«تفريغ خطبة داعش وذبح الأقباط المصريين»
العلامة
الشيخ/ محمد سعيد رسلان
الجمعة
1 من جمادى الأولى 1436هـ الموافق 20-2-2015م
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إنَّ
الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه
مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ
فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا
بَعْدُ:
فَإِنَّ
أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ
بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا
بَعْدُ:
فالأقباطُ
الذينَ قَامَت عناصرُ الخوارجِ الدَّاعشيةِ بِذَبْحِهِم، لا يَحِلُّ لِمُسْلمٍ إيذائُهُم،
ولا الاعتداءُ عليهم، ولا ظُلْمُهُم بالقولِ، فَضْلًا عن الفِعْلِ، فَضْلًا عن الذَّبْحِ.
لَقَد
دَخَلَ أولئكَ الأقباطُ الأراضي الليبيةَ بِعَقْدِ أمانٍ، فَهُم مُستأمَنُونَ؛ لأنهم
لم يَدْخُلُوا بِقُوَّةِ السلاحِ، وإنما دَخَلُوا بجوازاتِ سَفَرٍ مِصريةٍ، قَبِلَتْهَا
السُّلُطَاتُ الليبيةُ، وَمَنَحَتْهُم إِذْنًا بدخولِ الأراضي الليبيةِ، وهي تَأْشِيرَاتُ
الدخولِ المَعهودةِ، وَهُم بذلك يكونونَ مُستأمَنين، والذين اسْتَقَدَمُوا هؤلاء الأقباطَ
للعملِ، سواءٌ كانوا أفرادًا أو شركات قد أَعْطَوْهُم أَمَانًا، وإذا أرادوا إبطالَ
هذا الأمانِ رَدُّوهُم إلي مَأمَنِهِم مَرَّةً أخرى -أي أَرْجَعُوهُم إلى مصر-.
وليس
لـ (داعش) ولا لغيرِ داعش مِن الجماعاتِ والتنظيماتِ البدعيةِ التكفيريةِ ولايةٌ شرعيةٌ
على ليبيا ولا على غيرِهَا، فَهُم مُنْحَرِفُونَ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ، وَهُم أَشَدُّ
ضَرَرًا على الإسلامِ والمُسلمينَ مِن غيرِهِم حتى مِن الكُفَّارِ والوثَنيينَ، وتكفيرُهُم
للسُّلُطَاتِ الليبيةِ ولغيرِهَا لا يُعْتَدُّ به شَرْعًا ولا يُغْنِي عنهم شيئًا،
فهذا كلُّهُ مِن صنيعِ الخوارجِ المَارقين.
وطريقةُ
هؤلاء الدواعش في القتلِ والذَّبْحِ هي مِيراثُهُم مِن أسلافِهِم مِن الخوارجِ الأوَّلِين
الذينَ ذَبَحُوا التَّابعيَّ الجليل (عبد الله بن خبَّاب) علي حَافَةِ النَّهْرِ، وَبَقَرُوا
بَطْنَ امرأتِهِ، وكانت حَامِلًا مُتِمًّا، واستخرَجُوا جَنِينَهَا فَذَبَحُوهُ.
وَمَا
ذَكَرَهُ النَّاطِقُ بِاسمِ الخوارجِ مِن أنَّ ذَبْحَ أولئكَ الأبرياء وإلقاءَ جُثَثِهِم
في البحرِ كان ثَأْرًا لِمَا فَعَلَ الأمريكيونَ بِأُسَامَةَ بن لادن مِن قَتْلِهِ
وإلقاءِ جُثَّتِهِ في البحرِ، ما ذَكَرَهُ ذلك النَّاطقُ يَدُلُّ على الجَهْلِ والجَوْرِ،
أَمَّا جَهْلُهُ فَلأنَّ النَّصَارَى المِصريينَ أرثوذكسيينَ، والصليبيونَ الغَربيونَ:
إِمَّا إنجيليونَ بروتستانتيون، وَهُم الأمريكيونَ والإنجليزُ، وَإِمَّا كاثوليكيون
وَهُم مَن عَدَاهُم، والبروتستانت والكاثوليك يُكَفِّرُونَ الأرثوذكسيين ولا يَعْتَبِرُونَهُم
مِن أَهْلِ الخَلَاصِ ولا مِمَّن لَهُم تَعَلُّقٌ بِالمسيحِ أَصْلًا، فَمَا دَخْلُ
مَن ذُبِحُوا بِمَن قَتَلُوا ابنَ لادِن، وَأَمَّا الجَوْرُ والظُّلْمُ فالسؤال: أَلَم
يَقُل اللهُ تَعَالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾؟!
وَهَلْ
أَبَاحَ الإسلامُ أَخَذَ البريءَ بِالمُذْنِبِ؟!!
ثُمَّ؛
ماذا لو أنَّ نَصَارَى الغربِ أَخَذُوا بالمبدأ نَفْسِهِ -بمبدأ الثَّأرِ-؟!!
فَقَامَ
سُفَهَاؤهُم وغيرُهُم بالاعتداءِ؛ بالذَّبْحِ والقَتْلِ، وَهَتْكِ العِرْضِ، وَنَهْبِ
الأموالِ، وَحَرْقِ المُمْتَلَكَاتِ للأقليَّاتِ المُسْلِمَةِ في البلادِ الغَربيةِ،
أَليْسَ مِن الظُّلْمِ والجَوْرِ أنْ يَجُرَّ أولئك الخوارجُ على المُسلمينَ الأَذَى
والاعتداءَ والشُّرُورَ في غُرْبَتِهِم وَكُرْبَتِهِم؟!!
وأَمَّا أصنافُ غيرِ المُسلمينَ في بلادِ الإسلامِ:
*فالصِّنْفُ الأَوَّلُ: هم المواطنونَ مِن غيرِ المُسلمين:
والمُطَّلِعٌ
عَلَى كُتُبِ الفِقْهِ الإسلاميِّ يَجِدُ أنَّ علماءَ الفقهِ المسلمين قد اصطلحوا علي
نعْتِ المواطنين في بلادِ الإسلامِ مِن غيرِ المسلمين في كُتُبِ الفقهِ بـ (أَهْلِ
الذِّمَّةِ)، وهو اسْمٌ حَسَنٌ، لا كَمَا يَظُنُّ بعضُ الناسِ مِن أنه مذمومٌ ولا أنه
قبيح، فَهُم يُسَمَّوْنَ بِـ (أهلِ الذِّمَّةِ) بِمَعني: أَهْل العهْدِ والأمانِ؛ لأَنَّهُم
يَصيرونَ في ذِمَّةِ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
سَلَّمَ- وفي ذِمَّةِ المُسلمينَ -أي: في عَهْدِهِم وَأَمَانِهِم علي وَجْهِ التَّأْبِيدِ-،
وَيُؤيِّدُ ذلك ما جاءَ في حديثِ بُرَيْدَةَ -رضيَ اللهُ عنه- مِن وَصيَّةِ رسولِ اللهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- لكُلِّ أَميرٍ يَبْعَثُهُ للجهادِ حَيْثُ
كانَ يقولُ له: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ
أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ؛ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ
ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ
أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ
مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ
في «صحيحِهِ».
وَكَذَا
يُؤيِّدُ حُسْنَ المرادِ بِهَذَا المصطلحِ -أَهْلِ الذِّمَّة- مَا جاءَ في كتابِ الخليفةِ
الراشدِ الصدِّيق أبي بكرٍ -رضي الله عنه- لأهلِ نَجْرَان:
«بِسْم اللهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم.. هَذَا مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ
خَلِيفَةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
سَلَّمَ- لأَهْلِ نَجْرَانَ، أَجَارَهُمْ بِجِوَارِ اللَّهِ وَذِمَّةِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلهِ سَلَّمَ- عَلَى أَنْفُسِهِمْ, وَأَرْضِهِمْ,
وَمِلَّتِهِمْ, وَأَمْوَالِهِمْ, وَحَاشِيَتِهِمْ, وَعِبَادَتِهِمْ, وَغَائِبِهِمْ,
وَشَاهِدِهِمْ, وَأَسَاقِفَتِهِمْ, وَرُهْبَانِهِمْ, وَبِيَعِهِمْ, وَكُلِّ مَا تَحْتَ
أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لا يَخْسَرُونَ وَلا يُعْسِرُونَ».
وكذلك
ما جاء في وصيةِ أميرِ المؤمنينَ عُمَر -رضوانُ الله عليه- حينَ وَفَاتِهِ للخليفةِ
مِن بعدِهِ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ البُخَاريُّ في «الصحيح في كتابِ المَنَاقِبِ»:
«وَأُوصِيهِ -يَعْنِي بِذَلِكَ: الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِه- بِذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ
رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وسَلَّمَ- أَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ،
وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلا يُكَلَّفُوا إلا طَاقَتِهِمْ».
كَمَا
يُؤيِّدُ حُسْنَ هذا المصطلحِ وهو (أهلُ الذِّمَّةِ) قَوْلُ الإمامِ الأَوْزَاعيِّ
-رَحِمَهُ اللهُ- في كِتَابِهِ إلى الوالي العَبَّاسيِّ صالح بن عليٍّ بن عبد الله
بن عَبَّاس؛ كَتَبَ إليه عَن أَهْلِ الذِّمَّةِ يقولُ:
«فَإِنَّهُم لَيْسُوا بِعَبِيدٍ، فَتَكُونوا مِن تحويلِهِم إلي بلدٍ في سَعَةٍ، ولَكِنَّهُم
أَحْرَارٌ أَهْلِ ذِمَّةٍ».
وَقَد
فَهِمَ الإنجليزيُ (روم لاندو) مُصطلحَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهْمًا صَحِيحًا، وَعَرَفَ
حقيقتَهُ ومُرَادَهُ الشريفَ لِذَلِكَ؛ قالَ:
«على نَقِيضِ الإمبراطوريةِ النَّصرانيةِ التي حَاوَلَت أَنْ تَفْرِضَ النصرانيةَ على
جميعِ رَعَايَاهَا فَرْضًا، اعترفَ العَرَبُ بِالأقلياتِ الدينيةِ، وَقَبِلُوا بِوُجودِهَا،
وكانَ النَّصَارَى واليهود والزُرادشتيون يُعْرَفُونَ عِنْدَهُم بـ (أهلِ الذِّمَّةِ)،
أو بـ (الشعوبِ المَتمتعةِ بالحمايةِ»).
فَهَذَا
هو الصِّنْفُ الأَوَّلُ.
*وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّاني مِن غيرِ المُسلمينَ في دِيَارِ الإسلامِ
وبِلَادِهِ: فَهُم المُسْتَأْمَنُونَ:
وَهُم
غَيْرُ المُسلمينَ مِن الوَافِدينَ إلى بلادِ الإسلامِ لعَمَلٍ أو نَحْوِهِ، حيثُ يُعَرِّفُهُم
الفُقَهَاءُ المُسلمونَ بِـ (المُسْتَأمَنِين).
وَلِهَذيْن
الصِّنْفِين: لـ (أَهْلِ الذِّمَةِ) ولـ (المُسْتَأْمَنِينَ) حُقُوقٌ عَامَّةٌ، وَلِكُلِّ
صِنْفٍ مِنْهُمَا حُقُوقٌ خَاصَّةٌ.
فَأَمَّا الحقوقُ العَامَّةُ لِغَيْرِ المُسلمين في بلادِ الاسلامِ فإِنَّهُ:
لم
يَحْظَ الإنسانُ أنَّى كانَ جِنْسُهُ أو مكانُهُ أو مكانتُهُ أو زمانُ عَيْشِهِ بِمَنزلةٍ
أَرْفَعَ مِن تلكَ التي يَنَالُهَا في ظِلالِ الدينِ الحنيفِ -دينِ رَبِّنَا دين الإسلامِ
العظيم-، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لأنَّ الإسلامَ دينٌ عالميٌّ، وَرَسُولُهُ –صلى
اللهُ عليه وسلم- أُرْسِلَ للعالَمِينَ كافَّة، وَلَم يَكُن كإخوانِهِ الأنبياءِ والمُرسلين
-عليهم الصلاةُ والسَّلامُ- الذينَ أُرْسِلُوا لأقوامِهِم خَاصة.
و
حين يُوازِنُ أيُّ باحثٍ مُنْصْف مَبادئ حقوقِ الإنسانِ التي حَوَاهَا «الإعلانُ العالميُّ
لحقوقِ الإنسانِ»، حينَ يُوَازِنُ بين هذه وحقوقِ الإنسانِ في الإسلامِ، يَلْحَظُ التميزَ
الواضحَ الذي سَبَقَ به الإسلامُ، ما تَفَتَّقَت عنهُ أفكارُ البَشَرِ في مبادئِ حقوقِهِم،
مِن حيثُ الشمولُ والسَّعَةُ والعُمْقُ، ومراعاة حاجاتِ الإنسانِ الحقيقيةِ التي تُحَقِّقُ
له المنافعَ وَتَدْفَعُ عنه المَضَار، وَيتضحُ مِن الدراسةِ الموضوعيةِ المتجردةِ عن
الأهواءِ أنه: «ليسَ هُناك دينٌ مِن الأديانِ أو شريعةٌ مِن الشرائعِ على ظَهْرِ الأرضِ
أَفَاضَت في تقريرِ هذه الحقوقِ وتفصيلِهَا وتَبْيِينِهَا وإظهارِهَا في صورةٍ صادقةٍ
مِثْلَمَا فَعَلَ الإسلامُ العظيم».
ولم
تقتصرُ الشريعةُ الإسلاميةُ على إسباغِ الحقوقِ على أهلِهَا المؤمنينَ بالإسلامِ، بَل
إنَّ مِمَّا يُمَيِّزُ الشريعةَ عَن غيرِهَا أنها قَد أَشْرَكَت غيرَ المسلمينَ مع
المسلمينَ في كثيرٍ مِن الحقوقِ العَامَّةِ، وهو مَا لَم يَنَلْهُ الإنسانُ في دينٍ
آخر ولا في نُظُمٍ أُخْرَى.
والحقوقُ العامةُ لغيرِ المُسلمينَ كثيرة؛ مِنْهَا:
*حَقُّهُم
في حِفْظِ كرامتِهِم الإنسانيةِ.
*وَحَقُّهُم
في مَعْتَقَدِهِم.
*وَحَقُّهُم
في التزامِ شَرْعِهِم.
*وَحَقُّهُم
في حِفْظِ دِمَائِهِم.
*وَحَقُّهُم
في حِفْظِ أَمْوَالِهِم وَأَعْرَاضِهِم.
*وَحَقُّهُم
في الحمايةِ مِن الاعتداءِ.
*وَحَقُّهُم
في المُعَامَلَةِ الحَسَنَةِ.
*وَحَقُّهُم
في التكافُلِ الاجتماعيِّ.
وكلُّ
ذلكَ دَلَّت عَلَيْهِ نُصُوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ، وَتَرْجَمَهُ عَمليًّا مَا كانَ
مِن صنيعِ الخلفاءِ وَمَن تَبِعَهُم مِمَّن التزمَ دينَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
وَسَارَ على نَهْجِ سُنَّةِ نَبيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم-.
فَمَا
أَبْشَعَ وَأَعْظَمَ جَرِيمَةَ مَن تَجَرَّأَ عَلى حُرُمَاتِ اللهِ، وَظَلَمَ عِبَادَهُ،
وَأَخَافَ المُسلمينَ والمُقيمينَ بَيْنَهُم، فَوْيَلٌ لهُ ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ مِن عذابِ
اللهِ تَعَالى وَنِقْمَتِهِ وَمِن دعوةٍ تُحيطُ به، ونسألُ اللهَ أنْ يكشفَ سِتْرَهُ
وَأَنْ يَفْضَحَ أَمْرَهُ.
«عصمةُ كلِّ نَفسٍ بالإيمانِ أو
بالأمانِ»
إنَّ
النَّفْسَ المعصومةَ في حُكْمِ شريعةِ الإسلامِ هي كلُّ مسلمٍ وكلُّ مَن بَيْنَهُ وبينَ
المُسلمين أَمَان، فهذه معصومةٌ بالإيمانِ، وهذه معصومةٌ بالأمانِ، قال اللهُ -جلَّ
وَعَلَا- في حَقِّ المسلمِ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ
لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93].
وقالَ
سبحانهُ في حَقِّ الذِّمِّي في حُكْمِ قَتْلِ الخطأ لا في حُكْمِ قَتْلِهِ عَمْدًا:
﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾
[النساء: 92]، إذا كانَ الذِّميُّ الذي له أَمَانٌ إِذَا قُتِلَ خَطَأً فيه الدِّيَّةُ
والكَفَّارَةُ، فكيف إذا قُتِلَ عَمْدًا؟!! إنَّ الجريمةَ تكونُ أَعْظَم، وإنَّ الإثمَ
يكونُ أَكْبَر.
وَقَد
صَحَّ عن رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- كَمَا في حديثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- الذي أخرجَهُ البُخاريُّ في «الصحيحِ»:
«مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»،.
فَلَا
يجوزُ التَّعرُّضُ لِمُستأمَنٍ بِأَذَى، فَضْلًا عَن قَتْلِهِ في مِثْلِ هذه الجريمةِ
الكبيرةِ النَّكْرَاءِ، وَهَذَا وَعِيدٌ شديدٌ لِمَن قَتَلَ مُعَاهَدًا وَمُسْتَأْمَنًا،
وَهُوَ كَبِيرَةٌ مِن الكبائرِ المُتَوَعَّدُ عليهَا بِعَدَمِ دُخُولِ القَاتِلِ الجَنَّة.
قَتْلُ
الذِّميِّ وَالمُعَاهَدِ وَالمُسْتَأمَنِ حَرَامٌ، وَقَد وَرَدَ الوعيدُ الشَّدِيدُ
في ذلكَ، فَعِنْدَ البُخَاريِّ في «الصحيحِ» من روايةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّم- قَالَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا
لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ
عَامًا»، أَوْرَدَهُ البُخَارِيُّ هَكَذَا «في كتابِ الجِزْيةِ: بَاب: إِثْمِ
مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ»، وأورده في «كتابِ الدِّيَاتِ في بَاب: إِثْمِ
مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ» ولَفْظُهُ: «مَنْ
قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ
مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
قالَ
الحَافِظُ في «الفَتْحِ»: «كَذَا تَرْجَمَ بِالذِّمِّيِّ،
وَأَوْرَدَ الخَبَرَ في المُعَاهَدِ، وَتَرْجَمَ في الجزيةِ بِلَفْظِ: «مَن قَتَلَ مُعَاهَدًا»، كَمَا هو ظاهرُ الخبرِ،
والمرادُ به مَن له عَهْدٌ مَعَ المُسلمينَ، سَوَاءٌ كانَ بِعَقْدِ جِزْيَةٍ أو هُدْنَةٍ
مِن سُلطانٍ أو أَمَانٍ مِن مُسْلِمٍ».
وَرَوَى
النَّسائيُّ بِلَفْظ: «مَن قَتَلَ قَتِيلًا مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ لَم يَجِد رِيحَ
الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحهَا لَيُوجدَ مِن مَسِيرَةِ أَرْبعينَ عَامًا».
وَرَوَاهُ
أَيْضًا بإسنادٍ صحيحٍ عن رَجُلٍ مِن أصحابِ النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّم-: أنَّ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قالَ: «مَن قَتَلَ رَجُلًا مِن أَهْلِ الذِّمَّةِ لَم يَجِد رِيحَ الجَنَّةِ،
وَإِنَّ رَيِحَهَا ليُوجَدَ مِن مَسِيرةِ سَبْعِينَ عَامًا».
وعن
أبي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قال: «مَن
قَتَلَ مُعَاهَدًا في غَيْرِ كُنْهِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ».
رواهُ أبو داود، والنسائيُّ بإسنادٍ صحيحٍ، وزَادَ النَّسائيُّ «أَنْ يَشُمَّ رِيحَهَا».
وَمَعْنَى
«في غَيْرِ كُنْهِهِ» أي: في غيرِ وَقْتِهِ
الذي يجوزُ قَتْلُهُ فيه حينَ لا عَهْدَ له، قالَهُ المُنذريُّ في «الترغيبِ والترهيبِ»،
وقالَ: وَرَوَاهُ ابنُ حِبَّان في «صحيحِهِ»، وَلَفْظُهُ قالَ: «مَن قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا لَم يَرَح
رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَ الجَنَّةِ لتوجَدُ مِن مَسيرةِ مِئَةِ عَام»،
قالَ الألبانيُّ «صحيحٌ لغيرِهِ».
وأمَّا
قَتْلُ المُعَاهَدُ خَطَأ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى فيه الدِّيَةَ وَالكَفَّارَةَ،
قَالَ اللهُ -جلَّ وَعَلا-: ﴿وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ
اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 92].
*هل تُعدُّ تَأْشِيرَةُ الدخولِ إلي البلدِ عَقْدَ أَمَانِ؟
تَأْشِيرَةُ
الدخولِ اليوم تَقُومُ مَقَامَ الأَمَانِ أَو تُمَثِّلُ على الأَقَلِّ شُبْهَةَ أَمَانٍ،
فَتَأْشِيرَةُ الدخولِ التي يُشْتَرَطُ تَوَفُّرُهَا لدخولِ أي أجنبي لِبَلَدٍ غيرِ
بلدِهِ، تُمَثِّلُ في حقيقةِ الأمرِ عَقْدًا يُشْبِهُ عَقْدَ الأمانِ بِمَعْنَاه الشرعيِّ،
لا سِيِّمَا لو كانت هذه التأشيرةُ صَادِرَةً بِنَاءً على دعوةٍ مُقَدَّمَةٍ مِن مُسْلِمٍ
لأجنبيٍّ لزيارةِ بلادِ الإسلامِ أو للعملِ بِهَا, ولا يَشُكُّ أَحَدٌ في أنَّ السَّائِحَ
أو الأجنبيَّ عندمَا يُقْبَلُ بِمِثْلِ هذه الدعوة, عندما يَحْصُلُ على تأشيرةِ الدخولِ
يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ آمِنًا على نَفْسِهِ ومَالِهِ, ولا يُتَصَوَّرُ قَبولُهُ للمَجِيء
إذا عَلِمَ أنَّ هذه التأشيرة لا تعني شيئا من ذلك -أي: مِن تأمينِهِ علي نَفْسِهِ
ومالِهِ وعِرْضِهِ-.
ولبيانِ
ذلك التَّمَاثُل بين دلالةِ عَقْدِ الأمانِ وتأشيرة الدخولِ يُنْظَرُ في بعضِ الأحكامِ
المُتَعَلِّقَةِ بِعَقْدِ الأمانِ:
الأمانُ
هو: عَهْدٌ بالسلامةِ مِن الأَذَى؛ بِأَنْ تُؤَمِّنَ
غيرَكَ أو أنْ يُؤَمِّنَكَ غَيْرُكَ، وهو تَعَهُّدٌ بِعَدَمِ لحوقِ الضررِ مِن جهتِكَ
إليه, ولا مِن جِهَتِهِ إليْكَ.
وفي
الاصطلاحِ: هو عَقْدٌ بين المُسْلِمِ والمُشركِ على
الحَصَانَةِ مِن لحوقِ الضَّرَرِ مِن كلٍّ مِنْهُمَا للآخَرِ ولا مِمَّن وَرَاءَهُ
إلَّا بِحَقِّهِ، ودليلُهُ قولُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَإِنْ
أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ
ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [التوبة: 6].
وفي
«الصَّحيحيْن»: «ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ،
يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُم».
وَمَنْحُ
الأمانِ مِن حَقِّ كلِّ مُسْلِم؛ شَرِيفًا أو وَضِيعًا, فَيَصِحُّ مِن الإمامِ, وَمِن
آحَادِ النَّاسِ رَجُلًا كانَ أو امرأةً, وفي صِحَّةِ أمانِ العبدِ والصبيِّ خِلَافٌ
بينَ العلماء, ولا يَصِحُّ عَقْدُ الأمانِ مِن مجنونٍ ونحوِهِ.
يقولُ
ابنُ قُدامةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَجُملتُهُ أنَّ
الأمانَ إذا أُعْطِيَ لأَهْلِ الحربِ حَرُمَ قَتْلُهُم -لأهلِ الحربِ، إذا أُعْطِيَ
الأمانُ لأهلِ الحربِ حَرُمَ قَتْلُهُم-، ومالُهُم والتَّعَرُّضُ لَهُم، وَيَصِحُّ
-يعني: عَقْد الأمان- مِن كلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ ذَكَرًا كانَ أو
أُنْثَى, حُرًّا كانَ أو عَبْدًا, وَبِهَذَا قالَ الثوريُّ والأوزاعيُّ والشَّافِعيُّ
وإسحاقُ وابنُ القَاسِمِ، وأكثرُ أهلِ العِلْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عن عُمَر بن الخطاب
-رضيَ اللهُ عنه-، وقالَ أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يَصِحُّ أَمَانُ العَبْدِ إلَّا أنْ
يكونَ مَأْذُونًا له في القتالِ؛ لأنه لا يجبُ عليه الجِهَادُ، فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ
كالصَّبِيِّ ولأنهُ مَجْلُوبٌ مِن دارِ الكُفْرِ، فَلَا يُؤْمَنُ أنْ يَنْظُرَ في تقديمِ
مصلحتِهِم».
ولَنَا
مَا رُوِيَ عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- أنه قالَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ،
فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِين، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ». رَوَاهُ البُخاريُّ.
يعني
إذا استقدمَ صَاحِبُ عَمَلٍ فَرْدًا كانَ أو شركةً بعض غيرِ المسلمين للعملِ في بلادِهِ،
ثُمَّ دَخَلَ بِتَأشيرةٍ للدخولِ صحيحة؛ فهذا عَقْدُ أمانٍ، فَمَنْ أَخْفَرَ ذِمَّتَهُ؛
فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أجمعين، كما قالَ رسولُ الله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.
وَرَوَى
فُضَيْلُ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ، قَالَ: جَهَّزَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشًا،
فَكُنْت فِيهِ، فَحَصَرْنَا مَوْضِعًا، فَرَأَيْنَا أَنَّا سَنَفْتَحُهَا الْيَوْمَ،
وَجَعَلْنَا نُقْبِلُ وَنَرُوحُ، فَبَقِيَ عَبْدٌ مِنَّا، فَرَاطَنَهُمْ وَرَاطَنُوهُ،
فَكَتَبَ لَهُمْ الْأَمَانَ فِي صَحِيفَةٍ، وَشَدَّهَا عَلَى سَهْمٍ، وَرَمَى بِهَا
إلَيْهِمْ، فَأَخَذُوهَا وَخَرَجُوا، فَكُتِبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
فَقَالَ: «الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ذِمَّتُهُ ذِمَّتُهُمْ»؛
وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ، كَالْحُرِّ؛ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ
التُّهَمَةِ يَبْطُلُ بِمَا إذَا أُذِنَ لَهُ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُهُ.
وَبِالْمَرْأَةِ
فَإِنَّ أَمَانَهَا يَصِحُّ، فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ
-رضي الله عنها-: «إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ
–أي: جِوارُها-». رَوَاهُ
أبو داود وصححه الألباني.
وَعَنْ
أُمِّ هَانِئٍ -رضي الله عنها-، أَنَّهَا قَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أَجَرْت أَحْمَائِي، وَأَغْلَقْت عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ
أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ.
فَقَالَ
لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ، إنَّمَا يُجْيرُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ». وهذا الحديثُ في «الصحيحين»؛ وَأَجَارَتْ
زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و-رضي الله
تعالى عنها- أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَأَمْضَاهُ -أي: أمضي الجوارَ- رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ-.
وَيَصِحُّ
أَمَانُ الْإِمَام دونَ قيود، أَمَّا آحَادُ الْمُسْلِمِينَ فأَمَانُهم لِلْوَاحِدِ،
أوَ للْعَشَرَةِ، أوَ للْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، أو نَحْوِ ذلك؛ وفي هذا يقولُ ابنُ
قدامة:
«وَيَصِحُّ
أَمَانُ الْإِمَامِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ وَآحَادِهِمْ; لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَامَّةٌ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَمِيرِ لِمَنْ أُقِيمَ بِإِزَائِهِ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ كَآحَادِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ
وِلَايَتَهُ عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ
لِلْوَاحِدِ، وَللْعَشَرَةِ، وَالْقَافِلَةِ الصَّغِيرَةِ، وَالْحِصْنِ الصَّغِيرِ;
لِأَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَجَازَ أَمَانَ الْعَبْدِ لِأَهْلِ الْحِصْنِ
الَّذِي مرَّ حَدِيثُهُ؛ وَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَهْلِ بَلْدَةٍ، وَجَمْعٍ كَثِيرٍ;
لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ، وَالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ.
إذا
انعقدَ الأمانُ صَارَت للحَرْبيِّ -للمُقَاتِلِ للمُحَارِبِ-؛ إذا انعقدَ له الأمانُ
صارَت له حَصَانَةٌ مِن إلحاقِ الضَّرَرِ به سَوَاء مِن المسلمِ الذي أَمَّنَهُ أو
مِن غيرِهِ مِن المُسلمينَ أو مِن الذِّمِّيينَ لِقَوْلِ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا
فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أجمعين، لا يَقْبَلُ اللهُ
مِنْهُ صَرْفا وَلا عَدْل».
قال
ابنُ قُدَامَة: «الْأَمَانَ إذَا أُعْطِيَ أَهْلَ
الْحَرْبِ، حَرُمَ قَتْلُهُمْ وَمَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ».
فعندما
نَنْظُرُ في الأحكامِ السابقةِ المُتعلقةِ بالأمانِ؛ نَجِدُ تَشَابُهًا بينهُ وبينَ
الأحكامِ المُترتبةِ على تأشيرةِ الدخولِ، سَوَاءٌ في تحديدِ الجهةِ التي يُمْكِنُ
صدورُ أيٍّ منها عنها، أو في حدودِ حَقِّ كلِّ جِهَةٍ في مَنْحِ الأمانِ أو التأشيرة،
أو مِن حَيْثُ الأَثَرُ المُترتبُ على ذلك مِن عِصْمَةِ الدمِ والمالِ والحَصَانَةِ،
ومِن تَعَمُّدِ إلحاقِ الضَّرَرِ لِمَن صَدَرَ بِحَقِّهِ الأمانُ أو حَصَلَ على التأشيرةِ.
فَإِنْ
قَالَ قَائِلٌ: الأمانُ الصَّادِرُ اليوم عن الحكوماتِ
التي لا تَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ لا يَنْعَقِدُ بتأشيرةِ الدخول، لأنها صادرةٌ
عن سُلْطَةٍ غيرِ شرعيةٍ أو هي صَادِرَةٌ مِن قومٍ كافرين، كَمَا هي شُبْهَةُ الخوارجِ
المُعَاصِرِينَ الذينَ يُكَفِّرُونَ لا يُبَالونَ وَلَا يُرَاعُونَ.
والجوابُ:
وَصْفُ الجِهَةِ التي صَدَرَت التأشيرةُ عنها بأنها سُلْطَةٌ غَير شرعيةٍ مَسألةٌ قد
يختلفُ حَوْلَهَا بَعْضُ المتكلمينَ دَاخِلَ الحركاتِ الإسلاميةِ ذَاتِهَا، وعلى فَرْضِ
صِحَّتِهَا فَإِنَّ هذا لا يُؤثِّرُ في اعتبارِ التأشيرةِ بِمَثَابَةِ أَمَانٍ لَهُم؛
لأنَّ التأشيرةَ قد تكونُ صادرةً كاستجابةٍ لطلبِ مُقَدَّمٍ مِن مُسْلِمٍ للسماحِ بدخولِ
الأجنبيِّ، سواءٌ لزيارةِ بلدِهِ أو للسياحةِ بها أو للعملِ فيها أو لَديْه، وأمانُ
آحادِ المُسلمينَ جَائِزٌ وَاقِعٌ بِلَا خِلَاف، بَل يَصِحُّ أمانُ الذِّمِّيِّ إذا
كانَ بِنَاءً على أَمْرِ مُسْلِمٍ له بذلك، وفي هذا يقولُ صاحبُ «شرحِ تنويرِ الأبصارِ
الحنفيِّ»: «وَبَطُلَ أَمَانُ ذِمِّيٍّ إلَّا إذا أَمَرَهُ به مُسْلِمٌ».
أَمَّا
إذا صَدَرَ الأمانُ مِن ذِمِّيٍّ، واعتقدَ الأجانبُ أنَّ له حَقًّا في التأمينِ؛ فَهُنَا
لا يَصِحُّ استهدافَهُم بِالقَتْلِ، وَيَجِبُ رَدُّهُم إلى مَأمَنِهِم, والمشهورُ أنَّ
أمانَ غيرِ المُسلمِ ليس بِأَمَانٍ, قالَ ابنُ القاسم: «فَإِنْ قالوا ظَنَنَّا الذِّميَّ
-يعني: الذي أعطاهُم الإذنَ والأمَانَ والتأشيرةَ- ظَنَنَّاهُ مُسْلِمًا؛ رُدُّوا إلى
مَأمْنِهِم، ولا يجوز أَنْ يُعْتَدَى عليهم».
وقال
الحطَّاب المالكي: «فَقَالَ الْحَرْبِيُّونَ:
ظَنَنَّا أَنَّ هَذَا الَّذِي أَعْطَانَا الْأَمَانَ ظَنَنَّاهُ مُسْلِمًا، فَإِنَّ
الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ إِمَّا أَنْ يُمْضَيَهُ، وَأَمَّا أَنْ يَرَدَّهُمْ إلى مَأْمَنِهِمْ،
وَأَمَّا أَنْ يَلْحقَهُم الأَذَى بحالٍ في أنفسِهِم أو في أموالِهِم أو في أعراضِهِم
فهذا لا يجوزُ بحال؛ هَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ مَرَّةً: لَا
يُعْذَرُونَ وَهُمْ فَيْءٌ، ولكنْ لا يُقْتَلُونَ، وسواءٌ قُلْنَا بِتَوَقُّفِ الأمرِ
على إمضاءِ الإمامِ أو الالتزامِ بِرَدِّهِم إلى مَأمنِهِم، فإنَّ قَتْلَهُم لا يجوزُ
في كلِّ هذه الاحتمالات».
أَمَّا
كَوْنُ تأشيرةِ الدخولِ اليوم تُمَثِّلُ شُبْهَةَ أمانٍ تمنعُ مِن إباحةِ قَتْلِ الأجانبِ
والسُّيَّاحِ؛ فَيُوَضِّحُهُ أنَّ -يعني: حتى لو قالوا لا يُعَدُّ أَمَانًا!-، فَيُقَالُ
شُبهةُ أمانٍ، ويترتبُ عليها الحكمُ نَفْسُهُ، فَالعِبْرَةُ في انعقادِ الأمانِ بِمَا
يَفْهَمُهُ مَن يَطْلُبُ الأمان.
العِبْرَةُ
في انعقادِ الأمانِ شَرْعًا ليس بِمَا يُرِيدُهُ مَانِحُ الأمانِ فَحَسْب، إنَّمَا
يتوقفُ على ما يَفهمُهُ مَن يطلبُ الأمان أو ادَّعَى قيامَهُ؛ لذلك فإنَّ عُمَرَ -رضي
الله عنه- أرسلَ كِتَابًا إلى جيشِ المسلمينَ وهو يُحَاصِرُ قَصْرَ فَارسٍ، جاءَ فيه:
«إِذَا
حَاصَرْتُمْ حِصْنًا فَلا تَقُولُوا: انْزِلْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَإِنَّكُمْ لا
تَدْرُونَ مَا حُكْمَ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اقْضُوا
فِيهِمْ، وَإِذَا لَقِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَقَالَ: لا تَخَفْ، فَقَدْ أَمَّنَهُ،
وَإِذَا قَالَ: تَتَرَّسُ -وهي كلمةٌ فارسيةٌ معناها: لا تَخَف- فَقَدْ أَمَّنَهُ،
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الأَلْسِنَةَ كُلَّهَا».
وَمِمَّا
يُسْتَدَلُّ به على نَفْسِ المعنى ما رَوَاهُ سعيدُ بن منصور في «سُنَنِهِ» عَنْ أَنَسٍ
-رضي الله عنه-، قال: «بَعَثَ مَعِي أَبُو مُوسَى بِالْهُرْمُزَانِ إِلَى عُمَر -رضي
الله عنه-, فَجَعَلَ عُمَر يُكَلِّمهُ فَلَا يَتَكَلَّم, فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ.
فقَالَ
الْهُرْمُزَانِ: أَكَلَامُ حَيٍّ أَمْ كَلَامُ مَيِّتٍ؟
قَالَ:
تَكَلَّمْ لَا بَأْس.
فَذَكَرَ
الْقِصَّة, فَأَرَادَ عُمَرُ قَتْلَهُ.
قال
أنسٌ فَقُلْت: لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ, فقَدْ قُلْت
لَهُ تَكَلَّمْ لَا بَأْس.
فَقَالَ:
مَنْ يَشْهَد لَك؟
فقال:
شَهِدَ لِي الزُّبَيْر بِمِثْلِ ذَلِكَ.
فَتَرَكَهُ
فَأَسْلَمَ, وَفَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ».
قَالَ
له لَا بَأْس؛ فعُدَّ أَمَانًا وَشَهِدَ بذلك الزُّبَيْرُ مع أَنَسٍ -رضي الله عنهما-،
في هذا دلالةٌ على أنَّ العِبرةَ بما يَفهمُهُ مَن يطلبُ الأمانَ أو يَدَّعِي وجودَهُ.
ويذكرُ
الفقهاءُ أمثلةً عديدة لِمَا يَنْعَقِدُ الأمانُ به مِن ألفاظٍ أو أقوالٍ أو أعمالٍ,
والمتأملُ في دلالتِهَا يَجِدُ أنَّ مِن بَيْنِهَا صورًا أو أمثلةً هي دونَ تأشيرةِ
الدخولِ في الدلالةِ على وجودِ الأمانِ، فَقَد عَدَّ الفقهاءُ الأمانَ مُنْعَقِدًا
بألفاظٍ مِثْل: لا بأسَ عَلَيْكَ, وأنتَ على مَا تُحِبُّ, أو بإشارةٍ كالإشارةِ بالأصبعِ
إلى السماءِ, أو بِفَتْحِ المُصْحَفِ، أو غيرِ ذلك مِمَّا قالَهُ العلماءُ -عليهم الرحمة-،
فتأشيرةُ الدخولِ تُمَثِّلُ أَمَانًا صَحِيحًا طَالَمَا اعتقدَ الأجنبيُّ أو السائحُ
أَنَّهَا كذلك.
ولا
يجوزُ قَتْلُ الأجنبيِّ والسائحِ إذا دَخَلَ البلادَ بأمانٍ غيرِ صحيحٍ، فإذا دَخَلَ
الأجنبيُّ أو السائحُ بلادَ المُسلمين بأمانٍ يَظُنُّهُ صحيحًا وهو غيرُ ذلك، كأنْ
يكونَ صَادِرًا مِن كافرٍ فلا يجوزُ قَتْلُهُ، وإنَّمَا يَجِبُ رَدُّهُ إلى مَأمَنِهِ،
أو أنْ يُقِرَّ الإمامُ مِثْلَ هذا الأمانِ، وفي كلِّ هذه الأحوالِ لا يَصِحُّ قَتْلُهُ،
يقولُ الحَطَّابُ: «إذا قُلْنَا أَنَّ أمانَهُ -يعني الذِّميّ- أنَّ أمانَهُ غيرُ مُعْتَبَرٍ؛
فَقَالَ الْحَرْبِيُّونَ : ظَنَنَّا أَنَّ هَذَا الَّذِي أَعْطَانَا الْأَمَانَ مُسْلِمٌ
، فَإِنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ: إمَّا أَمْضَاهُ وإمَّا رَدَّهُمْ لِمَأْمَنِهِمْ،
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَ مَرَّةً لَا يُعْذَرُونَ وَهُمْ
فَيْءٌ».
فإذا
اعتبرَنَا أنَّ تأشيرةَ الدخولِ لا تُمَثِّلُ أَمَانًا صحيحًا فَعَلَى كلِّ أقوالِ
العلماءِ لا يَصِحُّ قَتْلُ الأجانبِ والسُّيَّاحِ الذينَ دَخَلُوا بِهَا البلادَ
-أي بتلكَ التأشيرة-، واعتقدوا صِحَّتَهَا سَوَاءٌ أكانت مَمْنُوحَةً لَهُم مِمَّن
يَصِحُّ أمانُهُ أو مِمَّن لا يَصِحُّ أمانُهُ.
وَبُنَاءً
على كلِّ سَبَقَ ذِكْرُهُ: فَإِنَّ اعتبارَ تأشيرةِ الدخولِ بِمَثَابَةِ الأمانِ أو
تُمَثِّلُ شُبْهَةَ أمانٍ يَمْنَعُ استهدافَ الأجانبِ بِالقَتْلِ، وهذا أَمْرٌ ثَابِتٌ؛
انطلاقًا مِن كَوْنِهَا أكثرَ دلالةٍ على الأمانِ مِن كثيرٍ مِن الصورِ التي اعتبرَهَا
الفقهاءُ دَلِيلًا على انعقادِ الأمانِ, بالإضافةِ إلى أنَّ العِبْرَةَ في انعقادِ
الأمانِ بِمَا يَفْهَمُهُ الأجنبيُّ, وإذا اعتبرنَا أنَّ تأشيرةَ الدخولِ لا تُعَدُّ
أَمَانًا صَحِيحًا، فَالواجبُ الراجحُ رَدُّهُم إلى مَأمنِهِم.
فَمِن
أين يأتي هؤلاء بأحكامِهِم؟!!
مِن
أين يَسْتَمِدُّونَ فِقْهَهُم؟!!
مِن
أين؟!!
مِن
رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- أَمْ مِن وكالةِ الاستخباراتِ
في البنتاجون أَمْ مِن البيتِ الأسودِ؟!!
إذا
تَأَمَّلْتَ مَوْقِفَ الإسلامِ مِن امتدادِ الحربِ والقتالِ لغيرِ المُقاتِلين أَدْرَكْتَ
عَظَمَةَ هذا الدينِ وعُمْقَ سَمَاحَتِهِ، فَعِنْدَمَا يأتي النَّهِيُ القَاطِعُ مِنْ
رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- ومِن خُلفائِهِ عن استهدافِ
«النِّسَاءِ، والولدْان، والشيوخ، والزَّمْنَى -يعني: أصحاب العَاهَات-، والرُهْبَان،
والفَلاحِين، والأُجَرَاء»؛ تَعْلَمُ عِندئذٍ المَوْقفَ الحقيقيَّ للإسلامِ مِن استهدافِ
«المَدَنيِّينَ» بِالمصطلحِ الحديثِ، إذا تَأَمَّلْتَ هذه الأصناف: «النساء، الوِلْدَان،
الشيوخ، المَعتوهين، الأُجَرَاء، الفلاحين، الرُّهْبَان، العبيد، الوصفَاء»، إذا تَأَمَّلْتَ
هذه الأصنافِ؛ أَدْرَكْتَ أنَّ هؤلاء في مَجْمُوعِهِم يُمَثِّلونَ مَن لا يَنْتَصِبُونَ
للقِتَالِ ولا يُشَارِكُونَ في وَقَائِعِهِ؛ وَهَل تَعبيرُ «المَدَنيينَ» اليوم له
دَلالةٌ سِوَى هذا؟!
ومِن
هُنَا جَاءَ قَوْلُ الفقهاءِ بِحُرْمَةِ قَتْلِ مَن لَم يَكُن مِن أَهْلِ المُقَاتَلَةِ
والمُمَانَعةِ أو كانَ مِن المَدنيينَ بالمصطلحِ الحديث، وهذا النَّهْيُ عن استهدافِ
المَدنيينَ منْ غيرِ أَهْلِ المُقَاتَلةِ والمُمانَعةِ لم يأتِ نتيجةَ اختيارٍ فِقْهيٍّ
ولا ترجيحٍ مصلحيٍّ، وإنَّمَا جاءَ النَّصُّ على المَنْعِ مِن استهدافِ أَغْلَبِ هذه
الأصنافِ بِبَيَانٍ نبويٍّ ووَحْيٍّ إلهيٍّ، مِمَّا يَرْفَعُ درجةَ هذا النَّهْي في
نَفْسِ كلِّ مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنةٍ إلى أعلى درجاتِ الحَذَرِ مِن مخالفتِهِ.
عَنْ
ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ:
«وُجِدَتْ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ». أَخْرَجَاه في «الصَّحِيحيْن».
وَعَنْ
ابن رَبَاحِ بْنِ رَبِيعٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةٍ، فَرَأَى النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ؛ فَبَعَثَ
رَجُلًا، فَقَالَ: «انْظُرْ: عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ؟»
فَقَالَ:
عَلَى امْرَأَةٍ قَتِيلٍ.
فَقَالَ
رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا كَانَتْ هَذِهِ
لِتُقَاتِلَ».
قَالَ:
وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ خالد بن الوليد -رَضِيَ اللهُ عنه-.
فَبَعَثَ
رَجُلًا فَقَالَ: «قُلْ لِخَالِدٍ: لَا يَقْتُلَنَّ
امْرَأَةً وَلا عَسِيفًا». أخرجَهُ أبو داود وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ، قال:
«حَسَنٌ صَحِيحٌ».
والعسيف:
هو الأجير.
فينبغي
عَلَيْنَا عِبَادَ اللهِ أَنْ نَجْتَهِدَ في نُصْرَةِ دِينِنَا، لَا في خذْلانه، لا
في مُحَارَبَتِهِ، ينبغي أنْ نكونَ مِن أولياءِ اللهِ، وَمِن أولياءِ رسولِ اللهِ،
وَأَلَّا نكونَ مِن أعداءِ اللهِ، وَلَا مِن أعداءِ رسولِهِ، أَلَّا نَصُدَّ عن سبيلِ
اللهِ، أَلَّا نقومَ بِذَبْحِ البشرِ، وحَتَّى لو كان فلماذا يُعْرَضُ هذا علي العَالَمِينَ؟!!
لماذا؟!!
ولماذا
يُتَفَنَّنُ في تصويرِهِ وإنتاجِهِ وإخراجِهِ وتسويقِهِ؟!!
وَمَن
وراءَ هذا؟!!
وما
المرادُ منه؟!!
هذا
دينُ اللهِ الذي جاءَ به نَبِيُّ الرَّحْمَةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
سَلَّمَ-؟!!
هذا
صَدٌّ عن سبيلِ اللهِ وليس مِن دينِ اللهِ في شَيءٍ.
وَصَلَّى
اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَسَلَّمَ.
الْخُطْبَةُ
الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا
دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا
بَعْدُ:
فليسَ
كلُّ مَنْ ادَّعَى الجهادَ وَدَخَلَ مَيْدَانَ القتالِ؛ صُفِّقَ له وشُجِّع على ذلك
حتى يُنْظَرَ هل جِهادُهُ شرعيٌّ أو غيرُ شرعيِّ؟
فَقَد
يكونُ المُسلمونَ كثيرينَ لكنَّهُم ضُعَفَاء في دينِهِم وفي استعدادِهِم العسكريِّ
القتاليِّ، فَيَنْظُرُ عُلَمَائُهُم في حَالِهِم؛ فإذا عَلِمُوا منهم مَا ذُكِرَ، قالوا
لَهُم كما قالَ رَبُّنَا -جَّلَ وَعَلَا-، لعِلْمِهِم بِأَنَّ اللهَ شرطَ لنَصْرِ عبادِهِ
التقوي ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ
هُمْ مُحْسِنُونَ﴾، و الرسولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- يقولُ:
«بَلْ أَنتُمْ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ
كَغُثَاءِ السَّيْلِ». رَوَاهُ أبو داود، وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ.
فَلا
غَرْوَ أَنْ يَحْكُمَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى قِتَالٍ مَا بِالفَشَلِ، إذا كان أصحابُهُ
على قِلَّةِ دِينٍ أو ضَعْفِ قُوَّةٍ، فكيفَ إذا اجتمعا فيه كما في هذا العصرِ؟!!
إنَّ
المُحَقِّقينَ مِن أَهْلِ العِلْمِ كَمَا بَيَّنَ شيخُ الإسلامِ المظلومِ -رَحِمَهُ
اللهُ رحمةً وَاسِعَة-، بَيَّنَ أنَّ المُسلمينَ لا يدخلونَ المعركةَ إذا كانوا علي
الوَصْفِ الذي مَرَّ، مِن ضَعْفٍ في إيمانِهِم أو في استعدادِهِم العسكريِّ، وَمَا
اتَّهَم أَحَدٌ قَطُّ شيخَ الإسلامِ بأنهُ مُثَبِّطٌ عن الجهادِ، أو أنه خادمٌ للعدوِّ،
أو أنه يعملُ علي إضعافِ ثِقَةِ النَّاسِ في مِصداقيةِ الجهادِ، أو أنه عميلٌ، قد يكونُ
المُسلمونُ أقوياءَ في دينِهِم، لَكِنَّهُم قَصَّرُوا في الإعدادِ العسكريِّ، فلو انهزموا
لم يُسْتَغْرَب، لأنَّهُم خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ -جَّلَ وَعَلَا-: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾.
فَمَن
عَلِم أنه أضعفُ مِن أنْ يُقَابِلَ عدوَّهُ؛ لم يُمَكِّنهُ مِن نَفْسِهِ بالوقوعِ تحتَ
نير استفزازِهِ ولو شَجَّعَهُ المُتهورونَ؛ لأنَّ العدوَّ إذا كان في أَوْجِ قوتِهِ؛
حَاوَلَ تحريشَ المُتسرعينَ منهم قليلي الصبرِ حتي يَجُرَّ بِهم جميعَ المسلمينَ إلى
حَتْفِهِم قَبْلَ أنْ تكونَ لَهُم قوة.
وليسَ
كلُّ مَن ادَّعَى صلاحَ النِّيَّةِ وَأَنَّ دَافِعَهُ إلى ذلك هو الغَيْرَةُ، الغَيْرَةُ
على الإسلامِ، ليس كلُّ مَن ادَّعى ذلك سُلِّم له فيه؛ لأنَّ الإخلاصَ وحدَهُ لو صَحَّ؛
لا يَكْفِي لقَبُولِ الأعمالِ، بَل كلُّ عَمَلٍ يُوزَنُ باثنتيْن هُمَا: الإخلاصُ للهِ
فيه والمُتَابَعَةُ لرسولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- فيه؛ ولذلك
امْتَحَنَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- أبو مُوسَى -رضي الله عنه- فقَالَ: «أرَأَيْتَ
لَوْ أَنَّ رَجُلا خَرَجَ بِسَيْفِهِ يَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَضُرِبَ فَقُتِلَ
كَانَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟»
فَقَالَ
لَهُ أَبُو مُوسَى: نَعَمْ.
فَقَالَ
حُذَيْفَةُ: لا، وَلَكِنْ إِذَا خَرَجَ بِسَيْفِهِ
يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، ثُمَّ أَصَابَ أَمْرَ اللَّهِ فَقُتِلَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ».
أَخَرْجَهُ سعيدُ بن منصورٍ بِسَنَدٍ صحيحٍ.
وَمَعنى
قولِهِ: «ثُمَّ أَصَابَ أَمْرَ اللَّهِ»: أَصَابَ
السُّنَّةَ، أي كان جِهَادُهُ بِحَقٍّ، وَيُوَضِّحُهُ قولَ ابنِ مَسعودٍ -رَضِيَ اللهُ
عنه- كَمَا في «البدعِ والنَّهي عَنْهَا لابن وَضَّاح»: علَى سُنَّةٍ ضَرَبَ أَمْ عَلَى
بِدْعَةٍ؟!
قَالَ
الْحَسَنُ: «فَإِذَا بِالْقَوْمِ قَدْ ضَرَبُوا بِأَسْيَافِهِمْ
عَلَى الْبِدَعِ».
وفي
روايةٍ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ:
«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَحُذَيْفَةُ عِنْدَهُ فَقَالَ:
أَرَأَيْتَ رَجُلًا أَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ؛ أَلَهُ الْجَنَّةُ؟
قَالَ
الْأَشْعَرِيُّ: نَعَمْ.
قَالَ:
فَقَالَ حُذَيْفَةُ: اسْتَفْهِمِ الرَّجُلَ
وَأَفْهِمْهُ.
قَالَ:
كَيْفَ قُلْتَ؟
فَأَعَادَ
عَلَيْهِ الرجل مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ.
فَقَالَ
لَهُ أَبُو مُوسَى مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ.
قَالَ:
فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَيْضًا: اسْتَفْهِمِ الرَّجُلَ
وَأَفْهِمْهُ.
قَالَ:
كَيْفَ قُلْتَ؟
فَأَعَادَ
عَلَيْهِ مِثْلَ قَوْلِهِ.
فَقَالَ:
مَا عِنْدِي إِلَّا هَذَا.
فَقَالَ
حُذَيْفَةُ: لَيَدْخُلَنَّ النَّارَ مَنْ يَفْعَلُ
هَذَا كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ مَنْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُصِيبُ
الْحَقَّ، فَلَهُ الْجَنَّةُ.
فَقَالَ
أَبُو مُوسَى: صَدَقَ».
فَتَأَمَّل
هذا الأثرَ العظيمَ وَمَا تحتَهُ مِن فِقْهٍ جليلٍ، فإنه يُبَيَّنُ لَكَ الميزانَ الشرعيَّ
الذي يَزِنُ بهُ المُسْلِمُ الفقيهُ الصَّادِقُ أَعْمَالَ العِبَادِ، أَلَا وهو النَّظَرُ
في كُلِّ عَمَلٍ بِعَيْنِ الإخلاصِ للهِ وَعَيْنِ المُتَابَعَةِ لرسولِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ-؛ لأنهُمَا شَرَطَا قَبُولِ العَمَلِ، لذَلِكَ جَاءَ
في روايةِ ابنِ وَضَّاح زيادةً نَافِعَةً فِيهَا أنَّ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عنه-
قَالَ فِيمَن قِتَالُهُ على غيرِ السُّنَّةِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَيَدْخُلَنَّ
النَّارَ فِي مِثْلِ الَّذِي سَأَلْتَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ كَذَا وَكَذَا»، لأنَّهُم
إنْ تَوَفَّرَ عندهُم شَرْطُ الإخلاصِ -يعني فيما يدَّعُونَهُ جهادًا-، فَلَيْسُوا
عندَ المُتَابَعَةِ لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- عَلَى
شَيءٍ، فَلَيْسَ جِهَادُهُم جِهَادًا كَمَا بَيَّنَهُ النَّبيُّ، فَهَذَا «جِهَادٌ
بِدْعيٌ»، وَأَمَّا الجِهَادُ المَقبولُ فهو «الجهادُ السُّنِّيُّ» بالإخلاصِ للهِ
-جَلَّ وَعَلَا-.
وَهَذَا
مِن أَبْيَنِ الأدِلَّةِ على أنَّ أصحابَ رسولِ اللهِ ما كانوا يُمَشُّونَ كلَّ جِهَادٍ
بِدْعيٍّ مَهْمَا ادَّعى له مُدَّعُوهُ خُلُوصَ النِّيَّاتِ أو زَيَّنُوهُ بِمُفَخَّمَاتِ
الألفاظِ الجهاديةِ، والخُطَبِ الرنَّانةِ المُلْهِمةِ للمَشَاعِرِ الفَتِيَّةِ، بَل
يَزِنُونَهُ بِالمِيزَانَيْن السَّابِقيْن، وهو مِن أَقْوَى الشواهِدِ دَلالةً على
فِقْهِهِم في الدِّينِ وَوَعْيِهِم القواعد الشرعية وتَجَرَدُّهِم للحَقِّ -رَضِيَ
اللهُ عنهم-، وَأَنَّهُم مَا كانت تَسُوقُهُم العواطفُ إلى مُجَامَلَةِ كل مُدَّعٍ
قِتَالًا شَرِيفًا ضِدَّ الطَّوَاغِيت!! ولا كانوا يخافونَ مِن شَبَابِ الحركةِ أو
شبابِ الصَّحْوَةِ -كَمَا يقولون- مِن أنْ يَرْمُوهُم بِالمُدَاهَنَةِ في دينِ اللهِ
أو بابتغاءِ رِضَا الكُبَرَاءِ، بَل يَصْدَعُونَ بالحقِّ في وَجْهِهِم مُتذكرينَ قولَ
القائل: «إِرْضاءُ الخَلْقِ غَايَةٌ لا تُدَرَّكَ، وإِرْضاءُ الخَالِق غَايَةُ لا تُتَرَكَ».
قالَ
اللهُ -جلَّ وَعَلَا-: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾، لذلك فَرَّقَ العُلَمَاءُ
بينَ الجِهَادِ السُّنِّيِّ والجهادِ البِدعيِّ.
وهذا
كلامُ شيخِ الإسلامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَصَدَّ عنه عَادِيَةَ
المُغِيرينَ مِن العَلمانيينَ والفاجرينَ والمُبتدعينَ-، قالَ في «الرَّدِّ على الأخنائيِّ»:
«والكتابُ والسُّنَّةُ مَمْلُوءان بالأمرِ بالجهادِ وَذِكْرِ فَضْلِهِ، لَكِنْ يَجِبُ
أنْ يُعْرَفَ الجِهَادُ الشَّرعيُّ الذي أَمَرَ اللهُ به ورسولُهُ مِن الجهادِ البدعيِّ:
جِهَادِ أهلِ الضَّلَالِ الذين يُجَاهِدُونَ في طاعةِ الشيطانِ، وَهُم يَظُنُّونَ أَنَّهُم
يُجَاهِدُونَ في طاعةِ الرحمَن، كجهادِ أهلِ البدعِ والأهواءِ، كالخوارجِ وَنَحْوِهِم
الذينَ يُجَاهِدُونَ أَهْلَ الإسلامِ وِفِي مَن هو أَوْلَى باللهِ ورسولِهِ مِنْهُم
السابقينَ الأَوَّلينَ والذينَ اتَّبَعُوهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، كمَا جَاهَدُوا
عَليًّا وَمَن مَعَهُ، وَهُم لِمُعَاويَةَ وَمَن مَعَهُ أَشَدُّ جِهَادًا.
ولهذا
قالَ فيه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّم- في الحديثِ الصحيحِ الذي رَوَاهُ مُسلم
مِن روايةِ أبو سعيد -رضي الله عنه- قال: «تَمْرُقُ
مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُم أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ
إلى الْحَقِّ».
فَقَتَلَهُم
علَيٌّ وَمَن مَعَهُ إذ كانوا أَوْلَى بِالحَقِّ مِن مُعَاوية وَمَن مَعَهُ، وَهُم
كانوا يَدَّعُونَ أَنَّهُم يُجَاهِدُونَ في سبيلِ اللهِ لأعداءِ اللهِ»، يعني: الخوارج،
كان يَدَّعُونَ أنهم يُجاهِدُونَ في سبيلِ اللهِ لأعداءِ اللهِ.
أهلُ
الأهواءِ مَا أَوْقَعَهُم في أهوائِهِم إلَّا العَاطِفَةُ التي لا تَنْضَبِطُ بِنَصٍّ
ولا مَنْهَجٍ، خَالَفَ الخَوارَجُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عنهم-، فَقَتَلُوا خَيْرَ
النَّاسِ في زَمَنِهِم وهو عليٌّ -رضيَ اللهُ عنه-، مَن قَتَلَ عليًّا -رَضِيَ اللهُ
عنه-؟!
هَل
قَتَلَهُ أعداءُ الإسلامِ؟!
هل
قَتَلَ عَليًّا الوثنيون؟! عُبَّاد النارِ؟! أو عُبَّاد البقرِ؟! أو قَتَلَهُ أَهْلُ
الكِتَابِ؟! لا، قَتَلَهُ رَجُلٌ يقومُ الليلَ
ويصومُ النهارَ (عبد الرحمن بن مُلْجَمٍ الخارجيِّ) -لا رَحِمَهُ اللهُ فيه مَغْرِزَ
إِبْرَة-، أَرْسَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عنه- عبد الرحمن بن مُلْجَمٍ إلى مِصر لَمَّا
طَلَبَ عمرو بن العاص -رضيَ اللهُ عنه- قارئًا يُقْرِئُ النَّاسَ القُرآن.
قَالَ:
أَهْلُ مِصْر يَحتاجونَ إلى قارئٍ يُقْرِئُ النَّاسَ القُرآن -قال هذا عمرو -رضي الله
عنه-.
فقالَ
عُمَرُ في رسالةٍ أَرْسَلَهَا إلى عمرو -رضي الله عنهما-:
«أَرْسَلْتُ لك رَجُلًا صَالِحًا هو عبد الرحمن بن مُلجَم، آثَرْتكَ به على نَفْسِي،
إذا أَتَاكَ فَأَكْرِمْهُ واجْعَل له دَارًا يُقْرِئُ النَّاسَ فيها القُرْآنَ».
جَلَسَ
عبد الرحمن بن مُلجم في مِصر حتى ظَهَرَت الخوارجُ، وَأَوَّلُ مَا ظَهَرَت في اليَمن
ثُمَّ في مِصْر، وَأَخَذَت في الانتشارِ في مِصْر، فَأَثَّرُوا فيه؛ لأنَّهُ كانَ كثيرَ
الصلاحِ، كثيرَ العاطفةِ، لَكِنَّهُ كان قليلَ العِلْمِ والفِقْهِ، وكانَ مُنْعَزِلًا،
فَلِذَلِكَ أَتَاهُ الأَمْرُ مِن حيثُ أَتَاهُ، وَقَتَلَ خَيْرَ النَّاسِ في زَمَنِهِ
عليَّ بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه-، وَلَمَّا قُيِّدَ للقصَاصِ قالَ لَهُم: لَا تَقْتُلُوني
مَرَّةً واحدةً، لَكِن اقتلوني شَيْئًا فَشَيْئًا، قَطِّعُوا أَطْرَافِي أَمَامِي لأَنْظُرَ
كيفَ تُقَطَّعُ أَطْرافي في سبيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
لقد
بَقِيتُ دَعوةُ الخوارجِ سَريَّةً مُتْسَلْسِلَةً في النَّاسِ حَتَّى مَدَحَ قَاتِلَ
عليًّا -رضي اللهُ عنه- عِمرانُ بن حِطَّان، وكانَ رَجُلًا صُلْبًا في السُّنَّةِ مِن
حَمَلَةِ العِلْمِ والحديثِ، وَلَكِنَّهُ كانَ كثيرَ الصلاحِ قليلَ العِلْمِ والفِقْهِ
-يعني: يَحْمُلُ عِلْمًا لا يَفْهَمُهُ ولا يَعِيهُ ولا يُدرك أبعادَ مَا هُو فيه-،
فَأَثَّرُوا فيه، تَزَوَّجَ ابنةَ عَمِّ له خَارِجيَّة لِيَرُدَّهَا إلى السُّنَّةِ؛
فَجَرَّتْهُ إلى الخروجِ، فقَاَل بَعْدُ يَمْدَحُ قَاتِلَ عَليًّا -رضي الله عنه-:
يَا
ضَرْبَة مِن تَقيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا
إلَّا
ليَبْلُغَ مِن ذي العَرْشِ رضْوَانًا
إنِّي
لأَذْكُرُهُ حِينًا فَأَحْسَبَهُ
أَوْفَى
البريَّةِ عندَ اللهِ مِيزانًا
وهذا
-عياذًا باللهِ ولِيَاذًا بجنابِهِ الرحيمِ- هو التَّديُّنُ الغَالي الذي يجعلُ الإنسانَ
ما ليسَ بالحَسَنِ حَسَنًا، العاطفةُ الجَيَّاشَةُ والحَمَاسُةُ للدِّينِ والجهادُ
المظنون يؤولُ إلى مِثْلِ هذه الأفكارِ، وهذا الغُلوُّ مرفوضٌ مِن أصحابِهِ، وينبغي
عليهم أنْ يُرَاجِعُوا أَمْرَهُم، وأنْ يَعُودوا إلى اللهِ رَبِّهِم، وأَلَّا يَعِيثُوا
في الأرضِ فسادًا، عليهم أنْ يَكُفُّوا عن الصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-
بِمَا يَصنعون، عليهم ألَّا يجعلوا الناسَ يَرْبِطُونَ بينَ الإسلامِ والإرهاب، والإسلامُ
مِن هذا بريءٌ، فالإسلامُ دينُ الرحمةِ، إنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ سَلَّمَ- لم يَقْبَل أَنْ تُحْرَقَ قَريةُ النَّمْلِ، وبَيَّنَ أنه «لا يُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللهِ إِلَّا اللهُ».
إنَّ
النَّبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- لم يَقْبَل أنْ يَنْزِلَ العقابَ
بِغَيْرِ النملةِ الجَانيةِ، فأخبرَ: «أَنَّ نَبيًّا
نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَقَرَصَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِمَتَاعِهِ أنْ يُنْقَلَ،
ثُمَّ أَمَرَ بِحَرْقِ قَرْيَةِ النَمْلِ، فقَاَلَ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً -يعني:
عَاقِب الذي قَرَصَتْكَ-، أَهْلَكْتَ أُمَّةً تُسَبِّحُ
اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لأنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْكَ»، هذا هو نَّبيُّكُم -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ-.
لا
شَكَّ أنَّ الرَّبْطَ بينَ الدينِ والإرهابِ سَبَبُهُ الجهلُ بالدين، كيفَ لدينٍ يجعلُ
في كِتَابِهِ الخالدِ عُقوبةً وَحَدًّا للإفسادِ في الأرضِ أنْ يأمُرَ بالإرهابِ؟!
كيفَ
لدينٍ جَاءَ رَحْمَةً للناسِ أَجمعين كما قالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ أنَّ
يُقِرَّ تَرْوِيعَ الآمِنِينَ أو الاعتداءَ على المَدَنيين؟!!
قَالَ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»، إنهُ دِينُ
الرَّحْمَةِ، الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ التي تَشْمَلُ كلَّ الأحياءِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ
الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا
-أي: خُفَّهَا- فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ
-أي: بالخُفِّ-، فَسَقَتْهُ -أي: فسَقَت
الكلبَ- فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ».
رواه مسلم.
فكيف
يُتَصَوَّرُ مِنْ دِينٍ يَرْحَمُ رَبُّهُ مَن رَحِمَت كَلْبًا، وَهِيَ بَغِيٌّ مِنْ
بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، كيف يُتَصَوَّرُ مِن دِينٍ يَرْحَمُ مَن أَنْزَلَهُ مَن
كانت كذلك لِرَحْمَتِهَا كلبًا أَنَّ يُتَّهَمَ بأنهُ لا يَحُثُّ علي رَحْمَةِ الإنسانِ؟!!
عن
ابنِ عُمر -رضي اللهُ عنهما- عن النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
سَلَّمَ-، قال: «دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ
رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضَ»
أي: مِن هَوَامِّهَا، هذه امْرَأَةٌ يُعذِّبُهَا اللهُ؛ لأنها لَم تَرْحَم هذا الحيوان،
فكيفَ بِمَن لَم يَرْحَم إنسانًا مِن بني آدم؟! يَذِْبَحُهُ ذَبْحَ الدَّجَاجَة!! ويَقْتَادُهُ
للذَّبْحِ وهو يَعْلَم!!
قَالَ
رسولُ اللهِ للذي كانَ يَذْبَحُ شَاةً وَأُخْتُهَا تَنْظُرُ إليْهَا: «أنُزِعَت الرَّحْمَةُ مِن قَلْبِكَ، تُرِيدُ أنْ تُمِيتَهَا
مَوْتَات».
والأَشَاوِسُ
يَحْمِلُونَ المُدِيِّ -السَّكَاكينَ-، ويقولونَ: وَيْحًا لَكُم أَيُّهَا الصَّليبيونَ
سنأتيكُم، سَنَذْبحُكُم كَمَا نَذْبَحُ هؤلاء الأنَاسيِّ!! أيُّ شيءٍ هذا؟!!
أهذا
دينُ مُحَمَّدٍ؟!
عَن
أَبَي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ:
قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- الْحَسَنَ بْنَ
عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا.
فَقَالَ:
الْأَقْرَعُ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا.
فَنَظَرَ
إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». أَخَرْجَهُ البُخاريُّ.
ما
أكثرَ الشُّبُهَات!!
قالَ رسولُ اللهِ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ
وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَأَنَا الْمُقَفِّي، وَأَنَا الْحَاشِرُ وَنَبِيُّ الْمَلاحِمِ».
نَفْهَمُ هذا في الضوابطِ
التي دَلَّت عَلَيْهَا النصوصُ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، عند الاضطرارِ إلى القتالِ؛
تكونُ الشجاعةُ، وتكونُ التضحيةُ، وتكونُ المَلْحَمَةُ.
قالَ رسولُ اللهِ: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ»،
وهذا ما يتمسكوَن به، فَيَا تُرَى كَم ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ؟!
فَلْيَدُلُّونَا!!
قَاَلَ النَّبيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- لرَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ -كَمَا سيأتي إنْ شاءَ اللهُ
جَلَّ وَعَلَا-: «تَعْلَمُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ
لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ».
فَكَم ذَبَحَ نَّبيُّنَا
مُحَمَّدٌ ليُهِينُوا سُنَّتَهُ، وَيُشَوِّهُوا سِيرَتَهُ، وَليَجْعَلُوهُ في مَصَافِّ
مَصَّاصي الدِّمَاءِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- -بأبي هو وأمي ونَفْسِي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ--؟!!
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ
يَحْيَى بْنُ عُرْوَة، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ سألت عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو، قُلْتُ
لَهُ:
«مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا نَالَت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ-، فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ؟
قَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ
أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ،
سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا،
وَسَبَّ آلِهَتَنَا، ولَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، إِذْ طَلَعَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَقْبَلَ يَمْشِي، حَتَّى اسْتَلَمَ
الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ
بِبَعْضِ القولِ.
قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي
وَجْهِ رسولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ-، ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا
مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ، غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ،
ثُمَّ مَضَى، فَمَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ، فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، حتي وقف ثُمَّ
قَالَ: «أتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَالَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ».
قال: فَأَطْرَقَ القَوْمُ، حَتَّى
مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ، لا يَتَحَرَّكُ حَتَّى
لا يُهيِّجَهُ، حتى إِذَا كَانَ الْغَدُ، اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ،
حَتَّى إِذَا بَادَءَكُمْ بِمَا كنتم تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ! فَبَيْنَمَا هُمْ
فِي ذَلِكَ، طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَثَبُوا
علَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ، يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ
كَذَا وَكَذَا؟ لِمَا كَانَ بْلُغُهُمْ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ.
قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «نَعَمْ، أَنَا
الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ». قَالَ: فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْهُمْ رَجُلًا
آخَذًا بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، قَالَ: وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ-، دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: «وَيْلَكُم أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ
رَبِّيَ اللَّهُ».
قال: ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ،
فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ».
ما الذي كانَ؟! قُتِلُوا؟!!
أين قُتِلُوا؟!!
أَخَذَهُم فَجَاءَ بِهم،
ثُمَّ عَرضَهُم؟!!
يأتي بِأمثالِ البِغَالِ
تَدَّعِي نَفْسَهَا أَشْبَاحًا في سَوَادٍ، كأنَّمَا نَضَحَ سَوَادُ قلوبِهِم على أثوابِهِم،
فَصَارَت سَوَادًا كالهِبَابِ، أَتَى بِهِم فَذَبَحَهُم؟!!
لا، وإنَّمَا قَصَدُوهُ
في بَدْرٍ مِن أَجْلِ أَنْ يُقَاتِلُوهُ، فَخَرَجَ إليهم غيرَ مُسْتَعِدٍّ لِقِتَالٍ،
مع مَن معهُ مِن الصحابةِ، لا يَرْجُونَ أَنْ يَجِدُوا إلَّا العِير، وَمَا على بِالِهِم
النَّفِير، فَوَجَدوا القومَ، فَقَاتَلُوهُم، فَقَتَلَهُم اللهُ، فَكَانَ مَاذَا؟
أالذَّبْحُ حينئذٍ حرام؟!!
هؤلاء أَتَوْا لِذَبْحِهِ،
فَخَرَجَ إليهم لا مُقَاتِلًا وَلَا مُسْتَعِدًّا لقِتَالٍ، فَرَدَّ اعتداءَهُم، فَمَا
كانَ مِن وَاحِدٍ مِن أولئك الذينَ قالوا ما قالوا لَمْزًا لهُ إلَّا قُتِلَ، فَكَانَ
مَاذَا؟!! هذا قِتَالٌ في معركةٍ؛ في حَرْبٍ، في جِهَادٍ، وَمَن الذي لا يقولُ إنهُ
مَشْرُوعٌ؟!
أيُّ عَاقِلٍ على ظَهْرِ
الأرضِ آتَاهُ اللهُ ذَرْوًا مِن عَقْلٍ يقولُ هذا لا يجوز؟!!
فَمَا الذي يجوزُ إذن؟!
إنَّ النَّبيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ- قال له رَبُّهُ: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، وقالَ: ﴿إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ سَلَّمَ-﴾
«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ،
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ،
إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». أخرجه الْبُخَارِيُّ.
الوَلَه
ميزو مِسك في الحديثِ هذا وقال: هذا حديثٌ باطل!!
ليه
يا وله؟!
قال:
أصل الْبُخَارِي رواه، هذا حديثٌ مكذوب في الْبُخَارِيِّ، نَقُّوا البخاري مِمَّا فيه
..!!
لماذا؟!
، ليه يَاله؟!! ، هو احنا واقفين في التحرير؟ هي مظاهرة؟!!
كان
يقول إنه زعيم جماعةٍ في المظاهرات يُقال لها (أزهريون مع الدولةِ المدنية)، والأزهرُ
منه بريءٌ، بل العقلُ منه برئ.
قال:
«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ».
فالنَّبيُّ
سيذبحُ الناس جميعًا «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»، لفظُ الناسِ هنا
يا اد يا ميزو ليس على عمومِهِ، وإنما المرادُ بهم المشركون المحاربون، لأنَّ النَّبيَّ
طَبَّقَ تعاليمَ القرآن:
﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ
تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190].
وإلَّا
فهؤلاء النصارى بمِصْرَ لماذا بَقَوا على دينِهم الذي كانوا عليه؟ وهم أحياء؟ لماذا
لم يُجْبَرُوا علي الدخولِ في الإسلامِ أو يُقتلوا؟!
وكذلك
الشأنُ في كلِّ مكان، إنما كانت الحربُ في جهادِ الطلبِ من أجلِ إزالةِ الأنظمةِ التي
تَحولُ بين الشعوبِ وكلمةِ الله، فإنْ قَبِلَت هذه الشعوبُ كلمةَ اللهِ فذلك، إخواننا
في دينِ اللهِ -جلَّ وعلا-، وإنْ آثرت أنْ تَبْقَى على ما هي عليه؛ فَلَهُم دينُهُم،
ثم الجزية كَمَا هو معلوم، ولهم حقوقُهُم كما هو معلوم فيما مرَّ ذِكْرُهُ في حقوقِ
أهلِ الذِّمَّةِ.
فَمَا
هو الذي يَغِيظُ أمثالِ هؤلاء إذن؟!!
أقول
لك: الذي يغيظُهُم الجهل، لا يفهمون، الناس هاهنا
فيها (ال) و(ال) هاهنا للعهدِ وليست للجِنْسِ، فالمقصودُ إذن قومٌ مَعهودون معروفون،
وليست لجنسِ الناسِ وهذا معلوم، فإنَّ النَّبيَّ بَقِيَ اليهودُ في المدينةِ على دينِهم
ولم يقتلُهُم، وكذلك ما كان مِن نَصَارَى نَجْرَان، وما كان بعد ذلك مِن أَمْرِ المجوس،
أَنْزَلُوهُم منزلةَ أهلِ الذِّمَّةِ، وكذلك الرُّوم، عندما فُتِحَت فارسُ وفُتِحَت
كذلك ديارُ وبلادُ الروم، فهل كان الصحابةُ -رضي الله عنهم- ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ
لا يفهمونَ الحديث حتى جاء هذا العصر فَنَبَغَ فيه هذا النابغةُ -نابغةُ القرنِ الحادي
والعشرين أو قُلْ هو نابغةُ قرنِ خروف- فَفَهِمَ مَا لم يفهموه؟!!
أيُّ
عبثٍ هذا الذي نحن فيه؟!
لماذا
لا يُجرِّد الأزهرُ مِثْلَ هذا مِن زِيِّهِ الأزهري؟! لماذا؟!
لماذا
يُحْسَبُ على الأزهرِ ظَاهِرًا وهو يَهْدِمُ فيه بلسانِهِ وَقَلْبِهِ بَاطِنًا؟!.
أسألُ
اللهَ أنْ يرُدَّ الشاردينَ إلى الحقِّ ردًّا جميلًا.
وصلى
اللهُ وَسَلَّمَ على نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.