقَةَ الْبَعِيدَةَ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْقَرِيبُ يَكُونُ بَعِيدًا -إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ- وَالْبَعِيدُ تُقَرِّبُهُ الرَّحِمُ وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا.
وَالرَّحِمُ تَنْطِقُ وَتَشْهَدُ لِلْوَاصِلِ، وَتَشْهَدُ وَتَنْطِقُ بِالْقَطِيعَةِ عَلَى الْقَاطِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ -وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَكَمَا خَلَقَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُنْطِقُهَا، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّمَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَلَّمَتَاهُ، وَيُخْبِرُنَا اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: أَنَّهُ يَخْتِمُ عَلَى الْأَفْوَاهِ، وَتَنْطِقُ الْجُلُودُ وَالْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ، فَهِيَ تَنْطِقُ بِلِسَانٍ مُبِينٍ وَهِيَ مِنْ غَيْرِ لِسَانٍ.
بَلْ إِنَّ الْأَرْضَ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَنْطِقُ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِ لِسَانٍ. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَتَأْتِي الرَّحِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ صَاحِبِهَا -إِنْ كَانَ وَاصِلًا- تَشْهَدُ لَهُ بِالصِّلَةِ، وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا تَشْهَدُ لَهُ بِالْقَطِيعَةِ.
((صِلْ مَنْ قَطَعَكَ))
*حَضَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَنْ نَصِلَ مَنْ قَطَعَنَا:
(فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ.
قَالَ: «لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «الصَّحِيحِ».
وَ«الْمَلَّ»: بِفَتْحِ الْمِيمِ الرَّمَادُ الْحَارُّ.
«تُسِفُّهُمُ»: تَطْرَحُ لَهُمْ كَأَنَّمَا تُطْعِمُهُمْ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْأَلَمِ بِمَا يَلْحَقُ آكِلُ الرَّمَادِ الْحَارِّ مِنَ الْأَلَمِ وَلَا شَيْءَ عَلَى هَذَا الْمُحْسِنِ، بَلْ يَنَالُهُمُ الْإِثْمُ الْعَظِيمُ فِي قَطِيعَتِهِ وَإِدْخَالِهِمُ الْأَذَى عَلَيْهِ.
«وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ»؛ أَيْ: مُعِينٌ وَنَصِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنْ إِحْسَانِكِ وَإِسَاءَتِهِمْ.
الْأَصْلُ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ الْإِحْسَانُ وَالصَّبْرُ وَطَلَبُ الْمَعَاذِيرِ، وَلَا يَكُونُ مُعَامَلَةَ الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، هَذَا لَيْسَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَامْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ سَبَبُ عَوْنِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَوفِيقِهِ: «وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ..»، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ أَلَمٌ وَعَذَابٌ فِي الدُّنْيَا «كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ» -وَهُوَ التُّرَابُ الْحَارُّ- وَسَبَبُ خِزْيٍ وَنَدَامَةٍ فِي الْآخِرَةِ.
فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَحْتَسِبَ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ ﻷ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى وَغَيْرِهِمْ، فَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَفِتُ، كَهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ» هَذَا لَيْسَ بِوَاصِلٍ لِلرَّحِمِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ وَإِنَّمَا هَذَا يَطْلُبُ مُقَابِلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّلَةُ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَظِرَ مَعْرُوفًا مِنْ أَحَدٍ؛ أَدِّ مَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكَ، قُلْ كَلِمَتَكَ وَامْشِ، وَلَا تَلْتَفِتْ لِأَحَدٍ، أَحْسِنْ وَلَا عَلَيْكَ مِنْ إِسَاءَةِ الْمُسِيئِينَ؛ يَعْنِي: إِذَا ابْتُلِيتَ بِمُهَارِشٍ مُهَارِجٍ مُخَاصِمٍ مُعَانِدٍ فَأَنْتَ تُحْسِنُ إِلَيْهِ وَيُسِيءُ إِلَيْكَ، فَلَقِيتَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ- لَا يَضُرُّكَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ عَلَيْكَ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ هُوَ لَا عَلَيْكَ، فَإِذَا لَمْ يَرُدَّ فَقَدْ ضَرَّ نَفْسَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُحَارِبٍ لِدِينِ اللهِ ﻷ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَوَبَالُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَعَاقِبَةُ الْخِزْيِ وَالنَّدَامَةِ إِنَّمَا هِيَ عَائِدَةٌ إِلَيْهِ، وَحَاصِلَتُهَا رَاجِعَةٌ عَلَيْهِ.
فَالْإِنْسَانُ يُحْسِنُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى إِسَاءَةِ الْمُسِيئِينَ، كَمَا قَالَ هَذَا الصَّحَابِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ، قَالَ: «لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ».
إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْقَطِيعَةَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
لَيْسَ الْوَاصِلُ مَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْمَعْرُوفِ، بَلْ يُعْطِي مَنْ مَنَعَهُ مِنْ مَعْرُوفِهِ.
وَالْمُكَافِئُ: مَنْ يَصِلُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا يَأْخُذُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَصِلُ كَمَا يُوصَلُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يُعْطِي كَمَا أَخَذَ، فَهَذَا مُكَافِئٌ؛ مَنْ زَارَهُ زَارَهُ، ومَنْ أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ، ومَنْ بَرَّهُ بَرَّهُ، هَذَا لَيْسَ بِوَاصِلٍ لِلرَّحِمِ فَلَا يَدْخُلْ فِي تِلْكَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ص الَّتِي يُحَصِّلُهَا وَاصِلُ الرَّحِمِ؛ هَذَا الْمُكَافِئُ.
قَوْلُهُ ص: «الْوَاصِلُ»: «الْ» لِلْجنْسِ، فَالْمُكَافِئُ لَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ وَاصِلِ الرَّحِمِ وَإِنَّمَا هَذَا مُكَافِئٌ.
فَإِذَنْ؛ وَاصِلُ الرَّحِمِ هُوَ الَّذِي يَصِلُ مَا قُطِعَ مِنْهُ، لَا الَّذِي يُكَافِئُ عَلَى الْوَصْلِ يُوصَلُ هُوَ بِهِ وَإِنَّمَا تُقْطَعُ رَحِمُهُ فَيَصِلُهَا هُوَ، فَهَذَا هُوَ وَاصِلُ الرَّحِمِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَبْدَأَ فِي صِلَةِ أَرْحَامِه وَيَسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يُقَابِلُوا صَنِيعَهُ بِالْإِحْسَانِ وَالْوَصْلِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُخْلِصًا للهِ، فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِأَوامِرِ اللهِ وَأَوَامِرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَا يَنْتَظِرُ عَلَيْهَا أَجْرًا وَثَوَابًا مِنْ أَحَدٍ، كَلَّفَهُ اللهُ وأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ فَهُوَ يَصِلُهَا.
كَمَا جَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَنِي، وَأُعْطِيهِمْ وَيَحْرِمُونَنِي، وَأَحْلُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ.
لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَإِنَّمَا الْوَاصِلُ مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا.
قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
وَذِي رَحِمٍ قَلَّمْتُ أَظْفَارَ حِقْدِهِ
بِحِلْمِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حِلْمُ
يُحَاوِلُ رَغْمِي لَا يُحَاوِلُ غَيْرَهُ
وَكَالْمَوْتِ عِنْدِي أَنْ يَحِلَّ بِهِ الرُّغْمُ
وَيَشْتُمُ عِرْضِي في الْمُغَيَّبِ جَاهِدا
وَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي هَوَانٌ وَلا شَتْمُ
إِذَا سُمْتُهُ وَصْلَ الْقَرَابَةِ سَامَنِي
قَطِيعَتَهَا تِلْكَ السَّفَاهَةُ وَالإِثْمُ
فَمَا زِلْتُ فِي لِينِي لَهُ وَتَوَدُّدِي
عَلَيْهِ كَمَا تَحْنُو عَلَى الْوَلَدِ الأُمُّ
لأَسْتَلَّ مِنْهُ الضِّغْنَ حَتَّى اسْتَلَلْتُهُ
وَقَدْ كَانَ ذَا ضِغْنٍ يَضِيقُ بِهِ الْحِلْمُ
فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقْطَعَ الْخَيْرَ بِسَبَبِ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ أَوْ عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ بِمِثْلِ مَا قَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ ابْتِغَاءَ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى لَا يَنْتَظِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْلِصُ حَقًّا.
((فَضَائِلُ صِلَةِ الرَّحِمِ))
لِصِلَةِ الرَّحِمِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ؛ وَمِنْهَا:
*أَنَّ صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ، وَأَنَّهَا سَبَبٌ فِي زِيَادَةِ الرِّزْقِ:
فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
وَمَعْنَى: «أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ»؛ أَيْ: أَنْ يُوَسَّعُ لَهُ فِي رِزْقِهِ، «وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ»؛ أَيْ: يُؤَخَّرُ لَهُ فِي أَجَلِهِ وَعُمُرِهِ؛ يَعْنِي بِهِ: الزِّيَادَةَ فِي الْعُمُرَ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ». وَالْحَديثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، نَسْأَلُ اللهَ ﻷ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْوَاصِلِينَ، وَلَا يَجْعَلَنَا مِنَ الْقَاطِعِينَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْبَرَرَةِ الْبَارِّينَ.
«يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ»: الْأَثَرُ: بَقِيَّةُ الْعُمُرِ، وَسُمِّيَ أَثَرًا؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْعُمُرَ، وَأَصْلُهُ مِنْ أَثَرِ مَشْيِهِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنْ مَاتَ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ حَرَكَةٌ فَلَا يَبْقَى لِقَدَمِهِ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَثَرٍ.
الْإِنْسَانُ رُبَّمَا اسْتَشْكَلَ فَقَالَ:
كَيْفَ يُدْعَى بِطُولِ الْعُمُرِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعُمُرَ ثَابِتٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ؟
جَعَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَجَلًا، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ، وَجَعَلَ اللهُ ﻷ أَجَلًا، وَهَذَا الْأَجَلُ إِنَّمَا يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِأَسْبَابٍ يَأْخُذُ بِهَا الْعَبْدُ، فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى أَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ مَا يَعْلَمُهُ رَبُّنَا ﻷ، فَكَتَبَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهُوَ صَائِرٌ إِلَى مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ عِنْدَ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- وَكِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ.
وَلَكِنَّ اللهَ ﻷ جَعَلَ لِذَلِكَ أَسْبَابًا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ شَقِيًّا وَيَكُونُ سَعِيدًا، وَذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ -وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا- مِنْ غَيْرِ مَا جَبَرَ عَلَى أَنْ يَكُونَ آخِذًا بِأَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَلَا آخِذًا بِأْسَبَابِ الشَّقَاوَةِ، بَلْ يُيَسِّرُهُ اللهُ ﻷ لِهَذَا وَهَذَا، وَإِذَا أَخَذَ فِي أَحَدِهِمَا وَمَضَى فِيهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَى نَتِيجَتهِ.
فَصِلَةُ الْأَرْحَامِ سَبَبٌ لِبَسْطِ الرِّزْقِ وَسَعَتِهِ وَالْبَرَكَةِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَزِيَادَتُهُ بِالطَّاعَةِ وَنُقْصَانُهُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَكَذَلِكَ الْعُمُرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَسْبَابِ فَهَذَا لَا يُنَافِي مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ وَالْآثَارِ الْمَوقُوفَةِ أَنَّ الدُّعَاءَ يُطِيلُ الْعُمُرَ
* فِي «الْمُسْنَدِ» وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ». الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ كَمَا فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ» وَكُلُّ ذَلِكَ -أَيْ: مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ فِي الْمُنْتَهَى- مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لَا يَتَعَدَّاهُ أَحَدٌ بِحَالٍ.
*اللهُ لَا يُخْزِي وَاصِلَ الرَّحِمِ، وَلَا يُصِيبُهُ بِشَرٍّ:
عَنْ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عِنْدَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، قَالَ: ((إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قد أَصَابَنِي شيءٌ)).
قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).
فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِِعَ السُّوءِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ، فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِِعَ السُّوءِ، قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا))، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: ((إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ))، إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ ﷺ.
*وَصِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبٌ فِي حُبِّ الْأَهْلِ:
(فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «مَنِ اتَّقَى رَبَّهُ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ، نُسِئَ فِي أَجَلِهِ، وَثَرَى مَالُهُ، وَأَحَبَّهُ أَهْلُهُ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَى الصِّلَةِ تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَا مُجَامَلَةَ النَّاسِ، بَلْ تَقْوَى اللهِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَنَهَى عَنِ الْقَطِيعَةِ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَصَلَ أَهْلَهُ، أَيْ: قَرَابَتَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَمِنْ قِبَلِ أُمِّهِ؛ فَفَازَ بِهَذِهِ الْفَضَائِلَ الْعَظِيمَةَ، وَمِنْهَا الْبَسْطُ فِي الرِّزْقِ، فَيَكُونُ مَسْتُورَ الْحَالِ مَكْفِيًّا، لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ.
وَبَارَكَ اللهُ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَفِي الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ، وَهُوَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَذَلِكَ أَحَبَّهُ أَهْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَاصِلِينَ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالْوَاصِلِينَ بِالْأَقْدَامِ وَالْمُحَادَثَةِ وَالِاسْتِفْسَارِ عَنِ الْأَحْوَالِ، وَمُشَارَكَتِهِمْ فَرَحَهُمْ وَحُزْنَهُمْ، فَيَكُونُ مَحْبُوبًا فِي أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسِيَهُمْ، وَلَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَلَا تَرَكَهُمْ، وَإِنَّمَا وَصَلَ احْتِسَابًا لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَرَجَاءً لِهَذَا الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَخَوْفًا مِنَ الْقَطِيعَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عُقُوبَاتٌ عَاجِلَةٌ وَعُقُوبَاتٌ آجِلَةٌ، وَكَفَى بِهَذِهِ النُّصُوصِ تَرْغِيبًا فِي الصِّلَةِ وَتَرْهِيبًا مِنَ الْقَطِيعَةِ.
عِبَادَ اللهِ! تُوبُوا إِلَى اللهِ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ الْمُمَزَّقَةَ، وَارْفَعُوا الْخُصُومَاتِ، وَعُودُوا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ كُلَّ الْعَبْدِ الَّذِي يَذِلُّ لِكِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، فَيَقُولُ لِأَمْرِ رَبِّهِ وَأَمْرِ نَبِيِّهِ ﷺ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَأَمَّا الَّذِي يَرُدُّ أَمْرَ اللهِ وَيَرُدُّ أَمْرَ نَبِيِّهِ ﷺ فَلَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ فِي شَيْءٍ، ((لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)).
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَهْدِينَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمعِين.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الحث على بِرِّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الأَرْحَامِ))
* الْاَوْلَى مِنْكَ بِالْجَمِيلِ وَالْمَعْرُوفِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ:
1فَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، ثُمَّ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
*بِرُّ الْمُسْلِمِ بِوَالِدَيْهِ، وَصِلَتُهُ بِهِمْ أَوْلَى الْبِرِّ وَالصِّلَةِ:
هَذَا الْحَدِيثُ حَقٌّ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ أَوْلَى الْقَرَابَةِ مِنْكَ بِالْجَمِيلِ وَإِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ الْأَبَوَانِ، وَالْأُمُّ أَكْثَرُ لِمَا تَحَمَّلَتْ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْمَصَاعِبِ الَّتِي وَاجَهَتْهَا، مِنْ حِينِ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، إِلَى عَلَقَةٍ، إِلَى مُضْغَةٍ، إِلَى أَنْ يَكُونَ جَنِينًا، فَتَحْمِلُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ غَالِبًا، فَتَضَعُ وَتُقَاسِي مِنْ أَلَمِ الْوَضْعِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَدَى الْعُقَلَاءِ، ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ الرَّضَاعَةِ فِي حَوْلَيْنِ، ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ الْحَضَانَةِ فِي عِدَّةِ سَنَوَاتٍ، وَهَكَذَا تَبْقَى الْأُمُّ مُتَعَلِّقَةً بِابْنِهَا وَإِنْ كَبُرَ سِنُّهُ.
إِنَّ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَيُفَرِّطُونَ فِي هَذَا الْحَقِّ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقُونَ لَهُ بَالًا!! بَلْ يَعْتَدِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْحَقِّ الْمَكِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23-24].
فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا؛ فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.
وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنُمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ، {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
فَلَمْ يُجِزْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتَأَفَّفَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا بَلَغَا الْكِبَرَ، وَصَارَا إِلَى حَالٍ لَا يَتَحَكَّمَانِ فِيهَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَيَتَأَفَّفُ مِنْهُمَا مُتَضَجِّرًا!! وَقَدْ كَانَا يَرَيَانِ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأْعَظَمَ مِنْهُ وَلَا يَتَضَجَّرَانِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيَانِ بِهِ بِسَمَاحَةِ نَفْسٍ وَطِيبٍ خَاطِرٍ.
فَنَهَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ تَأَفُّفِ الْمَرْءِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَقَّهُمَا عَظِيمًا، وَجَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ تِجَاهَهُمَا وَاجِبًا جَسِيمًا، وَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)).
وَإِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ؛ فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أَبُوكَ)).
فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ لِلْأُمِّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَالِدَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: ((الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَخُذْ أَوْ فَدَعْ))؛ يَعْنِي: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ مِنْ أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَدُونَكَ بِرَّ أَبِيكَ؛ فَإِنَّ أَبَاكَ هُوَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((أُرِيْتُ فِي الْمَنَامِ فِي الرُّؤْيَا أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟))
قَالُوا: هُوَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَذَاكِ الْبِرُّ، كَذَاكِ الْبِرُّ)). وَكَان بَرًّا بِأُمِّهِ.
فَأُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ لَمَّا قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْجَنَّةِ؛ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ-.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ : «ثُمَّ يُوصِيكُمْ -اللهُ جَلَّ وَعَلَا- بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ»؛ أَيْ: كَذَلِكَ يَنْتَقِلُ الْبِرُّ إِلَى أَقْرَبِ شَخْصٍ كَالْبِرِّ بِالْأَبْنَاءِ، ثُمَّ الْبِرِّ بِالْإِخْوَةِ، ثُمَّ بِالْأَعْمَامِ، وَالْبِرِّ بِالْأَخْوَالِ؛ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَهَكَذَا يَمْتَدُّ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ إِلَى كُلِّ مَنْ تَمُتُّ إِلَيْهِمْ بِصِلَةٍ، وَيَتَّفِقُونَ مَعَكَ فِي النَّسَبِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ.
*بِرُّ الْمُسْلِمِ بِزَوْجِهِ، وَأَوْلَادِهِ:
*إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِبَدَنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, إِنَّ لِزَوْرِكَ-أَيْ: لِضِيفَانِكَ وَزَائِرِيكَ- عَلَيْكَ حَقًّا, فَآتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حقَّهُ)).
*وَإِطْعَامُكَ زَوْجَتَكَ وَوَلَدَكَ صَدَقَةٌ: فَعَنِ الْمِقْدَامِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّة.
إِنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ-، وَعَلَى أَهْلِكَ وَعَلَى مَمْلُوكِكَ، وَعَلَى الْأَجِيرِ الْخَادِمِ، وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ صَدَقَةٌ، كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ.
وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ.
((وَسَائِلُ صِلَةِ الرَّحِمِ))
وَالصِّلَةُ لِلرَّحِمِ تَكُونُ:
*بِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ: وَذَلِكَ عِنْدَ قُدْرَةِ الْوَاصِلِ عَلَى التَّعْلِيمِ، وَحَاجَةِ الْمَوْصُولِ مِنَ الْأَرْحَامِ إِلَى التَّعْلِيمِ، وَهُوَ خَيْرُ مَا يَصِلُ الْإِنْسَانُ بِهِ رَحِمَهُ؛ أَيْ: قَرَابَتَهُ.
*وَصْلُهُ بِالْمَالِ: عِنْدَ الْقُدْرَةِ مِنَ الْوَاصِلِ، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ مِنَ الْمَوْصُولِ.
*وَصْلُهُ بِالْأَقْدَامِ، وَبِالْمُخَاطَبَاتِ وَالْمُكَاتَبَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ بِالْأَقْدَامِ، لَاسِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَنِ بِالْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ، كَالْهَاتِفِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِلَ الْإِنْسَانُ رَحِمَهُ، وَيَسْأَلُ عَنْ أَحْوَالِهِ وَإِنْ تَأَخَّرَ فِي الْوُصُولِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ.
وَهَذِهِ الصِّلَةُ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْمُبَارَكَةِ تُقَابِلُهَا الْقَطِيعَةُ، فَالصِّلَةُ مِنَ الْبِرِّ، وَالْقَطِيعَةُ مِنَ الْإِثْمِ، فَلْيُحَاوِلِ الْإِنْسَانُ أَنْ يَكُونَ وَاصِلًا لِأَقَارِبِهِ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ وَبُعْدِهِمْ، طَالَمَا هُوَ يَمُتُّ إِلَيْهِمْ بِصِلَةٍ، وَهُمْ كَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَرْحَامٌ أَوْجَبَ اللهُ ﻷ صِلَتَهُمْ، وَنَهَى عَنِ الْقَطِيعَةِ، وَعَدَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ (23)﴾ [محمد: 22 - 23].
قَدْ يُوَاجِهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَرْحَامِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَإِذَا وَاجَهَ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى ذَلِكَ بِالصَّبْرِ، وَالِاسْتِمْرَارِ فِي الصِّلَةِ وَعَدَمِ الْقَطِيعَةِ، وَيَنْسَى حُظُوظَ النَّفْسِ حَتَّى يُغَيِّرَ اللهُ ﻷ الْأَحْوَالَ، مِنْ حَالِ الْقَطِيعَةِ إِلَى حَالِ الصِّلَةِ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ.
*وَمِنْ مَعَانِي صِلَةِ الرَّحِمِ: إِنْذَارُ الْأَقَارِبِ مِنَ النَّارِ، وَحَثُّهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِهِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا تَنْفَعُ الْقَرَابَةُ وَالنَّسَبُ فِي يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»().
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٤]، قَامَ النَّبِيُّ ﷺ فَنَادَى: «يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهُمَا بِبِلَالِهَا». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ»، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ فِي «الصَّحِيحِ».
*وَمِنْ مَعَانِي صِلَةِ الرَّحِمِ: رَدُّ الْعَقِيدَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي شَاعَتْ بَيْنَ الْجَهَلَةِ وَالْمُبْتَدِعِينَ: أَنَّ الرَّسُولَ ص يَكُونُ شَفِيعًا وَخَيْرَ وَسِيلَةٍ عِنْدَ اللهِ ﻷ وَبِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ نَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَالْعِبَادَاتِ، فَالْحَدِيثُ يَرُدُّ ذَلِكَ.
((عُقُوبَاتٌ شَدِيدَةٌ لِقَاطِعِ الرَّحِمِ))
إِنَّ الْقَطِيعَةَ لِلرَّحِمِ أَمْرُهَا عَظِيمٌ وَإِثْمُهَا كَبِيرٌ، وَالصِّلَةُ فَضْلُهَا كَبِيرٌ وَأَجْرُهَا عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ ﻷ.
*مِنْ عُقُوبَاتِ قَطْعِ الرَّحِمِ: أَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ عَمَلَ قَاطِعِ رَحِمٍ:
فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ سُلَيْمَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ ابْنِ عَفَّانَ قَالَ: جَاءَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «أُحَرِّجُ عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ لَمَا قَامَ مِنْ عِنْدِنَا» فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ ثَلَاثًا، فَأَتَى فَتًى عَمَّةً لَهُ قَدْ صَرَمَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا بْنَ أَخِي، مَا جَاءَ بِكَ؟
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا.
قَالَتِ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَسَلْهُ: لِمَ قَالَ ذَاكَ؟
قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ص يَقُولُ: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يَقْبَلُ عَمَلَ قَاطِعِ رَحِمٍ». هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
«فَأَتَى فَتًى عَمَّةً لَهُ قَدْ صَرَمَهَا»؛ أَيْ: هَجَرَهَا وَقَطَعَ حَبْلَ وِصَالِهَا وَتَرَكَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْهِجْرَانِ؟
قَوْلُهُ ص: «تُعْرَضُ»: مَعْنَى الْعَرْضِ: الْإِظْهَارُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقْرَأُ الصُّحُفَ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَرَّجَ -أَيْ: أَوْقَعَ فِي الضِّيقِ وَالْإِثْمِ- عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ لَمَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
*وَمِنْ الْعُقُوبَاتِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ:
أَخْبَرَ جُبَيْرِ ابْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ». هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَأْوِيلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ قَطْعَ الرَّحِمِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا شُبْهَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهَا فَهَذَا كَافِرٌ مُرْتَدٌ. فَهَذَا تَأْوِيلٌ، وَهَذَا يَدْخُلُ النَّارَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ.
الثَّانِي: لَا يَدْخُلُهَا مَعَ السَّابِقِينَ أَوَّلَ الْأَمْرِ بَلْ يُعَاقَبُ بِتَأَخُّرِهِ الْقَدْرَ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ - تَبَارَك وَتَعَالَى- فَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَانٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ عَدَمَ دُخُولِ الْجَنَّةِ يُحْمَلُ تَارَةً عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْقَطِيعَةَ -وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ- وَأُخْرَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَعَ السَّابِقِينَ.
*عُقُوبَةُ قَاطِعِ الرَّحِمِ فِي الدُّنْيَا:
1حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ». وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
«أَحْرَى»؛ أَيْ: أَجْدَرُ وَأَوْلَى.
«مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ»؛ أَيْ: مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ.
وَاشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بَيَانِ إِثْمَيْنِ عَظِيمَيْنِ، هُمَا:
*قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ إِثْمِهِ وَحُمْكِه.
*وَالْبَغْيُ، الَّذِي هُوَ ظُلْمُ الْغَيْرِ فِي مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ دَمِهِ.
وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ عَدَمُ صِلَتِهَا.
فَالْقَاطِعُ وَالْبَاغِي يَجْمَعُ اللهُ لَهُمَا بَيْنَ عُقُوبَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِخَطَرِ مَا وَقَعَا فِيهِ مِنَ الذَّنْبِ، فَمَنْ قَطَعَ أَرْحَامَهُ وَبَغَى عَلَى النَّاسِ بِدُونِ حَقٍّ وَبِدُونِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ، سَيَكُونُ جَزَاؤُهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَيُعَاقِبَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَكُلُّ هَذَا فِيهِ تَرْهِيبٌ عَظِيمٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي قَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ، وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي الْبَغْيِ الَّذِي هُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ بِدُونِ حَقٍّ، بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَدِّي؛ إِمَّا بِالْوُقُوعِ فِي الْعِرْضِ؛ كَالْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ وَالْكَذِبِ، وَإِمَّا بِسَفْكِ الدَّمِ كَالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ، وَإِمَّا بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ كَالسَّرِقَةِ وَالنَّهْبِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالْغِشِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالْغِشِّ فِي الْعَمَلِ الْوَظِيفِيِّ، كُلُّ هَذَا يُعْتَبَرُ بَغْيًا، أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ عَلَى شَخْصٍ فَيُظْلَمُ، كُلُّ هَذَا مِنَ الْبَغْيِ.
وَلَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ص مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَبَيَّنَ بِأَنَّ الْقَاطِعَ وَالْبَاغِيَ عَلَى الْغَيْرِ عُقُوبَتُهُمَا مُعَجَّلَةٌ وَمُؤَجَّلَةٌ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبَغْيِ الْمُشِينِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَذَابِ الْمُهِينِ.
((آثَارُ التَّفْرِيطِ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))
* مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ يَتَبَيَّنُ:
أَنَّنَا نُفَرِّطُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُصُولِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْخَبْطِ وَالْخَلْطِ وَالتَّعَثُّرِ إِنَّمَا هُوَ بِذُنُوبٍ لَا نَدْرِيهَا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي أَذْهَانِهِمْ، وَقَامَ فِي قُلُوبِهِمُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَّا مَنْ وَصَلَهُ، وَأَنْ مَنْ قَطَعَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْدَأَهُ بِإِحْسَانِهِ، وَيَحْسَبُ أَنَّهُ بذَلِكَ مِمَّنْ يَصِلُ الرَّحِمَ، فَإِذَا رُوجِعَ يَقُولُ: أَنَا أَصِلُهُ وَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ الزِّيَارَةَ إِلِيَّ، وَأَنَا أُعْطِيهِ وَهُوَ يَحْرِمُنِي، فَحِينَئِذٍ انْقَطَعْتَ عَنْهُ، هَذَا كَمَا تَرَى إِنَّمَا يُرِيدُ الْمُكَافَأَةَ وَلَا يُرِيدُ الصِّلَةَ؛ لِأَنَّهُ «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا».
وَهَذِهِ الصِّلَةُ لِلْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا أَثِمَ، بَلْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ، بَلْ أَتَتْهُ الْعُقُوبَةُ سَرِيعةً فِي الدُّنْيَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ فِي الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ».
وَهُوَ سَبَبُ لِعَدَمِ نُزُولِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْجَدْبِ وَالْمَصَائِبِ بِالْأُمَّةِ، إِذَا تَفَشَّتْ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا، فَهَذَا كُلُّهُ -كَمَا تَرَى- مِنَ الْأُصُولِ الْجَلِيلَةِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
* قَدْ يَحْسَبُ الْمَرْءُ أَنَّهُ مُحْسِنٌ وَهُوَ مُسِيءٌ؛ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُحْسِنٌ عِنْدَمَا يَنْظُرُ إِلَى الْأُمُورِ بِالنَّظْرَةِ الَّتِي لَا تَمُتُّ إِلَى الشَّرْعِ بِصِلَةٍ، فَيُدْخِلُ عِزَّةَ النَّفْسِ وَكَرَامَتَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَيَحْسَبُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ هِيَ الْمُكَافَأَةُ، وَأَنَّهُ إِذَا وَصَلَ ذَا رَحِمٍ فَلَمْ يَصِلْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ، هَذَا لَيْسَ بِوَاصِلٍ هَذَا رَجُلٌ مُكَافِئٌ، هَذَا يُرِيدُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِحْسَانًا الْوَاصِلُ مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ص.
* أَيْضًا: نُفَرِّطُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَرِيمِ الَّذِي أَمَرنَا فِيهِ الرَّسُولُ بِتَتَبُّعِ الْقَرَابَاتِ، وَأَنْ نَحْفَظَ الْأَنْسَابَ، وَأَنْ نَبْحَثَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ إِلَى أَقْصَى مَا يُمْكِنُ أَنْ نَصِلَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي وَصْلِ تِلْكَ الْأَرْحَامِ الَّتِي قُطِّعَتْ.
وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْأَصْهَارُ أَيْضًا؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي الْفُرُوعِ، وَتَكُونُ فِي الْأُصُولِ، وَتَكُونُ فِي الصِّهْرِيَّةِ أَيْضًا، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِوَصْلِهِ، فَقَطَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَيُرِيدُونَ -مَعَ ذَلِكَ- أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مُوَفَّقًا فِي الْحَيَاةِ: فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ تَحْصِيلِ رِزْقٍ، أَوْ عَافِيَةٍ بِبَدَنٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطْلُبُهُ، وَمَا عِنْدَ اللهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ.
فَإِذَا ضُيِّقَ عَلَى الْإِنْسَانِ في الرِّزْقِ فَلْيَتَتَبَّعْ أَرْحَامَهُ بِالصِّلَةِ يُوَسِّعِ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ص، بَلْ وَيَنْسَأُ لَهُ فِي أَثَرِهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
((آثَارُ صِلَةِ الرَّحِمِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))
*من الآثار الحميدة لصلة الرحم على الفرد في الدنيا والآخرة: أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنَ الْجَنَّةِ وَتُبَاعِدُهُ مِنَ النَّارِ، وَأَنَّ مَنْ وَصَلَ الرَّحِمَ؛ وَصَلَهُ اللهُ -يَعْنِي: رَاعَى حُقُوقَهُ وَوَفَّاهُ ثَوَابَهُ-، وَأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِبَسْطِ الرِّزْقِ وَسَعَتِهِ وَالْبَرَكَةِ فِيهِ.
وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يُصِيبُ مَنْ يَصِلُ رَحِمَهُ بِشَرٍّ، وَلَا يُخْزِيهِ أَبَدًا كَمَا فِي قَوْلِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِلنَّبِيِّ ﷺ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).
فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَوَصَلَ أَهْلَهُ، أَيْ: قَرَابَتَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَمِنْ قِبَلِ أُمِّهِ؛ فَازَ بِهَذِهِ الْفَضَائِلَ الْعَظِيمَةَ، وَمِنْهَا الْبَسْطُ فِي الرِّزْقِ، فَيَكُونُ مَسْتُورَ الْحَالِ مَكْفِيًّا، لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ، وَبَارَكَ اللهُ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَفِي الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ، وَهُوَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَذَلِكَ أَحَبَّهُ أَهْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَاصِلِينَ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ.
*صِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبٌ فِي سَعَادَةِ الْمُجْتَمَعِ وَتَمَاسُكِ بُنْيَانِهِ:
عِبَادَ اللهِ؛ بِصِلَةِ الرَّحِمِ تَصْلُحُ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَيَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ فِي النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ الْأَقَارِبُ بِالْجِوَارِ وَالْأَصْحَابُ، فَالْمُجْتَمَعُ لَا يَكُونُ سَعِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ التَّوَاصُلُ وَالتَّوَادُّ وَالتَّرَاحُمُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.
وَأَمَّا الْقَطِيعَةُ فَكُلُّهَا شَرٌّ، وَالِانْتِقَامُ لِلنَّفْسِ كَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى شَرٍّ كَبِيرٍ، وَالصَّبْرُ وَالتَّرَاضِي ثَمَرَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَعَوَاقِبُهُ حَمِيدَةٌ.
وَقَدْ قِيلَ: اصْبِرْ وَصَابِرْ تُدْرِكِ الْمَكَارِمَ.
((تَقَرَّبُوا إِلَى اللهِ وَافْرَحُوا فِي عِيدِكُمْ))
هَذَا هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ -عِبَادَ اللهِ- يَنْحَرُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْأَضَاحِيَ وَالْهَدَايَا، وَهَذَا هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَعْمَالِ الْحَجِّ تَقَعُ فِيهِ؛ تُرْمَى فِيهِ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، وَيُنْحَرُ فِيهِ الْهَدْيُ، وَتُحْلَقً فِيهِ أَوْ تُقَصَّرُ الرُّؤُوسُ، وَفِيهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالسَّعْيِ.
فَتَقَعُ مُعْظَمُ أَعْمَالِ الْحَجِّ فِي هَذَا الْيَوْمِ -فِي يَوْمِ النَّحْرِ-، فَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، ضَحُّوا -عِبَادَ اللهِ- وَاسْتَسْمِنُوا، وَوَفِّرُوا الشُّرُوطَ فِي أُضْحَيَّاتِكُمْ حَتَّى تُقْبَلَ مِنْكُمْ؛ زَمَانًا وَهَيْئَةً وَعُمْرًا.
تَصَدَّقُوا وَتَوَاصَلُوا، وَتَرَاحَمُوا، وَتَوَادُّوا، وَتَنَاصَرُوا، وَتَحَابُّوا، هَذَا عِيدُكُمْ -عباد الله-، لَقَدْ قَالَ نَبِيِّكُمْ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلَيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ)).
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لِلْمُسْلِمِينَ لِيُبَيِّنُوا لِلْأُمَّةِ حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا أَنَّ نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَعْيَادِ؛ إِنَّمَا هِيَ فِي التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَدَائِهِمْ لِطَاعَاتِ كَثِيرَةٍ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
النَّبِيُّ ﷺ أَخْرَجَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((يَوْمُ الْفِطْرِ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلِ الْإِسْلَامِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ- -وَهِيَ صَحِيحَةٌ أَيْضًا- قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ بَعْدَمَا ذَكَرَ السَّنَدَ إِلَيْهِ ﷺ: ((يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلِ الْإِسْلَامِ)).
فَهَذِهِ الْأَيَّامُ أَيَّامُ أَعْيَادٍ ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ وَحَدَّدَهَا، وَبَيَّنَ نِعْمَةَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا، وَلَكِنَّكَ تَلْحَظُ مَلْحَظًا دَقِيقًا فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ)).
فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ؛ جَعَلَهُ مُقْدِّمَةً وَتَوْطِئَةً لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ وَهُوَ ذِكْرُ اللهِ، فَكَأَنَّهُ يُومِئُ ﷺ وَيُرْشِدُ إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمَغْفُولِ عَنِ الطَّاعَةِ للهِ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُتَقَوَّى بِذَلِكَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ.
((نِدَاءٌ إِلَى أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ: صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَتَحَابُّوا))
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِتَمَاسُكِ الصُّفُوفِ...
الرَّسُولُ ﷺ يُحَرِّمُ التَّدَابُرَ، وَيُحَرِّمُ التَّقَاطُعَ، وَيُحَرِّمُ التَّشَاجُرَ...
النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ...
وَيَأْمُرُنَا النَّبِيُّ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ الْأَمَسِّ الْأَقْرَبِ، فَيَأْمُرُ النَّبِيُّ ﷺ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَيَنْهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْعُقُوقِ.
النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا عِظَمَ حَقِّ الْأُمِّ عَلَى الْعَبْدِ...
عِبَادَ اللهِ! كَمْ مِنْ أُمُورٍ مُحَرَّمَةٍ نَتَوَرَّطُ فِيهَا تَوَرُّطًا وَنَقْتَحِمُهَا اقْتِحَامًا، ثُمَّ نَرْفَعُ الْأَيْدِي إِلَى السَّمَاءِ طَالِبِينَ النَّصْرَ مِنَ اللهِ، وَأَيْدِينَا مُلَوَّثَةٌ بِمَعَاصِي اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!!
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّصْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا مَعَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الَّتِي لَا تَشُوبُهَا شَائِبَةٌ، إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ قَضَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]، فَمَنْ نَصَرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ نَصَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَنَصْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ.
أَمَّا إِذَا مَا خَذَلْنَا دِينَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَانَدْنَا سُنَّةَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَشَاقَقْنَا رَسُولَهُ الْأَمِينَ، ثُمَّ طَلَبْنَا النَّصْرَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحِيلُ بِعَيْنِهِ!! وَلَيُسَلِّطِنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لَا يَخَافُهُ وَلَا يَرْحَمْنَا حَتَّى نَعُودَ إِلَى دِينِنَا، فَعُودُوا إِلَى اللهِ عَوْدًا حَمِيدًا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ بِنَوَاصِيِكُمْ -وَهُوَ بِهَا آخِذٌ-، فَيُقِيمُكُمْ قَهْرًا عَلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ مَعَ مَا يَمَسُّكُمْ مِنَ النَّصَبِ وَالْعَنَاءِ.
عُودُوا إِلَى اللهِ عَوْدًا حَمِيدًا، تُوبُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَبِرُّوا آبَائَكُمْ، وَبِرُّوا أُمَّهَاتِكُمْ، وَدَعُوا الشِّجَارَ وَالْخِصَامَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِكُمْ، آتُوا أَصْحَابَ الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، وَرُدُّوا إِلَى مَنْ ظَلَمْتُمُوهُمْ مَا ظَلَمْتُمُوهُمْ إِيَّاهُ، تُوبُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَعُودُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنِيبُوا إِلَيْهِ.
عِنْدَئِذٍ وَعِنْدَ صِدْقِ النِّيَّةِ مَعَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ يُسَلِّطُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جُنْدَهُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَعِنْدَئِذٍ تَسْتَقِيمُ الْمَوَازِينُ فِي دُنْيَا اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، لَا يَخَافُونَ كَلَامَ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ أَفْعَالَ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ أَعْرَافَ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ مُوَاضَعَاتِ النَّاسِ، وَلَا يَخَافُونَ مَوَازِينَ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمِيزَانٍ، وَلَا قِيمَةَ لِعُرْفٍ، وَلَا قِيمَةَ لِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ يُحَادُّ مَنْهَجَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبَالِي وَلَا يَلْتَفِتْ إِلَّا إِلَى مَا أَثْبَتَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مِنْهَاجِهِ الْمُسْتَقِيمِ.
{وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}، يُيَمِّمُونَ صَوْبَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لَا يَلْتَفِتُونَ وَإِنَّمَا إِلَى أَمَامَ أَمَامَ، لَا يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، لَا يُعَوِّلُونَ عَلَى شَيْءٍ، أَقْدَامُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ ثَابِتَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ بِالْحَقِّ مَوْصُولَةٌ، وَأَلْسِنَتُهُمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ذَاكِرَةٌ، فَأَعْضَاؤُهُمْ وَجَوَارِحُهُمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَامِدَةٌ، وَحَيَاتُهُمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَصْرُوفَةٌ، وَأَمْوَالُهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُنْفَقَةٌ، وَأَرْوَاحُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِسَاقِ الْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَمَنُّونَ الشَّهَادَةَ مُصْبِحِينَ وَمُمْسِينَ، ((وَمَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بُلِّغَهَا وَلَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)) كَمَا قَالَ الْكَرِيمُ ﷺ.
تُوبُوا إِلَى اللهِ -عِبَادَ اللهِ- وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَارْجِعُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنِيبُوا إِلَيْهِ، عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَنْصُرَنَا نَصْرًا مُؤَزَّرًا، وَأَنْ يَكْبِتَ أَعْدَاءَنَا بِقُدْرَتِهِ وَحَوْلِهِ وَطَوْلِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.
اللهم خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ وَرُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا.
اللهم أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا.
اللهم ارْفَعِ الْخِصَامَ مِنْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
اللهم ارْفَعِ الْهِجْرَانَ مِنْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَاجْعَلْهُمْ أُخْوَةً مُتَحَابِّينَ.
اللهم ارْزُقْنَا بِرَّ وَالِدِينَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.
اللهم اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَصِلُونَ الْأَرْحَامَ، اللهم ارْزُقْنَا صِلَةَ الْأَرْحَامِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمعِين.
المصدر: صِلَةُ الرَّحِمِ وَأَثَرُهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ