«حرق البشر بين داعش والمجوس»
العلامة الشيخ / محمد سعيد رسلان
الجمعة 17 من ربيع الثاني 1436هـ الموافق 6-2-2015م
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فما زالت محاولات تشويه دين الله -تبارك وتعالي- في أعينِ أبنائهِ قبل أعدائه، ما زالت تلك المحاولات قائمةً علي قدمٍ وساق، والذي يُحزِنُ القلبَ حقًّا أنها تأتي من أبنائه؛ فقد لُبِسَوا شِيَعًا، وصار بعضهم يقتل بعضًا ويحرق بعضهم بعضا.
وهذه الأمة قد طلب النبيُّ ﷺ مِن ربه -جل وعلا- ألَّا يجعلَ بأسها بينها، فمنعها إياها -أي هذه الدعوة- حتى يقتلَ بعضُهُم بعضًا، وحتى يسبيَ بعضهم بعضًا.
والذي يحدث في هذا الزمان لعله لا يُشْبِهُ إلَّا ما كان من محاولاتِ القرامطة الذين اعتَدَوْا علي البيت الحرام، فقلعوا الحجر الأسود وذهبوا به، ولم تستطع الدولةُ العباسية إرجاعه إلا بعد عِقدين ونيِّفٍ من السنين, ووقف القرمطيُّ على باب الكعبة يلعب بسيفه بعد ما رُدمت زمزمُ بجثثِ الحجيج؛ وفي مَطْلَعِ القرنِ الخامسِ عَشَر الهجري وقعت محاولةٌ خارجيةٌ في بيتِ اللهِ الحرام, وظنَّ الناس بدينِهِم الظنون، وسلَّم الله .
وأما اليوم فالفتنة في كل بيت، والخوارج في كل مكانٍ -عاملهم الله بما يستحقونه-، وصار دين الله -تبارك وتعالي- في أعين أبنائه قبل أعدائه دينَ الدمِ والقتلِ، دينَ التشريدِ والتفجيرِ والتدميرِ والسفكِ للدماء بلا حدود، وهو من هذا كله براء.
عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيْحَتَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
والقِتْلَةَ والذِّبْحَةَ بِالْكَسْرِ: أَيِ الْهَيْئَةُ، والمعني: أَحْسِنُوا هَيْئَةَ الذَّبْحِ، وَهَيْئَةَ الْقَتْلِ، وهذا يدلُّ على وجوب الإِسْراع في إِزْهَاق النفوس التي يُباح إِزْهَاقُها على أسهل الوجوه، وقول رسول الله: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ...» ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ الْإِحْسَانَ، فَيَكُونُ كُلُّ شَيْءٍ أَوْ كُلُّ مَخْلُوقٍ هُوَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ، وَالْمَكْتُوبُ هُوَ الْإِحْسَانُ؛ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ كَتَبَ الْإِحْسَانَ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَيَكُونُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ الْمُحْسَنُ إِلَيْهِ؛ وَلَفْظُ (الْكِتَابَةِ): «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ...» يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا لَبِعَضْهِمْ، وَإِنَّمَا يُعرَفُ اسْتِعْمَالُ لَفْظ الْكِتَابَةِ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ حَتْمٌ إِمَّا شَرْعًا و إِمَّا قَدَرًا.
ففي الشَرْعِ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [الْبَقَرَةِ:182]، وأمَا هُوَ وَاقِعٌ قَدَرًا لَا مَحَالَةَ، كَقَوْلِهِ ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [الْمُجَادَلَةِ: 21], وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ» أي: أن يُفْرَضُ عليكم شرعًا ودينًا، والحديث من رواية عائشة عند البخاري.
وَقَالَ ﷺ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا، فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ». وهذا قَدَرًا وكونًا، لا دينًا ولا شرعًا، والحديثُ في «الصحيحين».
وَحِينَئِذٍ؛ فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي وُجُوبِ الْإِحْسَانِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النَّحْلِ:90], وَقَالَ -جلَّ وعلا-: ﴿وأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 195]؛ وَهَذَا الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ تَارَةً يَكُونُ لِلْوُجُوبِ كَالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَرْحَامِ بِمِقْدَارِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ، وَتَارَةً يَكُونُ لِلنَّدْبِ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَنَحْوِهَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، لَكِنْ إِحْسَانُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَالْإِحْسَانُ فِي الْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: الْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِ كَمَالِ وَاجِبَاتِهَا، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِحْسَانِ فِيهَا وَاجِبٌ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فِيهَا بِإِكْمَالِ مُسْتَحَبَّاتِهَا فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَالْإِحْسَانُ فِي تَرْكِ الْمحُرُمَاتِ: الِانْتِهَاءُ عَنْهَا، وَتَرْكُ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 120], فَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الْإِحْسَانِ فِيهَا وَاجِبٌ.
وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ: فَأَنْ يَأْتِيَ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَسَخُّطٍ وَلَا جَزَعٍ.
وَالْإِحْسَانُ الْوَاجِبُ فِي مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ وَمُعَاشَرَتِهِمْ: الْقِيَامُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْإِحْسَانُ الْوَاجِبُ فِي وِلَايَةِ الْخَلْقِ وَسِيَاسَتِهِمْ، الْقِيَامُ بِوَاجِبَاتِ الْوِلَايَةِ كُلِّهَا، وَالْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَالْإِحْسَانُ فِي قَتْلِ مَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ: إِزْهَاقُ نَفْسِهِ عَلَى أَسْرَعِ الْوُجُوهِ وَأَسْهَلِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي التَّعْذِيبِ، فَإِنَّهُ إِيلَامٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ؛ وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، أَوْ لِحَاجَتِهِ إِلَى بَيَانِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي الذَّبِيحَةِ، وَأَسْهَلُ وُجُوهِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى الْعُنُقِ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي القرآنِ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [مُحَمَّدٍ:4].
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ عَيَّنَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَكُونُ الضَّرْبُ فِيهِ أَسْهَلَ عَلَى الْمَقْتُولِ وَهُوَ فَوْقَ الْعِظَامِ دُونَ الدِّمَاغِ، وَوَصَّى دَرِيدُ بْنُ الصِّمَّةِ قَاتِلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ كَذَلِكَ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً تَغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ لَهُمْ: «لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» كما في حديث بُرَيْدَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «لَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا».
وفِي كثيرًا مِن الأحاديثِ الثابتةِ الصحيحةِ في «الصحيحينِ» وغيرِهما نَهيُ النَّبِيِّ ﷺ عن قتل النساء، وعن قتل الشيوخ، وعن قتل الرُهبان الذين يعتزلون في الصوامع والدَّيْارات، وكذلك نهى النَّبِيُّ ﷺ عن قتلِ الولدان، ونهى النَّبِيُّ ﷺ عن التمثيل بالقتلى بعد القتل.
والْقَتْلُ الْمُبَاحُ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
*أَحَدُهُمَا: أن يكون قِصَاصا، فَلَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ فِيهِ بِالْمُقْتَصِّ مِنْهُ، بَلْ يُقْتَلُ كَمَا قَتَلَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ مَثَّلَ بِالْمَقْتُولِ، فَهُوَ يُمَثَّلُ بِهِ علي النحو الذي فَعَلَه أَمْ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ؟
فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ:
*أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
*وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ أَوْ مَثَّلَ بِهِ، فَيُقْتَلُ بِالسَّيْفِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ وَعَنِ التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ، حتى ولو كان حرَّق من حرَّق ثم تُمِكِّنَ منه فإنه لا يُحرَّق كما حرَّق، وإن كان قد مَثَّلَ بالمقتولِ الذي قَتَلَ ثم تُمِكِّنَ منه، فإنه لا يُمَثَّلَ به كما مَثَّلَ بمن قَتَلَ، فَيُقْتَلُ بِالسَّيْفِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ وَعَنِ التَّحْرِيقِ فى النَّارِ وبها.
*الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ لِلْكُفْر، إِمَّا لِكُفْرٍ أَصْلِيٍّ، أَوْ لِرِدَّةٍ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ الْمُثْلَةِ فِيهِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ فِيهِ بِالسَّيْفِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ جَوَازُ التَّمْثِيلِ فِيهِ بِالتَّحْرِيقِ بِالنَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ كما عند البخاري في «الصحيح» أَنَّهُ حَرَقَ الْمُرْتَدِّينَ الزنادقة، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ، والذي كان من قول عَلِيٍّ عندما بَلَغَهُ قولَ ابْنُ عَبَّاسٍ جميعًا، يَشي بأنه لو كان عَلِمَ ذلك كذلك قبل أن يفعل ما فَعَلَهُ -رضي الله تعالي عنه-.
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ أَذِنَ فِي التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْثٍ، فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا -لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ- فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ».
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ -قبل أن يخرجوا، وقبل أن يقعَ من ذلك التحريق شيء- قال النبي ﷺ ناسخًا الحكم الأول: «...إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا». والحديث عند الْبُخَارِيِّ في «الصحيحِ».
عَنِ ابْنِ مسعود-رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَمَرَرْنَا بِقَرْيَةِ نَمْلٍ قَدْ أُحْرِقَتْ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-». رواه أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وصححه الألباني وغيره.
فلم يرض رسول الله ﷺبحرق النمل، وغَضِبَ ﷺ وقال: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-».
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيقِ بِالنَّارِ حَتَّى لِلْهَوَامِّ:
قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: «تَحْرِيقُ الْعَقْرَبِ بِالنَّارِ مُثْلَةٌ». وَنَهَتْ أَمُّ الدَّرْدَاءِ عَنْ تَحْرِيقِ الْبُرْغُوثِ بِالنَّارِ؛ وَقَالَ أَحْمَدُ: «لَا يُشْوَى السَّمَكُ فِي النَّارِ وَهُوَ حَيٌّ، وَقَالَ: الْجَرَادُ أَهْوَنُ، لِأَنَّهُ لَا دَمَ لَهُ».
فهَذَا دِينَكُم ... دينُ الإِحْسَانِ، ينهى عَنْ تَحْرِيقِ الْبُرْغُوثِ فِي النَّارِ وعَنْ تَحْرِيقِ الْعَقْرَبِ؛ لأنه لا يُعذِّب بالنار إلا الذي خلقها، هذا دينُ محمد ﷺ، وأما الخوارج المجرمون فإنهم يعلمون ويخالفون، طبع الله على قلوبِهم وهُمْ فِي غَيِّهِم يَعْمَهُونَ.
ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَبْرِ الْبَهَائِمِ كما في «الصَّحِيحَيْنِ»، وَ صَبْرِ الْبَهَائِمِ: أَنْ تُحْبَسَ الْبَهِيمَةُ، ثُمَّ تُضْرَبَ بِالنَّبْلِ وَنَحْوِهِ حَتَّى تَمُوتَ، هذا منهيٌ عنه.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا - يعني: بالسهام -، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا». أخرجه البخاري ومُسْلِمٌ.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ: «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ شَيْءٌ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا»، أي: هدفًا يُرْمَى يُتعلم فيه الرمي أو ما أشبه، والحديث عند مُسْلِمٌ في «الصحيح».
الْغَرَضُ: الَّذِي يُرْمَى فِيهِ بِالسِّهَامِ.
أَمَرَ رسول الله ﷺ بِإِحْسَانِ الْقَتْلِ وَالذَّبْحِ، وَأَمَرَ أَنْ تُحَدَّ الشَّفْرَةُ -أي: السِكين-، وَأَنْ تُرَاحَ الذَّبِيحَةُ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الذَّبْحَ بِالْآلَةِ الْحَادَّةِ يُرِيحُ الذَّبِيحَةَ بِتَعْجِيلِ زُهُوقِ نَفْسِهَا، عن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحَدِّ الشِّفَارِ -أي: السكاكين-، وَأَنْ تُوَارَى -أي: تُخفى عَنِ الْبَهَائِمِ-، وَقَالَ: إِذَا ذَبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجْهِزْ -يَعْنِي: فَلْيُسْرِعِ الذَّبْحَ-».
وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالرِّفْقِ بِالذَّبِيحَةِ عِنْدَ ذَبْحِهَا، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِرَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ -وَهُوَ يُحِدُّ سِكِّينَهُ- وَهِيَ تَلْحَظُ -أي: الشاة- تنظر إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا»
فَقَالَ: «أَفَلَا قَبْلَ هَذَا؟ تُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟» أخَرَّجَه الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحاكم وصححه، ووافقه الألباني.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: «تُقَادُ إِلَى الذَّبْحِ قَوْدًا رَفِيقًا، وَتُوَارَى السِّكِّينُ عَنْهَا، وَلَا تُظْهَرُ السِّكِّينُ إِلَّا عِنْدَ الذَّبْحِ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِذَلِكَ أَنْ تُوَارَى -أي: تخفي- الشِّفَارُ -أي: السكاكين- وَقَالَ: مَا أُبْهِمَتْ عَلَيْهِ الْبَهَائِمُ فَلَمْ تُبْهَمْ أَنَّهَا تَعْرِفُ رَبَّهَا، وَتَعْرِفُ أَنَّهَا تَمُوتُ». وهي وإن كانت بهيمة إِلَّا أَنَّهَا لَمْ تُبْهَمْ عن هذا فهي تَعْرِفُ: تَعْرِفُ رَبَّهَا وَتَعْرِفُ أَنَّهَا تَمُوتُ.
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا ».
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ». أخرجه أَحْمَد، والبخاري في «الأدب المفرد»، وصححه الألباني وغيره.
وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْحَمُ بِرَحْمَةِ الْعُصْفُورِ».
من لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ، الذي لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ.
أخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي «كِتَابِ الْمَغَازِيِ من صَحيحِه» -الْبُخَارِيُّ المَظْلوم الذي وجد أهل الزَّيْغِ والأهواءِ والخَنا، أهل الزَّنْدَقَةِ والهَرْطَقَةِ الذين وجدوا فيما يقعُ مِن بعضِ أبناء هذه الأمة ومن المَنْسوبين إليها، وجدوا فيما يصنعون تَكِأةً ليهاجموه.
والذي رَفَعَ السماءَ بلا عمد إنَّ نَعْلَهُ لأشرفُ منهم، والذي رَفَعَ السماءَ بلا عمد، أُقسم غير مضطرٍ ولا حانث إنَّ نَعْلَهُ لأشرفُ منهم، وأطهرُ منهم، وأزكي منهم، وأكرم منهم -عاملهم الله بعدله-.
بَاب سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَيُقَالُ إِنَّهَا سَرِيَّةُ الْأَنْصَارِ، ثم ساق بإسناده عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ -أي: هذا الأمير-, فَقَالَ أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ تُطِيعُونِي؟
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا. فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا. قَالَ: ادْخُلُوهَا، فَهَمُّوا –أي بدخولِهَا- وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مِنْ النَّارِ فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ».
يُقَالُ إِنَّهَا سَرِيَّةُ الْأَنْصَارِ، قال الحافظ: «كَذَا تَرْجَمَ، وَأَشَارَ بِأَصْلِ التَّرْجَمَةِ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَمرو بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ عَلَى بَعْثٍ أَنَا فِيهِمْ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَأْسِ غَزَاتِنَا أَوْ كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، أَذِنَ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ، وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ». الْحَدِيثَ.
وفِي حديث أَبِي سَعِيد أنه إنما كان يداعبهم، فلما همُّوا وأجمعوا علي الدخول في النار التي أوقدوها وأمرهم بالدخول فيه، قال: «إنما كُنْتُ أُدَاعبكم»، والنَّبِيُّ ﷺ يقول: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»؛ النَّبِيُّ ﷺ لمَّا بلَغه هذا الذي كان، مِن غَضَبِ هذا الأمير الذي أوصاهم بل أمرهم بطاعته «فَغَضِبَ» غَضِبَ عَلَيْهِمْ أو فَأَغْضَبُوهُ كما فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ» «فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا»: عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَهَمُّوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فِيهَا فَقَامُوا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، يقولُ بعضُهُم: إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا، فَرَرْنَا إلي رسول الله ﷺ فآمنا به واتبعناه فرارًا من النارِ، أفندخلها؟!!
«فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّار»، «فَسَكَنَ غَضَبُهُ»، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ أي: لَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ له، فقال: «ما كان من أمرٍ في طَّاعَةُ الله -جَلَّ وَعَلَا- فيجب علي من أُمِرَ به أن يأتي به علي قدر استطاعته، وأما ما كان فيه معصية الله فإنه لا يُطاع فيه أحد كائنًا من كان».
وقال ﷺ: «فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وفِي رِوَايَةِ: «مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا»، وَفِي رِوَايَةِ زُبَيْدٍ: «فَلَمْ يَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، يَعْنِي أَنَّ الدُّخُولَ فِيهَا مَعْصِيَةٌ، وَالْعَاصِي يَسْتَحِقُّ النَّارَ؛ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَوْ دَخَلُوهَا مُسْتَحِلِّينَ لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا؛ وَعَلَى هَذَا فَفِي الْعِبَارَةِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ وَهُوَ الِاسْتِخْدَامُ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: «لَوْ دَخَلُوهَا» لِلنَّارِ الَّتِي أَوْقَدُوهَا، وَأما الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: «مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا» فلِنَارِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمُ ارْتَكَبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ, وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّارِ الَّتِي أُوقِدَتْ لَهُمْ أَيْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا بِسَبَبِ طَاعَةِ أَمِيرِهِمْ لَا تَضُرُّهُمْ، فَأَخْبَرَ الرسول ﷺ أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا فِيهَا لَاحْتَرَقُوا فَمَاتُوا، فَلَمْ يَخْرُجُوا.
الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ، النَّبِي ﷺ يُبيِّنُ لنا في هذا الحديث أَنَّ الْحُكْمَ فِي حَالِ الْغَضَبِ يَنْفُذُ مِنْهُ مَا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، بل في هذا الحديثِ أَنَّ الْغَضَبَ يُغَطِّي عَلَى ذَوِي الْعُقُولِ؛ وَفِيهِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ يُنَجِّي مِنَ النَّارِ «إنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مِنَ النَّارِ»، وَالْفِرَارُ إِلَى النَّبِيِّ المختار فِرَارٌ إِلَى اللَّهِ، وَالْفِرَارُ إِلَى اللَّهِ يُطْلَقُ عَلَيه الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى:﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات:50].
وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَعُمُّ الْأَحْوَالَ؛ لأنه ﷺ أَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوا الْأَمِيرَ، فَحَمَلُوا ذَلِكَ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ حَتَّى فِي حَالِ الْغَضَبِ وَفِي حَالِ الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ رسول الله ﷺ أَنَّ الْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ.
بوَّب البخاريُّ -رحمه الله- في «كتاب الجهاد في صحيحه, بَابُ: لَا يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ»، وساق بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْثٍ فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: «إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا».
ثم ذكر البخاريُّ -رحمه الله- بإسناده فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لمَّا حَرَّقَ عَلِيٌّ -رضي الله عنه- قومًا، فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ» وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، لَا يُعَذِّبُ بِالنار إِلَّا اللَّهُ، هَكَذَا بَتَّ الْبُخَارِيُّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ، بَابٌ: لَا يُعَذَّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ؛ لأن دَلِيلِهَا عِنْدَهُ واضح، وَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنِ التَّحْرِيقُ طَرِيقًا إِلَى الْغَلَبَةِ عَلَى الْكُفَّارِ حَالَ الْحَرْبِ، ما يحدث من حَرقِ الْحُصُون وما أشبه.
أَمَّا أن يُؤخذ رجلٌ -ولو كان محاربًا- ثم يُحَرَّق، يُحَرَّق أمام الدنيا كلها!!
فأين هذا في دينِ رسول الله ﷺ؟!
إنَّ النبي ﷺ نهى أن تُذبح الشاة وأختها تنظر إليها، أفيُحرَّق مسلمٌ ويرى تحريقَه أبواه وزوجه وأبناؤه وأهلهُ وعشيرته وأعداء دين محمد ﷺ؟!! ثم يُقال إن هذا من فِعْل الدولة الإسلامية؟!!
إنَّ الدولة التي تقوم على التحريق هي الدولة المجوسية، أولئك لهم عرشُ النار، وما كان من تحريق إبراهيم فإنما كان بمشورةِ رجلٍ من أعراب الفرس كما قال ابن عباس وهم الأكراد، فهو الذي أشار بذلك على منْ أمر بتحريق إبراهيم الخليل.
أما دينُ محمد ﷺ فشيء آخر.
قَال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْثٍ فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا -زَادَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ-: رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً أَنَا فِيهَا، ثم أمرهم إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا -على الْإِفْرَادِ- فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّار». هذا هو هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ؛ لأن النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَسَرَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ وهو زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أطلقه، على أن يرسل إليه زينب -رضي الله تعالي عنها-، فَفَعَلَ وَوَفَّى، فجاء هَبَّار بْنَ الْأَسْوَدِ وآخر أُبهم ولم يُسَم، فَنَخَسَ البَعِيرَ، وكانت حَامِلًا فَأُسْقِطَتْ وَمَرِضَتْ -رضي الله تعالي عنها-؛ فقال هذا نبينا محمد ﷺ: «بَعَثَ سَرِيَّةً فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُمُوهُ، فَاجْعَلُوهُ بَيْنَ حُزْمَتَيْ حَطَبٍ ثُمَّ أَشْعِلُوا فِيهِ النَّارَ», ثم قال ﷺ نبيُّ الرحمة: «إِنِّي لَأَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ»، وقَدْ أَسْلَمَ هَبَّارٌ، وهَاجَرَ إلي النبي المختار، ودخل في دين الله -جل وعلا-.
وَقد قَالَ الْمُهَلَّبُ: «لَيْسَ هَذَا النَّهْيُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ، قال وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّحْرِيقِ فِعْلُ بعض الصَّحَابَةِ»، وَقَدْ مرَّ اعتراض ابْنِ عَبَّاسٍ علي عَلِيٍّ، وقال: «أما أني لَوْ كُنْتُ مكانَه ما حَرِّقْتهُمْ لِأَنَّ سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «لَا يُعَذِّبُ بالنار إلا الذي خلقها - إلا الله-».
قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ: «لَا حُجَّةَ فِيمَا ذُكِرَ لِلْجَوَازِ، قِصَّةَ الْعُرَنِيِّينَ كَانَتْ قِصَاصًا أَوْ مَنْسُوخَةً، تَجْوِيزُ الصَّحَابِيِّ -أي: للتحريق- مُعَارَضٌ بِمَنْعِ صَحَابِيٍّ آخَرَ، قِصَّةُ الْحُصُونِ وَالْمَرَاكِبِ مُقَيَّدَةٌ بِالضَّرُورَةِ إِلَى ذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلظَّفَرِ بِالْعَدُوِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ -أي: تحريق الحصون- بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُمْ نِسَاءٌ وَلَا صِبْيَانٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَظَاهِرُ النَّهْيِ فِيهِ التَّحْرِيمُ».
يَحرُمُ ولا يجوز، نهى رسول الله ﷺ، يقول ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما-: «أَقُولُ لكم: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟! يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ».
يقول -أعني: ابْنُ الْمُنيِّرِ- قال: «ظَاهِرُ النَّهْيِ فِيهِ التَّحْرِيمُ -وهو الذي اعتمده الْبُخَارِيُّ –رحمه الله تعالى- لِوُضُوحِ الدَلِيلِ عِنْدَهُ-، قال: وَهُوَ نَسْخٌ لِأَمْرِهِ الْمُتَقَدِّمِ سَوَاءٌ كَانَ بِوَحْيٍ إِلَيْهِ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ إِلَى ذَلِكَ فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ اجْتِهَادًا ثُمَّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَاسْتِحْبَابُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عِنْدَ الْحُكْمِ لِرَفْعِ الْإِلْبَاسِ، وَأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ لَا يَرْفَعُ الْعُقُوبَةَ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَفِيهِ كَرَاهَةُ قَتْلِ مِثْلِ الْبُرْغُوثِ بِالنَّارِ، وَفِيهِ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ اتِّفَاقٌ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ تَوْدِيعِ الْمُسَافِرِ لِأَكَابِرِ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى أخر ما فيه».
وأما حديثُ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- أَنَّه أَحْرَقَ الْمُرْتَدِّينَ: «أُتِيَ عَلِيٌّ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ».
وعند أَحْمَدَ: «أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِقَوْمٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةِ وَمَعَهُمْ كُتُبٌ، فَأَمَرَ بِنَارٍ فَأُجِّجَتْ ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ وَكُتُبَهُمْ».
وعند ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: «كَانَ نَاسٌ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فِي السِّرِّ، وَيَأْخُذُونَ الْعَطَاءَ، فَأَتَى بِهِمْ عَلِيٌّ فَوَضَعَهُمْ فِي السَّجْنِ وَاسْتَشَارَ النَّاسَ».
فَقَالُوا: «اقْتُلْهُمْ».
فَقَالَ: «لَا بَلْ أَصْنَعُ بِهِمْ كَمَا صُنِعَ بِأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ، فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ».
قال عبد الله ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: «لو كنتُ ما فعلت، لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ».
قال الحافظ: «هَذَا أَصْرَحُ فِي النَّهْيِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ».
وَزَادَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَيُّوبَ فِي آخِرِهِ: «فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَقَالَ: وَيْحَ ابْنِ عَبَّاسٍ». وهو مُشْعِرٌ بأنه لو سمع هذا قبل ما حرَّقهم.
أيها المسلمون؛ إنَّ دينَكم يَعْتَدِي عَلَيْهِ ليَسْتَأصِلَ شَأفَتَهُ وشأفتَكُم –وهيهات-، يَعْتَدِي عليه أقوامٌ من أَهْلِ القِبْلَةِ، هؤلاء الخوارج شرُّ الخَلْقِ والخليقةِ كما قال رسولُ اللهِ ﷺ.
والله لو أنفق أهلُ الأرضِ من أعداءِ الإسلامِ والمسلمين، لو أنفقوا ملء الأرض ذهبًا ما شوَّهوه كما يشوِّههُ أبناؤهُ والمنتمين إليه والمُدَّعين النسبة إليه؛ لو أنفقوا والله ما بلغوا منه شيئا، ولأمكن الله تعالى منهم، وأما الذين يقولون: لا إله إلا الله، لا حكم إلا لله -الخوارج-، قال ابنُ كثير: «هذا الصِّنْفُ مِن النَّاسِ أَعْجَبُ خَلْقِ اللهِ». وهو كذلك، أَلَا تَرَى؟! هؤلاء الخَوَنَةُ لدينِ اللهِ، لرسولِ اللهِ، لكتابِ اللهِ، هؤلاء يَخُونُونَ اللهَ، يُحاربون دينَه باسمهِ، باسمِ كتابهِ، باسمِ رسولهِ، ويَدَّعُونَ أنهم مصلحون في الأرضِ وهم المفسدون.
أسأل الله أن يُطهِّر الأرضَ منهم، إنه علي شيء قدير.
وَصَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ متواترين إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ إبراهيم كما قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ هو ابْنِ جُرَيْرٍ في «تاريخهِ»: «ثم أَنَّ نُمْرُود قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: أَرَأَيْتَ إِلَهَكَ هَذَا الَّذِي تَعْبُدُ وَتَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ، وَتَذْكُرُ مِنْ قُدْرَتِهِ الَّتِي تُعَظِّمُهُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، مَا هُوَ؟
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
فقَالَ نُمْرُود: فَأَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ!
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: كَيْفَ تُحْيِي وَتُمِيتُ؟
قَالَ: آخُذُ الرَجُلَيْنِ قَدِ اسْتَوْجَبَا الْقَتْلَ فِي حُكْمِي، فَأَقْتُلُ أَحَدَهُمَا فَأَكُونُ قَدْ أَمَتُّهُ، وَأَعْفُو عَنِ الْآخَرِ فَأَتْرُكُهُ فَأَكُونُ قَدْ أَحْيَيْتُهُ!
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ ذَلِكَ - ولم يلتفت إلي ما قال وإنما حَادَ عنه - فَقَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ، فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ، فَعْرِفْ أَنَّهُ كَمَا يَقُولُ، فَبُهِتَ عِنْدَ ذَلِكَ الذي كَفَرَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ شَيْئًا، وَعَرِفَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ، يَقُولُ –جل وعلا-﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة:258], يَعْنِي وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ.
قَالَ ثُمَّ إنَّ نَمْرُودُ وَقَوْمُهُ أَجْمَعُوا فِي إِبْرَاهِيمَ فَقَالُوا: ﴿حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء:68]».
وَسَاقَ ابْنِ جُرَيْرٍ بإسناده عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «تَلَوْتُ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ :أَتَدْرِي يَا مُجَاهِدُ مَنِ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- بِالنَّارِ؟
قَالَ: قُلْتُ: لا.
قَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسٍ.
قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهَلْ لِلْفُرْسِ أَعْرَابٌ؟!
قَالَ: نَعَمْ، الْكُرْدُ هُمْ أَعْرَابُ فَارِسَ، فَرَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي أَشَارَ بِتَحْرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ».
قال ابْنِ جُرَيْر: «حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حدثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء:68].ق
قَالَ: قَالَهَا رَجُلٌ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسَ، يَعْنِي الْأَكْرَادَ».
قال ابْنِ جُرَيْر وقد ساق بإسناده عَنْ شُعَيْبٍ الْجَباَئِيِّ قَالَ: «إِنِ اسم الَّذِي قَالَ حَرِّقُوهُ (هِينونُ) فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثم راجع الحديثُ إلي حديث ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: «فَأَمَرَ نُمْرُودُ بِجَمْعِ الْحَطَبِ، فجمعوا له صِلَابَ الحَطَبِ مِنْ أَصْنَافِ الْخَشَبِ، حَتَّى إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ من قرية إبراهيم فيما يُذكر لَتَنْذُرُ فى بعض مَا تَطْلُبُ مما تُحب أن تُدرك لإِنْ أصابته لَتَحْطِبَن فِي نَارِ إِبْرَاهِيمَ التي يُحرق بها احتسابًا في دينِهَا، حَتَّى إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوهُ فِيهَا قَدَّمُوهُ، وَأَشْعَلُوا في كل ناحيةٍ مِن الحطبِ الذي جمعوا له حتى اشتعلت النارُ، واجْتمَعُوا لِقَذْفِهِ فيها، فلما ألقوه فيها قال -أي قال العزيزُ الغفار-: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء:69], فكانت كما قال الله -عز وجل-.
فهؤلاء هم الذين يُعذِّبون بالنارِ، هؤلاء الْأَكْرَادُ وهُمْ أَعْرَابُ الْفُرْسِ، والْفُرْس كانوا يعبدون النارَ، فيريدون أن يعود الأمرُ إلي ما كان عبادةً للنارِ مِن دونِ الواحدِ القهار، وَلَكِنْ ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف:21].
وكذلك ما كان من حريقِ أهل نجران:
روى ابن جرير عن ابن عباس في أصحاب الأخدود، قال: «هم ناسٌ من بني إسرائيل خدُّوا أخدودًا في الأرضِ، ثم أوقدوا فيها نارًا، ثم أقاموا على ذلك الأخدودِ رجالًا ونساءً، فعُرِضوا على النارِ، وهكذا قال الضحاك: هم من بني إسرائيل أخذوا رجالًا ونساءً فخُدُّوا لهم في الأخاديد، ثم أُلْقُوا فيها، أوقدوا في الأخاديد النارِ، فأقاموا المؤمنين عليها، فقالوا: تَكفرون أو نقذفكم في النار».
وقال مجاهدٌ: «كان الأخدودُ شُقوقًا بنجران، كانوا يُعَذِّبُونَ فيها الناس، وتفصيل النبأ: أنَّ دعوة المسيح -عليه السلام- الأولى العَريَّة عن شوائب الإلحاد، لَمَّا دخلت بلاد اليمن وآمن كثير مِن أهلِهَا، كان في مقدمةِ تلك البلاد بلدة نجران, وكان أقامَ عليها مَلِكُ الحبشة أميرًا من قِبَلِه نصرانيًّا مثله، وكان بها راهبٌ كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع.
ثم إنَّ اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نِير السلطةِ النصرانيةِ مِن اليمن، والإيقاع بمن تَنَصَّرَ، بُغْضًا في النصرانية وكراهةً لسُلطانٍ نصرانيٍّ يملكُهُم, فأقاموا رجلًا يهوديًّا منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله، فأشهر ذلك اليهودي نفسه ملكا على بلاد سبأ، وجاء لمحاربة مدينة نجران، واستولى عليها بالتَّغَلُّبِ والقوةِ والخيانة، ولمَّا دخلها قَتَلَ عددًا عظيمًا مِن سُكانها رجالًا ونساءً.
كانت عِدَّتُهُم -فيما يقال- كانت عِدتهم ثلاثمائة وأربعين قتيلًا, وأُتِيَ بذلك الراهب محمولًا يحفُّ به الجنود، وكان هَرِمًا لا يقوى على المشي، فسُئِلَ عن عقيدته فأقر بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عبده عيسى -عليه السلام-، فأمرَ بِسَفْكِ دَمِهِ فَقُتِلَ؛ وكذلك بقيةُ القَتْلَى اعترفوا بما اعترف به دون جُبْنٍ ولا بَهْتٍ ولا تَهَيُّبٍ، بل بشجاعةٍ وصَبْرٍ على ما يشاهدونه مِن أفانين العذاب وأخاديد النار، قد حكي ذلك ربنا -جل وعلا- في كتابه العزيز.
واليوم يأتي الخوارج –خوارجُ العصر- مِمَّن يَدَّعُون أنهم كما ادَّعى أسلافُهم المتقدمون مِن الخوارجِ والروافض مِن القرامطة ومِن بني عُبيد، يَدَّعون كما تدَّعي الإباضية علي مدار تاريخها في الخروج، يدَّعون أنهم يمتلكون الحقَّ المُطلق، وأنَّ من لم يكن معهم فهو كافرٌ مُرتد؛ ثم يُشَوِّهونَ صورةَ علمائنا، يأتون بكلام مُجتزأ لإمامٍ عَلَمٍ كالجبلِ الأَشَمِّ -شيخ الإسلام ابن تيمية- -رحمه الله تعالي-، ثم يأتون به، هذا مِن صنيعِ الروافض؛ لأنهم يُبْغِضُونَهُ أكثرَ مِمَّا يُبْغِضُونَ الكفر -إنْ كانوا يُبغضون الكُفْرَ أصلًا-، يبغضونه كما يُبْغِضُونَ الشيطان -إن كانوا يبغضونه وهم أتباعه-، يبغضونه كما لم يُبْغِضُوا شيئًا قط، لكي يَرْتَسِمَ بصورةٍ ذهنيةٍ في ذِهْنِ كلِّ مسلمٍ وغيرِ مسلم أنَّ شيخ الإسلام مُفتي الحرق، أنَّ شيخ الإسلام يدعو إلى القتلِ والتكفير وهيهات!!
لم يوجد في عصرهِ مَنْ كان أرحم منه، وهو الذي يقول: «إنَّ أهلَ السُنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق»، شيخ الإسلام الذي صَبَرَ الضرب، على الإهانةِ، على التعذيب، على السجن حتى مات فيه، وخرج منه إلى قبره -رحمه الله تعالي-.
شيخُ الإسلام الذي جاءه العلامةُ ابن القيم -رحمه الله- يومًا فبشَّره بموت رجل من أعدى أعدائه، قال فاسترجع، ونهرني نهرًا شديدًا، وأَنَّبَنِي وَحَمَلَ عليَّ، وقال: قُم فَذَهَبَ إلى بيت ذلك العدو، فنادى أولاده وأهله، وقال لن تفقدوا إلا شخصه ومهما احتجتُم من شيء فاطلبوه مني وتَرَّحم عليه.
نقلوا عنه من كتابه «الاختيارات العلمية» في رَدِّهِ على الرافضي، قال: «يَقَعُ مِنْهَا التَّأْوِيلُ فِي الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْعِرْضِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَتْلَ أُسَامَةَ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَسْلَمَ بَعْدَ أَنْ عَلَاهُ بِالسَّيْفِ، وَخَبَرُ الْمِقْدَادِ، فقَالَ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ -يعني القتلى- يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُضَمَّن الْمَقْتُولُ بِقَوَدٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا دِيَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ كَانَ مُتَأَوِّلًا، وهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا.
وإنْ مَثَّلَ الكُفَّارُ بالمسلمين فالْمُثْلَةُ حَقٌّ لَهُمْ، فَلَهُمْ فِعْلُهَا لِلِاسْتِيفَاءِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَلَهُمْ تَرْكُهَا، وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ، وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ فِي التَّمْثِيلِ السَّائِغِ لَهُم دُعَاءٌ إلَى الْإِيمَانِ، وَحِرْزٌ لَهُمْ عَنْ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ هُنَا مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْجِهَادِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِضّيَةُ فِي أُحُدٍ كَذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ أَفْضَلَ، فَأَمَّا إِنْ كَانت المُثْلَةُ حَقَّ اللهِ تَعَالَى فَالصَّبْرُ هُنَاكَ وَاجِبٌ كَمَا يَجِبُ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الانْتِصَارُ وَيَحْرُمُ الجَزَعُ».
هذا كلامُهُ الذين يأتون بِبَعْضِهِ ويُحرِّقون المسلمين، ثُمَّ يقولونَ: قال شيخُ الإسلام ابن تيمية!! كأنهم ذهبوا إلي قبرِهِ، فاستخرجوهُ فَاستفتوه فَأَفْتَاهُم بالحرقِ -أَحْرَقَهُم اللهُ دُنْيَا وآخرة-، كلاب النار.
قال شيخ الإسلام: «أنَّ التكفير له شروط وموانعُ، قد تنتفي في حقِّ المعيَّن، وإنَّ التكفير المُطلَق لا يستلزم التكفيرَ للمُعَيَّن، إلا إذا وُجِدَتِ الشروط، وانتفتِ الموانع، يُبَيِّن هذا أنَّ الإمام أحمدَ وعامَّة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات -أي: مَن قال أو فعل كذا، فقد كَفر- لم يُكَفِّروا أكثر مَن تَكَلَّم بهذا الكلام بعينِه؛ فإنَّ الإمام أحمد قد باشَرَ الجهميَّة الذين دعَوه إلى خَلْق القرآن، ونفْيِ الصفات، وامتحنوه وسائرَ علماء وقته، وفتنوا المؤمنينَ والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التَّجَهُّم؛ بالضرب، والحبس، والقتل، والعزل عنِ الولايات، وقَطْع الأرزاق، ورَدِّ الشَهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو الكافر، بحيث كان كثيرٌ مِن أولي الأمر إذ ذاك منَ الجهميَّة -مِنَ الولاة والقضاةِ وغيرِهِم- يُكَفِّرُون كلَّ مَن لم يكنْ جَهْمِيًّا موافقًا لهم على نَفْيِ الصفات، كالقول بِخَلْقِ القرآن، ويحكمون فيه بِحُكْمِهم في الكافر –في الكافر المرتد-.
ومع ذلك فإنَّ الإمامَ أحمد وكذلك سَائِرُ منْ كان مِن العلماءِ معه مِمَّن اُمْتحِنَ، لا يُكَفِّرُونَ هؤلاء الجهمية، ولا يُخْرِجُونَهُم مِن المِلَّةِ.
قال الإمامُ أحمد -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: مَن قال أنَّ القرآن مخلوق، من نَفى صفات الرب فهو -كذا-, وأصدر حكمًا، هذا الحكم مطلقٌ عام لا يُنزَّل علي المُعيَّن إلا بتوفر الشروط وانتفاء الموانع.
وأحمد -رحمه الله تعالى- دعا للخليفة وغيره ممن ضربه، وحبسه، واستغفر لهم وحَلَّلَهُم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجُز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسُنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمةِ صريحةٌ في أنهم لم يُكفِّروا المُعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون إن القرآن مخلوق، ويقولون إن الله لا يُري في الآخرة.
وقد نُقل عن أحمد ما يدل على أنه قد كَفَّر به أي: بقول الجهمية وعقيدتهم قومًا مُعينين، فيُحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كُفِّر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت الموانع وقامت عليه الحجة، ومن لم يُكفَّر بعينه فللانتفاءِ لذلك كلِّه في حقِّهِ، هذا مع اطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم». هذا كلامُ شيخ الإسلام.
يقول -رحمهُ الله-: «نُصُوصَ الْوَعِيدِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنُصُوصَ الْأَئِمَّةِ بِالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُسْتَلْزَمُ ثُبُوتَ مُوجِبِهَا فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ.
وَذَكَرَ بعضَ مقالات الباطنية الكفرية، وقال: فهذه المقالات هي كُفر، لكنَّ ثبوت التكفير في حق الشخص المعين موقوفٌ على قيام الحجة التي يكفر تاركها، وإن أُطلق القولُ بتكفير من يقول ذلك -على العموم-، فهو مثل إطلاق القول بنصوص الوعيد مع أنَّ ثبوت حكم الوعيد في حَقِّ الشخصِ المُعَيَّنِ موقوفٌ على ثبوت شروطه وانتفاء موانعه، ولهذا أطلق الأئمة القولَ بالتكفير مع أنهم لم يحكموا في عينِ كلِّ قائلٍ بحكم الكفار».
هؤلاء أعني: خوارج العصر من الإخوان المسلمين والقطبيين والسروريين ومن التكفيريين على اختلاف وتنوع توجهاتهم واعتقاداتهم التي تنتهي في النهاية إلى عقيدةِ الخوارج عقيدة الخروج، هؤلاء كلُّهُم لا يتورعون عن تكفيرِ العمومِ وتنزيلِ العام علي أعيانه، وهم يُكفِّرونَ المجتمعات كلَّهَا.
سيد قطب إمامُ أهلِ التكفير في هذا العصر يُكفِّر الدنيا كلها، ليس على ظهرها مسلم!! وليس هناك دولةٌ مسلمةٌ على ظهر الأرض كما يدَّعي، الناس كلهم كفروا عنده، وهذا فَرْخٌ من أفراخ الضال المُكفِّر حسن البنا -عليهم من الله ما يستحقون-، ثم خرجت هذه الطوائف المجرمة، ممن يدَّعون أنهم يقيمون دينَ الله في أرضِ الله، وهم إنما يَصُدُّونَ عن سبيل الله، يحاربون دينَ الله، ويُباعدون دين الله عن التطبيق في أرض الله، هؤلاء هم الخوارج حقًّا -عليهم من الله ما يستحقونه-.
كلُّ مَن استملحَ عقيدتَهُم، استملحَ مذهبَهُم، تَسَتَّرَ عليهم، فهو ملعون؛ قال رسول الله ﷺعن مدينته ﷺ: «لَعَنَ اللهُ مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا»، والعلماءُ على أنَّ هذا إنما هو عامٌّ، فَكُلُّ مُحْدِثٍ فهو ملعون، ملعونٌ على لسانِ رسولِ اللهِ ﷺ: «أَوْ آوَى فيها مُحْدِثًا», فكذلك الذي يُؤوي المُحدِثَ، عَلِمَ ولم يُبَلِّغ، عَرَفَ أنَّ فلانًا مِن الإخوان، مِن القطبيين، مِن المجرمين، مِن التكفيرين، عنده أسلحة، عنده من المواد المتفجرة، يَتَرَدَّدُ عليه مِن المجرمين مَن يَتَرَدَّدُ، ينبغي عليه أنْ يَدُلَّ عليه وإلا فهو داخل في اللعن، وهو ممن يُؤوي المُحدث.
أيها الناس إن الأمر جِدٌ لا هزل فيه، لن يدَعوكم إما أن يقتلوكم وإما أن يحكموكم، كما قال مجرمُهُم الأكبر: إِمَّا أنْ نَحْكُمَكُم أو نَقْتُلَكُم!!
هذا دينُ اللهِ؟!! هذا ما جاء به مُحَمَّدٌ ﷺ؟!!
هذا ما جاء به البنا، ما جاء به سيد قطب، فاختاروا عباد الله، بين ما جاء به مُحَمَّدٌ عبدُ اللهِ ورسولُهُ وما جاء به الضُّلَّالُ مِن الخوارج -خوارج العصر-، اختاروا وأنتم على رأسِ طريقِكُم.
وأسألُ اللهَ أنْ يهديني وإيَّاكُم إلى الحقِّ وإلى الصراطِ المستقيم.
وَصَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَى سيدنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
صفحتنا علي الفيس بوك
www.fb.com/RslanText