((عَوَامِلُ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ وَعَوَامِلُ سُقُوطِهَا))
جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَعَنِ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً)) .
وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَوَاعِظُ بَلِيغَةً فِي أُسْلُوبِهَا، فَصِيحَةً فِي أَدَائِهَا؛ حَتَّى تَسْلُكَ إِلَى الْقُلُوبِ أَقْصَرَ طَرِيقٍ، وَحَتَّى تَسْتَقِرَّ فِي الْأَفْئِدَةِ، وَحَتَّى تُؤَثِّرَ فِي الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ أُوتِيَ النَّبِيُّ ﷺ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَكَانَ ﷺ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ الْقَلَائِلِ، وَلَوْ أَرَادَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَشْرَحُوا تِلْكَ الْكَلِمَاتِ لَاحْتَاجُوا إِلَى الْكَثِيرِ مِنَ الْمُجَلَّدَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) .
((عَوَامِلُ قُوَّةِ بِنَاءِ الدُّوَلِ فِي نَصَائِحَ جَامِعَةٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ ))
*تَقْوَى اللهِ مِنْ أَعْظَمِ عَوَامِلِ بِنَاءِ الدُّوَلِ:
فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ أَبْلَغَ النَّبِيُّ ﷺ مَا لَمْ يُبْلِغْ فِي غَيْرِهَا، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَشِيكِ الِانْتِقَالِ؛ لِذَا قَالَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ))، وَطَلَبُوا الْوَصِيَّةَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ.
((وَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ –أَيْ: سَالَتْ مَدَامِعُهَا-، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ –أَيْ: ضَاقَتْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ-)).
فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ: ((كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ))؛ لِأَنَّ الْمُوَدِّعَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ أَهْلَهُ وَمَنْ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ اسْتِقْرَارًا فِي النُّفُوسِ، وَحَتَّى يَكُونَ دَاعِيَةً إِلَى التَّنْفِيذِ.
((كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا)).
وَكَذَا شَأْنُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي تَحَرِّيهِمْ لِلْخَيْرِ، وَفِي بَحْثِهِمْ عَنِ الْعِلْمِ، لَا يَدَعُونَ مَجَالًا إِلَّا وَأَلْقَوْا أَسْمَاعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَفَتَحُوا أَعْيُنَ بَصَائِرِهِمْ؛ لَيَتَلَقَّوُا الْعِلْمَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَرْسَلَ النَّبِيَّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ وَالْحَقِّ.
وَالْهُدَى -عِبَادَ اللهِ- هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَهَذَا الدِّينُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
((أَوْصِنَا)).
فَقَالَﷺ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ)).
وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
فَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هِيَ النَّجَاةُ، وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، وَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هِيَ الْعَمَلُ بِالْمَأْمُورَاتِ، وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ.
فَالتَّقْوَى كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، مَنْ حَصَّلَهَا جَعَلَ لِنَفْسِهِ وِقَايَةً مِنَ النَّارِ.
وَقَوْلُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278]. أَيْ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَذَابِهِ وِقَايَةً وَجُنَّةً تَقِيكُمْ عَذَابَهُ وَسُوءَ عِقَابِهِ.
فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ))، وَعَلَيْكُمْ: اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا، الْزَمُوا تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَخُذُوا بِتَقْوَاهُ، وَلَا تَنْحَرِفُوا عَنْ سَبِيلِ تُقَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
((عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ)): فَضَبَطَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ بِأَوَامِرِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، يَرْجُو رِضْوَانَ اللهِ، وَاجْتَنَبَ مَنْهِيَّاتِ اللهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، يَخَافُ عَذَابَ اللهِ، كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ، وَصَارَ عَبْدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.
فضَبَطَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا عَلَاقَةٌ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
*السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلْحُكَّامِ، وَعَدَمُ إِثَارَةِ الْفَوْضَى مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ بِنَاءِ الدُّوَلِ:
ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْقَاعِدَةَ الَّتِي إِذَا مَا أَخَذَ بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ، عَاشَ فِي تَوَاؤُمٍ وَسَلَامٍ، وَبَعُدَ عَنْهُ شَبَحُ الْفَوْضَى وَالِانْقِسَامِ، وَمَتَى مَا خُولِفَتِ الْقَاعِدَةُ، دَبَّتِ الْفَوْضَى فِي أَرْجَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَسُلِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُزْهِقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَقُطِّعَتِ الطُّرُقُ، فَلَا جُمُعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ؛ مِنْ أَثَرِ هَذِهِ الْفَوْضَى الَّتِي تَعُمُّ الدِّيَارَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، -عَلَيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ- وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ)) .
فَأَمَرَ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِمَّنْ وَلَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، وَلَكِنْ طَاعَتُهُ فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)) .
وَإِذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِإِمَامٍ جَائِرٍ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى جَوْرِهِ هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَطَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ يُوجِبُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ.
فَيُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُصْبَرُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى ظُلْمِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
وَهَذَا الْحَقُّ لِلْإِمَامِ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺمِنْهَا:
- حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ؛ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ )). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) .
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ كَذَلِكَ: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! فَمَا تَأْمُرُنَا؟
قَالَﷺ: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّﷺ: ((أَثَرَةٌ)): هِيَ الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ عَمَّنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَتَعَلُّقٌ بِالْأَمْوَالِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)): أَيْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ؛ إِمَّا بِالتَّقْصِيرِ فِيهَا،وَإِمَّا بِإِحْدَاثِ الْبِدَعِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ : ((فِيهِ الْحَثُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا، فَيُعْطَى حَقُّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ وَلَا يُخْلَعُ، بَلْ يُتَضَرَّعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ أَذَاهُ، وَدَفْعِ شَرِّهِ وَإِصْلَاحِهِ)).
*وَنَهَى الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ عَنْ سَبِّ الْأُمَرَاءِ وَإِهَانَتِهِمْ:
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:((نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَلَا تَغُشُّوهُمْ، وَلَا تُبْغِضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٌ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((شُعَبِ الْإِيمَانِ))، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَوَّلَ نِفَاقِ الْمَرِء طَعْنُهُ عَلَى إِمَامِهِ )). أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((شُعَبِ الْإِيمَانِ))، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((التَّمْهِيدِ)) .
فَأَمَّا الْغَرْبِيُّونَ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَأَمَّا الْإِخْوَانُ الْمُسْلِمُونَ، وَالضُلَّالُ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ فَيَقُولُونَ: تُرِيدُونَ تَقْدِيسَ الْبَشَرِ، وَعِبَادَتَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؟!!
إِنَّمَا الرَّئِيسُ أَوِ الْإِمَامُ أَوْ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَوِ الْحَاكِمُ عِنْدَ -هَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ- مُوَظَّفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُحَاسَبَ، وَأَنْ يُرَاجَعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، فَلَيْسَ بِوَلِيِّ أَمْرٍ، وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْلِهِمْ وَلِيُّ أَمْرٍ، وَقَدْ غَابَ!!
هَذَا النَّهْيُ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَوَاتِ الْأُمَرَاءِ -النَّهِيُ عَنْ سَبِّهِمْ، عَنِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، عَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، عَنْ شَتْمِهِمْ، عَنْ إِهَانَتِهِمْ- النَّهِيُ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَوَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِعِظَمِ الْمَسْئُولِيَّةِ الَّتِي وُكِلَتْ إِلَيْهِمْ فِي الشَّرْعِ، وَالَّتِي لَا يُقَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مَعَ وُجُودِ سَبِّهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَّهُمْ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ طَاعَتِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَى إِيغَارِ صُدُورِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ، مِمَّا يَفْتَحُ مَجَالًا لِلْفَوْضَى الَّتِي لَا تَعُودُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا بِالشَّرِّ الْمُسْتَطِيرِ، كَمَا أَنَّ نَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتَهُ سَبُّهُمْ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ، وَتِلْكَ هِيَ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى.
قَالَ شَيْخُ الْإسْلَامِ-رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ طَائِفَةٌ خَرَجَتْ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ؛ إِلَّا وَكَانَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْفَسَادِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَزَالَتْهُ)).
وَقَدْ نَبَّهَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى خُطُورَةِ مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَقَالَ فِي ((إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ)) : «شَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ إِيجَابَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ؛ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ, فَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ -وَإِنْ كَانَ اللَّـهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ-، وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ فِتْنَةٍ وَشَرٍّ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرٍ، فَطُلِبَ إِزَالَتُهُ، فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.
كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ يَرَى بِمَكَّةَ أَكْبَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا، بَلْ لَمَّا فَتَحَ اللَّـهُ مَكَّةَ وَصَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَيْتِ، وَرَدِّهِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ -مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ- خَشْيَةُ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ؛ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ، وَكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ.
وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ».
فَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ لَا يَصْلُحُ، وَالنَّاسُ فِيهِ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ.
*مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ الدَّوْلَةِ التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
قَالَ ﷺ: ((فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ))، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ، وَمَا زَالَ وَاقِعًا فِي الْأُمَّةِ إِلَى الْيَوْمِ، ((فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي)): السُّنَّةُ هِيَ الْعَاصِمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، السُّنَّةُ كَمَا جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ، لَا كَمَا يَقُولُ بِهَا الْمُرْشِدُونَ وَالْأُمَرَاءُ، وَيَقُولُ بِهَا الدَّرَاوِيشُ!!
وَإِنَّمَا السُّنَّةُ الَّتِي هِيَ السُّنَّةُ عَنْ عُلَمَائِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-.
((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) .
كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ.
إِنَّ اللهَ جَعَلَ مَعِينَ الْحَيَاةِ فِي الْوَحْيِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأَنْفَال: 24].
وَأَعْظَمُ الْحَيَاتَيْنِ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَأَحْيَا النَّاسِ أَتْبَعُهُمْ لِلْوَحْيِ، وَهُوَ آمَنُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ، وَبِهَذَا يَدِقُّ فَهْمُكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ)). رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
فَالْوَحْيُ هُوَ رُوحُ الْعَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ, وَإِذَا خَلَا الْعَالَمُ مِنَ الرُّوحِ وَالنُّورِ وَالْحَيَاةِ؛ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ الْقُرآنَ يُرْفَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ, فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ آيَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ, وَحِينَئِذٍ -عِنْدَمَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ وَمَادَّةِ هَذَا الوُجُودِ الحَقِّ- فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقِيمُ السَّاعَةَ حِينَئِذٍ.
إِذَنْ، الْوَحْيُ هُوَ نُورُ الْعَالَمِ وَحَيَاتُهُ وَهِدَايَتُهُ, وَعَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِ الْإِنْسَانِ بِهَذَا النُّورِ وَالْحَيَاةِ وَالْهُدَى يَكُونُ تَحْقِيقُهُ لِلْقَصْدِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا لِغَايَةٍ, وَهَذِهِ الْغَايَةُ مُبَيَّنَةٌ فِي الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ, وَإِذَا مَا عَاشَ النَّاسُ بِهَذَا الوَحْيِ؛ سَعِدُوا فِي الْحَيَاةِ, وَتَجَنَّبُوا سُبُلَ الشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ, وَلَا حَيَاةَ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَّا بِأَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْوَحْيِ.
((التَّوْحِيدُ أَكْبَرُ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ وَعِزَّتِهَا وَنَصْرِهَا))
*وَمِنْ أَكْبَرِ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ: إِصْلَاحُ الْعَقِيدَةِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ فِي أَخْذٍ بِأَسْبَابِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ.
يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أُمُورَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ نَلْتَزِمَ بِالتَّوْحِيدِ فِي كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَلَّغَنَا عَنْ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فَضْلَ التَّوْحِيدِ، وَعَظِيمَ أَثَرِهِ فِي النَّفْسِ، وَفِي الْمَآلِ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ ﷺ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِخْوَانَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِهِ، بَعَثَهُمْ جَمِيعًا بِرِسَالَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِتَكُونَ الْعِبَادَةُ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَكُلُّهُمْ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وَالرَّسُولُ ﷺ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
لَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَاهَا، وَتَحْقِيقِهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِيهَا.
عِبَادَ اللهِ! بَالتَّوحِيدِ يُقْبَلُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمِنْ غَيْرِ التَّوْحِيدِ لَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ تَوْحِيدٍ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ}[المائِدَة: 36].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 56].
فَقَبُولُ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ، مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّوْحِيدِ.
التَّوْحِيدُ فِيهِ الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}: أَيْ بِشِرْكٍ {أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
بِالتَّوْحِيدِ تَكُونُ الْعِزَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَتَكُونُ عِزَّةُ الْمَرْءِ فِي الْآخِرَةِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 139].
فَالْعِزَّةُ، وَالنَّصْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً لَا يَتَحَقَّقَانِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلْعَزِيزِ المَجِيدِ.
إِنَّ التَّوْحِيدَ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ؛ لِيَكُونَ عَبْدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ رَبِّ الْعِبَادِ.
فَالتَّوْحِيدُ الْمُحَقَّقُ الصَّافِي يُحَرِّرُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ؛ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْآلِهَةِ الْمُدَّعَاةِ الْبَاطِلَةِ.
وَيَجْعَلُ التَّوْحِيدُ الْإِنْسَانَ شَاعِرًا بِعِزَّةٍ وَكَرَامَةٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَهُ، وَبَرَأَهُ، وَسَوَّاهُ.
يُحَرِّرُ عَقْلَهُ كَمَا حَرَّرَ قَلْبَهُ، يُحَرِّرُ عَقْلَهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ، مِنَ التُّرَّهَاتِ، مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ، حَتَّى لَا يَخَافَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَرْجُوَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَتَعَلَّقَ إِلَّا بِاللهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَأَفْضَالِهِ.
وَأَعْظَمُ ثَمَرَةٍ مِنْ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ: دُخُولُ الْجَنَّةِ، فَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مُوَحِّدٌ، حَرَّمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطَّلَاق: 11].
وَأَمَّا الْمُشْرِكُ؛ فَهُوَ مُوَزَّعُ الْقَلْبِ، مُقَلْقَلُ الْبَالِ، لَا يَهْدَأُ لَهُ ضَمِيرٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ يُحَرِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَيُوجِبُ لَهُ النَّارَ وَالدُّخُولَ فِيهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ فِي الْحَيَاةِ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُوَ أَضَلُّ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.
{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 48].
إِنَّ الشِّرْكَ يُطْفِئُ نُورَ الْفِطْرَةِ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التِّين: 4-6].
قَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ عَنَاصِرِ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [ص: 71-72].
وَالرُّوحُ لَا تَتَحَرَّرُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ مَا خُلِقَتْ لَهُ، وَجُعِلَتْ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ كَفَرَ وَأَشْرَكَ بِاللهِ غَيْرَهُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين: 5].
إِنَّ الشِّرْكَ مَهَانَةٌ لِلْإِنْسَانِيَّةِ، وَقَضَاءٌ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ، وَسَبَبٌ لِلذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ دُنْيَا وَآخِرَةً، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلَا عِزَّةَ لَهُ.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْحَقَّةُ إِلَّا إِذَا حَقَّقُوا الْغَرَضَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِذَا لَمْ يُحَقِّقُوهُ تَمَزَّقَتْ نُفُوسُهُمْ.
الشِّرْكُ يُمَزِّقُ وَحْدَةَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ.
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 163].
اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّهُ لَا يُلَوِّثُ النَّفْسَ، وَلَا يُفْسِدُ الْفِكْرَ، وَلَا يُضَيِّعُ الْعَقْلَ، وَلَا يُضَيِّعُ الدُّنْيَا، وَلَا يَهْدِمُ الدِّينَ إِلَّا الشِّرْكُ، فَكُونُوا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ.
وَالْمَصْلَحَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].
فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.
((الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ))
إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ للهِ، أَكْرَمُ مَقَامٍ يَقُومُهُ عَبْدٌ لِرَبِّهِ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَيْهِ، دَالًّا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَى صِرَاطِهِ، مُتَّبِعًا لِسَبِيلِ لِنَبِيِّهِ، مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، مُخْلِصًا فِيهِ، آتِيًا بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
هَذَا اسْتِفَهَامٌ الْغَرَضُ مِنْهُ النَّفْيُ، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}. لَا أَحَدَ.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}: مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ، لَا إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى مَنْهَجِهِ، وَلَا إِلَى طَرِيقَتِهِ، وَلَكِنْ إِلَى اللهِ.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}: فَالْتَزَمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: فَأَسْلَمَ الزِّمَامَ للهِ وَحْدَهُ بِالشَّرْعِ الْأَغَرِّ، بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَبْتَدِعُ، وَلَا يَتَزَيَّدُ، وَلَا يَجِدُ حَظَّ نَفْسِهِ، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ تَحْتَ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ مُخْلِصًا، إِلَى اللهِ خَالِصًا، للهِ وَحْدَهُ، فَلَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلًا، وَلَا أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ فِعْلًا، وَلَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ دَعْوَةً، الدَّاعِي إِلَى اللهِ.
وَكُلُّ مُكَلَّفٌ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
فَمَنْ اتَّبَعَ رَسُولَ اللهِ؛ دَعَا إِلَى اللهِ، وَأَتْبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ دُعَاةٌ إِلَى اللهِ، كُلٌّ بِحَسَبِهِ، عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، لَا يَتَزَيَّدُ، وَإِلَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَإِلَى غَيْرِ صِرَاطِهِ، وَإِلَى غَيْرِ دِينِهِ، قَائِلًا عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَعَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَفِي كُلِّ مَجَالٍ.
*الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَبَبُ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ وَقُوَّتِهَا وَعِزَّتِهَا:
قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
أَنْتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرُ أُمَّةٍ أُظْهِرَتْ لِلنَّاسِ، وَحُمِّلَتْ وَظِيفَةَ الْخُرُوجِ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ دِينَ اللهِ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ قَدْ عَلِمَهَا اللهُ فِيكُمْ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَكُمْْ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يَشْمَلُ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ.
وَسَبَبُ بَقَاءِ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ فِيكُمْ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةَ أَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تَأْمُرُونَ دَاخِلَ مُجْتَمَعِكُمُ الْمُسْلِمِ بِمَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَتَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قُبْحُهُ، فَتَحْمُونَ مُجْتَمَعَكُمْ بِهَذَا -أَيْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ- مِنْ الِانْحِرَافِ الْخَطِيرِ وَالِانْهِيَارِ إِلَى الْحَضِيضِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْْ.
وَأَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تُصَدِّقُونَ بِاللهِ، وَتُخْلِصُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ مَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْكُمُ النَّكَبَاتُ مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى، بُغْيَةَ إِخْرَاجِكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ.
*الدَّعْوَةُ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ سَبِيلُ النَّجَاةِ لِلْأُمَّةِ وَلِلْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا:
إِنَّ مَسْئُولِيَّةَ الْمُسْلِمِ عَظِيمَةٌ، وَمَعَكَ طَوْقُ النَّجَاةِ وَالنَّاسُ يَغْرَقُونَ تَحْتَ عَيْنِكَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا تَمُدُّ لَهُمْ يَدًا بِعَوْنٍ؟!!
دِينُ اللهِ يَسْتَنْقِذُ الْبَشَرِيَّةَ مِمَّا تَرَدَّتْ فِيهِ.
دِينُ اللهِ وَحْدَهُ يُنْقِذُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ مِمَّا بَلَغُوهُ مِنْ هَذَا الِانْحِطَاطِ الْهَابِطِ.
دِينُ اللهِ، عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ خَلْقَ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اللهِ؛ لِإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ دَمَارٍ تَبْدُو عَلَائِمُهُ، وَخَرَابٍ تَتَّضِحُ مَعَالِمُهُ.
((الْعَمَلِ بِأَمَانَةٍ وَاجْتِهَادٍ مِنْ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ))
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ، فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.
فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.
*حَثَّ اللهُ عَلَى الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
*حَثَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ عَلَى العَمَلِ وَطَلَبِ الرِّزْقِ -رِزْقَ اللهِ- بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ [الجمعة: ١٠]. يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُم رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]. اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا.
فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} [القصص: ٧٧].
الْمَعْنَى: اطْلُبْ فِي تَصَرُّفِكَ فِيمَا أَعْطَاكَ اللهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ، قَاصِدًا ثَوَابَ رَبِّكَ الَّذِي لَا يَنْفَدُ فِي الْجَنَّةِ بِأَنْ تَقُومَ بِشُكْرِ اللهِ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تُنْفِقَ الْمَالَ الَّذِي أَعْطَاكَ فِي رِضَاهُ، وَلَا تَفْهَمُ أَنَّنَا نَنَصْحُكَ أَنْ تَجْعَلَ كلَّ مَا آتَاكَ اللهُ مُوَجَّهًا لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، بَلْ نَقُولُ لَكَ أَيْضًا: لَا تَتْرُكُ حَظَّكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ لَكَ {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ}.
وَأَحْسِنْ إِلَى فُقَرَاءِ قَوْمِكَ وَمَسَاكِينِهِمْ وَذَوِي الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ فِيهِمْ بِمَالٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ بِنِعْمَتِهِ.
((الِاجْتِمَاعُ وَالْأُخُوَّةُ الصَّادِقَةُ مِنْ عَوَامِلِ بِنَاءِ الدُّوَلِ))
إِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بَيَّنَ لَنَا طَرِيقًا وَاحِدًا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْلُكُوهُ، وَهُوَ صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَمَنْهَجُ دِينِهِ الْقَوِيمِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} [الفاتحة: 6-7].
وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْهِمْ بَيَّنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
فَالَّذِينَ جَعَلُوا مَنْهَجَهُمْ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ، وَعَمِلُوا بِقَوْلِهِ ﷺ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ.
فَدِينُنَا دِينُ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَالتَّفَرُّقُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، فَتَعَدُّدُ الْجَمَاعَاتِ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَكُونَ جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».
وَيَقُولُ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كمَثَلِ الْجَسَدِ الواحد».
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُنْيَانَ وَأَنَّ الْجَسَدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُتَمَاسِكٌ، لَيْسَ فِيهِ تَفَرُّقٌ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ إِذَا تَفَرَّقَ سَقَطَ، كَذَلِكَ الْجِسْمُ إِذَا تَفَرَّقَ فَقَدَ الْحَيَاةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنْ نَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَسَاسُهَا التَّوْحِيدُ، وَمَنْهَجُهَا دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسَارُهَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ دَاعِيَةَ ائْتِلَافٍ، فَلَا تَخْتَلِفُوا، وَجَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ دَاعِيَةَ مَحَبَّةِ، فَلَا تَبَاغَضُوا.
((حُبُّ الْوَطَنِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ مِنْ عَوَامِلِ بِنَائِهِ))
عِبَادَ اللهِ، مَا دَامَتْ بِلَادُنَا إِسْلَامِيَّةً فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِاسْتِقْرَارِهَا, وَاكتْمِالِ أَمْنِهَا, وَيَجِبُ حِيَاطَتُهَا بالرِّعَايَةِ، وَالْحِفَاظِ وَالْبَذْلِ.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ))- : ((حُبُّ الْوَطَنِ إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).
الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يُسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.
قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ شَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- : ((إِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَطْ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ تَدْخُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَاتَّقِ اللهَ فِي عِبَادَةِ مَوْلَاكَ، لَا تُفَرِّطْ فِيهَا.
وَاتَّقِ اللهَ فِي إِخْوَانِكَ لَا تُؤْذِ أَحَدًا مِنْهُم، وَاتَّقِ اللهَ فِي بَلَدِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَلَا تُهْمِلْ فِي صِحَّتِكَ، وَلَا تَتَخَلَّقْ بِسِوَى الأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ)).
فَمَا دَامَ الْوَطَنُ إِسْلَامِيًّا فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ الْإِضْرَارُ بِهِ.
((الْعِلْمُ وَالْقُوَّةُ الْعَسْكَرِيَّةُ مِنْ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ))
إِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ خَيْرُ مَا بُذِلَتْ فِيهِ الْأَعْمَارُ وَأُلْحِقَ فِيهِ اللَّيْلُ بِالنَّهَارِ.
الْعِلْمُ أشْرَفُ مَطْلوبٍ وَطَالِبُهُ * * * للهِ أَكْـرَمُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ * * * أَهْـلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَّالُ فِي الظُّلَمِ
الْعِلْمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَا لَهُ اسْتَمَعَتْ * * * أُذْنٌ وَأَعْـرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ الْجَهْلَ وَالْجُهَّالَ سَبَبُ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
وَمَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعُلَمَاءَ سَبَبُ الْهِدَايَةِ وَالِاهْتِدَاءِ؛ لِذَا كَانَ مِنَ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الدَّفَاعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْكُتُبَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُدَافِعَ عَنِ الشَّرِيعَةِ، إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنِ الشَّرِيعَةِ حَامِلُهَا.
وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالْحُجَّةِ يُسَمَّى سَبِيلَ اللهِ؛ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَوْلَهُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، بِالْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُم الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، هَؤُلَاءِ بِأَيْدِيهِمْ -يَعْنِي: الْأُمَرَاءَ-، وَهَؤُلَاءِ بِأَلْسِنَتِهِمْ -يَعْنِي الْعُلَمَاءَ-.
ذَكَرَ ابنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((الْجَامِعِ)) عَنْ بَعْضِهِمْ فِي قَدْرِ الْعُلَمَاءِ وَقِيمَتِهِمْ: ((وَمِدَادُ مَا تَجْرِي بِهِ أَقْلَامُهُمْ أَزْكَى وَأَفْضْلُ مِنْ دَمِ الشُّهَدَاءِ *** يَا طَالِبِي عِلْمِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ مَا أَنْتُمْ وَسُوَاكُمْ بِسَوَاءٍ)).
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتِصَمَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ الطَّلَبِ عَلَى نَهْجِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي هَذَا النَّجَاةُ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا فِيهِ، فَإِنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ النَّجَاةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا مَعْدِنُ الْعِلْمِ وَأَصْلُهُ، فَمَهْمَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَتَنَكَّبْهُمَا وَاسْتَدْبَرْهُمَا وَجَعَلَهُمَا دَبْرَ أُذُنيْهِ وَخَلْفَ ظَهْرِهِ؛ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا.
فَمَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ حَقًّا وَصِدْقًا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي تَمُوجُ بِالْفِتَنِ مَوْجَ الْبَحْرِ، وَهِيَ تَتَلَاطَمُ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَقَد عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ؛ فَتَسَنَّمُوا كُلَّ ذِرْوَةٍ، وَعَلَوْا كُلَّ مِنْبَرٍ، وَصَارَ صَوْتُهُمْ عَالِيًا قَوِيًّا، وَإِنَّمَا هُمْ فِي النِّهَايَةِ غُثَاءٌ، مَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ وَالْحَالَ هَذِهِ؛ فَعَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
*الْقُوَّةُ الْعَسْكَرِيَّةُ مِنْ عَوَامِلِ بِنَاءِ الدُّوَلِ، وَالْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ مِثَالًا:
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
وَأَعِدُّوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِ الْكَافِرِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ لَكُمْ قُوَّةٌ فِي الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ.
وَأَعِدُّوا مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْخَيْلِ الْمَرْبُوطَةِ الْمُجَهَزَّةِ لِلْهُجُومِ وَالِانْقِضَاضِ عَلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ إِثْخَانِهِ وَتَدْمِيرِهِ بِقُوَّةِ الرَّمْيِ، تُخَوِّفُونَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْمُرْهِبَةِ وَذَلِكَ الرِّبَاطِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدَوَّكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَتُرْهِبُونَ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِ الْأَعْدَاءِ الظَّاهِرِينَ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، لَا تَظْهَرُ لَكُمْ عَدَاوَتُهُمُ الْآنَ، لَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُمْ.
وَإِعْدَادُ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ الْمَالِيِّ، فَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعَجَّلُ لَكُمْ عِوَضُهُ فِي الدُّنْيَا بَرَكَةً فِي رِزْقِكُمْ وَنَمَاءً فِي أَمْوَالِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُنْقِصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ))، وَالْإِمَامُ ابْنُ مَاجَهْ فِي ((سُنَنِهِ)) بِسَنَدِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النِّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا–يَعْنِي: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا-وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ،فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).
وَالْعُلَمَاءُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِشَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، ذَكَرَ أَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ، وَقُوَّةُ الرُّوحِ، وَعَزِيمَةُ النَّفْسِ، فَهِيَ الَّتِي تَدْفَعُ الْمَرْءَ فِي الْجِلَادِ عِنْدَ الْجِهَادِ لِأَنْ يَكُونَ سَابِقًا فِي مَوْطِنِ الْمَوْتِ، تَنُوشُهُ الرِّمَاحُ، وَتُمَزِّقُهُ السُّيُوفُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَلَكِنَّ جَمْهَرَةً غَالِبَةً مِنْ عُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- أَخَذُوا بِالْإِطْلَاقِ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)): قَوِيٌّ فِي بَدَنِهِ، قَوِيٌّ فِي إِيمَانِهِ، قَوِيٌّ فِي صِحَّتِهِ، قَوِيٌّ فِي يَقِينِهِ.
يَا أَهْلَ مِصْرَ:
يَا أَهْلَ مِصْرَ قَضَى الرَّحْمَنُ بِلُطْفِهِ *** وَأَرَادَ أَمْرًا بِالْبِلَادِ فَكَانَـا
إِنَّ الَّذِي أَمْرُ الْمَمَالِكِ كُلِّهَا بِيَدَيْهِ *** أَحْدَثَ فِي الْكِنَانَةِ شَانَــــا
أَبْقَى عَلَيْهَا أَمْنَهَا فِي بُرْهَةٍ *** تَرْمِي الْعُرُوشَ وَتَنْثُرُ التِّيجَانَـا
وَكَسَا الْبِلَادَ سَكِينَةً مِنْ أَهْلِهَا *** وَوَقَى مِنَ الْفِتَنِ الْعِبَادِ وَصَانَا
أَوَ مَا تَرَوْنَ الْأَرْضَ خُرِّبَ نِصْفُهَا *** وَدِيَارُ مْصْرٍ لَا تَزَالُ جِنَانًـــا؟!
يَرْعَى كَرَامَتَهَا وَيَمْنَعُ حَوْضَهَا *** جَيْشٌ يَعَافُ البَغْيَ وَالعُدْوَانَـــــا!
كَجُنُودِ عَمْروٍ أَيْنَمَا رَكَزُوا القَنَا *** عَفُّوا يَدًا وَمُهَنًّدا وَسِنَانًــــــــــــا
إِنَّ الشُّجَاعَ هُوَ الْجَبَانُ عَن الْأَذَى *** وَأَرَى الْجَرِيءَ عَلَى الشُّرُورِ جَبَانَــا
لَقَدْ أَبْقَى اللهُ لَنَا الجَيْشَ المِصْرِيَّ -في هذا العصر-، فَحَفِظَ اللهُ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهُ فِيمَا يَبْقَى، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
*عَلَى الْجَيشِ تَقْوَى الْبِلَادُ، وَبِالْعِلْمِ تَشْتَدُّ أَرْكَانُهَا:
أَرَى مِصْرَ يَلْهُو بِحَدِّ السِّلَاحِ *** وَيَلْعَبُ بِالنَّارِ وِلْدَانُهَا
وَرَاحَ بِغَيْرِ مَجَالِ الْعُقُولِ *** يُجِيلُ السِّيَاسَةَ غِلْمَانُهَا
وَمَا الْقَتْلُ تَحْيَا عَلَيْهِ الْبِلَادُ *** وَلَا هِمَّةُ الْقَوْلِ عُمْرْانُهَا
وَلَا الْحُكْمُ أَنْ تَنْقَضِي دَوْلَةٌ *** وَتُقْبِلَ أُخْرَى وَأَعْوَانُهَا
وَلَكِنْ عَلَى الْجَيشِ تَقْوَى الْبِلَادُ *** وَبِالْعِلْمِ تَشْتَدُّ أَرْكَانُهَا
((الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبَا قُوًّةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَنَصْرِهَا))
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ جِيلَ النَّصْرِ الَّذِي يُقِيمُ الشَّرِيعَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُحَقِّقَ أَسْبَابَ التَّمْكِينِ وَيُحَصِّلَ مُقَوِّمَاتِهِ.
الَّذِي يَتَأَمَّلُ فِي كِتَابِ رَبِّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ يَجِدُ أَنَّ سَبَبَ التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، إِنَّمَا هُوَ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ شَوْبِ الشِّرْكِ وَالِابْتِدَاعِ وَالْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِتَوْحِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِلْمَعْصُومِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الْمُتَابَعَةِ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا فَلَا تَمْكِينَ فِي الْأَرْضِ.
الْإِسْلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَأَلَّا نَعْبُدَهُ تَعَالَى إِلَّا بِمَا شَرَعَ، لَا نَعْبُدُهُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} [الجاثية: 18-19]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} [الشورى: 21].
فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ اللهُ عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ، لَا نَعْبُدُهُ تَعَالَى بِالْأُمُورِ الْمُبْتَدَعَةِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
إِلَهُكُمُ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ؛ أَيْ ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ؛ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا، وَهُوَ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَهَذَانِ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
مَتَى مَا حَقَّقَتِ الْأُمَّةُ رُكْنَيِ الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، وَأَتَتْ بِأَصْلَيْهِ مَكَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهَا، {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا، فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا.
وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.
وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمْ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهِدْ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ، بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.
فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».
حَتَّى وَقَفَ وَاقِفُهُمْ مِنْ مُجَاهِدِيهِمْ عَلَى فَرَسِهِ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ يُخَاطِبُ أَمْوَاجَهُ وَيُنَاجِي مَا هُنَالِكَ مِنْ مِيَاهِهِ، وَيَقُولُ: أَمَا وَاللهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ وَرَاءَكَ أَيُّهَا الْبَحْرُ قَوْمًا لَا يَعْبُدُونَ اللهَ؛ لَخُضْتُكَ عَلَى مَتْنِ فَرَسِي هَذَا، وَلَأُقَاتِلَنَّهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحَتَّى يَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
«هَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْعَجِيبَةِ الْبَاهِرَةِ، وَلَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ».
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُومُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؟!!
إِذَا كَانَ الَّذِي يَتَوَسَّلُونَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ الطَّالِحِ! وَمِمَّا لَا يُحِبُّهُ اللهُ وَلَا يَرْضَاهُ!!
مَنِ الَّذِي يُنْصَرُ؟!
صَاحِبُ الْإِيمَانِ، صَاحِبُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
مَنْ أَقَامَ الشَّرْعَ عَلَى نَفْسِهِ كَأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، رُبُّوا عَلَى التَّوْحِيدِ، احْتَرَقَتْ بِدَايَاتُهُمْ، فَأَنَارَتْ نِهَايَاتُهُمْ، وَكَانُوا بَيْنَ الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ مُسْتَقِيمِينَ، مُوَحِّدِينَ، مُتَسَنِّنِينَ، وَكَذَا كَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالْوَعْدُ قَائِمٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
«لَا يَزَالُ الْأَمْرُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَهْمَا قَامُوا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ، وَإِنَّمَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ وَيُدَالُ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ؛ بِسَبَبِ إِخْلَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ».
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ -التَّمْكِينُ وَالسَّلْطَنَة التَّامَّةُ لَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَفَسَقُوا؛ فَلَمْ يُصْلِحُوا الصَّالِحَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَهْلِيَّةٌ لِلْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ الْإِيمَانَ فِي حَالِ عِزِّهِ وَقَهْرِهِ وَعَدَمِ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ نِيَّتِهِ وَخُبْثِ طَوِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَ لَهُ لِتَرْكِ الدِّينِ إِلَّا ذَلِكَ، إِلَّا خُبْثُ النِّيَّةِ وَسُوءُ الطَّوِيَّةِ!!
تَأَمَّلْ كَيْفَ مَكَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّينَ مِمَّنْ أَعْلَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَأْنَهُمْ وَرَفَعَ ذِكْرَهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 54-57].
هَذَا التَّمْكِينُ الَّذِي مَكَّنَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِيُوسُفَ كَانَ لِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّة لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، حَيْثُ قَالَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَلَى لِسَانِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 37-40].
دَعْوَةٌ لِلتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُمَكِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر : http://www.rslan.com/book/view-36.html