((فَضَائِلُ عْشَرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَحْكَامُ الْأُضْحِيَّةِ، وَفِقْهُ الْمَقَاصِدِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((لَا تَظْلِمُوا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنْفُسَكُمْ))
فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [الحج: 36] أَيْ :بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَاقْتِرَافِ الذُّنُوبِ.
قَالَ قَتَادَةُ: ((اِعْلَمُوا أَنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً، وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ)).
وَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا، وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَمِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَمِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ, وَمِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالْأَشهُرَ الْحُرَمَ، وَمِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللهُ؛ فَإِنَّمَا تُعَظَّمُ الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللهُ تَعَالَى عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَالْعَقْلِ)).
وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ.
وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى بَقَاءِ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَى نِهَايَةِ الزَّمَانِ، أَكَّدَ ذَلِكَ ﷺ فِي آخِرِ عُمُرِهِ- كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اِسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)).
فَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى إِبْطَالِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَبْدِيلِ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ مَكَانَ صَفَرَ؛ لِئَلَّا يَتَوَالَى عَلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِدُونِ قِتَالٍ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ ﷺ: ((ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ))، وَأَمَّا إِضَافَةُ رَجَبٍ إِلَى قَبِيلَةِ مُضَرَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُحَافِظُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَشَدَّ مِنْ مُحَافَظَةِ سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ.
((فَضْلُ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي الْقُرْآنِ))
لَقَدْ أَوْمَأَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ, وَدَلَّتِ السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ عَلَى ثَوَابِ الْعَمَلِ فِي الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر1-2].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ-رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ: الْمُرَادُ بِهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ)).
كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ لَا يُقْسِمُ إِلَّا بِمُعَظَّمٍ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ هَذِهِ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج 28].
قَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي بَابِ: فَضْلِ الْعَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ كِتَابِ الْعِيدَيْنِ: ((قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} أَيْ: فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ؛ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا)).
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: ((الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ: هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ -أَيْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلمَاءِ)).
قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة 203].
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((تَسْمِيَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَعْدُودَاتٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ -يَعْنِي بَيْنَ الْعُلَمَاءِ-؛ لِقَوْلِهِ -جَلَّ ذِكْرُهُ-: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ})).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142].
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَوْمُ النَّحْرِ هُوَ آخِرُ الْأَرْبَعِينَ)).
وَقَالَ أَيْضًا: ((وعَشْرُ ذِي الحِجَّةِ اِسْمٌ لِمَجْمُوعِ اللَّيَالِي وَأَيَّامِهَا، فَإِنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مِن عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَلهَذا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ اْلأَيَّامِ الْعَشْرِ))، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وَيَوْمُ النَّحْرِ دَاخِلٌ فِيهَا)).
والعملُ الصالحُ في أيامِ العَشْرِ أَزْكَى أَجْرًا وأَعْظَمُ ثَوَابًا، وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ تعَالى مِنَ الْعَمَلِ فِي سَائِرِ الْعَامِ، وَالْكُلُّ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
((فَضْلُ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي السُّنَّةِ))
أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ (ض) أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: ((أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ)). وَأَخْرَجَ الْحَدِيثَ ابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ أَيَّامَ الْعَشْرِ هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ.
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ-)).
قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!
قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ؛ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي ((اللَّطَائِفِ)): ((وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مُضَاعَفَةِ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْعَشْرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَكِنْ هَلْ يُضَاعَفُ عَدَدُ الْأَجْرِ أَمْ صِفْتُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ؟
الْأَظْهَرُ هُوَ الثَّانِي، وَأَنَّ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ أَزْكَى وَأَعْظَمُ فِيهَا مِنْ عَدَدِهِ فِي غَيْرِهَا؛ وَلِهَذا قَالَ: ((أَحَبُّ إِلَى اللهِ))، وَفِي لَفْظِ الدَّارِمِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ اْلأَضْحَى)).
فَهَلْ تَتَضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ فِي هَؤُلَاءِ الْعَشْرِ كَمَا يَتضَاعَفُ أَجْرُ الْحَسَنَاتِ؟
لَا شَكَّ أَنَّ السَّيِّئَةَ تَعْظُمُ بِحُرْمَةِ الزَّمَانِ؛ كَشَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَذَا بِحُرْمَةِ الْمَكَانِ؛ كَحَرَمِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي نَظِيرِ هَذَا مَا نَصُّهُ: ((ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَكُونُ فِي الْكَيْفِيَّةِ لَا فِي الْعَدَدِ؛ لِقَولِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام-160].
وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ يَخُصُّ الْحَرَمَ الْمَكِّيَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ مَا يَحْسُنُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ)).
فَالسَّيِّئَاتُ تَعْظُمُ بِحُرْمَةِ الزَّمَانِ، وَتَعْظُمُ بِحُرْمَةِ الْمَكَانِ، يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ لَا عَلَى حَسَبِ الْعَدَدِ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ -أَيْضًا- ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (ض)؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأَعْمَالُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَفْضَلَ فِي مِيزَانِ الشَّرِيعَةِ مِنْ نَظَائِرِهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الزَّمَانَ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُفَضَّلٌ.
وَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فَاضَلَ بَيْنَ الْأَزْمَانِ؛ فَجَعَلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرَ اللَّيَالِي، وَجَعَلَ يَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّهُ مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ أَذَلَّ وَلَا أَدْحَرَ() مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَيَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يُبَاهِي بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: ((مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟))
وَلَكِنَّ الَّذِي إِلَيْهِ الْمَصِيرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْعَامِ، وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ عَلَى بَعْضٍ؛ فَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فَضْلًا وَأَجْرًا، وَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ بِأَلْفِ صَلَاةٍ.
فَفَاضَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ الْأَمَاكِنِ, وَفَاضَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ الْأَزْمَانِ، وَفَاضَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ؛ فَجِبْرِيلُ هُوَ مُقَدَّمُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الْأَمِينُ صَاحِبُ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ لَدُنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَفَاضَلَ اللهُ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ فَجَعَلَ أَشْرَفَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ؛ فَهُوَ خَيْرُ الرُّسُلِ وَأَفْضَلُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى بِهِمْ ﷺ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ؛ فَهُوَ ﷺ إِمَامُهُمْ وَمُقَدَّمُهُمْ، وَهُوَ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى ﷺ.
وَفَاضَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَجَعَلَ أَكْرَمَهُمْ عِنْدَهُ أَتْقَاهُمْ، وَمَيَّزَهُمْ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، وَالْإِنَابَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ لَدُنْهُ -سُبْحَانَهُ- بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ؛ فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ هُوَ أَشْرَفُ مَا أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْكُتُبِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَوْحَى بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَى نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ لِخَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
وَقَدْ فَاضَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ الْأُمَمِ؛ فَجَعَلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ آخِرَ الْأُمَمِ زَمَانًا، وَأَوَّلَهَا وَأَعْلَاهَا مَقَامًا.
فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ ((الْمُسْنَدِ)) وَغَيْرِهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ صَحِيحٌ-: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)).
فَلَوْ كَانَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ زَمَانًا وَوُجُودًا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَ النَّبِيَّ ﷺ.
فَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْعَشْرَ عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْعَامِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ)).
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ العَشْرِ))
قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ؟
قَالَ: ((وَلا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)).
قَالَ السَّامِعُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: وَلَوْ كَانَ هَذَا الْعَمَلُ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ مُفوِّتًا الْحَجَّ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْجِهَادِ فِي غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَفُوتُ الْحَجُّ؟
قَالَ: نَعَم، الْجِهَادُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْجِهَادِ فِي غَيْرِهَا، وَإِنْ فَوَّتَ الْحَجَّ, لَكِنَّ رَجُلًا خَرَجَ فِي غَيْرِهَا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاسْتُشْهِدَ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَنِيمَةٍ، فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي الْمُقَارَنَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الرَّجُلِ قَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ, لَا يَقْدِرُ عَلَى ثَوَابِهِ إِلَّا هُوَ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.
وَقَولُهُ ﷺ: ((مَا الْعَمَلُ)): الْمُرَادُ بِالْعَمَلِ مَا يَشْمَلُ أَنْوَاعَ الْعِبَادَاتِ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالذِّكْرِ، وَالتَّفَكُّرِ، وَغَيْرِهَا.
((فِي أَيَّامٍ)): الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ أَصْلًا، وَالْمُرَادُ: فِي أَيِّ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ كُلِّهَا.
((مِنْهَا)) -كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي مَرَّتْ فِي ((الصَّحِيحِ))- بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إِلَى الْعَمَلِ؛ لِتَأْوِيلِهِ بِالْجَمْعِ أَيِ: الْأَعْمَالَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَصْدَرٌ يَصْدُقُ عَلَى الْمُفْرَدِ، وَيَصْدُقُ عَلَى الْجَمْعِ, وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَمْعُ.
أَوْ أنَّهُ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِ الْعَمَلِ بِالْقُرْبَةِ؛ أَيْ: مَا الْقُرْبَةُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا.
((فِي هَذِا الْعَشْرِ)): الْمُرَادُ الْعَشْرُ الْأَوَّلُ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
((إِلَّا رَجُلٌ)): الْمُرَادُ إِلَّا جِهَادُ رَجُلٍ.
((يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ)): أَيْ يُكَافِحُ ويُضَحِّي بِنَفْسِهِ، وَالجُملَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ خَرَجَ.
((فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ)): يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَإنْ رَجَعَ بِنَفْسِهِ.
أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ هُوَ، وَلَا مَالُهُ، وَاسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى.
وَهَذَا الْأَخِيرُ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ (شَيْئًا) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ الْعُمَومَ، وَلِأَنَّهُ الْمُوَافِقُ لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى بِلَفْظِ: ((إِلَّا مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُرِيقَ دَمُهُ))، وَبِلَفْظِ: ((إِلَّا مَنْ لَا يَرْجِعُ بِنَفْسِهِ وَلَا مَالِهِ))، وَبِلَفْظِ: ((إِِلَّا مَنْ عُفِّرَ وَجْهُهُ فِي التُّرَابِ)).
*سَبَبُ امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِأَفْضَلِيَّةِ الطَّاعَاتِ فِيهَا:
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ- السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِأَنَّ الطَّاعَاتِ فِيهَا أفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ فَقَالَ: ((هُوَ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَهِيَ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْحَجُّ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ, وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ)).
وَهَذِهِ الْأَفْضَلِيَّةُ ثَابِتَةٌ لِأَيَّامِ الْعَشْرِ وَلَيَالِيهَا، وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى ذِكْرِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ الْأَيَّامَ إِذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَتْ فِيهَا اللَّيَالِي تَبَعًا، وَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا فَقَالَ: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر 1-2].
وَإِنَّمَا قَالَ الصَّحَابَةُ الْمُسْتَمِعُونَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ: ((وَلَا الْجِهَادُ؟))؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ فِيهَا أَفْضَلَ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ فِي غَيْرِهَا لَا يُخِلُّ بِالْحَجِّ بِخِلَافِ الْجِهَادِ فِيهَا؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُخِلُّ بِالْحَجِّ، فَكَانَ الَّذِي يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ الْجِهَادَ فِي غَيْرِهَا أَفْضَلُ، فَبَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْجِهَادَ فِيهَا أَفْضَلُ أَيْضًا إِلَّا فِي الْحَالَةِ الَّتِي اسْتَثْنَاهَا، وَهِيَ جِهَادُ مَنْ خَرَجَ يُكَافِحُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ أَصْلًا.
وَيَبْقَى الِاسْتِفْسَارُ عَمَّنْ خَرَجَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَعَادَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ أَلَيْسَ عَمَلُهُ هَذَا فِيهَا أَفْضَلَ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا؟
وَالْجَوَابُ: نَعَمْ.
وَيَصِيرُ هَدَفُ الْحَدِيثِ: بَيَانَ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَأَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ سُؤَالِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((وَلَا الْجِهَادُ؟)) عَلَى أنَّهُمْ يَفْهَمُونَ أَنَّ الْجِهَادَ نَفْلًا أَفْضَلُ مِنْ أَيِّ نَفْلٍ, وَفَرْضًا أَفْضَلُ مِنْ أَيِّ فَرْضٍ, فَيَكُونُ مُرَادُ السَّائِلِ وَلَا الْجِهَادُ فِي غَيْرِهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ فِيهَا؟
وَيَكُونُ جَوَابُ الرَّسُولِ ﷺ: وَلَا الْجِهَادُ فِي غَيْرِهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ فِيهَا؛ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ فِي غَيْرِهَا يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ أيِّ قُرْبَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ فِيهَا.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ فِي الْوَقْتِ الْفَاضِلِ يَلْحَقُ بِالْعَمَلِ الْفَاضِلِ فِي غَيْرِهِ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ؛ لِمُضَاعَفَةِ ثَوَابِهِ وَأَجْرِهِ.
وَبَيَّنَ تَفْضِيلَ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ, كَمَا فُضِّلَتْ بَعْضُ الْأَمْكِنَةِ عَلَى بَعْضٍ.
وقَدِ اِسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ بَعضُهُمْ عَلَى فَضْلِ صِيَامِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتُشْكِلَ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَأُجِيبَ عَنِ الِاسْتِشْكَالِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ.
هَذَا الْفَضْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، قَوْلِيَّةً وَفِعْلِيَّةً.
فَنَوَافِلُ الْعَشْرِ أَعْظَمُ النَّوَافِلِ، وَفَرَائِضُ الْعَشْرِ أَفْضَلُ الْفَرَائِضِ، وَالْفَرَائِضُ فِي غَيْرِ الْعَشْرِ أَعْظَمُ مِنْ نَوَافِلِ الْعَشْرِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْفَرَائضَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ النَّوَافِلِ كَمَا أَفَادَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، فَصِيَامُ أَيَّامِ رَمَضَانَ أَعْظَمُ مِنْ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: ((أمَّا صِيَامُ رَمَضَانَ فَأَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ الْعَشْرِ بِلَا شَكٍّ، فَإِنَّ صَوْمَ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ النَّفْلِ بِلَا تَرَدُّدٍ)).
*هَلِ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ أَمِ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ؟
وَالْعُلَمَاءُ قَدْ وَقَعُوا فِي مَسْأَلَةِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لِوُقُوعِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِيهِنَّ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَنْ حَرَّرَ الْجَوَابَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ))، يَعْنِي لِمَقَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِيهِنَّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ اللَّبِيبُ هَذَا الْجَوَابَ -يَعْنِي كَلَامَ شَيْخِهِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ (رح2)-؛ وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَفِيهَا: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ.
وَأَمَّا لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ؛ فَهِيَ لَيَالِي الْإِحْيَاءِ، الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُحْيِيهَا كُلَّهَا، وَفِيهَا لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَمَنْ أَجَابَ بِغَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ؛ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ)).
وَفَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَيَّامَ إِذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَتْ فِيهَا اللَّيَالِي، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ))؛ فَأَطْلَقَ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَدَخَلَتِ اللَّيَالِي تَبَعًا.
وَمَوْطِنُ الْمُقَارَنَةِ: أَنَّ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ فِيهَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ -وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ- حَيْثُ يَتَرَوَّى الْحَجِيجُ قَبْلَ ذَهَابِهِمْ إِلَى مِنَى، أَوْ كَمَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا سُمِّيَ بِيَوْمِ التَّرْوِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ فِيهِ بِالْمَاءِ عَلَى ظُهُورِ الرَّوَايَا -جَمْعُ رَاوِيَةٍ، وَهِيَ النُّوقُ يُؤْتَى بِالْمَاءِ عَلَى ظُهُورِهَا مَحْمُولًا فِي الْقِرَبِ مِنَ الْآبَارِ، وَحَيْثُ هُوَ- فَكَانُوا يَتَزَوَّدُونَ بِالْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى مِنًى فِي هَذَا الْيَوْمِ.
وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَسُمِّيَ بـ(يَوْمِ التَّرْوِيَةِ)، وَيَذْهَبُ فِيهِ الْحَجِيجُ إِلَى مِنًى يُصَلُّونَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ قَصْرًا مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ، وَيُصَلُّونَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَصْرًا لِلْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ، ثُمَّ يَبِيتُونَ بِمِنًى، ثُمَّ إِذَا مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ -وَقَد صَلَّوُا الْفَجْرَ- تَوَجَّهُوا إِلَى عَرَفَاتٍ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ.
وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ فَضْلُهُ، كَبِيرٌ أَجْرُ مَنْ صَامَهُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ حَيْثُ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَأَخْرَجَهُ غَيْرُهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ: ((صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سَنَةً مَاضِيَةً، وَسَنَةً بَاقِيَةً))، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: ((يَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ مَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ، كَفَّرَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ عَنْهُ ذُنُوبَ سَنَةٍ مَضَتْ وَذُنُوبَ سَنَةٍ بَقِيَتْ)).
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ -كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ وَرَوَتْ ذَلِكَ عَنْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))-، قَالَ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ فِيهِ اللهُ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ)).
فَهَذَا هُوَ أَكْبَرُ مَوْسِمٍ يُعْتِقُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِيهِ أَهْلَ الطَّاعَةِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مَذْكُورُونَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَرَكُوا دِيَارَهُمْ، وَخَلَّفُوا أَهْلِيهِمْ وَأَحِبَّاءَهِمْ وَرَاءَهُمْ وَخَرَجُوا للهِ مُلَبِّينَ، وَتَجَمَّعُوا فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ يَدْعُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُخْلِصِينَ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَيَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟))
وَصِفَةُ الدُّنُوِّ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهَا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي تَلِيقُ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَيُعْتِقُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ مِنْ خَلْقِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ الْمُسْلِمِينَ الْمُنِيبِينَ الْمُخْبِتِينَ مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي أَيَّامِ الْعَامِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
فَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ: يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَفِيهَا: يَوْمُ عَرَفَةَ وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ جِدًّا، وَفِيهَا: يَوْمُ النَّحْرِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، وَفِيهِ يَنْحَرُ الْحَجِيجُ بَعْدَ أَنْ يَدْفَعُوا مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ إِلَى مِنًى بَعْدَ أَنْ تُسْفِرَ الشَّمْسُ يَظَلُّونَ فِي الدُّعَاءِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، حَتَّى إِذَا مَا دَنَا الْإِسْفَارُ جِدًّا دَفَعُوا إِلَى مِنًى؛ لِرَمْيِ الْجَمْرَةِ -جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى- وَعِنْدَهَا تَنْقَطِعُ التَّلْبِيَةُ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ أَعْمَالٌ لِلْحَجِّ هِيَ مُعْظَمُ مَا فِي الْحَجِّ مِنْ أَعْمَالٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَأَمَّا لَيَالِيهِ فَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَيَالِيَ عَشْرِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِيهِ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، -قَالَ-: وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، فَإِنَّ عَشْرَ رَمَضَانَ فُضِّلَ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِيهِ، وَهَذَا جَمِيعُ لَيَالِيهِ مُتَسَاوِيَةٌ لَهَا فِي الْقِيَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْأَيَّامُ إِذَا أُطْلِقَتْ دَخَلَتْ فِيهَا اللَّيَالِي تَبَعًا، وَكَذَلِكَ اللَّيَالِي تَدْخُلُ أَيَّامُهَا تَبَعًا.
وَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِلَيَالِيهِ فَقَالَ: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1, 2]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ لَيَالِيهِ، لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ لَيَالِيَهُ -وَلَا شَيْئًا مِنْهَا- يَعْدِلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ)).
فَالَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى الْأَيَّامِ، قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَمَّا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَفِيهَا لَيْلَةٌ لَا تُقَاوَمُ فِي فَضْلِهَا هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لِمَنْ قَامَهَا للهِ رَبِّ العَالَمِينَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، مُتَبَتِّلاً، مُنِيبًا، خَاشِعًا، وَقَدْ نَصَّ عَلَى فَضْلِهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3].
وَلِذَلِكَ وَقَعَ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الْعَشْرَيْنِ: الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالَّذِي فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ إِطْلَاقٌ لَا تَقْيِيدَ فِيهِ؛ فَدَخَلَتِ اللَّيَالِي فِي الْأَيَّامِ تَبَعًا.
عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى شَرَفِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَعَلَى فَضِيلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ - أَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ- فِيهَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ وَاعِيًا؛ لَاغْتَنَمَ دَقَائِقَهَا بَلْ ثَوَانِيَهَا، وَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ إِقْبَالًا عَلَى اللهِ، وَبِرًّا يَقْبَلُهُ اللهُ، وَإحْسَانًا إِلَى عِبَادِ اللهِ، وَتَصْفِيَةً لِلنَّفْسِ مِنْ أَدْرَانِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الصَّالِحُونَ إِلَى رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-.
((أَهَمِّيَّةُ اِغْتِنَامِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ))
*تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، وَالتَّطَهُّرُ مِنَ الشِّرْكِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كَثِيرٌ وَمُتَنَوِّعٌ، وَأَعْلَى ذَلِكَ وَأَجْلَاهُ أَنْ يُطَهِّرَ الْمَرْءُ اعْتِقَادَهُ للهِ مِنْ دَرَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ، وَأَنْ يُحَصِّلَ التَّوْحِيدَ الْحَقَّ مُقْبِلًا عَلَى اللهِ بِالْإِخْلَاصِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَسَّسَ الْمِلَّةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَلَا يَصِحُّ عَمَلٌ وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يَكُنْ مُؤَسَّسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ لِتَوْحِيدِهِ بِعِبَادَتِهِ، وَصَرْفِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَأَعْظَمُ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ إِذْ هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَأَفْضَلُ ذَلِكَ:
أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْتَهِدُ فِي تَحْرِيرِ اِعْتِقَادِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعَلُّمِ التَّوْحِيدِ- يُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيُحَصِّلُهُ- وَفِي مَعْرِفَةِ الشِّرْكِ؛ لِيَبْتَعِدَ عَنْهُ، وَلِيَجْتَنِبَهُ، وَلِيُحَذِّرَ وَيُنَفِّرَ مِنْهُ.
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ تَوْحِيدٍ؛ فَهَذَا بَانٍ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ!
وَهَذَا كَالَّذِي يُقِيمُ بِنَاءَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ أَوْ كَالَّذِي يَبْنِي لَا عَلَى مُتَحَرِّكِ الرِّمَالِ بَلْ إِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْمَاءِ!!
وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ عَمَلِهِ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ صَالِحًا مُتَقَبَّلًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا إِذَا تَوَفَّرَ فِيهِ الشَّرْطَانِ:
أَنْ يَكُونَ خَالِصًا مَبْنِيًّا عَلَى التَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، بَرِيئًا مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الرِّيَاءِ، وَمِنَ السُّمْعَةِ، وَمِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ مُتَّبِعًا فِيهِ لِنَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّرَ هَذَا بَدْءًا؛ لِكَيْ يَبْنِيَ عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَنَى عَلَى غَيْرِ هَذَا الْأَسَاسِ؛ فَلَا قِيمَةَ لِعَمَلِهِ بِالْمَرَّةِ، بَلْ إِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ مُؤَاخَذًا بِهِ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا خَلَقَنَا؛ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَتَوْحِيدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَالْمِلَّةُ مُؤَسَّسَةٌ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.
أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ: ((أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).
فَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَقُومُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْاتِّبَاعِ.
فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ، ثُمَّ فَلْيَبْنِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَا شَاءَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ عَلَى قَانُونِ مُحَمَّدٍ ﷺ مُتَّبِعًا فِيهِ هَدْيَ نَبِيِّهِﷺ، غَيْرَ مُبْتَدِعٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ، وَإِنَّمَا يَسِيرُ خَلْفَ الرَّسُولِ ﷺ يَقْتَفِي أَثَرَهُ.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ خَالَطَهُ الرِّيَاءُ، وَدَاخَلَتْهُ السُّمْعَةُ!
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ صَالِحًا وَقَدْ مَازَجَتْهُ الْبِدْعَةُ!
*مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْعَشْرِ الْمُبَارَكَةِ:
عِبَادَ اللهِ! الْإِنْسَانُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَهِزَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، وَهِيَ هَذِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِﷺ-، وَهِيَ الْأَيَّامُ الَّتِي لَا يُضَارِعُهَا أَيَّامٌ فِي وُقُوعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا؛ فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ سَائِرِ أَيَّامِ الْعَامِ وَلَيَالِيهِ.
عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ حَيَاتُهُ الْبَاقِيَةُ {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ لِنَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى شَأْنِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُفَتِّشَ ضَمِيرَهُ، وَأَنْ يُرَاجِعَ قَلْبَهُ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي أَطْوَاءِ فُؤَادِهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي أَخْلَاقِهِ، وَأَنْ يَفْحَصَ فِي حَقِيقَةِ عَقِيدَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي أَصْلِ اتِّبَاعِهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي مَسِيرَةِ حَيَاتِهِ، وَأَنْ يَتَلَبَّثَ قَلِيلًا مُتَرَوِّيًا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْظُرَ مَا فَاتَ كَيْفَ فَاتَ؟
وَهَذِهِ السُّنُونَ الْمُتَطَاوِلَاتُ لَا يُحصِّلُ الْمَرْءُ مِنْهَا الْيَوْمَ إِلَّا خَيَالًا عَابِرًا، أَوْ طَيْفًا حَائِلًا، أَوْ بَرْقًا خُلَّبًا؛ فَقَدْ مَضَتْ، فَإِنْ قِسْتَ مَا بَقِيَ -وَهُوَ قَلِيلٌ- بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا مَضَى تَجِدْهُ قَلِيلًا، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((أَعْمَارُ أُمَّتِي بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ، وَقَلِيلٌ مَنْ يُجَاوِزُ)).
فَإِذَا تَأَمَّلَ الْمَرْءُ مَا مَضَى، وَقَدْ مَضَى بِمَا فِيهِ مِنْ لَذَّةٍ وَعَذَابٍ، وَسُرُورٍ وَاكْتِئَابٍ، مَرَّ بِمَا فِيهِ مِنْ مُعَانَاةٍ وَتَمَتُّعٍ، مَرَّ بِمَا فِيهِ مِمَّا يُؤْلِمُ الْقَلْبَ وَيُضْنِي الْفُؤَادَ، وَيَلْذَعُ الْكَبِدَ وَيَأْتِي بَالسُّهَادِ، مَرَّ هَذَا كُلُّهُ ثُمَّ صَارَ إِلَى مَاذَا؟!
إِلَى الْمُسَاءَلَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ الْحَفَظَةَ بِكِتَابَةِ كُلِّ شَيْءٍ، فَذَلِكَ مُقَيَّدٌ {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَقِفَ وَقْفَةً مُتَأَنِّيَةً، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي مَكْسَبِهِ مَا هُوَ؟ وَكَيْفَ هُوَ؟ أَمِنْ حَلَالٍ هُوَ يُحصِّلُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ هَذَا الْمَالَ أَمْ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ شُبْهَةٌ؟ لَا أَقُولُ: مِنْ طَرِيقٍ حَرَامٍ؛ فَهَذَا مَعْلُومٌ يَتَوَرَّعُ عَنْهُ مَنْ كَانَ للهِ مُتَّقِيًا، وَلِعَذَابِ النَّارِ مُتَّقِيًا، وَمِنْ لَهِيبِهَا خَائِفًا.
وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ نَاظِرًا: هَذَا الَّذِي أُحَصِّلُهُ مِنْ كَسْبِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، مَا فِيهِ؟
أَفِيهِ شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَرَامٍ؟!!
فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى مَطْعَمَهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى إِنْفَاقَ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ وَثَوَانِيهَا، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي أَطْوَائِهَا وَخَفَايَاهَا، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي دَوَافِعِهِ وَبَوَاعِثِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يُرَكِّزَ فِي قَلْبِهِ، وَضَمِيرِهِ، وَخَاطِرِهِ، وَنَفْسِهِ، حَقِيقَةً لَائِحَةً لَا يَعْشُ عَنْ سَنَاهَا إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللهُ عَلَى بَصِيرَتِهِ، وَلَا يَعْمَى عَنْ حَقِيقَتِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ خَائِبًا خَاسِرًا فَاشِلًا!!
هَذِهِ الْحَقِيقَةُ هِيَ أَنَّ أَغْمَضَ مَا تُعَالِجُهُ، وَأَصْعَبَ مَا تُزَاوِلُهُ، وَأَعْتَى وَأَعْنَفَ وَأَقْسَى مَا تُعَالِجُهُ فِي الْحَيَاةِ: نِيَّتُكَ، كَمَا قَالَ الصَّالِحُونَ: ((مَا عَالَجْتُ شَيْئًا هُوَ أَشَقُّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي)).
وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا مَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَتَلَبَّثُ حَتَّى يُحَرِّرَ النِّيَّةَ: يَسْأَلُ نَفْسَهُ، لِمَ تَذْهَبُ؟ كَمَا يَسْأَلُ نَفْسَهُ، لِمَ لَا تَذْهَبُ؟!!
وَيَسْأَلُ نَفْسَهُ لِمَ تَتَكَلَّمُ؟ كَمَا يَسْأَلُ نَفْسَهُ لِمَ لَا تَتَكَلَّمُ؟!!
وَيُفَتِّشُ فِي ضَمِيرِهِ، وَيُنَقِّبُ عَنْ حَقِيقَةِ دَوَافِعِهِ؛ لِأَنَّ الدَّوَافِعَ مُعَقَّدَةٌ، وَلِأَنَّ الْأَحْدَاثَ مُتَرَاكِبَةٌ، وَلِأَنَّ خُطَى الْحَيَاةِ مُتَسَارِعَةٌ، وَلِأَنَّ الْوَقَائِعَ فِي الْحَيَاةِ مُتَدَاخِلَةٌ مُتَشَابِكَةٌ، وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ –بَعْدُ- مُحَاسِبٌ كُلَّ أَحَدٍ عَلَى مَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ؛ عَلَى مَا قَدَّمَهُ أَمَامَهُ مِنْ عَمَلٍ، وَمَا أَخَّرَهُ وَرَاءَهُ مِمَّا يَتَّبِعُهُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ بِدْعَةٍ اِبْتَدَعَهَا، أَوْ أَصْلٍ مُنْحَرِفٍ أَصَّلَهُ، فَمَا تَزَالُ أَوْزَارُ الْقَوْمِ وَآثَامُهُمْ مُنْصَبَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ... مَا قَدَّمَ وَمَا أَخَّرَ.
فَهَذِهِ فُرْصَةٌ قَدْ لَا تَعُودُ، إِنْ مَضَتْ قَدْ لَا تَعُودُ، وَالْعَبْدُ دَائِمًا عَلَى وَجَلٍ مِنْ غَدِهِ، لَا يَدْرِي أَتُشْرِقُ عَلَيْهِ شَمْسُهُ أَمْ تَأْتِي وَهُوَ فِي ظَلَامِ رَمْسِهِ؟
((الصَّوْمُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ))
لَا شَكَّ أَنَّ الصِّيَامَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالرَّسُولُ ﷺ رَغَّبَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالصِّيَامُ مِنْ أَعْلَى الْعِبَادَاتِ، وَمِنْ أَجَلِّهَا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ))، وَبِمَعْنَى ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)).
لَا مِثْلَ لَهُ... لَا عِدْلَ له....
فَالصِّيَامُ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ يَجْزِي عَلَيْهِ بِلَا حِسَابٍ، وَيُؤْتِي رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الصَّائِمِينَ أُجُورَهُمْ مَوْفُورَةً لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا، وَلَا تُحْصَى عِدَّتُهَا، وَهُوَ ذُو الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَالصِّيَامُ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ -تَغْلِيبًا إِذَا وَرَدَ-؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ يَحْرُمُ صِيَامُهُ بِإِجْمَاعٍ؛ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ: أَضْحَى وَفِطْرًا، فَهَذَا لَا خِلَافَ عَلَيْهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ؛ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَالذِّكْرُ: تَهْلِيلًا وَتَحْمِيدًا وَتَسْبِيحًا وَتَكْبِيرًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ طَلَبُ الْعِلْمِ، وَبَثُّهُ وَإِذَاعَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصِّيَامُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْمَسَاكِينِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ، وَمَا أَشْبَهَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ فَيَدْخُلُ الصِّيَامُ.
*الْجَمْعُ بَيْنَ أَحَادِيثِ الصَّوْمِ، وَعَدَمِهِ في الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:
إِنَّ مُسْلِمًا -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أَخْرَجَ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ)).
فَأَخَبَرَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا رَأَتْهُ هِيَ، ((مَا رَأَيَتُ النَّبِيَّ))؛ فَالْمَنْفِيُّ رُؤْيَتُهَا: ((مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ أَوْ الْعَشْرَ قَطُّ)).
تَمَسَّكَ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: صِيَامُ الْعَشْرِ، وَهُوَ تَغْلِيبٌ كَمَا هُوَ فِي اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ بِهَا كِتَابَهُ، وَنَطَقَ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ بَيَانَهُ، وَهُوَ تَغْلِيبٌ لِلتِّسْعِ مُنَحَّاةً مَعَ إِظْهَارِ الْعَشْرِ، وَإِنَّمَا يَنْصَبُّ ذَلِكَ عَلَى التِّسْعِ؛ لِأَنَّ الْعَاشِرَ لَا يُصَامُ بِيَقِينٍ؛ فَمُحَرَّمٌ صِيَامُهُ إِجْمَاعًا.
فَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ عَنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهَا لَهُ صَائِمًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ التِّسْعِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَتَمَسَّكَ بَعْضُ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: صِيَامُ هَذِهِ الْأَيَّامِ مَكْرُوهٌ!!
أَهْلُ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي حَقَائِقِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُمْ يَجْمَعُونَ الْأَدِلَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَنْظُرُونَ فِيَها نَظَرَ الْمُحَقِّقِينَ.
فَعِنْدَ أَحْمَدَ-رَحِمَهُ اللهُ-، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ بِلَفْظٍ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ: عَنْ حَفْصَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَصُومُ الْعَشْرَ)).
وَوَقَعَ التَّعَارُضُ ظَاهِرًا.
وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَصُومُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ))، تَعْنِي: مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهَا فِي ذَاتِ الْمَوْضِعِ: ((أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ التِّسْعَ))، وَقَدْ صَحَّحَ الرِّوَايَتَيْنِ الشَّيْخُ نَاصِرٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وَغَيْرُهُ.
فَلَمَّا نَظَرَ الْأَئِمَّةُ لِهَذَا التَّعَارُضِ؛ كَانَتْ لَهُمْ مَسَالِكُ:
*مِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((إِنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَدْ وَرَدَ مُتَّصِلًا وَمُرْسَلًا)). فَكَأَنَّمَا طَعَنَ فِيهِ!
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ مِنَ الظُّرَفَاءِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ ضَعَّفَ حَدِيثًا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، يَعْنِي: أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ- أَخَذَ صَحِيحَ مُسْلِمٍ، فَنَظَرَ فِيهِ فَضَعَّفَ الْحَدِيثَ!!
هَلْ كَانَ هُنَالِكَ مُسْلِمٌ بِصَحِيحِهِ عِنْدَ أَحْمَدَ؟!
لَا بَأْسَ، هَذَا يَقَعُ بِلَا خِلَافٍ، وَمِنْهُ كَثِيرٌ!!
عَلَى كُلِّ حَالٍ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَمَّا نَظَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: ((إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِيهِ شَيْءٌ؛ فَقَدْ وَرَدَ مَوْصُولًا مَرْفُوعًا، وَوَرَدَ مُرْسَلًا))، وَلَكِنَّهُ ثَابِتٌ صَحِيحٌ، هُوَ ثَابِتٌ صَحِيحٌ.
وَمَسْلَكٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي هَذَا التَّعَارُضِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ: ((المُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
*الوَجْهُ الأَوَّلُ: ((مَا رَأيْتُهُ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ)).
*وَالثَّانِي: ((مَا رَأَيْتُهُ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ)).
فَعَلَى الوَجْهِ الأَوَّلِ: تَكُونُ نَفَتْ أنْ يَكُونَ صَامَ حَتَّى يَوْمَ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّهَا تَقُولُ: ((مَا رَأيْتُهُ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ))، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّفْظَ بِهَذَا الْمَعْنَى شَاذٌّ؛ لِأَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ قَدْ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ صِيَامِهِ، وَثَبَتَ الْحَثُّ عَلَى صِيَامِهِ.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ ((مَا رَأَيْتُهُ صَائِمًا الْعَشْرَ))، فَالْمَعْنَى مَا رَأَيْتُهُ صَائِمًا كُلَّ الْعَشْرِ، وَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ صَامَ شَيْئًا مِنْهَا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَشْرَ لَا يُسَنُّ صِيَامُهَا، بَلْ إِنْ صَحَّ أَنْ نَقُولَ: فِيهِ دَلِيلٌ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يُكَمِّلْ صِيَامَ الْعَشْرِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَإِنَّا لَا نَدْرِي لِمَاذَا لَمْ يَصُمِ الرَّسُولُ ﷺ، فَقَدْ يَكُونُ مَا صَامَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَثَلًا مَشْغُولًا بِالْوُفُودِ أَوْ بِأَشْيَاءَ أُخْرَى، أَوْ أَنَّهُ اِشْتَغَلَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْعَشْرِ بِكَذَا، وَفِي وَسَطِ الْعَشْرِ بِكَذَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَقَضَايَا الْأَعْيَانِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدْفَعَ بِهَا دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ الْوَاضِحَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي أَيِّ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّيَامَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، بَلْ هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي اخْتَصَّهُ اللهُ لِنَفْسِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ((الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) )).
*هُنَالِكَ مَسْلَكٌ آخَرُ، قَالُوا: إِنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَمَنْ عِنْدَهُ مَزِيدُ عِلْمٍ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَحَدِيثُ حَفْصَةَ، وَحَدِيثَا أُمِّ سَلَمَةَ فِيهِمَا مَزِيدُ عِلْمٍ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِنْ نَفْيِ عِلْمِهَا وَرُؤْيَتِهَا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ، فَلَعَلَّهَا لَمْ تَرَ ذَلِكَ مِنْه ﷺ لِعَارِضٍ عَرَضَ لَهُ؛ فَأَفْطَرَ، أَوْ لِسَفَرٍ كَانَ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَمْ ذَلِكَ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَلِذَلِكَ لَمَّا بَوَّبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، جَعَلُوهُ تَحْتَ فَضْلِ صِيَامِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَالُوا: تَحْتَ هَذَا الْعُنْوَانِ فِيمَا بَوَّبُوهُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ أَيَّامِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ)).
فَجَعَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا صَنَعَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- وَقَالَ: ((هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ اسْتِحْبَابًا شَدِيدًا)).
وَكَانَ لَاحِظًا، مُلَاحِظًا لِلْخِلَافِ، فَقَالَ: ((وَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا))، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هُنَالِكَ مَنْ يَقُولُ بِالْكَرَاهَةِ، وَهُوَ شَارِحٌ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِيهِ، وَفِي الْمَوْضِعِ نَفْسِهِ عِنْدَ شَرْحِهِ يَنُصُّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهَا، وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْكِبَارِ الْأَفْذَاذِ.
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ فِي شَرْحِهِ عَلَى ((الْبُخَارِيِّ)):
((هَذَا الْحَدِيثُ -حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ العَشْرِ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ))- هَذَا الْحَدِيثُ عَامٌّ فِي أَنَّ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مَحْبُوبَةٌ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ، وَقِرَاءَةٍ، وَذِكْرٍ، وَصِيَامٍ، وَغَيْرِهَا.
أَمَّا مَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّهَا مَا رَأَتِ النَّبِيَّ ﷺ صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ)) كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ؛ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَتْ: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ النَّسَائِيِّ)) وَ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)) وَغَيْرِهِمَا.
ثُمَّ سَاقَ الْعَلَّامَةُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، سَاقَ نَصِيحَةً لِطُلَّابِ الْعِلْمِ فَقَالَ: ((وَمِنَ الْآفَاتِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا بَعْضُ الطَّلَبةِ -طَلَبَةِ الْعِلْمِ- أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى الْأَحَادِيثِ دُونَ أَنْ يَجْمَعُوا أَطْرَافَهَا، وَدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرِيعَةِ، وَهَذَا نَقْصٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ، نَقْصٌ عَظِيمٌ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا تَكَلَّمَ لَيْسَ يَتَكلَّمُ إِلَّا عَنْ شَرِيعَةٍ –يَعْنِي: يَتَكَلَّمُ لِيَقُولَ هَذَا شَرْعُ اللهِ- وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَكُلُّ نَصٍّ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ دَالٌّ عَلَى شَرِيعَةٍ.
فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُلِمًّا بِجَمِيعِ النُّصُوصِ، وَمُلِمًّا بِالْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا لِكَذَا، وَهَذَا لِكَذَا، -قَالَ:- وَهَذَا الَّذِي قُلْتُهُ قَدْ كَرَّرْتُهُ مِرَارًا، قُلْتُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا حُكْمُ اللهِ أَوْ حُكْمُ رَسُولِهِ؛ أَنْ يَكُونَ مُلِمًّا بِجَمِيعِ أَطْرَافِ الْأَدِلَّةِ؛ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الْحُكْمِ الْمُوَافِقِ)).
وَقَالَ فِي شَرْحِ ((الرِّيَاضِ)): ((وَمِمَّا يُسَنُّ صِيَامُهُ أَيَّامُ الْعَشْرِ -عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْأُوَلِ-، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ))؛ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ.
وَقَوْلُهُ: ((الْعَمَلُ الصَّالِحُ)): يَشْمَلُ الصَّدَقَةَ، وَالصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالذِّكْرَ وَالتَّكْبِيرَ، وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَى الْخَلْقِ، وَحُسْنَ الْجِوَارِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ)).
فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كَلَامِهِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَرَّرَ السُّنِّيَّةَ، فَقَالَ: ((وَمِنَ السُّنَّةِ))؛ لِأَنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: إِنَّ الصِّيَامَ فِي الْعَشْرِ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ, وَيَذْهَبُونَ إِلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-!!
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، فَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا كَانَ يَدَعُ صِيَامَ التِّسْعِ -تَعْنِي الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ-، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى صِيَامِهَا إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ عَارِضٌ، وَهَذِهِ الْمُدَاوَمَةُ دَلِيلٌ عَلَى السُّنِّيَّةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَقْرِيرِ سُنِّيَّةِ الصِّيَامِ لِلْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
وَاللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَسْأَلُ أَنْ يَرْحَمَنَا بِرَحْمَتِهِ، وَأَنْ يَتَغَمَّدَنَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَأَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا صَالِحَ الْأَعْمَالِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مُخْتَصَرُ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَةِ))
وَالنَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَغْفُلُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الطَّيِّبِينَ, فَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ رَغَّبَ فِي الْأُضْحِيَةِ، وَحَثَّ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ، وَفِعْلِهِ، وَإِقْرَارِهِ ﷺ.
*حُكْمُ الْأُضْحِيَةِ:
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْأُضْحِيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَيْهِ مَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أَنَّ الْأُضْحِيَةَ –وَالْإِضْحِيَّةَ، وَكَذَلِكَ الضَّحِيَّةُ وَالْأَضْحَاتُ، فَفِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ- وَاجِبَةٌ عَلَى الْقَادِرِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا.
وَالصَّوَابُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا.
فَرَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهَا وَأَتَى بِهَا فِعْلًا، وَحَثَّ عَلَيْهَا قَوْلًا، وَأَقَرَّهَا إِقْرَارًا ﷺ، فَثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهَا بِالسُّنَّةِ بِجَمِيعِ صُوَرِهَا: قَوْلًا، وَفِعْلًا، وَإِقْرَارًا، وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
*إِذَا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ؛ فَلَا يَأْخُذُ الْمُضَحِّي مِنْ ظُفُرِهِ، وَلَا مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا:
وَحَضَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَمْرٍ يَغْفُلُ عَنْهُ النَّاسُ يَتَعَلَّقُ بَهَذِهِ الشَّعِيرَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32]، وَمِنْ شَعَائِرِ اللهِ الظَّاهِرَةِ، وَمِنْ سُنَنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي سَنَّهَا لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ سُنَّةً شَرْعِيَّةً فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- تُتَّبَعُ -وَهِيَ وَاجِبَةٌ- هَذِهِ الْأُضْحِيَةُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ كَمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((أَنَّهُ إِذَا أَهَلَّ هِلَالُ الْحِجَّةِ، وَكَانَ لِأَحَدِكُمْ ذِبْحٌ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ ظُفُرِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ)).
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا النَّهِيَ لِلتَّحِرِيمِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُضَحِّيًا؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْأَخْذَ إِذَا أَهَلَّ هِلَالُ الْحِجَّةِ وَدَخَلَ الشَّهْرُ، أَلَّا يَأْخُذَ مِنْ ظُفُرِهِ وَلَا مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا مَا دَامَ مُضَحِّيًا؛ حَتَّى يُضَحِّيَ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ نَهَى عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ.
وَإِذَا نَوَى الْأُضْحِيَّةَ فِي أَثْنَاءِ الْعَشْرِ أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ حِينِ نِيَّتِهِ؛ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ قَبْلَ النِّيَّةِ.
لَمْ يَنوِ أنْ يُضَحِّيَ وَقَدْ دَخَلَتِ الْعَشْرُ؛ فَأَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْ ظُفُرِهِ، ثُمَّ جَاءَتِ النِّيَّةُ بِالْأُضْحِيَّةِ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلْيُمْسِكْ مِنْذُ نَوَى.
وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا النَّهْيِ: أَنَّ الْمُضَحِّيَ لَمَّا شَارَكَ الْحَاجَّ فِي بَعْضِ أَعْمَالِ النُّسُكِ؛ وَهُوَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِذَبْحِ الْقُرْبَانِ, شَارَكَهُ فِي بَعْضِ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَنِ الشَّعْرِ، وَنَحْوِهِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِمَنْ يُضَحِّي، أَمَّا مَنْ يُضَحَّى عَنْهُ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ هَذَا الْحُكْمُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ))، وَلَمْ يَقُلْ: أَوْ يُضَحَّى عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُضَحِّي عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارَكَةِ الْمَادِيَّةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَى السُّبُعِ، فَالْبَدَنَةُ لِسَبْعَةٍ وَكَذَلِكَ الْبَقَرَةُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ زَادَ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ.
وَلَكِنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي الْأَجْرِ لَيْسَتْ كَالْمُشَارَكَةِ فِي النَّاحِيَةِ الْمَادِيَّةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي الْأَجْرِ يَدْخُلُ فِيهَا مَنْ لَا يُعَدُّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ عَنْ فُلَانٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ؛ دَخَلَ فِيهِمُ الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، دَخَلَ فِيهِمُ الْحَاضِرُونَ وَالْغَائِبُونَ، وَذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاللهُ تَعَالَى ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
فَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَجْرِ شَيْءٌ، وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْقِيمَةِ الْمَادِيَّةِ شَيْءٌ آخَرُ، وَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَلَّا يَخْلِطَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمُشَارَكَتَيْنِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((عَنْ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ))، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَأْمُرْهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْأَخْذِ مِنَ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ، وَإنَّمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ؛ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْأَخْذِ مِنَ الظُّفُرِ وَمِنَ الشَّعْرِ وَمِنْ بَشَرَةِ الْإِنْسَانِ؛ مِنْ جِلْدٍ زَائِدٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ إِلَّا إِذَا كَانَ بَقَاؤُهُ يَضُرُّ، أَوْ يَأْتِي بِمَزِيدِ أَلَمٍ فَإِنَّهُ يُزَالُ بِلَا حَرَجٍ.
النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إِنَّمَا يَخُصُّ الْمُضَحِّيَ لَا المُضَحَّى عَنْهُ، فَأَهْلُ الْبَيْتِ يَأْخُذُونَ مِنْ أَشْعَارِهِمْ, وَيَأْخُذُونَ مِنْ أَظْفَارِهِمْ وَمِنْ أَبْشَارِهِمْ، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فَيمَا هُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى الْمُضَحِّي.
((وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ)) وَلَمْ يَقُلْ: أَوْ يُضَحَّى عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُضَحِّيِ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ لِأَهْلِ الْمُضَحِّي أَنْ يَأْخُذُوا فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنَ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ وَالْبَشَرَةِ، وَإِذَا أَخَذَ مَنْ يُرِيدُ الْأُضْحِيَّةَ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ أَوْ ظُفُرِهِ أَوْ بَشْرَتِهِ، فَعَلَيهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَلَا يَعُودُ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ الْعَوَّامِّ.
فَإِذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا، أَوْ سَقَطَ الشَّعْرُ بِلَا قَصْدٍ؛ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اِحْتَاجَ إِلَى أَخْذِهِ فَلَهُ أَخْذُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ مِثْلُ أَنْ يَنْكَسِرَ ظُفُرُهُ فَيُؤْذِيهِ فَيَقُصُّهُ، أَوْ يَنْزِلَ الشَّعْرُ فِي عَيْنَيْهِ فَيُزِيلُهُ، أَوْ يَحْتَاجَ إِلَى قَصِّهِ لِمُدَاوَاةِ جُرْحٍ وَنَحْوِهِ.
النَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ الْمُسْلِمَ فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ مِنَ الْعَامِ فِي حَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ مُتَأَهِّبَةٍ كَالْمُحْرِمِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ فَمَنْ نَوَى أَنْ يُضَحِّيَ وَأَهَلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ -سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِرُؤْيَةٍ أَوْ بِإِكْمَالِ مَا كَانَ قَبْلَهُ- فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَبَدًا أَنْ يَأْخُذَ -كَالْمُحْرِمِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ- مِنْ شَعْرِهِ أَوْ مِنْ ظُفُرِهِ أَوْ مِنْ بَشَرَتِهِ، فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مُتَهَيِّئًا مُتَحَفِّزًا.
بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَلَى حَالٍ جُزْئِيَّةٍ -فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ- تَجْعَلُهُ مُتَأَهِّبًا مُتَحَفِّزًا بِمَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَاجُّ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ يُهِلُّ بِالْحَجِّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ -حِينَئِذٍ- يَكُونُ مُحْرِمًا مِنَ الْيَوْمِ الثَّامِنِ، ثُمَّ يَظَلُّ كَذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْعِيدِ، ثُمَّ يُحِلُّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَيَظَلُّ الْمُدَّةَ كُلَّهَا عَشْرَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَذْبَحَ لَا يَأْخُذُ مِنْ ظُفُرِهِ وَلَا مِنْ شَعْرِهِ وَلَا بَشَرِهِ شَيْئًا، وَإِنْ أَخَذَ فَقَدْ وَقَعَ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ، يَتُوبُ إِلَى اللهِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
*ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا:
قَالَ الْعَلَّامَةُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلُ النَّبِيِّ ﷺ وَعَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ؛ وَلِأَنَّ الذَّبْحَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ تَعَالَى، فَلَوْ عَدَلَ النَّاسُ عَنْهُ إِلَى الصَّدَقَةِ لَتَعَطَّلَتْ تِلْكَ الشَّعِيرَةُ.
وَلَوْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ بِثَمَنِ الْأُضْحِيَّةِ أَفْضْلَ مِنْ ذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ بَيَانَ الْخَيْرِ لِلْأُمَّةِ، بَلْ لَوْ كَانَتِ الصَّدَقَةُ مُسَاوِيَةً لِلْأُضْحِيَّةِ لَبَيَّنَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنْ عَنَاءِ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ﷺ لِيَدَعَ بَيَانَ الْأَسْهَلِ لِأُمَّتِهِ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِلْأَصْعَبِ، وَلَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فِي بَيْتِهِ شَيْءٌ».
فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ! نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي؟
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ فِي النَّاسِ جُهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الذَّبْحُ فِي مَوْضِعِهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهِ -قال-: وَلِهَذَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ بِأَضْعَافِ أَضْعَافِ الْقِيمَةِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ، وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ)).
*الْأُضْحِيَّةُ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ:
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْأَصْلُ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يُضَحُّونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَأَمَّا مَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنَ اخْتِصَاصِ الْأُضْحِيَّةِ بِالْأَمْوَاتِ فَلَا أَصْلَ لَهُ)).
بَلْ إِنَّهُ إِنْ ضَحَّى عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ؛ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَفَضْلُ اللهِ لَا حَدَّ لَهُ.
*وَقْتُ الْأُضْحِيَةِ:
وَالْأُضْحِيَةُ إِنَّمَا تَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْأَمْصَارِ عِنْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، أَوْ بِمُرُورِ زَمَنٍ يُوَازِي ذَلِكَ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا الْعِيدُ كَأَهْلِ الْبَوَادِي وَغَيْرِهِمْ.
فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَذْبَحُ قَبْلَ الْوَقْتِ إِنَّمَا قَدَّمَ لِأَهْلِهِ لَحْمًا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ.
وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ -لَمَّا انْصَرَفَ- مَنْ كَانَ قَدْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ يُعِيدَ غَيْرَهَا مَكَانَهَا، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الزَّمَنَ الَّذِي تَقَعُ فِيهَا هَذِهِ الشَّعِيرَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَبْدَأُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا مَا فَرَغَ قَدَّمَ أُضْحِيَتَهُ ﷺ، وَكَانَ يَأْتِي بِهَا مَذْبُوحَةً هُنَالِكَ عِنْدَ الْمُصَلَّى، وَيَبْدَأُ النَّاسُ فِي الذَّبْحِ بَعْدُ.
فَالْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَنْتَظِرَ إِلَى مَا بَعْدَ الْخُطْبَةِ إِلَى بَعْدِ ذَبْحِ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ ذَابِحًا مُضَحِّيًا عِنْدَ الْمُصَلَّى، ثُمَّ يُضَحِّي النَّاسُ بَعْدُ.
وَيَمْتَدُّ أَوَانُ الذَّبْحِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ –مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ الْعِيدِ- هُوَ الْحَادِي عَشَرَ، وَيَأْتِي بَعْدُ الثَّانِي عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ: الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، وَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ.
فَزَمَانُ النَّحْرِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، هِيَ: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِيدِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ رَابِعُ أَيَّامِ الْعِيدِ فِي عُرْفِ الْمُعَاصِرِينَ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
كَانَتْ تُذْبَحُ ضُحًى، وَهَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ، وَأَنْ يَقَعَ الذَّبْحُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ ضُحًى، وَمِنْهُ اشْتُقَّ اسْمُهَا؛ فَهِيَ الْأُضْحِيَّةُ وَهِيَ الْأُضْحَاتُ، وَالضَّحِيَّةُ وَالْإِضْحِيَّةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا اُشْتُقَّ مِنْ وَقْتِ الضُّحَى، وَأَدْنَى الْمُلَابَسَاتِ كَانَ الْعَرَبُ يَأْخُذُونَ مِنْهَا تَسْمِيَةً كَمَا سَمَّوُا الدَّفْعَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَمَا يَكُونُ هُنَالِكَ مِنَ الْجَمْعِ، سَمَّوْهَا (جَمْعًا)؛ لِأَنَّ الْحَجِيجَ عِنْدَمَا يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يَجْتَمِعُونَ هُنَالِكَ فِي الْمُزْدَلِفَةِ؛ فَسُمِّيَتْ (جَمْعًا)، وَهِيَ الْمُزْدَلِفَةُ وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ, فَإِذَنْ هَذِهِ تُذْبَحُ ضُحًى.
لَكِنْ لَوْ حَصَلَ لَهُ عُذْرٌ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِثْلَ أَنْ تَهْرُبَ الْأُضْحِيَّةُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ فَلَمْ يَجِدْهَا إِلَّا بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، أَوْ يُوَكِّلُ مَنْ يَذْبَحُهَا فَيَنْسَى الْوَكِيلُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ، فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ أَنْ يَذْبَحَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِلْعُذْرِ، وَقِيَاسًا عَلَى مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا إِذَا اسْتَيْقَظَ أَوْ ذَكَرَهَا.
وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْوَقْتِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَالذَّبْحُ فِي النَّهَارِ أَوْلَى، وَيَوْمُ الْعِيدِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ أَفْضَلُ، وَكُلُّ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِمَّا يَلِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ.
*شُرُوطُ الْأُضْحِيَّةِ:
وَشُرُوطُ الْأُضْحِيَّةِ سِتَّةٌ سِوَى الْإِخْلَاصِ؛ فَالْإِخْلَاصُ شَرْطٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ جِمِيعِهَا.
1*الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ, وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؛ ضَأْنُهَا وَمعْزُهَا؛ لِقَولِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34].
2*الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ الْأُضْحِيَّةُ السِّنَّ الْمَحْدُودَ شَرْعًا، بِأَنْ تَكُونَ جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ، أَوْ ثَنِيَّةً مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ (ض)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً -وَهِيَ الثَّنِيَّةُ فَمَا فَوْقَهَا- إِلَّا أَنْ تَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ».
وَالجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ: مَا تَمَّ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَالثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ: مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ.
وَالثَّنِيُّ مِنَ الْبَقَرِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ.
وَالثَّنِيُّ مِنَ الغَنَمِ: مَا تَمَّ لَهُ سَنَةٌ.
فَلَا تَصِحُّ الأُضْحِيَّةُ بِمَا دُونَ الثَّنِيِّ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالغَنَمِ، وَلَا بِمَا دُونَ الجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ.
3*الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْإِجْزَاءِ، وَهِيَ: الْعَوَرُ البَيِّنُ، وَالْمَرَضُ الْبَيِّنُ، وَالْعَرَجُ الْبَيِّنُ، وَالْهُزَالُ الْمُذِيبُ لِلْمُخِّ, وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الْعُيُوبِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
4*الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِلْمُضَحِّي، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ.
فَتَصِحُّ تَضْحِيَةُ وَلِيِّ الْيَتِيمِ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِذَا جَرَتِ العَادَةُ بِهِ, وَكَانَ يَنْكَسِرُ قَلْبُهُ بِعَدَمِ الْأُضْحِيَّةِ، وَتَصِحُّ تَضْحِيَةُ الْوَكِيلِ عَنْ مُوَكِّلِهِ بِإِذْنِهِ.
5*الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلَّا يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ, فَلَا تَصِحُّ التَّضْحِيَةُ بِالْمَرْهُونِ.
6*وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ تَقَعَ فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ شَرْعًا؛ وَهُوَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِيدِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ -وَهُوَ الْيَّوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ-.
فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعَيدِ، أَوْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ، لَمْ تَصِحَّ أُضْحِيَّتُهُ.
وَيَجُوزُ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ فِي الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ شَرْعًا؛ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ وَالذَّبْحُ نَهَارًا أَوْلَى، وَيَوْمَ الْعِيدِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ أَفْضَلُ، وَكُلُّ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِمَّا يَلِيهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ.
*وَالْأَفْضَلُ مِنَ الْأَضَاحِي مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ: الْإِبِلُ ثُمَّ الْبَقَرُ -إِنْ ضَحَّى بِهَا كَامِلَةً-، ثُمَّ الضَّأْنُ، ثُمَّ الْمَعْزُ، ثُمَّ سُبُعُ الْبَدَنَةِ، ثُمَّ سُبُعُ الْبَقَرَةِ.
*وَالْأَفْضَلُ مِنَ الْأَضَاحِي مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ: الْأَسْمَنُ، الْأَكْثَرُ لَحْمًا، الْأَكْمَلُ خِلْقَةً، الْأَحْسَنُ مَنْظَرًا.
فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَنَسٍ (ض) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ: ((كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ)).
الْكَبْشُ: الْعَظِيمُ مِنَ الضَّأْنِ.
الْأَمْلَحُ: مَا خَالَطَ بَيَاضَهُ سَوَادٌ، فَهُوَ أَبْيَضُ فِي سَوَادٍ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (ض) قَالَ: ((ضَحَّى النَّبِيُّ ﷺ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَحِيلٍ، يَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ)). أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).
وَالْفَحِيلُ: الْفَحْلُ.
وَمَعْنَى: ((يَأْكُلُ فِي سَوَادٍ... إِلَى آخِرِهِ)): أَنَّ شَعْرَ فَمِهِ وَعَيْنَيْهِ وَأَطْرَافِهِ أَسْوَدُ.
*الْمَكْرُوهُ مِنَ الْأَضَاحِي:
الْعَضْبَاءُ: وَهِيَ مَا قُطِعَ مِنْ أُذُنِهَا أَوْ قَرْنِهَا النِّصْفُ فَأَكْثَرُ.
الْمُقَابَلَةُ: وَهِيَ الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا عَرْضًا مِنَ الْأَمَامِ.
الْمُدَابَرَةُ: الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا عَرْضًا مِنَ الْخَلْفِ.
الشَّرْقَاءُ: الَّتِي شُقَّتْ أُذُنُهَا طُولًا.
الْخَرْقَاءُ: الَّتِي خُرِقَتْ أُذُنُهَا.
الْمُصْفَرَةُ: هِيَ الَّتِي قُطِعَتْ أُذُنُهَا حَتَّى ظَهَرَ صِمَاخُهَا، وَقِيلَ: الْمَهْزُولَةُ الَّتِي لَمْ تَصِلْ إِلَى حَدٍّ تَفْقِدُ فِيهِ مُخَّ عِظَامِهَا.
الْمُسْتَأْصَلَةُ: وَهِيَ الَّتِي ذَهَبَ قَرْنُهَا كُلُّهُ.
الْبَخْقَاءُ: وَهِيَ الَّتِي بُخِقَتْ عَيْنُهَا فَذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَقِيَتِ الْعَيْنُ بِحَالِهَا.
الْمُشَيَّعَةُ: وَهِيَ الَّتِي لَا تَتْبَعُ الْغَنَمَ؛ لِضَعْفِهَا إِلَّا بِمَنْ يُشَيِّعُهَا فَيَسُوقُهَا لِتَلْحَقَ. وَأَيْضًا الْمُشَيِّعَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَتَأَخَّرُ خَلْفَ الْغَنَمِ؛ لِضَعْفِهَا فَتَكُونُ كَالْمُشَيِّعَةِ لَهُنَّ.
فَهَذِهِ هِيَ الْمَكْرُوهَاتُ الَّتِي وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بَالنَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِمَا تَعَيَّبَ بِهَا، أَوْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِهَا.
وَيَلْحَقُ بِهَا:
*الْبَتْرَاءُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ، وَهِيَ الَّتِي قُطِعَ نِصْفُ ذَنَبِهَا فَأَكْثَرُ.
*وَكَذَلِكَ مَا قُطِعَ مِنْ إِلْيَتِهِ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ.
*وَكَذَلِكَ مَا سَقَطَ بَعْضُ أَسْنَانِهِ.
*وَمَا قُطِعَ شَيْءٌ مِنْ حَلَمَاتِ ثَدْيِهَا.
فَإِذَا ضَمَمْتَ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ إِلَى مَا مَرَّ؛ فَإِنَّ الْمَكْرُوهَاتِ تَصِيرُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ.
*عَمَّنْ تُجْزِئُ الْأُضْحِيَّةُ الْمُضَحَّى بِهَا؟
الْأُضْحِيَةُ الْوَاحِدَةُ تُجْزِئُ مِنَ الْغَنَمِ عَنِ الرَّجُلِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَمَنْ شَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا نَوَى ذَلِكَ، لَا أَنْ يَشْتَرِكُوا فِيهَا بِدَفْعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِثَمَنِهَا؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ)).
فَقَالَ لَهَا: ((يَا عَائِشَةُ! هَلُمِّي الْمُدْيَةَ -أَيْ أَعْطِينِي السِّكِّينَ-)). فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا، وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ -أَيْ أَخَذَ يَسْتَعِدُّ لِذَبْحِهِ-، ثُمَّ قَالَ: ((بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ (ض): ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، أَحَدِهِمَا عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَعَنْ أُمَّتِهِ جَمِيعًا)). رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ (ض) قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ)). رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
فَإِذَا ضَحَّى الرَّجُلُ بِالْوَاحِدَةِ مِنَ الْغَنَمِ -الضَّأْنِ أَوِ الْمَعْزِ- عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَجْزَأَ عَنْ كُلِّ مَنْ نَوَاهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ حَيٍّ وَمَيِّتٍ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَعُمُّ أَوْ يَخُصُّ؛ دَخَلَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّ مَنْ يَشْمَلُهُ هَذَا اللَّفْظُ عُرْفًا أَوْ لُغَةً، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ لِمَنْ يَعُولُهُمْ مِنَ الزَّوْجَاتِ، وَالْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ، وَفِي اللُّغَةِ: لِكُلِّ قَرِيبٍ لَهُ مِنْ ذُرِيَّتِهِ، وَذُرِيَّةِ أَبِيهِ، وَذُرِيَّةِ جَدِّهِ، وَذُرِيَّةِ جَدِّ أَبِيهِ.
وَيُجْزِئُ سُبُعُ الْبَعِيرِ، أَوْ سُبُعُ الْبَقَرَةِ عَمَّنْ تُجْزِئُ عَنْهُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْغَنَمِ، فَلَوْ ضَحَّى الرَّجُلُ فِي سُبُعِ بَعِيرٍ أَوْ سُبُعِ بَقَرَةٍ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ سُبُعَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ قَائِمًا مَقَامَ الشَّاةِ فِي الْهَدْيِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْأُضْحِيَةِ؛ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْهَدْيِ فِي هَذَا.
وَلَا تُجْزِئُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْغَنَمِ عَنْ شَخْصَيْنِ فَأَكْثَرَ، يَشْتَرِيَانِهَا فَيُضَحِّيَانِ بِهَا؛ لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
كَمَا لَا يُجْزِئُ أَنْ يَشْتَرِكَ ثَمَانِيَةٌ فَأَكْثَرُ فِي بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ لَا يَجُوزُ فِيهَا تَعَدِّي الْمَحْدُودِ كَمِيَّةً وَكَيْفِيَّةً، وَهَذَا فِي غَيْرِ الِاشْتِرَاكِ فِي الثَّوَابِ، فَقَدْ وَرَدَ التَّشْرِيكُ فِيهِ بِدُونِ حَصْرٍ، وَلَا حَرَجَ عَلَى فَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَفَرِّقْ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ فِي الثَّوَابِ، وَالِاشْتِرَاكِ فِي الثَّمَنِ، فَأَمَّا الِاشْتِرَاكُ فِي الثَّوَابِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ عَلَى فَضْلِ اللهِ، وَأَمَّا الِاشْتِرَاكُ فِي الثَّمَنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ فِي بَدَنَةٍ أَوْ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا وَرَدَتِ النُّصُوصُ.
*كَيْفِيَّةُ تَوْزِيعِ الْأُضْحِيَّةِ:
وَيُشْرَعُ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، وَأَنْ يُهْدِيَ، وَيَتَصَدَّقَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}.
فَالْقَانِعُ: السَّائِلُ الْمُتَذَلِّلُ، وَالْمُعْتَرُّ: الْمُتَعَرِّضُ لِلْعَطِيَّةِ بِدُونِ سُؤُالٍ، وَقِيلَ: عَكْسُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقَانِعَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَأَمَّا الْمُعْتَرُّ: فَإِنَّهُ الَّذِي يَعْتَرِضُ النَّاسَ بِالسُّؤَالٍ.
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ (ض) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَالْإِطْعَامُ يَشْمَلُ الْهَدِيَّةَ لِلْأَغْنِيَاءِ، وَالصَّدَقَةَ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- فِي مِقْدَارِ مَا يُؤْكَلُ، وَيُهْدَى وَيُتَصَدَّقُ بِهِ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ.
وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَأْكُلَ ثُلُثًا، وَيُهْدِيَ ثُلُثًا، وَيَتَصَدَّقَ بِثُلُثٍ ، وَمَا جَازَ أَكْلُهُ مِنْهَا جَازَ ادِّخَارُهُ، وَلَوْ بَقِيَ مُدَّةً طَوِيلَةً إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدٍّ يَضُرُّ أَكْلُهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَامَ مَجَاعَةٍ فَلَا يَجُوزُ الِادِّخَارُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمَّا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي عَهْدِهِ.
فَقَالَﷺ: ((مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ)).
فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي، فَقَالَ ﷺ: ((كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ فِي النَّاسِ جُهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ.
عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ فِي أَنْ تُقَدِّمَ قُرْبَانًا لِرَبِّكَ أَفْضَلَ مَا عِنْدَكَ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلَ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
وَمَهْمَا قَدَّمْتَ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ يُخْلِفُهُ.
وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لَمَّا ذُكِرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مِثْلِ هَذَا، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقِيقَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَا يَجِدُ مَا يَعُقُّ بِهِ عَنْ وَلَدِهِ، أَفَيَسْتَدِينُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُقَّ عَنْ وَلَدِهِ؟
قَالَ: نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ يُؤَدِّيَ اللهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
((فِقْهُ الْمَقَاصِدِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْجَلِيلَاتِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَالَ: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف : 110].
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أَيْ: ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا}: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللهِ, {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانِ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا للهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).
فَجَمَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شَرْطَيْ قَبُولِ الْعَمَلِ، وَهُمَا: الْإِخْلَاصُ، وَالْمُتَابَعَةُ.
فَأَمَّا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْإِخْلَاصُ -إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى--:
فَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّة كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْهَا:
فَمِنَ الْكِتَابِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة : 5].
وَمِنَ السُّنَّةِ: قولُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ, وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى, فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ, وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)). وَهَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ, فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ». وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي ((سُنَنِهِ)).
*وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ: تَجْرِيدُ مُتَابَعَةِ الْمَعْصُومِ ﷺ:
فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمُتَابَعَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر : 7].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء : 80].
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منه فَهُوَ رَدٌّ». يَعْنِي: فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، يَعْنِي: مَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ اللهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ.
*مَقَاصِدُ الْحَجِّ، وَالْأَضَاحِي، وَالْهَدَايَا وَجْهُ اللهِ، وَتَوْحِيدُهُ، وَذِكْرُهُ، وَتَقْوَى قُلُوبِكُمْ:
قَالَ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
وَأَدُّوا مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ بِهِمَا تَامَّيْنِ بِحُدُودِهِمَا، وَسُنَنِهِمَا لَوْجِهِ اللهِ.
وَعِنْدَ التَّلْبِيَةِ يَقُولُ الْمُسْلِمُ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ حَجًّا لَا رِيَاءَ فِيهِ، وَلَا سُمْعَةَ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]
وَقِفْ يَا إِبْرَاهِيمُ رَافِعًا صَوْتَكَ، مُنَادِيًا النَّاسَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ نِدَائِكَ، وَالَّذِينَ سَيَتَتَابَعُونَ أَجْيَالًا بَعْدَ أَجْيَالٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ؛ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ رَبَّكَ سَيُوصِلُ أَثَرَ نِدَائِكَ إِلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَرِّكُهَا إِلَى تَلْبِيَةِ النِّدَاءِ.
قِفْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا يَأْتِكَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُلَبِّينَ مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَيَأْتِكَ فَرِيقٌ آخِرُ مِنَ الْمُلَبِّينَ رُكْبَانًا عَلَى الْإِبِلِ الْمَهْزُولَةِ مِنْ بُعْدِ الشُّقَّةِ وَكَثْرَةِ السَّيْرِ، يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بَعِيدٍ إِلَى الْبَلَدِ الْحَرَامِ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]
لِيَشْهَدَ الْحُجَّاجُ مَنَافِعَ لَهُمْ كَثِيرَةً دِينِيَّةً وَدُنْيَوِيَّةً؛ مِنْ ثَوَابِ أَدَاءِ نُسُكِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ، وَوَحْدَةِ كَلِمَتِهِمْ، وَالتَّشَاوُرِ فِي أُمُورِهِمْ، وَتَكَسُّبِهِمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى مَا ذَبَحُوا مِمَّا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ؛ شُكْرًا للهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ.
فَكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا، وَأَطْعِمُوا الْبَائِسِينَ الَّذِينَ أَصَابَهُمْ بُؤْسٌ وَشِدَّةٌ، الْمَسْتُورِينَ الَّذِينَ لَا شَيْءَ لَهُمْ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلصَّدَقَاتِ.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
ثُمَّ لِيُزِيلُوا عَنْهُمْ أَدْرَانَهُمْ وَأَوْسَاخَهُمْ، وَيَخْرُجُوا عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ أَوِ الْقَصِّ، وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ وَالِاسْتِحْدَادِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ، وَلِيُوفُوا بِمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْهَدَايَا، وَلِيَطُوفُوا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ طَوَافَ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْإِفَاضَةُ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَلِأَنَّ اللهَ يُعْتِقُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ رِقَابَ الْمُذْنِبِينَ إِذَا أَتَوْا تَائِبِينَ مُسْتَغْفِرِينَ، كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْتَقَ الْبَيْتَ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُ} [الحج: 37].
لَنْ تُرْفَعَ إِلَى اللهِ لُحُومُ هَذِهِ الذَّبَائِحِ وَلَا دِمَاؤُهَا، فَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَعَنْ عِبَادَتِكُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ أَنْ تَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِذَبْحِهَا لِحَاجَتِهِ إِلَى لُحُومِهَا وَدِمَائِهَا، وَلَكِنْ تُرْفَعُ إِلَيْهِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
فَالْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ، وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ.
((نَصِيحَةٌ غَالِيَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ))
عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْأَخْذِ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا دَلَّنَا عَلَى فَضْلِهَا، وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِيهَا أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَهَذَا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا مَا دُونَ ذَلِكَ فَلَا عَمَلَ يَفْضُلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ.
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اسْتِغْلَالِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الطَّيِّبَةِ وَأَلَّا يُضَيِّعَهَا، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَلَّا يُضَيِّعَ عَلَيْهِمْ أَوْقَاتَهُمْ كَمَا يَفْعَلُ الْحِزْبِيُّونَ وَالطَّائِشُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ تَمَرَّسُوا عَلَى أَنْ يُحِيلُوا أَعْيَادَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَحْزَانٍ وَاقِعَةٍ، كَأَنَّهُمْ يَنْقِمُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْرَحُوا بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ.
وَهَذِهِ الْأَيَّامُ الطَّيِّبَةُ جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَوْسِمًا لِلْعِبَادَةِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْيَادَ الْمُسْلِمِينَ -أَعْيَادَهُمُ الْمَشْرُوعَةَ- جَعَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ كَمَا بَيَّنَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَيَّامَ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ)).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ أَنْ تُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ، لَا أَنْ تَنْزِعَ مِنْهُ السُّرُورَ الَّذِي يُسَرُّهُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفَّقَنَا اللهُ تَعَالَى، وَالْمُسْلِمِينَ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَحَمَانَا اللهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: فَضَائِلُ عْشَرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَحْكَامُ الْأُضْحِيَّةِ، وَفِقْهُ الْمَقَاصِدِ