رد الاعتداء على السنة النبوية
خطبة الجمعة 24 من ربيع الأول 1438هـ الموافق 23-12-2016م
إنَّ
الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ
يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ؛
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا
بَعْدُ:
فَإِنَّ
أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ
بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا
بَعْدُ:
فَقَد
قَالَ السُّيُوطِيُّ –رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي «مِفتَاحِ الجَنَّة»:
«اعْلَمُوا -يَرْحَمُكُمْ اللَّه- أَنَّ مِنَ الْعِلمِ كَهَيئَةِ
الدَّوَاء, وَمِنَ الآرَاءِ كَهَيئَةِ الْخَلَاء؛ لَا تُذكَرُ إِلَّا عِنْدَ
دَاعِيَةِ الضَّرُورَة، وَإِنَّ مِمَّا فَاحَ رِيحُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
وَكَانَ دَارِسًا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مُنْذُ أزمانٍ، أَنَّ قَائِلًا
رَافِضِيًّا زِندِيقًا أَكثَرَ فِي كَلَامِهِ أَنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ
وَالْأَحَادِيثَ المَروِيَّةَ -زَادهَا اللَّهُ عُلوًّا وَشَرَفًا- لَا يُحْتَجُّ
بهَا، وَأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّة، وَأَورَدَ عَلَى ذَلِكَ
حَدِيثًا وَهُوَ: «مَا جَاءَكُم عَنِّي مِنْ حَدِيثٍ
فَاعرِضُوهُ عَلَى الْقُرْآن، فَإِنْ وَجَدْتُم لَهُ أَصلًا فَخُذُوا بِهِ
وَإِلَّا فَردُّوهُ».
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّه- فَقُلتُ لَهُ: مَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ يَثبُتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا
كَبِيرٍ, وَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَن رَجُلٍ مَجْهُولٍ، وَنَحنُ
لَا نَقبَلُ مِثلَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِي عَرْضِ الحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ
بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ يَنعَكِسُ عَلَى نَفسِهِ بِالْبُطْلَانِ، فَلَيْسَ
فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةٌ عَلَى عَرضِ الحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ.
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هَكَذَا
سَمِعْتُ هَذَا الْكَلَامَ بجُمْلَتِهِ مِنْهُ, وَسَمِعَهُ مِنْهُ خَلائِقُ
غَيْرِي، فَمِنهُم مَنْ لَا يُلقِي لِذَلِكَ بَالًا, وَمِنْهُم مَنْ لَا يَعرِفُ
أَصلَ هَذَا الْكَلَامِ وَلَا مِنْ أَيْن جَاءَ, فَأَرَدْتُ أَنْ أُوَضِّحَ
لِلنَّاسِ أَصلَ ذَلِكَ، وَأُبيِّنَ بُطْلَانَهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَعظَمِ
المَهَالِك.
وَأَصلُ هَذَا الرَّأْيِ الْفَاسِدِ -وَهُوَ أَنَّ السُّنَّةَ لَا
يُحْتَجُّ بِهَا, وَأَنَّ السُّنَّةَ لَا قِيمَةَ لهَا- أَنَّ الزَّنَادِقَةَ
وَطَائِفَةً مِنْ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ ذَهَبُوا إِلَى إِنْكَارِ الِاحْتِجَاجِ
بِالسُّنَّةِ وَالاقتِصَارِ عَلَى الْقُرآنِ, وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُختَلِفُو
الْمَقَاصِدِ، فَمِنْهُم مَنْ كَانَ يعْتَقِدُ أَنَّ النُّبُوَّةَ لِعَلِيٍّ,
وَأَنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَخطَأَ فِي نُزُولِهِ على سَيِّدِ
الْمُرْسَلِينَ ﷺ -تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا-،
وَمِنْهُم مَنْ أَقَرَّ لِلنَّبِيِّ ﷺ بِالنُّبُوَّةِ،
وَلَكِنْ قَالَ: إِنَّ الخِلَافَةَ كَانَت حَقًّا لِعَلِيٍّ, فَلَمَّا عَدَلَ
بِهَا الصَّحَابَةُ عَنهُ إِلَى أَبِي بِكرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم
أَجْمَعِينَ-؛ قَالَ هَؤُلَاءِ المَخْذُولُونَ -لَعَنَهُمُ اللَّهُ- .وَاللَّعنُ
مِنَ السُّيُوطِيِّ –رَحِمَهُ
اللَّهُ- كَفَرُوا حَيْثُ جَارُوا وَعَدَلُوا بِالْحَقِّ عَنْ مُسْتَحقِّه.
-وَالضَّمِيرُ
فِي قَولِهِ: كَفَرُوا؛ يَعُودُ إِلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنهُم-
بَلْ إِنَّ هَؤلَاءِ الزَّنَادِقَةَ كَفَّرُوا
-لَعَنَهُمُ اللَّهُ- عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ- أَيْضًا؛ لِعَدَمِ طَلَبِهِ
حَقَّهُ, فَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ رَدَّ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا
عِندَهُم بِزَعمِهِم مِنْ رِوَايَةِ قَومٍ كُفَّارٍ -فَإنَّا للَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُون-!!
وَهَذِهِ آرَاءٌ مَا كُنْتُ أَسْتَحِلُّ حِكَايَتَهَا
لَوْلَا مَا دَعَت إِلَيهِ الضَّرُورَةُ؛ مِنْ بَيَانِ أَصْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ
الْفَاسِدِ الَّذِي كَانَ النَّاسُ فِي رَاحَةٍ مِنْهُ مِنْ أَعْصَارٍ».
فَأَصْلُ إِنكَارِ السُّنَّة، وَأَصْلُ الحَمْلِ عَلَى
الصَّحَابَةِ –رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنهُم-؛ هُوَ أَصلُ هَؤلَاءِ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ
كَفَّرُوا الأَصحَابَ –رِضوَانُ اللَّهِ عَلَيهِم-, فَهَؤلَاءِ فِي هَذَا
العَصرِ يَعُودُونَ إِلَى أُولئِك, وَقَدْ كَانَ أَهلُ هَذَا الرَّأْيِ
مَوجُودِينَ بِكَثْرَةٍ فِي زَمَنِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَمَنْ بَعْدَهُم،
وَتَصَدَّى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَصْحَابُهُم فِي دُرُوسِهِم
وَمُنَاظَرَاتِهِم وَتَصَانِيفِهِم لِلرَّدِّ عَلَيْهِم, فَهَذا أَمْرٌ قَدِيمٌ.
وَكُلُّ مَا تَسْمَعُهُ فِي الطَّعنِ فِي سُنَّةِ
النَّبِيِّ ﷺ, وَكُلُّ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ الطَّعنِ فِي الصَّحَابَةِ –رَضِيَ اللهُ عَنهُم- وَالسَّلَفِ مِنَ الأَئمَّة إِلَى
عَصرِنَا هَذَا, كُلُّ هَذَا لَيسَ فِيهِ مِنْ شَيءٍ جَدِيدٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ
رِمَمٌ لِأَجسَادٍ جَيَّفَت فِي قُبُورِهَا, فَجَاءَ أَقوَامٌ لَا يَقَعُونَ
إِلَّا عَلَى القَذَرِ كَالذُّبَاب؛ فَاسْتَخْرَجُوا تِلكَ الرِّمَمَ وَأَرَادُوا
أَنْ يَنفُخُوا فِيهَا بِزَعْمِهِم الحَيَاةَ مِنْ جَدِيدٍ وَهَيهَاتَ هَيهَات!!
وَمَا مِنْ شُبهَةٍ يُرَدِّدُهَا هَؤلَاءِ إِلَّا وَقَد
رَدَّ عَلَيهَا العُلَمَاءُ مِنْ قَدِيمٍ, فَإِنَّهُم لَمْ يَأتُوا بِشَيءٍ سِوَى
جِدَّةِ العَرْضِ؛ لِأَنَّهُم يَتَكَلَّمُونَ الآنَ لِلعَامَّةِ, وَهَذِهِ الأُمُورُ
التِي مَرَّت مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالرَّدِ عَلَيهَا كَانَت مَحصُورَةً فِي
نِطَاقِهَا, وَلِذَلِكَ يَسْأَلُ السَّائِلُ بِحَقٍّ:
لمَاذَا تُعرَضُ هَذِهِ الشُّبُهَاتُ عَلَى العَامَّةِ؟!
لمَاذَا يَتَعَرَّضُ الشَّعْبُ لِلطَّعنِ فِي عَقِيدَتِه،
وَفِي مُسَلَّمَاتِهِ، وَفِي مُسْتَقَرَّاتِهِ العَقَدِيَّةِ وَالعِلمِيَّةِ
وَالعِبَادِيَّة؟!
وَلمَاذَا يُطْلَقُ هَؤلَاءِ عَلَى تُراثِ الأُمَّةِ
المَرحُومَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُزَيِّفُوهُ وَأَنْ يَطعَنُوا فِيهِ لِكَيْ
يُحَوِّلُوا المُسلِمِينَ الذِينَ لَا يَستَطِيعُونَ الرَّدَّ عَلَى الشُّبهَةِ
بِاللِّسَانَ؛ إِلَى الرَّدِّ عَلَيهَا بِالسِّلَاحِ وَالدِّمَاء؟!! لمَاذَا؟!!
لمَاذَا يُحوِّلُونَ الشَّعبَ المُسلِمَ إِلَى شَعبٍ
مُتَطَرِّفٍ؟!
لِأَنَّهُم يُهَاجِمُونَ ثَوابِتَهُ وَيَعتَدُونَ عَلَى
عَقِيدَتِهِ بِغَيرِ مَا اسْتِحقَاق!!
فَأُقسِمُ بِالَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بِلَا عَمَدٍ
إِنَّ التُّرَاثَ الَّذِي يُهَاجِمُونَهُ؛ لَا يَستَطِيعُ الوَاحِدُ مِنهُم أَنْ
يَقرَأَ مِنهُ صَفْحَةً مِنْ غَيرِ مَا عِدَّةِ عَشَرَاتٍ مِنَ الأَخطَاءِ!!
وَأَتَحَدَّاهُم؛ وَسَآتِي بِصَفحَةٍ مَشكُولَةٍ قَد ضُبِطَت
بِالشَّكْلِ, وَأَتَحَدَّاهُم فِي مَلَإٍ عَلَنِيٍّ تَشهَدُهُ الدُّنيَا؛ أَنْ
يَقرَأَ الوَاحِدُ مِنهُم صَفحَةً وَاحِدَةً مِنَ التُّرَاثِ الَّذِي
يُهَاجِمُونَهُ هَؤلَاء!!
مَن هَؤلَاءِ؟!!
هَؤلَاءِ كَالذُّبَابِ لَيسَت لَهُم قِيمَةٌ, يَعتَدُونَ
عَلَى مُسَلَّمَاتِ الأُمَّةِ وَعَلَى عَقِيدَتِهَا؛ فَيَتَطَرَّفُ أَصْحَابُ
الغَيْرَةِ وَالحَمَاسَةِ مِنْ هَذَا الشَّبَابِ المُسلِم, الَّذِي يَجِدُ هَذَا
الاعْتِدَاءَ الصَّارِخَ عَلَى عَقِيدَتِهِ وَتُرَاثِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ
وَأَصْحَابِ رَسُولِهِ ﷺ وَعَلَى الأَئمَّةِ بِبِذَاءَةٍ وَحَقَارَةٍ مِنْ
أَقوَامٍ لَا قِيمَةَ لَهُم وَلَا وَزَن!!
وَمَعلُومٌ عِندَ العُقَلَاءِ فِي الدُّنيَا كُلِّهَا
أَنَّ مَنْ تَصَدَّى لِنَقْدِ عِلْمٍ مِنَ العُلُومِ؛ يَنبَغِي أَنْ يَمْتَلِكَ
أَدَواتِ النَّقْدِ, وَأَنْ يَحُوزَ تِلْكَ الأَدَواتِ حِيَازَةً صَحِيحَةً,
فَإِذَا كَانَ هَؤلَاءِ لَا يَسْتَطِيعُ الوَاحِدُ مِنهُم أَنْ يُعْرِبَ جُملَةً
وَاضِحَةً فِي إِعرَابِهَا فَضْلًا عَن أَنْ يَفهَمَهَا!!
وَهَذِهِ اللُّغَةُ الشَّرِيفَةُ لَا تُفهَمُ إِلَّا
بِإِعرَابِهَا, وَهِي -أَي: هَذِهِ اللُّغَةُ الشَّرِيفَةُ- لَيسَت كَكُلِّ
لُغَاتِ الأَرض, فَإِنَّ كُلَّ اللُّغَات إِنَّمَا تُقْرَأُ لِتُفهَم؛ وَلُغَتُنَا
تُفْهَمُ لِتُقرَأ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّقدِيمِ وَالتَّأخِيرِ, وَلِمَا فِيهَا
مِنَ الكِنَايَةِ وَالتَّورِيَةِ وَمَا أَشْبَه مِنْ أَمثَالِ هَذِهِ الأُمُورِ
التِي تَمَيَّزَت بِهَا, فَكُلُّ لُغَاتِ الأَرضِ إِنَّمَا تُقْرَأُ لِتُفهَم,
وَأَمَّا لُغَتُنَا الفَرِيدَةُ العَجِيبَةُ؛ فَإِنَّهَا تُفْهَمُ لِتُقرَأ.
يَعنَي: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فَاهِمًا لِمَعنَى مَا
تَقْرَؤُهُ؛ حَتَّى تَقرَأَهُ قِرَاءَةً صَحِيحَةً.
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28], فَتَعْلَمُ أَنَّ الخَشْيَةَ مِنَ العُلَمَاءِ,
وَقَدْ وَقَعَ الفَاعِلُ مُؤَخَّرًا وَتَقَدَّمَ المَفعُولُ.
﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ [البقرة: 124], لَا بُدَّ أَنْ تَفهَمَ
أَوَّلًا أَنَّ الَّذِي ابْتَلَى إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ –جَلَّ وَعَلَا- وَإِنْ تَقَدَّمَ المَفعُولُ
المُبْتَلَى, فَلَا بُدَّ مِنْ فَهمِهَا أَوَّلًا.
مَاذَا يَفهَمُ هَؤلَاءِ فِي لُغَةِ التُّرَاثِ الَّذِي
يَنقُدُونَهُ, بَلْ هُمْ لَا يَنْقُدُونَهُ؛ هُمْ يَنسِفُونَهُ!!
يَقُولُ: دَعْ هَذَا فِي سَلَّةِ المُهمَلَات!!
قَالَ السُّيُوطِيُّ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: «قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ –رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي «الرِّسَالَةِ» وَنَقَلَهُ عَنهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي «الْمَدْخَل»: قَدْ وَضَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ مِنْ دِينِهِ
وَفَرْضِهِ وَكِتَابِهِ الْمَوضِعَ الَّذِي أَبَانَ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّهُ
جَعَلَهُ عَلَمًا لِدِينِهِ؛ بِمَا افْتَرَضَ مِنْ طَاعَتِهِ وَحَرَّمَ مِنْ
مَعْصِيَتِه, وَأَبَانَ مِنْ فَضِيلَتِهِ؛ بِمَا قَرَنَ بَينَ الْإِيمَانِ
بِرَسُولِهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ، فَقَالَ -تبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ [النساء: 171],
وَقَالَ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النور: 62], فَجَعَلَ كَمَالَ ابْتِدَاءِ
الْإِيمَانِ الَّذِي مَا سِوَاهُ تَبَعٌ لَهُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ ثمَّ
بِرَسُولِهِ مَعَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ وَحْيِهِ
وَاتِّبَاعَ سُنَنِ رَسُولِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿لَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ
أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾
[آل عمران: 164]، مَعَ آيٍ سِوَاهَا ذَكَرَ فِيهِنَّ الْكِتَابَ وَالْحِكمَةَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ –رَحِمَهُ اللَّهُ-: فَذَكَرَ اللَّهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآن،
وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ، فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ
يَقُولُ: الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾: وَهُوَ
الوَحيُ المُنَزَّلُ عَلَيهِ مِنَ اللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا- وَحْيًا أَوَّلًا, وَيُعَلِّمُهُمُ ﴿الحِكْمَةَ﴾ وَهِيَ السُّنَّةُ، وَهِيَ الوَحيُ
الثَّانِي الَّذِي أُوحِيَ إِلَيهِ ﷺ.
قَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ
فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59].
فَقَالَ بَعضُ أَهلِ الْعِلْم: أُولُوا الْأَمْرِ: أُمَرَاءُ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ،
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُم﴾: أَيْ: فَإِنْ اخْتَلَفْتُم
فِي شَيْءٍ, -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم- هُمْ وَأُمَرَاؤُهُم الَّذِين أُمِرُوا
بِطَاعَتِهِم، ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾:
يَعْنِي -وَاللَّهُ أَعْلَم- إِلَى مَا قَالَ اللَّهُ وَالرَّسُول.
ثمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأَعْلَمَهُم أَنَّ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
طَاعَتُهُ، فَقَالَ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:
65].
وَاحْتَجَّ أَيْضًا فِي فَرْضِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ
بِقَولِهِ تَعالَى: ﴿لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63].
وَبِقَولِهِ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7], إِلَى غَيرِهَا
مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتَ عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَلُزُومِ طَاعَتِهِ,
فَلَا يَسَعُ أَحَدًا رَدُّ أَمرِهِ لِفَرْضِ اللَّهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ ﷺ».
* لَقَد
أَمَرَ اللَّهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ ﷺ وَطَاعَتِهِ، وَالقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ فِي
آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾
[آل عمران: 32].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131-132].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء:
80].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ
جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا
اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 64-65].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ
عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [النساء: 14].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾
[الأحزاب: 36].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾
[الجن: 23].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ
وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات: 1].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ
يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
[النور: 63].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا
حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [ النور: 54].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
وَالآيَاتُ فِي هَذَا المَعنَى كَثِيرَةٌ؛ وَكُلُّهَا
تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِ ﷺ وَاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ, وَهِيَ
كَالأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّمَسُّكِ
بِهِ وَطَاعَةِ أَوَامِرِهِ وَنَواهِيِهِ، وَهُمَا أَصْلَانِ مُتَلَازِمَانِ، مَنْ
جَحَدَ وَاحِدًا مِنهُمَا فَقَد جَحَدَ الآخَرَ وَكَذَّبَ بِهِ؛ وَذِلِكَ كُفْرٌ
وَضَلَالٌ وَخُرُوجٌ عَنْ دَائرَةِ الإِسلَامِ بإِجْمَاعِ أَهْلِ العِلمِ
وَالإِيمَان.
وَلَا شَكَّ أَنَّ السُّنَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الحِفظِ
الَّذِي تَكَفَّلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ لِشَرِيعَتِهِ وَدِينِهِ؛
لِأَنَّهُ مِنَ الثَّابِتِ المَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يَسَعُ المُؤمِنَ بِحَالٍ
إِنكَارُهُ وَلَا التَّرَدُّدُ فِي ثُبُوتِهِ؛ أَنَّ كُلًّا مِنَ الكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ عِندِ اللَّهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ, بَلْ
مَا مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عُرِفَ أَوْ يُعرَفُ إِلَّا عَنْ طَرِيقِهِمَا، أَوْ
عَنْ طَرِيقِ الأَدِلَّةِ الَّتِي ثَبَتَت حُجِّيَّتُهَا بِهِمَا.
فَلَيْسَ بِعَجِيبٍ إِذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ
–جَلَّ
ثَنَاؤُهُ- قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا -كِتَابِهَا
وَسُنَّتِهَا- كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾
[التوبة: 32].
فَنُورُ اللَّهِ: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ
لِعِبَادِهِ وَكَلَّفَهُم بِهِ وَضَمِنَهُ لِمَصَالِحِهِم، وَالَّذِي أَوْحَاهُ
إِلَى رَسُولِهِ -مِنْ قُرْآنٍ أَوْ غَيرِهِ-؛ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى مَا فِيهِ
خَيْرُهُم وَسَعَادَتُهُم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
* فَإِنْ
قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ القُرآنِ دُونَ السُنَّةِ,
كَمَا يَدُلُّ عَلَيهِ قَولُهُ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
قُلْنَا: إِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ, بَلْ قَلَّ أَنْ يُذْهَبَ إِلَيهِ, وَالآيَةُ
الكَرِيمَةُ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ضَمِيرِ الغَيْبَةِ فِيهَا
قَوْلَان:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَرجِعُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَلَا يَصِحُّ
التَّمَسُّكُ بِالآيَةِ حِينَئذٍ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَرجِعُ إِلَى الذِّكرِ، فَإِنْ فَسَّرْنَاهُ
بِالشَّرِيعَةِ كُلِّهَا -مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ- فَلَا تَمَسُّكَ بِهَا أيْضًا,
وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالقُرآنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الآيَةِ حَصرًا
حَقِيقِيًّا -أَيْ: بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَا عَدَا القُرآن-, فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَد حَفِظَ أَشيَاءَ كَثِيرَةً مِمَّا عَدَاهُ؛ مِثْلَ حِفْظِهِ
النَّبِيَّ ﷺ مِنَ الكَيْدِ وَالقَتْلِ، وَحِفْظِهِ العَرْشَ وَالسَّمَواتِ
وَالأَرضَ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَة, وَالحَصْرُ الإِضَافِيُّ
بِالنِّسبَةِ إِلَى شَيءٍ مَخصُوصٍ يَحتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَقَرِينَةٍ عَلَى
هَذَا الشَّيْءِ المَخْصُوصِ؛ وَلَا دَلِيلَ عَلَيهِ سَواءٌ أَكَانَ سُنَّةً أَمْ
غَيرَهَا, فَتَقْدِيمُ الجَارِّ وَالمَجرُورِ لَيْسَ لِلحَصْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ
لمُنَاسَبَةِ رُؤوسِ الآي.
بَلْ لَوْ كَانَ فِي الآيَةِ حَصْرٌ إِضَافِيٌّ
بِالنِّسبَةِ إِلَى شَيءٍ مَخصُوصٍ؛ لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّيْءُ
هُوَ السُنَّةُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حِفْظَ القُرآنِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى حِفْظِ
السُّنَّةِ, وَصَوْنَهُ مُستَلْزِمٌ لِصَوْنِهَا بِمَا أَنَّهَا حِصْنُهُ
الحَصِينُ, وَدِرْعُهُ المَتِينُ، وَحَارِسُهُ الأَمِينُ، وَشَارِحُهُ المُبِينُ؛
تُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، وَتُفَسِّرُ مُشكَلَهُ، وَتُوَضِّحُ مُبْهَمَهُ،
وَتُقَيِّدُ مُطلَقَهُ، وَتُبْسُطُ مُختَصَرَهُ, وَتَدْفَعُ عَنْهُ عَبَثَ
العَابِثِينَ وَلَهْوَ اللَّاهِينَ، وَتَأْوِيلَهُم إِيَّاهُ عَلَى حَسَبِ
أَهْوَائِهِم وَأَغرَاضِهِم، وَوَفْقَ مَا يُمْلَى عَلَيهِم مِنْ رُؤسَائِهُم
وَشَيَاطِينِهِم، فَحِفظُ السُّنَّةِ مِنْ أَسبَابِ حِفْظِ القُرآن،
وَصِيَانَتُهَا صِيَانَةٌ لَهُ.
وَلَقَد حَفِظَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا حَفِظَ
القُرآن, فَلَمْ يَذهَب مِنهَا -وَللَّهِ الحَمْدُ وَمِنْهُ الفَضْل- شَيْءٌ عَلَى
الأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَستَوْعِبْهَا كُلُّ فَرْدٍ عَلَى حِدَة.
وَمَعلُومٌ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ تَكَفَّلَ بِحِفظِ
المُبَيَّنِ المَشرُوحِ وَلَمْ يَتَكَفَّل بِحِفْظِ الشَّارِحِ المُبَيِّن؛
لَأَحَالَنَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِشَيءٍ مَعدُومٍ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الوَاقِع,
أَوْ عَلَى الأَقَلِّ بِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْنَا مِنْ طَرِيقٍ مَوثُوقٍ بِهِ, وَلَمْ
نَعرِف صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِه, وَلَا المَقبُولَ مِنهُ مِنَ المَردُود؛ لِأَنَّ
هَذِهِ التَّكلِيفَاتِ فِي الجُملَةِ وَرَدَت فِي الكِتَابِ العَزِيزِ مُجْمَلَةً؛
ثُمَّ تَأتِي السُّنَّةُ بِتَفَاصِيلِهَا, وَبِبَيَانِ مُجْمَلِهَا, وَبِتَفْسِيرِ
وَشَرحِ مَا أُجْمِلَ فِيهَا, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَلَاقَةِ السُّنَّةِ
بِالكِتَابِ العَزِيزِ.
فَلَوْ أَنَّ اللَّهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَفِظَ هَذَا المُبَيَّنَ –وَهُوَ الكِتَابُ العَزِيزُ- وَلَمْ يَحفَظِ المُبَيِّنَ
–وَهُوَ
السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ-؛ لَأَحَالَنَا عِندَمَا يَأْمُرُنَا فِي المُبَيَّنِ –وَهُوَ القُرآن- عَلَى مَا لَا يُوثَقُ بِهِ, أَوْ عَلَى
مَا هُوَ مَعْدُومٌ إِنْ لَمْ يَحفَظِ السُّنَّةَ كَمَا حَفِظَ القُرآن؛ وَهَذَا
يَسْتَحِيلُ شَرْعًا وَعَقْلًا!! إِذْ كَيفَ نَتَعَبَّدُ بشَيْءٍ وَقَد أُزِيلَ
مِنَ الوُجُودِ تَمَامًا أَوْ إِذَا كَانَ وُجُودُهُ وُجُودًا شَكْليًّا فَاقِدًا
لِلقِيمَةِ!!
إِنَّ فِقْدَانَ الشَّارِحِ المُبَيِّنِ بِكَامِلِهِ
يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِقْدَانُ أَكثَرَ المُبَيَّنِ المَشْرُوحِ؛ لِأَنَّ
بَيَانَهُ وَشَرحَهُ يَكُونُ مُتَوَقِّفًا غَالِبًا عَلَى الشَّارِحِ المُبَيِّنِ.
وَمِنَ المَعلُومِ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ قَد
جَاءَ فِي الكِتَابِ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى حُجِّيَّةِ السُّنَّة, فَهِيَ -بِهَذَا
المَعْنَى- فَرْعٌ عَنْهُ فَرْعِيَّةَ المَدلُولِ عَلَى الدَّالِ, وَلَكِنَّ هَذَا
لَا يَسْتَلْزِمُ تَأَخُّرَهَا عَنهُ فِي الاعتِبَارِ وَالاحْتِجَاجِ بِهِ بَلْ
يُوجِبُ المُسَاوَاة.
فَإِنَّ إِهدَارَهَا –أَيْ: السُّنَّةَ- لِلمُحَافَظَةِ عَلَى ظَاهِرِ آيَةٍ مُعَارِضَةٍ
لَهُ؛ يُوجِبُ إِهدَارَ الآيَاتِ الَّتِي نَصَّتْ عَلَى حُجِّيَّتِهَا, فَنَكُونُ
حِينَئذٍ قَدْ فَرَرْنَا مِنْ إِهْدَارِ آيَةٍ، بَلْ مِنْ عَدَمِ المُحَافَظَةِ
عَلَى ظَاهِرِهَا، إِلَى إِهدَارِ آيَاتٍ أخرى كَثِيرَةٍ تَدُلُّ بِمَجمُوعِهَا
دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى حُجِّيَّةِ جَمِيعِ مَا يَصْدُرُ مِنهُ ﷺ.
وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الفَرْعِيَّةَ تَستَلْزِمُ
تَأَخُّرَ الفَرعِ عَنِ الأَصلِ فِي الاعْتِبَارِ؛ فَلَا نُسَلِّمُهُ عَلَى
عُمُومِهِ, بَلْ إِذَا لَمْ يَكُن لِذَلِكَ الفَرْعُ إِلَّا ذَلِكَ الأَصْلُ، فَأَمَّا
إِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ آخَرٌ يَستَقِلُّ بِإِثبَاتِ حُجِّيَّتِهِ فَلَا اسْتِلزَام،
وَحُجِّيَّةُ السُّنَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ إِثْبَاتُهَا عَلَى الكِتَابِ، بَلْ
يَكْفِي فِي إِثْبَاتِ حُجِّيَّةِ جَمِيعِ مَا يَصدُرُ مِنهُ ﷺ عِصْمَتُهُ
الثَّابِتَةُ بِمُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةٍ غَيرِ القُرآن شَاهَدَهَا الصَّحَابَةُ
وَتَوَاتَرَ إِلَينَا القَدْرُ المُشتَرَكُ مِنهَا.
لَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى السُّنَّةِ؛ لِفَهْمِ
عَدِيدٍ مِنَ الأَحْكَامِ, وَكُلُّ دَارِسٍ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ
ﷺ -وَلَا سِيَّمَا آيَاتُ الأَحكَامِ وَأَحَادِيثُ الأَحكَامِ- يُدْرِكُ تَمَامَ
الإِدرَاك أَنَّ لِلسُّنَّةِ دَوْرًا هَامًا لَا يُسْتَهَانُ بِهِ فِي بَيَانِ
الأَحكَامِ المُجْمَلَةِ فِي القُرآنِ الكَرِيم، هِيَ الَّتِي تُقَيِّدُ
المُطْلَقَ، وَتُخَصِّصُ العَامَّ، وَتُبَيِّنُ المُجْمَلَ وَتُوَضِّحُ
المُشْكَلَ.
وَقَد أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بإِقَامَةِ الصَّلَاةِ –وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَركَانِ الإِسْلَام-
فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾
[البقرة: 43], فَكَيْفَ إِقَامَتُهَا؟
السُّنَّةُ وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُجِيبُ عَنْ هَذَا
السُّؤالِ.
وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي
الكِتَابِ العَزِيزِ الأَمْرُ بِالزَّكَاةِ إِجمَالًا دُونَ تَفْصِيلٍ وَبَيَانٍ؛
فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43], وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141], وَتَوَلَّتِ السُّنَّةُ بَيَانَ
الأَموَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاة, وَبَيَانَ الأَنْصِبَةِ,
وَالمِقدَارَ المَأخُوذَ مِنْ كُلِّ نِصَاب, إِلَى آخِرِ البَيَانِ الشَّامِلِ
لهَذَا الرُّكنِ العَظِيمِ.
كَمَا بَيَّنَتِ السُّنَّةُ
مِقدَارَ صَدَقَةِ الفِطرِ وَمُسْتَحِقِّيهَا, وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَحكَامَ
الصِّيَامِ وَسُنَنَهُ وَمَكْرُوهَاتِهِ وَمُبْطِلَاتِهِ, وَالقَضَاءَ
وَالكَفَّارَة, وَالرُّخَصَ وَأَهْلَهَا, وَغَيرَ ذَلِكَ مِنْ أَحكَامِ هَذَا
الرُّكْنِ العَظِيمِ, وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالمَنَاسِكِ
وَالبِيُوعِ وَالحُدُودِ وَغَيرِهَا.
*وَأَمَّا بَيَانُ السُّنَّةِ لِلقُرآن: فَيَأتِي عَلَى وُجُوهٍ مُختَلِفَةٍ وُطُرُقٍ
مُتَنَوِّعَةٍ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: بَيَانُ مُجْمَلِهِ, فَالصَّلَاةُ فِي قَولِهِ
تَعَالَى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ لَفْظٌ
مُجْمَلٌ، لَا يُفهَمُ مِنهُ مَا كَيفِيَّةُ الصَّلَاة؟ وَمَا أَوْقَاتُهَا؟ وَمَا
عَدَدُ رَكَعَاتِهَا؟ وَمَا شُرُوطُهَا؟ وَمَا أَركَانُهَا؟
وَقَد بَيَّنَتِ
السُّنَّةُ كُلَّ هَذَا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِقَوْلِهِ, فَالكِتَابُ
مُجْمَلٌ وَالسُّنَّةُ مُفَصِّلَةٌ لَهُ؛ كَالأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ فِي بَيَانِ
مَا أُجْمِلَ ذِكرُهُ مِنَ الأَحكَام, إِمَّا بِحَسَبِ كَيْفِيَّاتِ العَمَلِ أَوْ
أَسبَابِهِ أَوْ شُرُوطِهِ أَوْ مَوَانِعِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ أَوْ مَا أَشْبَه
ذَلِكَ.
فَبَيَانُهَا
لِلصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا؛ فِي مَواقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا
وَسَائرِ أَحْكَامِهَا, وَبَيَانُهَا لِلزَّكَاةِ فِي مَقَادِيرِهَا
وَأَوْقَاتِهَا وَنُصُبِ الأَموَالِ المُزَكَّاةِ, وَبَيَانُ أَحكَامِ الصَّوْمِ
مِمَّا لَا نَصَّ عَلَيهِ فِي القُرآنِ, وَكَذَلِكَ أَحكَامُ الحَجِّ
وَالذَّبَائِحِ, وَالأَنْكِحَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا, وَالبِيُوعُ
وَأَحْكَامُهَا, وَالجِنَايَاتُ مِنَ القَصَاصِ وَغَيرِهِ مِمَّا وَقَعَ بَيَانًا
لِمَا أُجْمِلَ فِي القُرآنِ, وَهُوَ الَّذِي يَظهَرُ دُخُولُهُ تَحتَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44].
فَالَّذِي
نُزِّلَ إِلَيهِم: إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى الكِتَابِ العَزِيزِ المُنَزَّلِ عَلَى
قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ, وَهُنَاكَ مَا يُبَيِّنُهُ، وَهِوَ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ،
وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الذِّكْرِ ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾.
فَالسُّنَّةُ
تُبَيِّنُ هَذَا المُجْمَلَ وَتُوَضِّحُهُ وَتُخَصِّصُ العَامَّ, وَمِنْ ذَلِكَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ يَرِثَ الأَوْلَادُ الآبَاءَ أَوْ الأُمَّهَاتِ
عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ [ النساء:11], فَكَانَ هَذَا الحُكْمُ عَامًّا فِي
كُلِّ أَصْلٍ مَوْرُوثٍ وَكُلِّ وَالِدٍ وَارِثٍ, فَقَصَرَتِ السُّنَّةُ الأَصْلَ
المَوْرُوثَ عَلَى غَيْرِ الأَنبِيَاءِ بِقَوْلِهِ ﷺ: «لَا نُورَثُ؛ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» وَقَدْ أَخْرَجَهُ
الشَّيْخَان, وَكَذَلِكَ قَصَرَتِ السُّنَّةُ التَّوَارُثَ عَلَى المُسْلِمِ دُونَ
الكَافِرِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «لَا يَرِثُ المُسْلِمُ
الكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ» وَهَذَا مُتَّفَقٌ
عَلَيهِ.
*وَالسُّنَّةُ
أَيضًا تُقَيِّدُ مُطْلَقَ القُرْآنِ: كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة 28]، فَإِنَّ قَطْعَ
اليَدِ لَمْ يُقَيَّد فِي الآيَةِ لِمَوْضِعٍ خَاصٍّ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ
قَيَّدَتْهُ بِكَوْنِهِ مِنَ الرُّسْغِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]
يُوجِبُ الطَّوَافَ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ الفِعْليَّةَ قَيَّدَتْهُ
بِالطَّهَارَةِ.
*وَكَذَلِكَ
السُّنَّةُ تُبيِّنُ المُشْكِلَ مِنَ القُرْآنِ: مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَت عَائِشَةُ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَوْلَ النَّبيِّ ﷺ: «مَن حُوسِبَ عُذِّبَ» أَشْكَلَ عَلَيْهَا قَوْلُ
اللَّهِ –تَبَارَكَ
وَتَعَالَى-: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾
[الانشقاق: 8].
وَنَصُّ الحَدِيثِ كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَان عَنِ ابْن
أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ
شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ
النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ».
قَالَتْ عَائِشَةُ: «فَقُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [الانشقاق: 8]،
قَالَتْ: فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ،
وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ».
فَهَذَا الَّذِي أَشْكَلَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ –جَلَّ
وَعَلَا- في هَذِهِ الآيَةِ تُبيِّنُهُ سُنَّةُ رَسُولِ الله ﷺ.
وَالأُمَّةُ مَا زَالَت وَلَنْ تَزَال مُتَّفَقِةً عَلَى
أَنَّ السُّنَّةَ النَّبَويَّةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَقَامٌ مَعْلُومٌ في
بَيَانِ الأَحْكَامِ، وَأَنَّهَا حُجَّةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ
الرُّجُوعُ إِلَيْهَا إِذَا ثَبَتَت، وَلَا يَجُوزُ الحُكْمُ بِالاجْتِهَادِ
وَالرَّأْيِ مَعَ ثُبُوتِهَا، وَأَنَّهَا قَد ثَبَتَت بِهَا الأَحْكَامُ وَلَوْ
لَم يَرِد بِالأَحْكَامِ كِتَابٌ -يَعْنِي: الكِتَابَ العَزِيز-.
وَهِيَ بَيَانٌ لِلقُرْآنِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَهِيَ
مُفَصِّلَةٌ لِمَا أُجمِلَ فِيهِ، وَهَذِهِ المَعَانِي كُلُّهَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ
عِنْدَ مَنْ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِم، وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ شَذَّ عَنْ هَذِهِ
القَاعِدَةِ إِلَّا الزَّنَادِقَة وغُلاةَ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ لَا عِبْرَةَ
بِخِلَافِهِم، وَلَا يَتَأَثَّرُ الإِجْمَاعُ بِمُخَالَفَتِهِم، بَلْ لَا
يُسْتَشَارُونَ إِذَا حَضَرُوا، وَلَا يُسْأَلُ عَنْهُم إِذَا غَابُوا؛ لِأنَّهُم
فَارَقُوا جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَنَابَذُوهُم، واتَّبَعُوا غَيْرَ سَبِيلِ
المُؤمنينَ بِمَوَاقِفِهِم العَدَائيَّةِ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَد
أَدَّى بِهِم ذَلِكَ إِلَى رَدِّ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّه ﷺ بِدَعْوَى أَنَّهَا
رِوَايَةُ قَوْمٍ كَافِرِين، وَمِن بَابِ المُرَاوَغَةِ وَالمَكْرِ، قَالُوا: نَحْنُ
نَعْمَلُ بِالقُرْآنِ وَنَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَلَامٌ لَا يَرُوجُ عِندَ
أُولِي النُّهَى مِن طُلَّابِ العِلْمِ وَأَهْلِ الإِيمَانِ.
قَالَ السِّيُوطيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «ومِن الثَّابِتِ المَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يَسَعُ
المُؤمِنَ بِحَالٍ إِنْكَارُهُ وَلَا التَّرَدُّدُ في ثُبُوتِهِ أَنَّ كُلًّا مِنَ
الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ عِنْدَ اللهِ وَدَلِيلٌ عَلَى حُكْمِ اللهِ،
بَل مَا مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عُرِفَ أَوْ يُعرفُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِهِمَا أَو
عَنْ طَرِيقِ الأَدِلَّةِ ثَبَتَت حُجَّيَّتُهَا بِهَا، فَلَيْسَ بِعَجِيبٍ أَنْ
قَد وَجَدْنَا أنَّ اللهَ –جلَّ ثَنَاؤُهُ- قَدْ تَكَفَّلَ بحِفْظِ الشَّرِيعَةِ
كُلِّهَا كِتَابِهَا وسُنَّتِهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾
[التوبة: 32]، فَنُورُ اللهِ: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِلْعِبَادِ
وكَلَّفَهُم بِهِ، وَضَمَّنَهُ مَصَالَحَهُم، وَالَّذِي أَوْحَاهُ إِلَى رَسُولِهِ
مِنْ قُرْآنٍ أَوْ غَيْرِهِ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُم
وَسَعَادَتُهُم فِي الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ».
فاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ تَكَفَّلَ بحِفْظِ القُرْآنِ
المَجِيدِ، وَكَذَا تَكَفَّلَ بحِفْظِ سُنَّةِ رَسُولِ الله ﷺ.
وَقَد قَالَ الشَّافِعيُّ الإمامُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي
«الرِّسَالَةِ» فِي صَدَدِ الْكَلَامِ على لِسَانِ العَرَبِ: «وَلِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ
مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، وَلَا نعلمه يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ
إنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى
عَامَّتِهَا حَتَّى لَا يَكُونَ مَوجُودًا فِيهَا مَنْ يَعْرِفُه، وَالْعِلْمُ
بِهِ عِنْدَ العَرَبِ كَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ، لَا
نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ؛ فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ،
فَإِذَا جَمَعَ عِلْمَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا؛ أتي عَلَى السُّنَنِ،
وَإِذَا فُرِّقَ عِلْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم ذَهَبَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْهَا،
ثُمَّ كانَ ذَهَبَ عَلَيْهِ مَوْجُودًا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَهُم في العِلْمِ
طَبَقَات؛ مِنْهُم الجَامِعُ لأَكْثَرِهِ، وإنْ ذَهَبَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ،
وَمِنْهُم الجَامِعُ لأَقلَّ مِمَّا جَمَعَ غَيْرُهُ.
وَلَيْسَ قَلِيلُ مَا ذَهَبَ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى مَنْ
جَمَعَ أَكْثَرَهَا دَلِيلًا عَلَى أنْ يُطْلَبَ عِلْمُهُ عِنْدَ غَيْرِ
طَبَقَتِهِ مِن أَهْلِ العِلْمِ، بَل يُطْلَبُ عِنْدَ نُظَرَائِهِ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ،
حَتَّى يُؤتَى عَلَى جَمِيعِ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي
وَنَفْسِي-، فَيَتَفَرَّدُ جُمْلَةُ العُلَمَاءِ بِجَمْعِهَا، وَهُم دَرَجَاتٌ فِيمَا
وَعَوا مِنْهَا.
وَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَيَّضَ لِلْكِتَابِ
العَزِيزِ؛ العَدَدَ الكَثيرَ وَالجَمَّ الغَفِيرَ مِنْ ثِقَاتِ الحَفَظَةِ فِي
كلِّ قَرْنٍ؛ ليَنْقُلُوهُ كَامِلًا مِنَ السَّلَفِ إِلَى الخَلَفِ، كَذَلِكَ
قَيَّضَ سُبْحَانَهُ للسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ مِثْلَ هَذَا العَدَدِ أَوْ أَكْثَر
مِن ثِقَاتِ الحَفَظَةِ، فَقَصَرُوا أَعْمَارَهُم -وَهِيَ الطَّوِيلَةُ- عَلَى
البَحْثِ والتَّنْقِيبِ عَن الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ،
يَنْقُلُونَهُ عَمَّن كَانَ مِثْلَهُم فِي الثِّقَةِ وَالعَدَالَةِ، إلى أنْ
يَصِلُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمَاتُهُ-،
حَتَّى مَيَّزُوا لَنَا الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، وَنَقَلُوهُ إِلَيْنَا
سَلِيمًا مِن كلِّ شَائِبَةٍ، عَارِيًا مِن كلِّ شَكٍّ وَشُبْهَةٍ، وَاسْتَقَرَّ
الأَمْرُ، وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْن.
ولأنَّ اللهَ تَعَالَى قَد حَفِظَ سُنَّةَ رَسُولِهِ
كَمَا حَفِظَ القُرْآنَ، وَجَعَلَهَا حِصْنَهُ وَدِرْعَهُ، وَحَارِسَهُ
وَشَارِحَهُ؛ كَانَتِ الشَّجَى فِي حُلُوقِ المُلْحِدِينَ، وَالقَذَى في عُيونِ
المُتزنْدِقينَ، وَالسَّيْفَ القَاطِعَ لِشُبَهِ المُنَافِقِينَ، وَتَشْكِيكَاتِ
الكَائِدِينَ.
فَلَا غَرْوَ إِذَ لَم يَأَلُوا جَهْدًا، وَلَم
يَدَّخِرُوا وُسْعًا في الطَّعْنِ في حُجَّيَّتِهَا، والتَّهْوِينِ مِن أَمْرِهَا،
والتَّنْفِيرِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهَا، والاهْتَدَاءِ بِهَدْيِهَا؛ لِيَنَالُوا
مِنَ القُرْآنِ مَا يُرِيدُونَ، وَمِن هَدْمِ الدِّينِ مَا يَنْشُدُونَ، ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32]».
قالَ البَيْهَقِيُّ: «وَلَوْلَا ثُبُوتُ الحُجَّةِ بِالسَّنَّةِ لَمَا قَالَ
ﷺ في خُطْبَتِهِ بَعْدَ تَعْلِيمِ مَنْ شَهِدَهُ أَمْرَ دِينِهِم: «أَلَا فَلْيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُم الغَائِبَ، فَرُبَّ
مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ». مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
ثُمَّ
أَوْرَدَ البَيْهَقيُّ حَدِيثَ: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَأَدَّاهُ
كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ».
قَالَ
السِّيُوطِيُّ: «وَهَذا الحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ
كَمَا سَأُبَيِّنُهُ».
قَالَ
الشَّافِعيُّ: «فَلَمَّا نَدَبَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ إِلَى اسْتِمَاعِ مَقَالَتِهِ وَحِفْظِهَا وَأَدَائِهَا؛ نَدَبَ إِلَى
ذَلِكَ امرأً يُؤدِّيهَا، وَقَالَ ﷺ: «فَأَدَّاهُ
كَمَا سَمِعَهُ»: فَقَد أَقَامَ بِذَلِكَ الحُجَّةَ عَلَى مَنْ أُدِّيَ
إِلَيْهِ؛ لأنهُ إِنَّمَا يُؤَدَّى عَنْهُ حَلَالٌ يُؤْتَى وَحَرَامٌ يُجْتَنَبُ،
وَحَدٌّ يُقَامُ، وَمَالٌ يُؤْخَذُ وَيُعْطَى، وَنَصِيحَةٌ فِي دِينٍ وَدُنْيَا».
ثُمَّ
أَوْرَدَ البَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: قال رسول الله ﷺ -وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ-: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ
يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ،
يَقُولُ: لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ».
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاود وَالحَاكِمُ وَأَحْمَد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَمِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِب أَنَّ
النَّبيَّ ﷺ حَرَّمَ أَشْيَاءَ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْهَا الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ
وَغَيْرُهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُوشِكُ
أَنْ يَقْعُدَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي,
فَيَقُولُ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، مَا وَجَدْنَاه فِيهِ من حَلالٍ
اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَاه فِيهِ من حَرَامٍ حَرَّمْنَا، أَلَا وَإِنَّ
مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ». أَخْرَجَهُ
أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَه، وَالحَدِيثُ صَحِيحٌ».
قَالَ البَيْهَقِيُّ: «وَهَذَا خَبَرٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَمَّا يَكُونُ
بَعْدَهُ مِنْ رَدِّ المُبْتَدِعَةِ حَدِيثَهُ؛ فوُجِدَ تَصْدِيقُهُ فِيمَا
بَعْدُ.
السُّنَّةُ تَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ بِالوَحْي ﷺ،
يَقُولُ: «أَلَا إِنِّي أُتِيتُ القُرآنَ
ومِثْلَهُ مَعَهُ –يَعْنِي السُّنَّةَ-»، إِلَّا أَنَّهَا لَا تُتْلَى
كَمَا يُتْلَى القُرآنُ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ –رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وَغَيْرُهُ مِنَ الأَئِمَّةِ
عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَقَد مَرَّ حَدِيثُ الْمِقْدَامِ بْنِ
مَعْدِي كَرِب –رَضِيَ
اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-».
فَيَنْبَغِي عَلَيكُم أَيُّهَا المُسْلِمُونَ أَنْ
تَتَمَسَّكُوا بِسُنَّةِ نَبِيِّكُم ﷺ، وَأَنْ تُشَارِكُوا فِي مَعرِفَةِ الجُهدِ
الَّذِي بَذَلَهُ حَمَلَةُ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ
تَبِعَهُم بِإِحسَانٍ، فَإِنَّهُ جُهْدٌ لَا نَظِيرَ لَهُ عِنْدَ أُمَّةٍ مِنَ
الأُمَمِ.
وَالعِلْمُ الَّذِي ضَبَطَ لَنَا الرِّوَايَةَ
بِأُصُولِهَا وَقَوَاعِدِهَا؛ لَا وُجُودَ لَهُ عِندَ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِ
الأَرْضِ مُنذُ خَلَقَ اللَّهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ إِلَى أَنْ يَرِثَ
اللَّهُ الأَرضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.
هَذَا عِلْمٌ نَفْخَرُ بِهِ وَنَتَشَرَّفُ بِحَمْلِهِ،
ثُمَّ يَأْتِي أُولَئِكَ الصَّعَالِيكُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُشَكِّكُوا فِيهِ
بِغَيرِ آثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لَغْوٌ مِنَ اللَّغْوِ، يُحْسِنُهُ
الأَطفَالُ أَوْ لَا يُحْسِنُونَهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ العَيْبُ عَلَيهِم؛ العَيْبُ
عَلى مَنْ مَكَّنَهُم مِنْ أَسْمَاعِ عَوَامِّ المُسلِمِينَ يُلْقُونَ
الشُّبُهَات، مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْدَفِقَ مَسْكُوبَةً كَالسُّمِّ القَاتِلِ إِلَى
قُلُوبِهِم!!
فَيَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى-وِلَايَةً أَنْ يَحْجُرَ عَلَى
هَؤلَاءِ فِي كَلامِهِم وَشُبُهَاتِهِم، وَهُوَ أَهَمُّ –أَيْ: هَذَا الحَجْرُ- مِنَ الحَجْرِ الصِّحيِّ
لِلأَوْبِئَةِ الفَتَّاكَةِ؛ لِأَنَّ الأَوْبِئَةَ الفَتَّاكَةَ الَّتِي يُحْجَرُ
عَلَى مَنْ حَمَلَ جَرَاثِيمَهَا إِنَّمَا تُصِيبُ الأَبْدَانَ، وَقَدْ تَصِيرُ
هَذِهِ الأَرْوَاحُ الَّتِي تُصَابُ أَبْدَانُهَا إِلَى الجَنَّةِ؛ كَالمَطْعُونِ
مَثَلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الطَّاعُونَ إِذَا نَزَلَ بِمَكَانٍ؛ يَحْرُمُ
عَلَى مَنْ كَانَ فِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ, وَعَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَهُ أَنْ
يَدْخُلَهُ، وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الحَجْرِ الصِّحِيِّ فِي أَمْرٍ
يَتَعَلَّقُ بِإِصَابَةِ بَدَنٍ، ثُمَّ يَصِيرُ مَنْ صَبَرَ إِلَى الجَنَّةِ
وَنِعْمَ القَرَار، فَالمَطْعُونُ فِي الجَنَّةِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ.
فَكَيْفَ بِإِصَابَةِ القُلُوبِ؟!!
فَكَيْفَ بِإِصَابَةِ أُمُورِ الآخِرَةِ؟!!
فَكَيْفَ بِجَرِّ المُسْلِمِينَ بَلْ سَوْقِ
المُسْلِمِينَ سَوْقًا إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ القَرَارِ؟!!
بِتَشْكِيكِهِمِ فِي مَوْرُوثِهِم، فِي عَقِيدَتِهِم
الَّتِي تُبَدَّلُ جَهَارًا نَهَارًا!!
وَلَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ, لَا المُؤسَّسَةُ الدِّينِيَّةُ
الرَّسْمِيَّةُ مِنْ أَنْ تَعْتَرِضَ اعْتِرَاضًا صَرِيحًا، لَا تُمَكَّنُ مِنْ
أَنْ تَأْخُذَ عَلَى أَيْدِي هَؤلَاءِ بحُجَّةِ حُرِيَّةِ الرَّأْيِ!!
حُرِيَّةُ الرَّأيِ فِي مَا يَخُصُّهُم، أَمَّا فِي مَا
يَخُصُّ المُسْلِمِينَ المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ, وَيَخُصُّ عُلَمَائَهُم؛
فَإِنَّهُ لَا حُرِيَّةَ لِلرَّأْيِ حِينَئذٍ.
يَعْنِي إِذَا وَقَفَ نَائِبٌ تَحْتَ قُبَّةِ
البَرْلَمَان؛ لِكَيْ يَقُولَ: إِنَّ أَدَبَ نَجِيب مَحفُوظ يَخدِشُ الحَيَاءَ؛
تَقُومُ الدُّنيَا وَلَا تَقْعُد!! وَأَمَّا إِذَا مَا ظَهَرَ رَجُلٌ فِي
فَضَائِيَّةٍ مِنَ الفَضَائِيَّاتِ؛ يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ مَلَايِينُ المَلَايِينِ
مِنَ البَشَرِ ثُمَّ يَطْعَنُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَارَةً
بِالكَذِبِ, وَتَارَةً بِالفُجُورِ، وَتَارَةً بِالأَثَرَةِ وَحُبِّ الظُّهُورِ,
إِلَى غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُون، وَيَطْعَنُ فِي أَئِمَّتِنَا الَّذِينَ هُمْ
السُّرُجُ المُنِيرَةُ بِاللَّيْلِ!! هَؤلَاءِ لَا كَرَامَةَ لَهُم، مَعَ أَنَّ
خَدْشَ الحَيَاءِ لَا يُسَاوِي شَيْئًا بِمُقَابِلِ الاتِّهَامِ بِالكَذِبِ
وَالفُجُورِ وَهُوَ مُبَطَّنُ الكُفْرِ.
فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!!
هَذَا يَدْعُو إِلَى التَّطَرُّفِ, وَيَسُوقُ الشَّبَابَ
سَوْقًا إِلَى التَّعبِيرِ عَمَّا لَا يَستَطِيعُونَ دَفْعَهُ بِأَلْسِنَتِهِم
إِلَى التَّعبِيرِ بِدَفْعِهِ بِأَسْلِحَتِهِم وَأَيْدِيِهِم، وَهَذَا هُوَ
مَكْمَنُ الخَطَرِ!!
وَهَؤلَاءِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ
وَتُرَاثِ الأُمَّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ هَؤلَاءِ هُمْ أَكْبَرُ الدَّاعِينَ إِلَى
التَّطَرُّفِ وَالتَّكفِيرِ وَالإِرهَابِ، هَؤلَاءِ يَتَحَمَّلُونَ وِزْرَ
الدِّمَاءِ -عَلَيْهِم مِنَ اللَّهِ مَا يَسْتَحِقِّونَهُ-.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ
أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى
الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً
وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ وَصَلَ الأَمْرُ بِـ (القُرآنِيِّين)؛ وَهُمْ
الوَجْهُ المُقَابِلُ لِلْعَلْمَانِيِّينَ وَالمَارْكِسِيِّينَ وَالزَّنَادِقَةِ
المُجرِمِينَ، وَصَلَ بِهِمُ الأَمْرُ إِلَى رَفْعِ دَعْوَى عَلَى شَيْخِ
الأَزْهَرِ وَالمُؤسَّسَةِ الأَزْهَرِيَّةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُخْرِجَ أُصُولَ
البُخَارِيِّ وَمُسْلِم!! وَصَدَرَ الحُكْمُ بِإِلْزَامِ شَيْخِ الأَزْهَرِ
بِإِبْرَازِ وَإِخْرَاجِ أُصُولِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِم، وَإِلَّا فَهَذَا مِنَ
الأَكَاذِيب!!
إِلَى هَذَا الحَدِّ يُشَكَّكُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ؟!!
إِلَى هَذَا الحَدِّ يُطْعَنُ فِي البُخَارِيِّ
وَمُسْلِم؟!!
إِلَى هَذَا الحَدِّ لَا يُوثَقُ بِالمُؤسَّسَةِ
الرَّسمِيَّةِ الدِّينِيَّةِ عِنْدَمَا تَقُول؟!!
مَا هَذَا؟!!
قَالَ الرَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي
المَعْرَكَةِ الَّتِي شَبَّت نِيرَانُهَا مُنْذُ أَكثَرَ مِنْ مِئَةِ عَامٍ، قَالَ -وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَن المِيرَاثِ العَرَبِيِّ-:
«كَانَ أَبُو خَالِدٍ النُّمَيْريُّ فِي القَرْنِ الثَّالِثِ لِلهِجْرَةِ، وَكَانَ
يَنْتَحِلُ الأَعرَابِيَّةَ، وَيَتَجَافَى فِي أَلفَاظِهِ، وَيَتَبَادَى فِي
كَلَامِهِ، وَيَذْهَبُ المَذَاهِبَ المُنْكَرَةَ فِي مَضْغِ الكَلَامِ
وَالتَّشَدُّقِ بِهِ؛ لِيَتَحَقَّقَ أَنَّهُ أَعرَابِيٌّ وَمَا هُوَ بِهِ،
وَإِنَّمَا وُجِدَ وَنَشَأَ بِالبَصْرَةِ!!
قَالُوا: فَخَرَجَ إِلَى البَادِيَةِ، فَأقَامَ بِهَا
أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى البَصْرَةِ فَرَأَى المَيَازِيبَ عَلَى
سُطُوحِ الدُّورِ فَأَنْكَرَهَا وَقَالَ: مَا هَذِهِ الخَرَاطِيمُ الَّتِي لَا
نَعْرِفُهَا فِي بَلَادِنَا؟!
فَهَذَا طَرَفٌ مِنَ العَرَبِيَّةِ يُقَابِلُهُ
التَّارِيخُ فِي زَمَانِنَا هَذَا بِطَرَفٍ آخَرَ مِنْ جَمَاعَةٍ قَدْ رُزِقُوا
اتِّسَاعًا فِي الكَلَامِ إِلَى مَا يَفُوتُ حَدَّ العَقْلِ أَحْيَانًا،
وَوُهِبُوا طَبْعًا زَائِغًا فِي انْتِحَالِ المَدَنِيَّةِ الغَربِيَّة إِلَى مَا
يَتَخَطَّى العِلَلَ وَالمَعَاذِيرَ، وَرَأَوْا أَنفُسَهُم أَكبَرَ مِنْ
دَهْرِهِم، وَدَهْرَهُم أَصْغَرَ مِنْ عَقْلِهِم، فَتَعْرِفُ مِنهُم أَبَا خَالِدٍ
الفَرَنْسِي، وَأبَا خَالِدٍ الإِنْجِلِيزِي، وَأَبَا خَالِدٍ الأَمْرِيكِيِّ،
وَغَيرَهُم مِمَّنْ أَجَازُوا إِلَى فَرَنْسَا وَانْجِلْتِرَا وَأَمِرِيكَا؛
فَأَقَامُوا بِهَا مُدَّةً ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِم وَمَنْبَتِهِم؛
يُنكِرُونَ المِيرَاثَ العَرَبِيَّ بِجُمْلَتِهِ, فِي لُغَتِهِ وَعُلُومِهِ
وَآدَابِهِ، وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا الدِّينُ القَدِيمُ؟! وَمَا هَذِهِ اللُّغَةُ
القَدِيمَةُ؟! وَمَا هَذِهِ الأَسَالِيبُ القَدِيمَة؟!
وَيَمُرُّونَ جَمِيعًا فِي هَدْمِ أَبْنِيَةِ اللُّغَة,
وَنَقْضِ قُوَاهَا وَتَفْرِيقِهَا، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَعْجَزُ النَّاسِ عَنْ
أَنْ يَضَعُوا جَدِيدًا، أَوْ يَسْتَحْدِثُوا طَرِيفًا، أَوْ يَبْتَكِرُوا
بَدِيعًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ زَيْغُ الطَّبْعِ، وَجُنُونُ الفِكْرِ، وَاْنقِلَابُ
النَّفسِ عَكْسًا عَلَى نَشْأتِهَا، حَتَّى صَارَت عُلُومُ الأَعَاجِمِ فِيهِم
كَالدَّمِ النَّازِلِ إِلَيْهِم مِنْ آبَائِهِم وَأَجْدَادِهِم، وَصَارَ
دُخُولُهُم فِي لُغَةٍ خُرُوجًا مِنْ لُغَة، وَإِيمَانُهُم بِشَيْءٍ كُفْرًا
بِشَيءٍ غَيْرِهِ، كَأَنَّهُ لَا يَستَقِيمُ الجَمْعُ بَيْنَ لُغَتَيْنِ
وَأَدَبَيْن، وَلَا يَسْتَوِي لِأَحَدِهِم أَنْ يَكُونَ شَرْقِيًّا وَإِنْ فِي
لِسَانِهِ لُغَةُ لَنْدَن وَبَارِيس!!
وَمِنهُم كُتَّابٌ يَكْتُبُونَ بِالعَرَبِيَّةِ
وَيَسْتَرزِقُونَ مِنْهَا، وَأُدَبَاءُ يَبْحَثُونَ فِي آدَابِهَا وَفُنُونِهَا،
وَكُلُّهُم مُجِيدٌ مُحْسِنٌ إِلَّا حَيْثُ يَكْتُبُ كَاتِبُهُم فِي إِصْلَاحِ
الكِتَابَةِ وَيَبْحَثُ بَاحِثُهُم فِي إِصْلَاحِ الأَدَبِ، فَهُنَالِكَ تَرَى
أَكثَرَ هَمِّ الأَوَّلِ أَنْ تَسْلَمَ لَهُ عَامِّيَّتُه، فَلَا يُنْكَرُ عَلَيهِ
ضَعْفٌ وَلَا لَحْنٌ، وَلَا يُهَجَّنُ لَهُ أُسلُوبٌ وَلَا عِبَارَةٌ، وَأَنْ
يَكُونَ لَهُ كُلُّ مَا يَعرِضُ لَهُ مِن النَّقْصِ مُعتَبَرًا مِنَ الكَمَالِ
العَصْرِي!!
وَتَرَى هَمَّ الثَّانِي أَنْ يُكْرِهَ الآدَابَ
العَرَبِيَّةَ عَلَى أَسَالِيبِ غَيْرِهَا، وَيَقْتَسِرَهَا جَرًّا وَتَلْفِيقًا
وَتَلْزِيقًا، وَيَبسُطَ فِيهَا المَعَارِيضَ الكَلَامِيَّةَ، فَهَذَا عِنْدَهُ
كَذِبٌ لَا دَلِيلَ عَلَيهِ، وَهَذَا مُحَالٌ وَلَا بُرهَانَ فِيهِ، وَهَذَا
قَائِمٌ عَلَى الشَّكِّ، وَذَاكَ عَلَى مَا لَا أَدْرِي وَلَا يَدْرِيِ أَحَدٌ!!
قَالَ: حَدَّثَنِي كَاتِبٌ شَهِيرٌ مِنْ هَذِهِ الفِئَةِ، فَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ
مَا قَالَ: إِنَّ ابْنَ المُقَفَّعِ فَصِيحٌ بَلِيغٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ
بِمُسْلِمٍ وَلَا عَرَبِيٍّ, وَلَا شَأْنَ لَهُ بِالحَدِيثِ وَلَا بِالقُرآنِ وَلَا
بِالدِّينِ، وَسَاقَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَا قُلْتُهُ مِنْ أَلَّا فَصَاحَةَ
وَلَا لُغَةَ إِلَّا بِالحِرْصِ عَلَى القُرآنِ وَالحَدِيثِ وَكُتُبِ السَّلَفِ
وَآدَابِهِم.
وَلَا أَدْرِي وَاللَّهِ كَيْفَ يَفْهَمُ هَذَا
وَأَمْثَالُهُ؟! وَلَكِنَّكَ تَتَبَيَّنُ فِي عِبَارَتِهِ مَبْلَغَ الغَفْلَةِ
الَّتِي تَعْتَرِي هَذِهِ الفِئَةَ؛ مِنْ نَقْصِ الاطِّلَاعِ، وَضَعْفِ الفِكْرِ،
وَبِنَاءِ الأَمْرِ عَلَى بَحْثٍ صَحَافِيٍّ بِلَا تَحْقِيقٍ وَلَا تَنْقِيبٍ،
وَتَرَى كَيْفَ يَذْهَبُونَ عَنِ الأَصْلِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيهِ الغَرَضُ؛
ثُمَّ يُحَاوِلُونَ أَنْ يُؤَصِّلُوا لَهُ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِم
وَأَفْهَامِهِم.
وَقَدْ تُفْلِحُ الفَلْسَفَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا
فِي تَعْلِيلِ مَا عِلَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ، وَهَلْ نَشَأَ ابنُ المُقَفَّعِ إِلَّا
عَلَى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَالأَدَبِ العَرَبِيِّ وَالرِّوَايَةِ
العَرَبِيَّةِ؟!
وَكَانَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ فَصَاحَتِهِ
المَشْهُورَة؛ أَخْذُهُ هَذِهِ الفَصَاحَةَ وَهَذَا الأُسلُوبَ عَن ثَوْرِ بنِ
يَزِيدَ الأَعْرَابِي، الَّذِي قَالُوا فِيهِ: إِنَّه كَانَ مِنْ أَفْصَحِ
النَّاسِ لِسَانًا!! وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يُنَقِّبُ عَنْ هَذَا وَنَحْوِهِ فِي
تِلْكَ الجَمَاعَةِ أَوْ يَتَوَهَّمُهُ فَيَقِفُ عَلَى حَدِّهِ؟!!
وَهَلْ عَلِمُوا أَنَّ ابنَ المُقَفَّعِ عَلَى
انْصِرَافِهِ إِلَى النَّقْلِ مِنَ الفَارِسِيَّةِ وَاليُونَانِيَّةِ اخْتَارَ
يَوْمًا أُسْلُوبَ العَامَّةِ فِي زَمَنِهِ؟
أَوْ اسْتَجَادَهُ لِلنَّقْلِ وَالتَّرجَمَةِ؟!!
أَوْ خَرَجَ عَلَى الأَدَبِ الَّذِي تَأَدَّبَ بِهِ أَوْ
حَاوَلَ فِيهِ مُحَاوَلَة؟!
أَوْ قَالَ بِوُجُوبِ هَدْمِ القَدِيمِ لِأَنَّهُ لَا
يَرَى لِلعَرَبِ مِثْلَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ لِليُونَانِ مِنَ العِلْمِ وَالحِكْمَةِ
وَالخَيَالِ وَأَسَالِيبِ الحِكَايَةِ الكِتَابِيَّة؟!!
أَوْ نَزَلَ بِأُسْلُوبِهِ وَكِتَابَتِهِ مَنْزِلَةَ
مَنْ يَمْكُرُ الحِيلَةَ فِي اللُّغَةِ وَيَكِيدُ لِلأَدَبِ وَيَتَسَاهَلُ
نَفْسَهُ لِغَرَضٍ كَالَّذِي فِي نُفُوسِ هَؤلَاءِ المُجَدِّدِين؟!!
قَالَ لِي ذَلِكَ الكَاتِبُ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ: إِنَّ المِيرَاثَ العَرَبِيَّ القَدِيمَ الَّذِي
وَرِثْنَاهُ يَجِبُ هَدْمُهُ كُلُّهُ وَتَسْوِيَتُهُ بِالعَدَم!!
قُلْتُ: أَفَتُحْدِثُ أَنْتَ لِلنَّاسِ لُغَةً وَأَدَبًا وَتَارِيخًا, ثُمَّ
طَبَائِعَ مُتَوَارَثَةً تَقُومُ عَلَى حِفْظِ اللُّغَةِ وَالأَدَبِ
وَالتَّارِيخ؟!!
أَمْ تَحْسِبُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ بِمَقَالَةٍ
عَرْجَاءَ فِي صَحِيفَةٍ مُقْعَدَةٍ أَنْ تَهْدِمَ شَيْئًا أَنْتَ بَيْنَ
أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ كَعُودٍ مِنَ القَشِّ يُؤتَى بِهِ لِاقْتِلَاعِ جَبَلٍ مِنْ
أُصُولِهِ؟!!
مِنْ أَيْنَ جَاءَ المِيرَاثُ العَرَبِيُّ؟ وَكَيْفَ
اجْتَمَعَ وَتَكَامَلَ إِلَّا مِنَ القَرَائِحِ الَّتِي جَدَّت فِي إِبْدَاعِهِ
وَإِنْمَائِهِ، وَأَضَافَت أَعْمَارَهَا صَفَحَاتٍ فِيهِ، وَاسْتَخْلَصَت لَهُ
آدَابَ الفُرْسِ وَالهِنْدِ وَاليُونَانِ وَغَيْرِهِم، فَأَعْرَبَت كُلَّ ذَلِكَ
لِيَنْدَمِجَ فِي اللُّغَةِ؛ لَا لِتَنْدَمِجَ اللُّغَةُ فِيهِ، وَلِيَكُونَ مِنْ
بَعْضِهَا؛ لَا لِتَكُونَ مِنْ بَعْضِهِ، وَلِيَبْقَى بِهَا لَا لِتَذْهَبَ بِهِ؟
مَنْ ذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ العَرَبَ هُمْ كُلُّ
الأَرْضِ، وَأَنَّ آدَابَهُم خُلِقَت عَلَى الكِفَايَةِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى
تَحْرِيرٍ أَوْ تَبْدِيلٍ؟!
وَلَكِنْ مَنْ ذَا الَّذِي يَرْضَى أَنْ يَجْعَلَ
لِكُلِّ أَرْضٍ عَرَبِيَّةٍ لُغَةً عَرَبِيَّةً قَائمَةً بِنَفْسِهَا، وَلِكُلِّ
مِصْرٍ أَدَبًا عَلَى حِيَالِهِ، وَلِكُلِّ طَائفَةٍ مِنَ الكُتَّابِ كِتَابَةً
وَحْدَهَا؟!
وَمَنْ ذَا الَّذِي فَعَل ذَلِكَ أَوْ حَاوَلَهُ فِي
التَّارِيخِ الإِسلَامِيِّ كُلِّهِ عَلَى طُولِ مَا امْتَدَّ وَتَسَاوَق؟!».
إِنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى التَّجدِيدِ يَفْهَمُونَ
-فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ- تَجْدِيدَ الخِطَابِ الدِّينِيِّ عَلَى أَنَّهُ
تَجدِيدُ الدِّين! يَفْهَمُونَ تَجدِيدَ الخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ تَجْدِيدُ دِينِ
اللَّهِ رَبِّ العَالمِين، فَهَذا لَا يُنَاسِبُ العَصْرَ!! وَهَذَا لَا يَتَّسِقُ
مَعَ الذَّوْقِ!! وَهَذَا لَا يُوَافِقُ العَقْلَ!! وَهَذَا وَهَذَا...إِلَى غَيرِ
ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ التُّرُّهَاتِ، وَهَلْ هَذَا دِينٌ؟!!
إِنَّ الدِّينَ أَنْ تَدِينَ، وَمَا أُخِذَ الدِّينُ
إِلَّا مِنْ أَنْ تَدِينَ للَّهِ رَبِّ العَالمِينَ، بِمَعْنَى: أَنْ تَكُونَ
خَاضِعًا للَّهِ رَبِّ العَالمِينَ وَحْدَهُ، وَالَّذِي يُرَاجِعُ بَعْدَ ذَلِكَ
فِيمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَثَبَتَ عَنْ رَسُولِهِ؛ إِنَّمَا يُرَاجِعُ إِيمَانَ
القِمَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا شَهِدَ أَنَّهُ: لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَقَدْ آمَنَ بِكُلِّ وَحْيٍ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى
رَسُولِهِ، فَإِذَا رَاجَعَ بِعَقْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا يُرَاجِعُ
إِيمَانَ القِمَّةِ، وَيُرَاجِعُ مَا قَدْ أَثْبَتَهُ قَبْلُ وَقَرَّرَهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدِّينَ هُوَ دِينُ اللَّهِ رَبِّ
العَالمِينَ، وَأَنَّ حِكمَتَهُ فِيمَا نَزَّلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ وَفِيمَا
خَلَقَهُ، حِكْمَتُهُ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ ثَابِتَةٌ ظَاهِرَةٌ لَائِحَةٌ،
قَدْ لَا نَفْهَمُهَا، يَفْهَمُهَا غَيرُنَا، وَقَدْ لَا يَفْهَمُهَا غَيرُنَا
كَمَا لَا نَفْهَمُهَا، وَلَكِنَّهَا تَظَلُّ قَائِمَةً؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا
يَأْتِي بِمَا تُحِيلُهُ العُقُولُ، وَلَكِنْ يَأْتِي بِمَا تَحَارُ فِيهِ
العُقُولُ، وَإِلَّا مَا كَانَ دِينًا، إِنَّهُ دِينُ اللَّهِ رَبِّ العَالمِينَ،
يَدِينُ بِهِ عِبَادُهُ فِي أَرضِهِ، فَالدِّينُ دِينُهُ، وَالخَلْقُ عَبِيدُهُ،
وَلَيْسَ لَهُم أَنْ يُرَاجِعُوهُ.
وَالوَاحِدُ مِنْ هَؤلَاءِ الحَمْقَى المُغَفَّلِينَ
الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى سُنَنِ النَّبِيِّ الأَمِينِ ﷺ، بَلْ يَعْتَرِضُونَ
أَحْيَانًا عَلَى آيَاتِ الذِّكْرِ الحَكِيمِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَنَّ لِلذَّكرِ
مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْن، فَهُم يَعْتَرِضُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُونَ:
هَذَا كَانَ فِي القَدِيمِ، وَأَمَّا فِي هَذَا العَصْرِ الحَاضِرِ فَلَا بُدَّ
مِنَ المُسَاوَاة!!
وَيَقُولُونَ: نُؤمِنُ بِالآيَةِ مَعَ ذَلِكَ!! أَيُّ
إِيمَانٍ؟!!
إِلَى غَيرِ ذَلِك مِمَّا يَنْظُرُونَ بِهِ فِي كِتَابِ
اللَّهِ رَبِّ العَالمِينَ؛ مِنَ العَجْزِ القَبِيحِ، وَعَدَمِ امْتِلَاكِ
الأَدَوَاتِ البَحْثِيَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُمْتَلَكَ مِنْ أَجْلِ
النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ العَزِيزِ.
هَؤلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ فِي سُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمَا
يُضْحِكُ الثَّكْلَى، هَؤلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنَ المَجَانِين، أُطْلِقُوا مِنْ
البِيمَارِسْتَان، ثُمَّ أُقْعِدُوا مَقَاعِدَ يُسْمِعُونَ فِيهَا الدُّنْيَا،
فَهُم يَهْذُونَ بِهَذَيَانٍ لَا يُعْرَف، وَالنَّاسُ يَحتَاجُونَ إِلَى
التَّسْلِيَةِ، وَلَكِنَّهَا تَسْلِيَةٌ مُدَمِّرَةٌ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ
خَطَّافَةٌ، وَلِأَنَّ القُلُوبَ ضَعِيفَةٌ، وَرُبَّمَا تَسَلَّلَت شُبْهَةٌ إِلَى
القَلْبِ فَاسْتَحْوَذَت عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يُدرِكُونَ؛ لِأَنَّهُ
حِيِلَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ عُلَمَائِهِم، وَهُمُ السَّدُّ المَانِعُ دُونَ هَذِهِ
القَاذُورَاتِ وَالخُزَعْبَلَات، هَؤُلَاءِ لَا يَأْتُونَ بِجَدِيدٍ.
وَعَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ وَالحَقِّ؛ عَلَى
المُسلِمِينَ أَنْ يَثِقُوا فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِمُ الأَمِينِ وُثُوقًا
طَبْعِيًّا فِطْرِيًّا بِمَا أَنَّهُم آمَنُوا بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ،
وَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، وَأَنَّ شَرْعَهُ صَالِحٌ لِكُلِّ زَمَانٍ
وَمَكَان؛ بَلْ كُلُّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ صَالِحٌ لِشَرْعِ اللَّهِ -جَلَّ
وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَتَنَزَّلُ وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ
النَّاس، إِنَّمَا جَاءَ لِيَرْفَعَ النَّاسَ عَمَّا هُمْ فِيهِ وَتَدَنَّوْا
إِلَيْهِ؛ ﴿قُلْ تَعَالَوْا﴾ [الأنعام: 151]:
ارْتَفِعُوا إِلَى الطُّهْرِ وَالسُّمُوِّ، اخْرُجُوا مِنَ القَذَارَاتِ
وَالحَمَاقَاتِ وَالمَورُوثَاتِ البَائِدَةِ إِلَى صَرِيحِ الكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ.
فَعَلَيْنَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ أَنْ نَتَّقِيَ
اللَّهَ –تَبَارَكَ
وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ دِينِنَا مَعْرِفَةً صَحِيحَةً؛
لِيُسَلِّمَ اللَّهُ رَبُّ العَالمِينَ لَنَا دِينَنَا وَإِيمَانَنَا
وَعَقِيدَتَنَا، وَتَبَعًا يُسَلِّمُ لَنَا وَطَنَنَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ
يَسْلَم لَنَا دِينُنَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُعْقَدُ عَلَيهِ الخِنْصَرُ فِي
جَمْعِ المَجْمُوعِ البَشَرِيِّ، فَإِنَّ أَيَّ جَمَاعَةٍ إِنَّمَا تَكُونُ
مَجْمُوعَةً عَلَى دِينٍ -أَيِّ دِين-؛ عَلَى وَطَنٍ وَأَرضٍ، عَلَى مَوْرُوثٍ
وَتَارِيخٍ؛ تَضْمَنُ نَوْعًا مِنْ أَنواعِ البَقَاءِ.
فَإِذَا كَانَت مُعْتَمِدَةً عَلَى دِينٍ الحَقِّ،
الَّذِي لَا دِينَ حَقٌّ سِوَاهُ، وَإِذَا كَانَت رَاجِعَةً إِلَى تُرَاثٍ
عَظِيمٍ، بَلْ لَا يُقَالُ لَهُ تُرَاث؛ لِأَنَّ التُّراثَ إِنَّمَا يُؤخَذُ عَنِ
المَيِّتِين، وَهَذِهِ أُمَّةٌ حَيَّةٌ نَابِضَةٌ بِالحَيَاةِ، وَلَا
يَغُرَّنَّكُم ضَعْفُهَا الآن؛ فَسَتَقُومُ مِنْ كَبْوتِهَا -بِإِذْنِ اللَّهِ
جَلَّ وَعَلا-، وَلَكِنَّ الزَّمَانَ عِنْدَ اللَّهِ لَا يُقَدَّرُ بِهِذِهِ
السِّنِينَ الَّتِي يُعْطِيهَا لِلكَائنِ الإِنْسَانِيِّ، الزَّمَانُ عِندَ
اللَّهِ مُمْتَدٌّ مَبسُوطٌ، إِنْ لَمْ نَرَهُ فَسَيَكُونُ، وَأَنَا عَلَى يَقِينٍ
مِنهُ كَمَا أَنِّي عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنِّي مَوجُودٌ، يَنْصُرُ اللَّهُ
الدِّينَ، وَيَنْصُرُ اللَّهُ المُؤمِنِينَ، وَيَخْذُلُ الظَّالمِينَ، وَيُخْزِي
الكَافِرِينَ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.