«الرد على الملحدين»
«من الأدلة المادية على وجود الله»
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ،
وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ،
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
ففي سياق الرد على الملحدين مَرَّ ما يتعلق بالأدلة
العلمية العقلية على وجود الرب تبارك وتعالى.
الْعدم لا يخلق شيئًا، العدم الذي لا وجود له
لا يستطيع أن يصنع شيئًا؛ لِأَنَّهُ غير موجود، وإذا ما تأملنا فِي المخلوقات التي
تولد فِي كل يومٍ؛ من إنسان وحيوان، والتي توجد؛ من نبات وظواهر يجعلها الله عز وجل
فِي هذا الكون، وتفكرنا فِي كل ما يحدث فِي الوجود من رياح وأمطار وليل ونهار، ونظرنا
إِلَى ما يجري فِي كل حينٍ من حركات منتظمة للشمس والقمر والنجوم والكواكب، إِذَا تأملنا
فِي هذا وغيره من التغيرات المحكَمَةِ التي تجري فِي الوجود فِي كل لحظة؛ فإن العقل
يجزم بأن هذا كله لا يمكن أن يكون من صُنْعِ العدم؛ لأن العدم لا وُجُود له، وإنما
هذا كله من صنع الخَالِق الموجود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
قال جَلَّ وَعَلَا: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا
يُوقِنُونَ (36»)، فالتفكر فِي المصنوع يدل على وُجُود الصانع؛ بل وعلى صفاته، فكل
شيء يوجد فِي المصنوع يدل على قدرةٍ أو على صفةٍ عَنْد الصانع، فلا يمكن أن يوجَد شيء
فِي المصنوع إِذَا كَانَ الصانع لا يملك قدرة ولا صفةً مَكَّنَتْهُ من فعل ذَلِكَ الشيء
فِي المصنوع؛ فضلًا عَنْ أن يكون هذا المصنوع وُجِدَ بغير صانع.
يعني: أنت إِذَا رأيت بابًا من خشب قد أُتْقِنَ
صُنْعُهُ؛ فإنك ستعلم أن الصانع مَلَكَ هذا الخشب، واستطاع أن يقطعه بانتظام وإحكام،
وجعله على هذا النحو بابًا من الأبواب، فهو قادر على أن يجعل الخشب أملس، ويملك الأدوات
التي يستطيع أن يفعل بها ذَلِكَ، وهو يملك القدرة على تثبيت أجزاءِ هذا الباب بالوسائل
الممكنة، وأن لديه علمًا بصناعة هذا الأمر، وله خبرة، فإذا وجدنا ثقبًا منتظمًا فِي
الباب مَحَلًَّا للمفتاح؛ شهد لنا ذَلِكَ بأن الصانع لديه قدرة على ثَقْبِ هذا الباب
بهذه الدقة، وأن لديه إحكامًا فِي عمله، وكذَلِكَ نجد كل شيء فِي المصنوع يدل على وُجُود
صانعه ابتداءً، ويدل على قدرته، ويدل على علمه وعلى إرادته؛ لِأَنَّهُ يخصِّص هذا الممكنَ
ببعض وجوهه الممكنة، فلا يمكن أن يوجد شيء فِي المصنوع إلا إِذَا كَانَ الصانع يملك
قدرة أو صفة تُمَكِّنُه على صنع ذَلِكَ الشيء.
كذَلِكَ لو أننا تفكرنا فِي المصنوع؛ فإنه يدلنا
على بعض صفات صانعه، فمن هنا نعرف أن التفكر فِي المخلوقات يدل على بعض صفات الخَالِق؛
قَالَ ربنا جَلَّ وَعَلَا: «إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ
(3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ
رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (5)
- وتصريفُها: تَقْلِيبُها فِي مَهَابِّهَا، تصريفُها
في أحوالها - تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6»).
إذا تأملنا وتفكرنا فِي المخلوقات؛ فسَتُعْلِمُنا
آياتُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيها ببعض صفات الله جَلَّ وَعَلَا؛ «قُلِ انْظُرُوا
مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ».
«أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ
أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185»).
فهذا الخلق دليلٌ مادي على وُجُود الرب تَبَارَكَ
وَتَعَالَى، فإذا أردنا أن نبدأ بالأدلة المادية على وُجُود الله جَلَّ وَعَلَا؛ فلا
بد أن نبدأ بالخلق؛ لِأَنَّهُ الدليل الَّذِي نراه جميعًا أمام أعيننا ليلًا ونهارًا،
ونَلْمَسُهُ لأننا نعيشه.
فالبداية هي: أن هذا الكون بكل ما فِيه قد وجد
أولًا قبل أن يخلق الإنسان، وتلك قضية لا يستطيع أحد أن يجادل فِيها، فلا أحد يستطيع
أن يقول: إن خلق السماوات والأرض قد حدث بعد خلق الإنسان، بمعنى أن الإنسان جاء ولم
تكن هُنَالِكَ أرضٌ يعيش عليها، ولا شمسٌ تُشْرِقُ عليه، ولم يكن هُنَالِكَ ليل ولا
نهار، ولا هواءٌ يَتَنَفَّسُهُ، إِلَى غير ذَلِكَ من مفردات هذا الوجود.
الإنسان جاءَ وكلُّ شيء قد أُعِدَّ له قبل أن
يجيء - قبل أن يوجد -، بل إن هُنَاكَ أشياءَ أكبرُ من قدرة الإنسان خُلِقَتْ وَسُخِّرَتْ
لِتَخْدُمَهُ وتُعْطِيَهُ كل متطلبات الحياة بدون مقابل، وأشياء أخرى خلقت وسخرت للإنسان
تعطيه ما يشاء؛ ولَكِنها محتاجة إِلَى جُهد الإنسان وعمله، وذَلِكَ حتى تَتِمَّ عِمَارةُ
الْأَرْض؛ فإن الله عز وجل جعل الشَّمْس تشرق على هذا الكون تَمُدُّه بالطاقة، وهي
لا تميز بين مؤمن وكافر، ولا بر وفاجر، وإنما هي مسخرة هذا التسخير بأمر الله جَلَّ
وَعَلَا.
وكذَلِكَ جعل الله جَلَّ وَعَلَا الْأَرْض مسخَّرةً
لِفَلْحِها وزراعتها؛ ولَكِنْ هذا يحتاج إِلَى جُهْدٍ إنسانيٍّ وعمل، فهذا وهذا مسخر،
والفرق بينهما ما مر؛ ولَكِن لا أحد يستطيع باستخدام العقل وحده أن يجادل أن هذا الكون
قد خلق وأعد لحياة الإنسان قبل أن يُخْلَقَ الإنسان نفسه، فإذا قَالَ الله جَلَّ وَعَلَا
لنا: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29»)؛
فلا يستطيع أحد بعد ذَلِكَ أن ينكر أن الكون قد تم خلقه قبل خلق الإنسان؛ فكيف يكون
للإنسان عملٌ قبل أن يوجد ويخلق؟!
ثم تأتي الآية، وهي قول الله جَلَّ وَعَلَا:
«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْض خَلِيفَةً»، فتأكد
أن الكون أعد للإنسان قبل أن يخلق، وهذه قضية يأكدها العقل، ولا يستطيع أحد أن يجادل
فِيها، فإذا وصلنا إِلَى هذه المسألة - وهي أن الله سبحانه وتعالى بكمال صفاته وقدرته
قد خلق هذا الكون ونظَّمه غير مستعين بأحد من خلقه، ولا محتاجٍ لأحد من عباده -؛ وصلنا
إِلَى أننا جميعًا – أي البشر – قد جئنا إِلَى كون مُعَدٍّ لنا إعدادًا
كاملًا؛ ولَكِنَّ قدرة هذا الكون لا تخضع لنا ولا لقدراتنا، بل هي أكبر من هذه القدرات
بكثير، فالشمس مثلًا أقوى من قدرة البشر جميعًا، وكذَلِكَ الْأَرْض والبحار والجبال.
إذًا؛ فلا بد أن تكون هذه الأشياء قد أُخضِعت
لنا بقدرةٍ من خالقها وموجدها، وهو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لم تُخْضَعْ لنا بقدرتنا
نحن، وإنما بقدرة الَّذِي أوجدها، خلقها لنا قبل أن يخلقنا، فخلق الله السماوات والأرض،
وجعل هذا الكون مهيًا للإنسان على هذا النحو، وخلق الإنسان، فلا بد أن تكون قد أُخْضِعَت
لنا مِنْ قِبَلِ من خلقها؛ لِأَنَّهُا لا تخضع لنا بقدرتنا نحن، فهي مسخرة لنا، ولا
تستطيع أن تعصي أمره.
الشَّمْس
لا تستطيع أن تشرق يومًا وتغيب يومًا على حسب هواها؛ لتعطي الدفء ووسائلَ استمرار الحياة
لمن تريد وتمنعه عمن تريد.
الهواء لا يستطيع أن يهب يومًا ويتوقف يومًا.
المطر لا يستطيع أن يمتنع عَن الْأَرْض، فتنعدمَ
الحياة ويهلكَ الناس.
الأرض لا تستطيع أن تمنع نفسها عَنْ إنبات الزرع.
لا تستطيع البشرية كلها أن تدَّعي أن لها دخلًا
فِي خلق هذه الأشياء، ولا فِي مُهَمَّتِها، ولا فِي استمرارِها فِي عملها.
فهذا كله لا يخضع لإرادة البشر، فإذا جئنا إِلَى
الإنسان؛ وجدناه هو الآخر لا بد أن يشهد بأن له خالقًا وموجدًا، فلا يوجَد من يَدَّعِي
أَنَّهُ خَلَقَ إنسانًا، ولا مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ خلق نفسه؛ ولَكِن إِذَا جاء بعض
الناس فقال: "إن هذا الكون خُلِقَ بالمصادفة"؛ فهو مُقِرٌّ بأن له خالقًا؛
ولَكِنه ضل عَن الْحَقّ فِي إثبات الخَالِق، فادعى أن المصادفة هي التي أَوْجَدَت.
إذًا؛ هو يُقِرُّ بأن هذا الكون لا بد له من
موجد، ولكنه يقول:"أَوْجَدَت المصادفةُ هذا الكونَ"!!
فيقال لهم: إن المصادفة لا تُنْشِئُ نظامًا دقيقًا
كنظام الكون الَّذِي لم يَخْتَلَّ رَغْمَ مرورِ ملايين السنين.
وإذا
جاء بعض الْمُلْحِدِينَ ليدعي أَنَّهُ كَانَت هُنَاكَ ذرات ساكنة، ثم تحركت وتكثفت
واتحدت...... إِلَى آخر ما يَقُولون؛ فيقال لهم: ومن الَّذِي أوجد هذه الذرات بدءًا؟!
ومن الَّذِي حركها من السكون؟! لأنهم يقولون:
"كانت هناك ذرات ساكنة"؛ من الذي أوجدها؟!
ثم يقول: "إنها تحركت وتكثفت واتحدت، فَنَشَأَت
الحياة".
فيقال: من الَّذِي حركها؟!
والعقل قاض بأنه لا يمكن أن يوجد متحرك بغير
محرك، ولا يمكن أن يوجد موجود بغير موجد، ولا يمكن أن يكون خلق بغير خالق.
فإذا قيل: إن الحياة بدأت بخلية واحدة فِي الماء
نتيجةَ تفاعلات كيمياوية...إِلَى آخر ما يَقُولون؛ فيقال لهم: ومن الَّذِي أوجد هذه
التفاعلات لتصنع هذه الخلية؟!!
هذه التفاعلات فِيها دقة شديدة، وفيها نظام محكم؛
فكيف كَانَت على هذا النحو؟!
ومن الَّذِي أنشأ هذا؟! فضلًا عَنْ السؤال الأول،
وهو: من أوجد هذه الخلايا التي وقعت فِيها تلك التفاعلات؟!
والعاقل لا يَدْخُلُ فِي جدل عقيم مع أمثال هَؤُلَاءِ،
وإنما يَقُول لهم: إن من إعجاز الخَالِق: أَنَّهُ أنبأنا بمجيئهم قبل أن يأتوا، وأنبأنا
أن هَؤُلَاءِ مضِلون، أي ليسوا على حق، ولَكِنهم على ضلال، وفي ذَلِكَ يَقُول الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: «مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا
خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51»)، فهذا دليل
على وُجُود الله، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخَالِق، وأنه علام الغيوب؛ لِأَنَّهُ
أخبرنا عَنْ هَؤُلَاءِ المضِلين قبل أن يوجدوا، فذكر لنا أن هَؤُلَاءِ سيقولون كلامًا
على هذا النحو الَّذِي مر من ذَلِكَ الكلام الفارغ الَّذِي يأتي به الْمُلْحِدُونَ.
إذا جاء بعضُ المضللين لِيُضِلَّ الناسَ بنظريات
كاذبة عَنْ أصل خلق الإنسان، فيدعي – مثلًا - أن الجد الأعلى للإنسان فِي آخر مراحل التطور الإنساني
إنما هو القرد!!
فيقال له: أصله قرد؛ فمن الَّذِي أوجد القرد
الأول؟!!
وكذَلِكَ من الَّذِي أوجد الشجرة الأولى؟!!
إنَّهُ الله، فلا أحد يستطيع أن يدعي أَنَّهُ
خلق الشجرة الأولى أو أوجدها من عدم، وهذا الدليل ذكره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وآله وَسَلَّمَ على صورة أخرى، لما قال الأعرابي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينفي
العَدْوَى، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن الإبل تكون في الرمال كالظِّبَاء، فيدخل
بينها أو فيها الجمل أو البعير الأجرب فيُجْرِبُهَا؟ يريد أن يثبت العدوى التي نفاها
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَمَنْ أَعْدَى
الأَوَّلَ؟».
يعني: أنت الآن تريد أن تقول: إن هذه الإبل لما
أصابتها العدوى؛ إنما انتقلت إِلَيْهِا من هذا البعير الأجرب، فَلْنَتَسَلْسَلْ فِي
هذا:
هذا البعير الأجرب من أجربه؟
سيقول: بعير أجرب كَانَ قبله.
والَّذِي قبله؟ إِلَى أن نصل إِلَى أول بعير
على ظهر الْأَرْض أصابه الجرب، من أجربه؟
قال: فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟ صلى الله وسلم
وبارك عليه.
وكذَلِكَ أنت إِذَا ما انتقلت إِلَى أنواع الموجودات:
الثمرة الأولى من كل فاكهة، حبة القمح الأولى، شجرة القطن الأولى؛ من الَّذِي أوجد
هذه المسائل والأشياء أول مرة؟
إنك تجد هذه وغيرَها من كل ما تنتجه الْأَرْض،
إنما هو من خلق الله جَلَّ وَعَلَا، خلقه الله عز وجل خلقا مباشِرًا، ثم بعد ذَلِكَ
استمر وُجُودها بالأَسْبَاب التي خلقها الله عز وجل فِي الكون وهي من خلقه، فالخلق
كله له.
وهذه
الأمور المبتَدَأة أول مرة؛ من الَّذِي أنشأها؟
أنشأها الله رب العالمين، ثم جعل لها أَسْبَابًا
فِي استمرارها فِي هذا الوجود.
قد يقال
مثلًا: إنَّ هُنَالِكَ تَهْجِينًا أو تحسينًا أو خلطًا بين الأنواع لِتُنْتِجَ نوعًا
أكثرَ جودة على حسب قواعد الهندسة الوراثية كما هو فِي هذا العصر.
فيقال: هذا كله لا ينفي أن الثمرة الأولى مخلوقة
خلقًا مباشرًا من الله.
قد يدعي بعض الْعلماء أَنَّهُم حَسَّنوا أو استنبطوا
أنواعًا جديدة.
فيقال لهم: هذا لا ينفي الوجود الأول من الله
جَلَّ وَعَلَا، وإنما هم استخدموا ما خلق الله من الْعِلْم المتاح لهم من الله فِي
كل ما فعلوه، ولَكِنَّ أحدًا لا يستطيع أن يدعي أَنَّهُ أوجد أي شيء فِي الْأَرْض من
عدم، فكل هذه الاكتشافات الْعِلْمية هي من موجودٍ، ولا يوجد اكتشاف علمي واحد من عدم،
وفي هذا أَيْضًا وجه من وجوه الرد على الَّذِينَ فُتِنوا أو ضلوا بِسَبَب الاستنساخ؛
لِأَنَّهُم قَالوا: "إن الاستنساخ كَأنَه خَلْقٌ، وقد عرفنا سِرَّ الخلق"،
فهم يأخذون خلية من الخلايا – ولو كَانَ من ميتٍ مات من عشرات السنين -، ومن معالجات معينة
يتم التعامل مع هذه الخلية، ثم بعد ذَلِكَ يمكن أن يزرع ما هُنَالِكَ فِي رحم المرأة
إِلَى أن يتم وضعها، كما حدث فِي النعجة دُلِّي، وكما وقع فِي بعض الأجنة الإنسانية،
إِلَى غير ذَلِكَ، وفتن الناس فتنة عظيمة، وقالوا: لقد عُرِفَ سِرُّ الخلق !!
أين هي المعرفة بسر الخلق؟!!
أنت
أخذت ما خلقه الله، فجعلتَه فِي الظروف التي خلقها الله، وبالأدوات التي خلقها الله،
وغَذَّيْتَ ذَلِكَ بالغذاء الَّذِي خلقه الله، إِلَى أن وصلت إِلَى خلق الله؛ فأي خلق
هذا؟!!
ولَكِن دع هذا كله جانبًا، واخلق من العدم كائنًا،
فهذا لا يستطاع، وإنما أنت تأتي بما خلق الله لتتعامل معه بالْعِلْم الَّذِي جعله الله
فِي رأسك، وهو من خلق الله جَلَّ وَعَلَا فِي أحوالٍ نظَّمها الله رب العالمين، وبأدوات
خلقها الله رب العالمين، ثم بعد ذَلِكَ تقول: إن هذه فتنة؟!!
ليست بفتنة، وإنما هذا كله تعاملٌ مع خلق الله
رب العالمين.
لو أننا انتقلنا من النبات إِلَى الحيوان؛ فكل
الحيوانات والطيور والحشرات بَدَأَت بخَلْقٍ من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وبخلقٍ
من ذكر وأنثى، وهذه هي بداية الخلق جميعًا، ولا يستطيع أحد أن يَدَّعِيَ أَنَّهُ خَلَقَ
من عدم ذكرًا وأنثى من أي نوع من النبات أو الحيوان.
الله عز وجل لفت أنظارنا وعقولنا إِلَى هذا الأمر
الكبير فِي القرآن الكريم، فقال: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ»؛ بل إنَّهُم
يَقُولون: إن الزوجية موجودة على جميع المستويات، حتى فِي الذرة، ففي الذرة كهيرب سالب
وشحنة موجَبة تكون فِي النواة، فإذا زاد عدد الكهيربات السالبة؛ زاد ما يقابلها أَيْضًا
من هذه الشحنات الموجبة فِي أنوية الذرات، فقالوا: الكون كله مبني على الزوجية، ثم
قَالَ بعض أهل الْعِلْم: إن ذَلِكَ يدلنا على أن الله رب العالمين وحده هو الواحد الأحد،
وأما جميع الخلق؛ فجعله الله زوجين زوجين؛ «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ»،
حتى على مستوى الجمادات بهذا النحو الَّذِي مر ذكره.
لم يأت أحد من المخترعين ليقول لنا: إنَّهُ أوجد
شيئا من عدم، أو أَنَّهُ خلق ذكرًا وأنثى من أي شيء من الموجودات فِي هذا الكون، وما
أكثرَ الموجوداتِ فِي كون الله جَلَّ وَعَلَا.
لم يحدث هذا، ولن يحدث أبدًا.
وهنا تأتي حقيقة قرآنية عظيمة تتحدى الخلق أجمعين؛
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
(73»).
هذا هو التحدي الإلهي الَّذِي سيبقى قائمًا إِلَى
يوم القيامة.
لن يستطيع علماء الدنيا مهما بلغوا - ولو اجتمعوا
- على أن يخلقوا ذبابة.
وضرب الله تبارك وتعالى المثل بالذبابة وهي مخلوق
محتقَر؛ ليدل على عجز هَؤُلَاءِ الناس؛ بل إن الأمر ترقى فِي التحدي إِلَى ما هو أعلى
من ذَلِكَ، فإن الله عز وجل أسقط عَنْهُمْ الأمر بالتحدي هاهنا فِي مسألة الخلق، فقال:
«وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ (73»)، فإن الطِّيبَ الَّذِي كَانوا يضعونه على آلهتهم كَانَ الذباب
يحط عليه؛ لِيَمُصَّهُ بِخَرَاطِيمِه، فتحداهم الله رب العالمين أن يستنقذوا هذا الطيب
من الذباب الَّذِي استلبه منهم؛ «وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73»)، فهذا التحدي الإلهي الَّذِي سيبقى
قائمًا إِلَى يوم القيامة لن يستطيع علماء الدنيا – ولو اجتمعوا – أن يواجهوه، ولا أن يقبلوه؛ لِأَنَّهُم
– ولو اجتمعوا – لن يستطيعوا أن يخلقوا ذبابة.
لقد وصل الإنسان إِلَى القمر – كما قيل -، وقد يصل إِلَى الْمَرِّيخِ
كما يحاولون، وقد يتجاوز ذَلِكَ، كل هذا بابُ الاحتمالات فِيه مفتوح؛ ولَكِنَّ الإنسان
مع هذا التقدم التقني الْعَظِيم سيظل عاجزًا عَنْ خلق ذبابة!!
فيا أيها الَّذِينَ صنعتم ما صنعتم، واخترعتم
ما اخترعتم، وجاوزتم ما جاوزتم فِي أجواز الفضاء، وغُصْتُم فِي الماء، إِلَى غير ذَلِكَ
مما وصلتم إِلَيْهِ؛ لن تستطيعوا أن تخلقوا ذبابة ولو اجتمعتم على خلقها، فالله رب
العالمين لن يعطي أحدا القدرة على الخلق؛ لأن الخلق لله رب العالمين وحده، ولا أحد
يمكن أن يخلق شيئًا من العدم مهما صَغُرَ شأنه، حتى ولو كَانَت ذبابة، وهذا من إعجاز
الله؛ لِأَنَّهُ وحده الَّذِي خلق كل شيء، والْعِلْمُ كاشفٌ لقدرات الله تَبَارَكَ
وَتَعَالَى فِي الْأَرْض؛ ولَكِنه ليس موجدًا لشيء، ولِذَلِكَ يَقُول القرآن الكريم:
«ذَلِكَمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ»،
فمهما حاول الناس فإنما يحاولون فِي هذه البابة، وهي أن يكتشفوا أسرار الله عز وجل
فِي كونه، أما أن يخلقوا – ولو ذبابة -؛ فهم عَنْ ذَلِكَ فِي أَقْمَإِ وأَحَطِّ وأحقر
درجات العجز؛ لأن هذا لا يكون بحال أبدًا.
َفيَثْبُتُ لنا بالدليل العقلي وبالقرآن الكريم
بالدليل النقلي - أن الله وحده هو خالق كل شيء، وأنه تعالى على كل شيء قدير.
وتلحظ شيئًا آخر، وهو ما يتعلق بقدرة الله رب
العالمين الطليقة، فمظاهر طلاقة هذه القدرة هي المعجزات التي تخرق النواميس؛ لأن الله
تَبَارَكَ وَتَعَالَى جعل السنن الإلهية قائمة فِي كونه؛ ولَكِنها مطردة إلا إِذَا
خرقها الله رب العالمين بآية – أي بمعجزة - يؤيد بها رسله وأنبياءه، فأنت تعلم أن الله
تَبَارَكَ وَتَعَالَى جعل قانون الماء على الاستطراق، فهذا الاستطراق من قانون الماء،
وهذا هو القانون الَّذِي هو من سنن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هذا الخلق فِي الْأَرْض؛
ولَكِنه يُخْرَق، فيضرب موسى البحر بعصاه، فيجد طرقًا بعدد الأسباط، ثم يكون الماءُ
قائمًا والطريقُ يابسًا، وتَجِدُ هذا كلَّه حتى يَعْبُرَ موسى وقومُه، فإذا ما أتى
فرعون وملأه، فدخلوا حيث دخل موسى؛ عاد الماء إِلَى قانونه، فأُطْبِقَ عليهم فأهلكهم.
القمر جعله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى – وهو آية سماوية – على النحو المعروف؛ ولَكِنَّ النبي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشير إِلَيْهِ، فينفلق إِلَى شقين، ويكون الجبل بينهما،
فإذا كل شق على جانب من جانبي جبلِ أبي قُبَيْس، يشاهدون ذَلِكَ ويرصدونه فِي الهند؛
لِأَنَّهُ وجد فِي بعض آثارهم ما يرجع إِلَى أَنَّهُم رصدوا فِي ليلة كذا من سنة كذا
بتقويمهم ظاهرةً غريبةً جدًا وقعت للقمر فِي السماء، وهو انشقاقه، فإذا قوبل ذَلِكَ
بالتاريخ الَّذِي كَانَ فِيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ داعيًا
للناس إِلَى دين الْحَقّ؛ وُجِدَ ذَلِكَ متطابقًا؛ ولَكِنَّ ناموسَ هذا المخلوق والجِرْمِ
السماوي ليس على هذا النحو، وطلاقة القدرة هاهنا تَدُلّك على أن وراءها إلهًا قادرًا
مريدًا حكيمًا فاعلًا، لأن اضطراد السنن يُنْسِي أحيانًا مَنْ سَنَّها؛ كاطِّرادِ النِّعَمِ
يُنْسِي أحيانًا مَنْ أَنْعَمَ بها، فإن الإنسان إِذَا ما عان العافية؛ فإنه لا يتذكر
المرض، والنعمة التي ينعم الله عز وجل بها على الإنسان من إلف عادته لها لا يحس بها،
فالمرء إِذَا كَانَ صحيح البصر؛ فإنه لا يحس أن له عينين، ولَكِنه إِذَا ما أصيب ورَابَهُ
من بصره شيء؛ فحينئذ يعرف أن الله قد خلق له عينين.
القلب الإنساني يدق منذ المرحلة الرَّحِمِية
الجَنِينِية، والكائن الإنساني ما زال فِي مرحلة التخلق فِي رحم أمه جنينًا بعد، فيبدأ
القلب فِي مراحل التكون والتخلق فِي الرحم؛ يبدأ فِي الدق، والأطباء عَنْد فحص المرأة
يسمعون ذَلِكَ، وقد يُكَبِّرُونه حتى يسمعه من كَانَ حاضرًا، فيَسْمع دقات قلب الجنين
فِي رحم أمه، ثم إِذَا ما دفعته إِلَى هذه الحياة فبقي فِيها قرنًا من الزمان مثلًا؛
فقلبه يدق لا يتوقف، لو توقف مات، ولَكِنه ربما يحيا قرنًا من الزمان ولا يحس أن له
قلبًا، لا أعني أن له قلبًا من الناحية الروحية ولا من ناحية الخشوع، ولَكِن من الناحية
العضوية، فإذا ما آلمه منه شيء أو اعتل هذا العضو فِي جسده؛ حينئذ يتذكر أن له قلبًا،
فكذَلِكَ ما يحدث فِي كون الله من هذه السنن المطردة.
الشمس تشرق، ثم تغيب من المشرق إِلَى المغرب،
وكذَلِكَ ما يكون من الليل والنهار، وكذَلِكَ ما يكون من البحار والأنهار، إِلَى غير
ذَلِكَ من هذه الأمور، إِلْفُ الإنسان لها يُنْسِيه خالقها، يُنْسِيهِ مَنْ سَبَّبها،
فإلف الإنسان للسبب ينسيه المسبِّبَ، وهذا من الخلل الكبير من الناحية العقلية ومن
الناحية الشرعية، فعلى الإنسان دائمًا أن يتأمل فِي هذا.
جعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى طلاقة القدرة
نافذة فِي أمثال هذه الظواهر المألوفة فِي كونه، وأجرى على أيدي أنبيائه ورسله آيات
أو معجزات لتدل على صدقهم.
جعل الله رب العالمين من هذه السنن: أَنَّهُ
إِذَا التقى الذكرُ والأنثى؛ كَانَ بينهما ولد، ولَكِنَّ هذا ليس بمطرد، فالله عز وجل
يَلْفِتُنا إِلَى هذا بقوله: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ
(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا أَنَّهُ
عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50»)، فيلتقي الذكر والأنثى ولا يكون بينهما ولد؛ «وَيَجْعَلُ مَنْ
يَشَاءُ عَقِيمًا»، وهذا من بعض الحكمة التي يستجليها كثير من أهل الْعِلْم فِيما تجده
فِي الخلق من بعض الأمور التي تختل فِيها أعضاؤهم الظاهرة، فإنك ترى بعض الناس على
صفة معينة من حيث الخلق، ويعجب الإنسان من هذا، يقول: أهذا الكائن؛ وبعض الناس يتفلسف
في هذا فيقول: ما ذنبه إذ وُلِد بغير يدين، أو ولد أكمه لا عين له، إِلَى غير ذَلِكَ
من هذه الأشياء!!
أنت عندما تنظر إِلَى هذا؛ تعلم أن ما تراه من
السنة المطردة فِي الخلق على ما خلقهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه ليست فاعلةً
بذاتها، وليست بمحض عملية طبيعية تكون من التقاء الذكر بالأنثى مع ما يكون فِي الرحم،
ثم يدفع الرحم ما فِيه، فيأتي هذا الكائن الإنساني على هذا النحو، وإنما يتوقف هذا
الاطراد أحيانًا، فتجد أمثال هذه الأمور، فإذا رأى الإنسان ذَلِكَ قَالَ: "الحمد
لله الَّذِي عافاني مما ابتلى به غيري، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا"؛ لِيُخْرِجَ
الإنسانَ قَسْرًا من إِلْفِ العادة فِيما يتعلق بأعضائه وصحته إِلَى معرفة أن هذا من
محض النعمة والفضل عليه؛ لأن الإنسان إِذَا رأى مبتلى؛ فإنه يَقُول: "صَحَّحَ
الله لي نظيرَ ما ابْتُلِيَ هذا به"، فيحمد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى على ما
أنعم عليه به.
وأما إِذَا ما كَانَ الأمر مطردًا فِي الجميع؛
فإن ذَلِكَ يكون أدعى لنسيان نعمة الله على العبد؛ لإلف العادة فِي هذه الأمور المنعَمِ
بها.
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل فِي قوانين
الأَسْبَاب أَنَّهُ متى تزوج الذكر والأنثى يأتي الولد، ولَكِن أبقى لنفسه سبحانه طلاقة
القدرة، فجعل هُنَاكَ ذكرًا وأنثى يتزوجان أعوامًا طويلة ولا يُرْزَقَانِ ولدًا، فمع
قوانين الأَسْبَاب كَانَت هُنَاكَ أَيْضًا
الإرادةُ الحازمة، وطلاقةُ القدرة لم يجعلها الله رب العالمين عامة، بل جعلها فِي أمثلة
قليلة؛ لِتَلْفِتَنَا إِلَى طلاقة قدرته؛ «وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا»، فحتى
لا نحسَبَ أننا نعيش بالأَسْبَاب وحدها، ولا تجد هذا فِي الإنسان وحده؛ بل إنَّهُ لَيَمْتَدُّ
لِيَشْمَلَ جميعَ الخلق فِي جميع أوجه الخلق فِي هذا الوجود.
الأصل فِي الإيجاد من ذكر وأنثى؛ ولَكِنَّ الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بطلاقة القدرة خلق إنسانًا بدون ذكر أو أنثى، وهو آدم عليه
السلام، وخلق خلقًا بدون أنثى، خلق من ذكر بدون أنثى، فخلق من آدم زوجه، فجعلها مخلوقة
من ذكر بلا أنثى، خلقها من ضِلَعِهِ كما قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ، وخلق الله رب العالمين إنسانًا من أنثى بلا ذكر، وهو عيسى بن مريم عليه
السلام، فهذا كله يدلنا – مع أَنَّهُ قد حَدَثَ مرة بعد مرة – على أن الأمر ليس مطردًا، هذا من خلق
الله، فإذا شاء أن يُخَالَفَ هذا القانونُ المطرد؛ خولف.
إن الله عز وجل بدأ خلق آدم من طين، من تراب،
من صلصال، من حمإ مسنون، ونفخ فِيه من روحه، فخلق آدم من غير وساطةِ ذكر ولا أنثى،
ثم خلق من آدم زوجه، فخلق أنثى من ذكر على هذا النحو بلا أنثى، فخلق حواء من ضِلَعِ
آدم، وخلق الله رب العالمين عيسى من مريم بغير واسطةِ ذكرٍ، فخلق أَيْضًا من أنثى بلا
ذكر، كما خلق من ذكر بلا أنثى، كما خَلَقَ مِنْ لا ذكرَ ولا أنثى، ثم يأتي عامة الخلق
الإنساني من ذكر وأنثى.
فهذا يَلْفِتُنا إِلَى أن الله تعالى على كل
شيء قدير، وأنه ليس لقدرته من حَدٍّ تقف عَنْده ولا قيدٍ يقيدها، فهي قدرة طليقة بلا
قيد ولا حد.
الله عز وجل خالق الأَسْبَاب، وقدرته تبارك وتعالى
فوق الأَسْبَاب، فالله يفعل ما يشاء.
لو نظرنا إِلَى المطر – مثلًا -؛ لوجدناه سبحانه قد جعل فِي
الكون مناطق ممطِرة، ومناطق لا ينزل فِيها المطر، ثم كشف الْعلماء من علم الله تَبَارَكَ
وَتَعَالَى ما جعلهم يضعون خريطة للأسباب تحدد المناطق الممطرة والمناطق التي لا مطر
فِيها؛ ولَكِنْ قد يحدث العكس فِي بعض الأحيان؛ ليوجهنا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
إِلَى طلاقة القدرة، وإِلَى أن الماء الَّذِي ينزل من السماء ليس خاضعًا للأسباب وحدها؛
ولَكِنَّ الَّذِي يحكمه هو إرادة الله رب العالمين على حسب علمه وحكمته؛ حتى لا نعتقد
أننا أخذنا الدنيا وملَكناها بالأَسْبَاب، ولَكِن نعرف أن هُنَاكَ طلاقة قدرة الله
سبحانه الَّذِي يسبب ما يشاء، ويغير ما يشاء، ويبدل ما يريد، وهو على كل شيء قدير.
فالْعلماء الآن فِيما يعرف بالأرصاد وغيرها يَقُولون:
نحن نتوقع – إن شاء الله – على حسب الصور الأقمار الصناعية، وعلى
حسب الخرائط الفلكية الجغرافية، إِلَى غير ذَلِكَ من وسائلهم؛ أن يوم كذا سيقع فِيه
كذا، ثم لا يقع، وأحيانًا يقع، وهذا ليس من باب التنبأ فِي شيء، ولا من باب التدخل
فِي خلق الله رب العالمين فِي شيء، ليس هذا من التنجيم؛ لِأَنَّهُ مبني على قواعد الحساب
التي تَوَصَّلَ إِلَيْهِا هَؤُلَاءِ بحسب علمهم؛ ولَكِن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
يفعل ما يريد، وأنت تعلم أَنَّهُ قد قيل: إن الأمس مثلًا كَانَت درجة الْحَرَارَة ستصل
إِلَى درجتين مأويتين، يعني فوق درجة الصفر المأوي بدرجتين، ولم يقع من ذَلِكَ شيء،
بل كَانَ الجو محتمَلًا ولطيفًا أو دافئًا أو ما شئت؛ لأن الله فعال لما يريد، الناس
يستعملون علمهم؛ ولَكِنَّ علمهم ليس بحاكم على قدرة الله، الله فعال لما يشاء.
كذَلِكَ عَنْدما ندرس الكون؛ نرى فِيه هداية
كاملة من أصغر ذراته إِلَى أكبر أجرامه، من أبسط أشكاله إِلَى أعقد مظاهره؛ فما هو
تعليل ذَلِكَ؟
كيف وجد ذَلِكَ؟
وكيف استمر؟
وكيف ثبت؟
هُنَالِكَ جواب واحد يقدمه العقل على ذَلِكَ،
وهو وُجُود ذاتٍ هاديةٍ، وُجُودُ الله.
لا يمكن أن يعلَّل مثل ذَلِكَ إلا بوجود الله
تبارك وتعالى العليمِ الحكيمِ القديرِ، الَّذِي هو سبحانه وتعالى يريد ما يشاء، ويفعل
بما يريد.
لو أنك – مثلًا - نظرت إِلَى ثعبان الماء: متى
اكتمل نموه؟ هاجر من مختَلَفِ البِرَكِ والأنهار قاطعًا آلاف الأميال فِي المحيط، قاصدًا
إِلَى الأعمال السحيقة جنوبِ بَرْمُودَا، حيث ملتقى ثَعَابِينِ الماء فِي كل أنحاء
العالم، فتبيض الإناثُ وتموت، وأما صغارها تلك التي لا تملك وسيلة تتعرف بها على أي
شيء سوى أَنَّهُا فِي مياه غريبة؛ فإنها تعود أدراجَها مرة أخرى؛ كيف؟ تجد طريقها إِلَى
الشاطئ الَّذِي جاءت منه أمهاتها، ومِنْ ثَمَّ إِلَى كل نهرٍ أو بُحَيْرَةٍ أو بِرْكَةٍ
صغيرة، ولذا يظل كل جسم من الماء آَهِلًا بثعابين البحار، ولم يحدث قط أنْ صِيدَ ثعبانُ
ماءٍ أمريكيٌّ فِي المياه الأوروبية – مثلًا -، لم يدخل فِي المياه الإقليمية الأوروبية ثعبانٌ
أمريكي، ولم يخترق هذا السياج؛ من الَّذِي دل هذا على هذا؟!!
ومن الَّذِي علمه؟!!
ومن الَّذِي أرشده؟!!
الجراد البالغ من العمر سبعة عشر عامًا فِي ولايةِ
«يُوإِنجِلَانْدَ» يغادر شقوقه تحت الْأَرْض، حيث عاش فِي ظلام مع تغير طفيف فِي درجة
الْحَرَارَة، ويظهر بالملايين فِي الرابع والعشرين من مايو من السنة السابعة عشرة من
عمره تمامًا، بحيث يَضْبِطُ مواعيدَه للظهور فِي اليوم تقريبًا – أي فِي ذَلِكَ اليوم – بهداية يعجز الإنسان عَنْها لو أَنَّهُ
استعمل التقويم.
خطر لعالم أمريكي أن يستفرخ البيض دون حضَّانة
الدجاج؛ بأن يضع البيض فِي نفس الْحَرَارَة التي ينالها البيض من الدجاجة الحاضنة له،
فلما جمع البيض، ووضعه فِي جهاز التفريخ؛ نصحه فلاحٌ أُمِّيٌّ أن يُقَلِّبَ البيض؛
لِأَنَّهُ رأى الدجاجة تفعل ذَلِكَ، فسخر منه العالم، وأفهمه أن الدجاجة إنما تقلب
البيض لتعطي الجزء الأسفل من البيضة حرارة جسمها التي حُرِمَتها، وأما هو؛ فقد أحاط
البيضَ بجهاز يَشِعُّ حرارة ثابتة لكل أجزاء البيض.
استمر العالم فِي عمله حتى جاء دور الفَقْسِ،
وفات ميعاده ولم يخرج فرخٌ واحد، ولا فَقَسَت بيضة واحدة، فأعاد التجربة آخذًا بنصيحة
الفلاح، أو بالأحرى: أراد أن يقلد الدجاجة، فصار يقلب البيض حتى إِذَا وَاتَى ميعادُ
الفَقْسِ؛ خَرَجَت الفَرَارِيجُ.
ما هو
التعليل الْعِلْمي لهذا؟
آخِر تعليل علمي لتقليب البيض – وهو ما تقوم به الدجاجة – أن الفرخ حينما يخلق فِي البيضة؛ ترسب
المواد الغذائية فِي الجزء الأسفل من جسمه، فإذا بقي بدون تحريك لأوعيته؛ أدى ذَلِكَ
إِلَى هلاكه، فالدجاجة لا تقلب البيض لِذَلِكَ لا فِي اليوم الأول ولا فِي اليوم الأخير؛
فمن الَّذِي عَلَّمها؟!
هذه الهداية الكاملة في عملية بناء هذه العمليات
المعقدة التي تؤدي إِلَى بقاء الأجناس المختلفة فِي الْأَرْض في الدجاج، بقي بهذه العملية
الدجاج فِي العالم؛ لِأَنَّهُ يعلم تمامًا ما ينبغي أن يفعله، الدجاج يعرف تمامًا ما
ينبغي أن يفعله، وما فعلته الدجاجة الأولى حتى استمر جنس الدجاج فِي الْأَرْض؛ من أين
أتت به؟!
ومن الَّذِي عَلَّمها؟!
لو أنك نظرت إِلَى ترتيب الأذن فِي الإنسان وفي
عدد من الحيوانات الأخرى؛ فلا يمكن أبدًا لأي عاقل أن يتصور حدوث ذَلِكَ عَنْ طريق
المصادفة، للأذن طبلة تستقبل الموجات الصوتية، فتتذبذب تلك الطبلة، هذه الذبذبات تؤثر
فِي ثلاث عظام دقيقة مرتبة ترتيبًا معينًا، والضغط على جانبي الطبلة ينبغي أن يكون
متساويًا، لهذا الغرض تمتد أنبوبة خلف الطبلة تُوصِلُ إِلَى تجويف الأنف؛ لكي يكون
هُنَاكَ تعادل بين الضغط فِي الجانبين – أي فِي جانبي الطبلة -، لِذَلِكَ إِذَا ركبت الطائرة واختلف
ضغط الهواء؛ يقال لك: افتح فمك، تنفس من فمك، وإلا طارت الطبلة؛ لأن الضغط يكون شديدًا،
ولا يكون الضغط خلف غشاء الطبلة من الداخل مساويًا للخارج، فمع الضغط يمكن أن يطير،
فيقول لك حينئذ: تنفس من فمك؛ لكي تعادل الضغط فِي الداخل مع الضغط على الطبلة طبلة
الأذن من الخارج.
فهُنَالِكَ أنبوب خلف الطبلة يوصل إِلَى تجويف
الأنف، ويصل بالجزء الداخلي للأذن عظمة تشبه القوقعة فِي شكلها، وظيفتها تحليل الصوت،
وهي تؤدي وظيفة أخرى هي مسألة الحفظ على التوازن، ولِذَلِكَ الَّذِينَ يدورون يدورون؛
يختل هذا السائل الَّذِي يحفظ التوازن فِي القوقعة فِي الأذن الداخلية، فإذا ما اختل؛
لا يستطيع هو أن يحفظ توازنه، وهذا يفعله الصبيان أو الغلمان أو الأطفال عَنْدما يدورون،
ثم لا يستطيع الواحد منهم أن يحفظ توازنه؛ من أجل أن هذا السائل حدث له اختلال؛ لِأَنَّهُ
مثلُه - لا أقول هو مثل؛ بل مثله - ميزان الماء.
تتميز الأنغام المختلفة على حسب الذبذبات عَنْد
نقلها إِلَى المخ من أجل التفسير، هذا يفسَّر صوتًا، وأنت تعرف صوت فلان من فلان وأصواتَ
المخلوقات بعضَها من بعض، كيف تُرْجِمَتْ هذه الاهتزازات إِلَى شيء أنت تسمعه وتدركه؟
وكذَلِكَ هذا الضوء عَنْدما ينعكس على الأشياء،
ثم يأتي إِلَى العين، ويُنْقَلُ عَنْ طريق العصب البصري إِلَى مركز الترجمة فِي المخ،
وفيه أَيْضًا تكبير؛ لأنك خبير بأنك إِذَا رأيت جملًا؛ فعينك صغيرة، ومُخُّكَ ليس بحجمِ
الجمل، يعني كلما رأيت شيئًا يكون مُخُّكَ مثلَ ما رأيت؟!
فكيف تعطيه أنت نسبة التكبير التي تجعله على
حقيقته؟!
هذا تفسيره فِي المخ، فأنت ترى الأشياء على حقيقتها،
مع أَنَّهُا عَنْدما تُنْقَلُ؛ تنقل مقلوبة، فإذا ما ذهبت إِلَى مركز الترجمة فِي المخ
لكي يعيدها إِلَى أصلها؛ أعادها إِلَى وضعها الأصلي، وأعطاها حجمها الأصلي.
هذا كله إنما هو مؤثرات تتعلق بالضوء، وكل الخلايا
العصبية جعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لها مؤثراتها، فأنت – مثلًا - إِذَا ما ضغطت فجعلتَ المؤثر
هاهنا هو الضغط على الأذن؛ سمعت صوتًا، وكذَلِكَ إِذَا ضغطت على العين؛ فإنك ترى نجومًا،
فيتحول الضغط هاهنا من مؤثر هو الضغط إِلَى ما يستجيب له هذا العضو من المؤثرات وهو
الضوء، فإذا ضغطت على عينك؛ رأيت النُّجُوم فِي عز الظهر، وكذَلِكَ إِذَا ما ضغطت على
أذنك؛ فإنك تسمع وَشًّا كما يَقُولون؛ فهذا كله من المصادفة؟!!
هذا كله من لا شيء؟!!
هذا كله خلقه الإنسان بنفسه لنفسه؟!!
تنتقل الذبذبات بعد ذَلِكَ عَنْ طريق الأعصاب
إِلَى مركز السمع بالمخ؛ ليدرك الإنسان أو الحيوان سماع الأصوات المختلفة بعضِها عَنْ
بعض؛ هل يمكن أن يحدث كل هذا فِي وقت واحد عَنْ طريق المصادفة؟!!
نظرية الاحتمالات فِي العلوم الرياضية تنفي المصادفة
هاهنا نفيًا قاطعًا، وتَحْدُثُ فِي الكائنات الحية أشياءُ عجيبةٌ جدًا، وهي لا تعد
ولا تحصى، فما كشفه الإنسان منها وما وصل إِلَيْهِ لا شيءَ بالنسبة لحقيقة وُجُودها،
وهذه كلها تَدُلّ على وُجُودِ مَنْ رَتَّبَ وقَدَّرَ لاستمرار بقاء الكائنات.
هُنَاكَ أمور تَحْدُثُ - مثلًا - لِدِيدَانِ
الفِلَارْيَا، وهذه الديدان إِذَا أصيب بها الإنسان؛ سببت له مرضًا يقال له «مرض الفيل»،
سببها ديدان الفلاريا هذه.
هذه تَغِيضُ فِي طورها الكامل فِي الأوعية اللِّنفَاوِيَّةِ
والغُدَدِ اللنفاوية للإنسان، وتسد الأوعية اللنفاوية، فتسبب تضخم بعض الأعضاء، وعلى
الأخص ما يحدث فِي الساقين أو فِي إحداهما، حتى تصبح ساق الإنسان فِي حجم ساق الفيل،
ولِذَلِكَ قيل له: «داء الفيل»، أو «مرض الفيل».
تتزاوج هذه الديدان فِي أثناء وُجُودها داخل
الأوعية اللنفاوية للإنسان، وتنتج ديدانًا صغيرة تنتقل من الأوعية الليمفاوية إِلَى
الأوعية الدموية، وإذا بقيت هذه الديدان فِي الأوعية الدموية للإنسان؛ فإنها تعجز عَنْ
إتمام دورة حياتها، إذ لا بد لها من أن تنتقل إِلَى جسم بعض أنواع البعوض؛ لكي تتم
تلك الدورة، ولكي تصبح قادرة على عدوى الإنسان، فإذا امتصت البعوضة دم إنسان مصاب؛
فإنها تمتص مع الدم عددًا من هذه الديدان الصغيرة التي تنمو داخل جسم البعوضة حتى يكتمل
نموها فِي دورة حياتها، وتصبحُ قادرة على عدوى الإنسان إِذَا حقنتها البعوضة فِي دمه
فِي أثناء عملية امتصاصها لدم الإنسان الَّذِي تتغذى عليه.
وما الَّذِي يجعلها تحقنها فِي دمه؟
لِأَنَّهُا تُفْرِزُ مادةً تَحْقِنُها فِي دم
الإنسان حيث لدغته؛ من أجل ألا يتجلط الدم، فكذَلِكَ تصنع البعوضة، فحينئذ يكون ذَلِكَ
الطور من أطوار حياة تلك الدودة جاهزًا لإصابة الإنسان.
حاول الْعلماء الحصول على هذه الديدان من دم
المصابين بهذا المرض؛ ولَكِنَّ جميع محاولاتهم كَانَت تبوء بالفشل، إِلَى أن وقع شيء
عجيب :
في إحدى الليالي كَانَ أحد الْعلماء ساهرًا فِي
معمله حتى ساعة متأخرة من الليل، فأخذ عَيِّنَةً من دم إنسان مصاب بتلك الديدان، وفحصها
تحت المجهر، فوجئ بعدد هائل من هذه الديدان فِي العينة التي أخذها، في أثناء النهار
فِي اليوم التالي أخذ عينة من المصاب نفسه، فلم يجد للديدان أثرًا، احتار فِي تفسير
هذه الظاهرة العجيبة؛ لماذا توجد هذه الديدان فِي عينة الدم التي أخذها من المصاب ليلًا،
ولا تظهر إِذَا أخذها نهارًا؟
ثم اتضح بعد ذَلِكَ أن تلك الديدان الصغيرة تهرب
إِلَى الأوعية الدموية الداخلية فِي أثناء النهار، ثم تعود إِلَى الأوعية الدموية القريبة
من سطح الجلد فِي أثناء الليل، والحكمة فِي ذَلِكَ: هي أن البعوض الَّذِي يتغذى على
دم الإنسان فِي هذه الأماكن لا ينشط إلا فِي أثناء الليل، ولذا فإن الديدان تنتقل إِلَى
الأوعية الدموية القريبة من سطح الجلد؛ لكي يتمكن البعوض من امتصاصها مع الدم؛ لِتُتِمَّ
دورةَ حياتها داخل جسم البعوضة.
فهذه الديدان قطعًا لا تدرك شيئًا من هذا ولا
تعلمه، ولا تعلم شيئًا عَنْ البعوضة التي ستُتم دورة حياتها داخل جسمها، بل تفعل هذا
عَنْ غريزة وتوجيه وهداية من الله جَلَّ وَعَلَا.
إذًا؛ هُنَالِكَ سبب وراء ذَلِكَ، وهذا السبب
خالق خلاق عليم قدير فعال لما يريد.
ومن العجيب: أَنَّهُ فِي الأماكن التي تنشط أنواع
البعوض التي تمتص الدم فِيها نهارًا ولا تنشط ليلًا، تجد أن الديدان تفعل العكس، فتبقى
فِي الأوعية الدموية الداخلية ليلًا، وتهاجر إِلَى الأوعية الدموية نهارًا؛ ليتمكن
البعوض فِي هذه الحال من امتصاصها مع الدم، فهذا بعوض نهاري، فتتعرض هي له، تتبرج له
بتعرضها تبرجَ الأنثى تصدت للذكر؛ لتتم دورة الحياة، وأما البعوض الليلي؛ فهذا البعوض
الليلي تظهر له ديدان الفِلَاريا فِي الأوعية الدموية السطحية من أجل أن تُتِمَّ دورةَ
الحياة فِي ذَلِكَ البعوض.
هل يحدث هذا عَنْ طريق المصادفة؟!!
يقول ربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27»)، فتأكد هذه الآية
الْعَظِيمة مع آيات أخرى كثيرة فِي القرآن المجيد أن الله سبحانه هو الخَالِق وحده
لهذا الكون بإرادته، وهو تَبَارَكَ وَتَعَالَى جعله على هذا النحو بتلك الإرادة الفاعلة
والقدرة الطليقة على مقتضى علمه وحكمته.
والباحث المتأمل فِي كل خلق إلهي يجد الكثير
من الدلائل التي يدحض بها مزاعم الْمُلْحِدِينَ والمشركين وافتراءاتِهم ؛سواءٌ فِيما
يزعمون من نشأة الحياة بالصدفة، أو ما ينسبونه للطبيعة من قدرة على الاختيار والانتقاء،
وإعمالِ القوانين فِي حركة الكون والحياة، أو ما يزعمون من تطورٍ للمخلوقات أدى إِلَى
ارتقاء الجماد والحيوان، وانحدار الإنسان من أصل مشترَك بينه وبين القِرَدَةِ العليا،
وهذه كلها مزاعم فلسفية، هذه ليست بالمزاعم الْعِلْمية، هذه مزاعم فلسفية!!
خيالات!!
والمنطق الْعِلْمي نفسه يرفض تلك المزاعم، ويكشف
غاياتها الخبيثة فِي تزيين الْكُفْر والإِلْحَاد.
إذا بحثنا فِي جسم الإنسان - على سبيل المثال
-؛ نجد العديد من التوافقات المذهلة والتنظيمات العجيبة التي تؤكد أن الإنسان لم ينشأ
نتيجة صدفة عمياء، ولم يتطور من جماد وحيوان بفعل قوى الطبيعة المزعومة، بل هو من صنع
إله قادر عليم جبار يملك القدرة المطلقة على التدبير والتخطيط، وهذه القوة هي قوة القصد
الإلهي التي تؤكد أهمية الغاية والهدف من وراء خلق الكائنات مصداقا لقوله تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115»)، ولقوله
تبارك وتعالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ
(38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(39»).
من أمثلة التوافقات والتنظيمات المعجِزة فِي
جسم الإنسان: أن خلايا الجسم دائمة الانقسام للعمل على نمو الجسم، أو لتعويض ما يفقد
أو يموت من هذه الخلايا.
أما الخلايا العصبية؛ فهي لا تنقسم؛ لِأَنَّها
لو انقسمت؛ تحدث كارثة مروعة بتلاشي جميع معالم الذاكرة فِي الخلايا العصبية للمخ،
فهذه الخلايا العصبية هي هي؛ ولَكِن هذه الخلايا العصبية لها قانونها الخاص، وهي خلية
حيوانية؛ ولَكِنها سوى الخلية الجسمية، فالخلايا الجسمية تتكاثر، وأما الخلايا العصبية؛
فما دمر منها فإنه لا يعاد.
عضلات الرحم عَنْد المرأة أقوى عضلات الإنسان؛
للحاجة إِلَى تلك العضلات فِي دفع الجنين عَنْدما يأذن فِي دفع الجنين عَنْدما يأذن
الله تعالى بخروجه من بطن أمه.
تلي
عضلات الرحم عضلات القلب التي لا بد أن تكون قوية لتحتمل العمل ليلًا ونهارًا، وتدفع
الدم باستمرار إِلَى الأوعية الدموية لمدةٍ قد تطول فِي بعض الأحيان لأكثر من مائة
عام.
وكذَلِكَ ما يتعلق بعضلات الفكين؛ لِأَنَّهُ
لا بد من طحن ذَلِكَ الغذاء، فالإنسان كم يطحن من أطنان من الطعام فِي حياته؟!
فهو يحتاج إِلَى أن تكون هذه العضلات فِي غاية
من القوة.
عند حدوث جرح من الجسم؛ يندفع الدم من الأوعية
الدموية المجروحة؛ ولَكِنه لا يلبث أن يتجلط عَنْد مكان الجرح لِيُوقِفَ استمرارَ النزيف،
ولو لا هذا التجلط لظل النزيف حتى الموت.
المعدة فِي الإنسان أشبه بمصنع كيميائي أعده
الله تعالى لكي يعمل وينتج مواد كيميائية أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره الإنسان، فالمعدة
تقوم تلقائيًا بتحليل ما يتناوله الإنسان من أطعمة على اختلاف أنواعها، وتقوم بمعالجتها
وتجهيزها من جديد، وتتولى فرزها وتصنيفها وتوريدها بصورة مستمرة ومنتظمة إِلَى الأمعاء
من أجل أن تُمْتَصَّ إِلَى الدماء؛ لتصل إِلَى كل خلية من بلايين الخلايا على حسب احتياجات
هذه الخلايا وتخصصاتها؛ لتكوين العظام أو الأظافر أو الشعر أو اللحم أو الأسنان أو
الأنسجة أو الدم أو غيرِ ذَلِكَ.
ولا تَغْفُلْ عَنْ شيء مهم يدل على وحدة النظام
فِي الكون، وهو بالتالي يدل على الإله الواحد الأحد: أن هذا الغذاء واحد، فالَّذِي
تأكله شيء واحد، يعني مهما تعددت أنواعه من طعام وشراب هو شيء واحد؛ ولَكِنه يصير على
هذا النحو يصير خلايا جسدية، يصير حيوانات منوية، أو يصير بويضات عَنْد الأنثى، يصير
عرقًا، يصير دموعًا، إِلَى غير ذَلِكَ من هذه الأمور، وهو شيء واحد!!
فالذي يؤخذ ليصير على هذه التنوعات المختلفة
هو شيء واحد، ولَكِن الله عز وجل هو الخلاق العليم.
الأذن البشرية – كما مر – عضو معقد جدًا، وهو بالغ الحساسية،
يقوم بتحليل الأمواج الصوتية ونقلها إِلَى المخ فِي صورة تيار معين يَسْرِي فِي العصب
السمعي إِلَى مركزٍ خاصٍّ فِي المخ، فَيُحِسُّ الإنسان بسماع الصوت.
خلق الله الأذن البشرية، وجعل استجابتها محدودةً
بِمَدىً معين من الذبذبات، يتراوح ترددها - وهو عددها فِي الثانية الواحدة؛ مثل ما
تأتي بالشوكة الرنانة، ثم تضربها فِي جسم ما، ثم ترى تلك الذبذبات، فعدد الذبذبات فِي
الثانية الواحدة هو التردد -.
الأذن تسمع ترددات الأصوات من عشرين إِلَى عشرين
ألف ذبذبة فِي الثانية الواحدة، لو قل عَنْ هذا العدد – عَنْ العشرين ذبذبة فِي الثانية الواحدة
-؛ لا يسمع.
كم من الأصوات فِي الكون تحت هذا المستوى من
الذبذبات وأنت لا تسمعه؟!
كثيرة هي.
وكذَلِكَ ما فوق العشرين ألفًا من الذبذبات فِي
الثانية الواحدة، ما زاد على ذَلِكَ لا تسمعه، فيكون حولك وأنت لا تسمعه؛ لكي تنعم
بالهدوء، ولكي لا تسمع الموجات الأقل أو الأكبر من هذا المدى، وإلا ظللت فِي شغل دائم
أبدًا حتى لا تنام.
لو استجابت الأذن لكل الذبذبات الصوتية؛ لعاش
الإنسان فِي ضجيج لا ينقطع، لِذَلِكَ تنفي هذا الأثير من أصوات تلتقط بوسائل معينة
وأنت لا تسمعها.
الزحام فِي الأثير أكبر من الزحام فِي الْأَرْض،
زحام ترددات الأصوات فِي الأثير على حسب الإرسال والاستقبال لا يعلم عدده إلا الله
جَلَّ وَعَلَا، لِذَلِكَ تتكلم الملائكة وأنت لا تسمع، تتكلم الشياطين وأنت لا تسمع،
تتكلم الحيوانات أنت لا تسمع، ولَكِن إِذَا مكنك الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من ذَلِكَ؛
فهذا شيء آخر، فقد مكن الله جَلَّ وَعَلَا سليمان عليه السلام من معرفة لغات تلك المخلوقات.
الذي يقال عَنْ الخلايا والعضلات والدم، وكذَلِكَ
عَنْ المعدة والأذن؛ يقال عَنْ العين واللسان والأنف والحنجرة والجلد وغيرها من ملايين
التنظيمات والتوافقات الرائعة فِي جسم الإنسان؛ بل ومختلف التنظيمات الموجودة فِي كل
الكائنات النباتية والحيوانية مما يدل على أن جميع المخلوقات خلقت منذ البداية على
نحوٍ من الدقة المقصودة التي لا تدع مجالا للصدفة أو للاحتمال.
قال ربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ
عَمَّا يَصِفُونَ (22»).
هذه الآية الكريمة وغيرها، كثير من آيات القرآن
المجيد تدعو إِلَى إعمال العقل فِي إثبات وُجُود الإله الواحد والخَالِق العليم كضرورة
حتمية لوجود هذا الكون، واستمرارِ حركتِهِ منذ بداية خلقه، وحتى يقضي الله فِيه أمرًا
كَانَ مفعولًا؛ لَكِنَّ الْمُلْحِدِينَ والكافرين لا يعلمون، أو لعلهم لا يريدون أن
يعرفوا.
هذه الْحَقيقة الواضحة بالرغم من اعتراف بعضهم
بوجود النظام فِي الكون وسريان الحكمة والروح فِي الوجود؛ فهم عاجزون عَنْ أن يشعروا
بوجود منظم مدبر خالق لهذا الكون؛ لِأَنَّهُم استسلموا لأوهام الفكر، وبالغوا فِي تقديس
العقل وما يستنبطه من علم، ونَسَوْا أو تَنَاسَوْا وُجُود خالقِ العقلِ وخالقِ الْعِلْم
وخالقِ كل شيء فِي هذا الوجود؛ ليقوم بوظيفته التي هيأه وأعده لها على أكمل وجه.
لقد تمادى هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ عبر العصور
فِي غيهم، وحاولوا أن يبدلوا سنة الله التي لا تتبدل، وأن يثبتوا أن الله غير موجود،
ولم يستطع أحد منهم أن يقدم دليلًا واحدًا يؤيد إنكارهم لوجود الله.
كما مر: الَّذِي يجحد وُجُود الخَالِق، ويطلب
من المؤمن أن يأتي بالأدلة على وُجُود الخَالِق الْعَظِيم؛ فليقل له المؤمن: فلتأت
أنت بدليل واحد على أَنَّهُ غير موجود!!
يعني أنت تطالب المؤمن بأن يأتي بأدلة على وُجُود
الله جَلَّ وَعَلَا، وهو يطالبك لأنك أنكرت، فهو يطالبك بأن تأتي بدليل واحد على عدم
وُجُود الخَالِق الْعَظِيم!!
لا يملكون دليلًا أبدًا؛ بل الأدلة كلها تثبت
وُجُود الخَالِق الْعَظِيم، ولَكِنْ عبثًا يمكن إقناعهم؛ لأن لديهم بقعة عمياء فِي
عقولهم تمنعهم من تصور الله، تجعلهم لا يستمعون إِلَى كلام الله، ولا إِلَى بلاغ الأنبياء
والرسل، بل لا ينصتون لحقائق البحث الْعِلْمي فِي مختلف ظواهر الكون والحياة؛ «إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7»).
والْعِلْم الصحيح يقدم لنا الأدلة الكثيرة على
وُجُوده تعالى وعلى وحدانيته، ويدحض مزاعم الْمُلْحِدِينَ والكافرين، ويقف بقوة – أي الْعِلْم المادي الَّذِي يتخذونه
تَكِأَةً من أجل إنكار وُجُود الخَالِق!! –، فالعلم نفسه يقف بقوة مع دعوة الدين
إِلَى إعمال العقل بعيدًا عَنْ الهوى والتعصب؛ لكشف حقائق الوجود، والاهتداء إِلَى
الإيمان الخالص بالخَالِق الواحد الأحد - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - على هدى وبصيرة،
فليس من المعقول أن يفكر الجماد فِي تطوير نفسه، أو أن تمنح الطبيعة الجامدة نفسها
قبس الحياة، أو أن تحكم المصادفةُ حركةَ الكون، ويتولدَ النظام تلقائيًا من الفوضى
والعشوائية!!
من المستحل أَيْضًا: أن تتكرر المصادفة لتتخذ
شكل ظاهرة عامة تسري على ملايين الكائنات الحية فِي النبات والإنسان والحيوان، وعلى
ملايين الظواهر الكونية فِي السماوات والأرض؛ سواءٌ فِيما يتصل بمقاومة عوامل العَطَبِ
والفناء، أو فِيما يتعلق بالتركيب الخارجي والداخلي للأفراد والمفردات المختلفة التي
تعمل فِي توافقٍ عجيب وتعاون مذهل لاستمرار هذه الحياة.
لقد اكتشف الْعِلْم الْحَدِيث أن الْأَرْض التي
شاء الله أن يجعلها مقرًا للإنسان مسخَّرة لكل ما فِيها وما عليها لاحتضان الحياة والأحياء،
وتتخذَ ملاءمتُها للحياة صورًا عديدة من التنظيمات والتوافقات الرائعة التي لا يمكن
تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية؛ فكيف تعرف الطبيعةُ الجامدةُ عَنْ طريق الصدفة
أن الْأَرْض يجب أن تكون بهذا الحجم، بهذا الوزن، بهذا التكوين، وأن غلافها الجوي لا
بد أن يكون له هذا التركيب والتوزيع أفقيًا ورأسيًا، وأن موقعها من الشَّمْس والكواكب
الأخرى لا بد أن يتحدد بهذه الدقة العجيبة التي تنسجم انسجامًا معجِزًا مع كل مقومات
الحياة التي أرادها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عليها؟!!
كيف يمكن أن ينشأ هذا البناء الكوني المحكم عَنْ
طريق الصدفة؟!
وهل من المعقول - مثلًا - أن تَنْشَأَ عمارةٌ
أَنِيقَةٌ رائعةٌ من انفجارٍ عشوائي فِي تِلَالٍ من الأحجار والحديد والأخشاب والزجاج؟!!
يبقى بعد هذا كلِّه سِرُّ أسرارِ الحياة «الروح»
التي جعلها الله مصدر الوعي ومنبع الشعور، فقد خلق الله الإنسان خلقًا يجمع بين المادة
والروح، فالإنسان بجسمه المادي مشدود إِلَى الْأَرْض، له دوافعه وشهواته ومطالبه الحيوانية،
وبروحه الشفافة يتطلع إِلَى السموم، أما النفس؛ فلها طبيعة مزدوجة تحتوي على معنويات
الخير والشر والتقوى والفجور، ورغم أن الْعِلْم قد تعرف على التركيب المادي لجسم الإنسان
بعناصره ومركباته، وذَلِكَ عَنْ طريق التحليل الكيميائي؛ إلا أَنَّهُ لا يزال عاجزًا
وسيظل حيال عالم النفس الَّذِي يحاول اقتحامه، كما أَنَّهُ يقف عاجزًا أمام عالم الروح،
ولن يُقَدَّرَ للعلم البشري أن يصل إِلَى سر الحياة الَّذِي استأثر به خالق الكون والحياة،
فالإنسان يكون أمام المحتضَر وهو فِي آخر نزع معلقًا بين الحياة والموت، ثم فجأة يصير
ميتًا، ما الَّذِي جرى؟!
لقد كَانَ منذ قليل يحب ويكره، يأكل ويشرب، يتحرك
ويسكن، ثم مات، ما الَّذِي دهاه؟!
ثم هذه الجثة ما هي؟!
أي شيء هذه؟!
وما تكون؟!
وما الَّذِي استلب منها؟!
وما الَّذِي تحتاجه أن يعاد إِلَيْهِا حتى تعود
إِلَى سالف عهدها؟!
هذا كله سر الأسرار فِي الروح التي استأثر الله
تَبَارَكَ وَتَعَالَى بعلمها؛ «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْم إِلَّا قَلِيلًا (85»).
«الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2»).
«وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(13»).
تُقرر هذه الآية الكريمة أن جميع المخلوقات والكائنات
فِي هذا الكون الفسيح على اختلاف أنواعها وأحجامها ونواميسها، يجمع بينها مهمة التسخير
للإنسان، ويوحد بينها أَنَّهُا مقدرة بقدرة الخَالِق الواحد الأحد، والإيمانُ الخالصُ
بوحدانية الله سبحانه أساس العقيدة الإسلامية، وأمر فطري ينعم به على كل من أراد الله
تَبَارَكَ وَتَعَالَى له الهداية والسعادة، فينعم به كل إنسان يتمتع بفطرة نقية؛ لَكِن
البحث الْعِلْمي يوصلنا إِلَى حقائق كونية تُسَيِّرُ قبولَ العقول بِمُسَلَّمَةِ التوحيد
الإسلامي أمرًا حتميًا، وشتان بين إيمان القلب وإيمان العقل، إن إيمان القلب هو إيمان
الفطرة التي ترجع إِلَى ربها تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وتحن إِلَى عبادته؛ بل لا تكون
سوية إلا بعبادته وإخلاص العبادة لوجهه.
وأما العقل؛ فإن هذه الأمور تعرض عليه، فقد يُقِرُّ،
ويبقى القلب جامحًا كالفَرَسِ الشَّمُوسِ، لا تذلل، ولا يحكمها خطام ولا لجام، فنسأل
الله أن يمن علينا بهداية القلوب، إنه تعالى على كل شيء قدير.
قد مر أن الْعلماء يتخذون الخلق وسيلة للوصول
إِلَى إثبات الخَالِق، وهذا أمر بدهي فطري، فدليل الخلق دليل لا يدفع، ومع ذَلِكَ فبعض
الفيزيائيين – كما فِي «الفيزياء ووجود الخَالِق»
– يزعم أن هذا الدليل الكوني – أن هذا الخلق - دليل فاسد من حيث المبدأ؛
لِأَنَّهُ متناقض؛ لَكِن مسألة صحة دليلٍ مَّا أو فساده مسألة منطقية، لا تعلق لها
بالفيزياء التي هي تخصص أمثال هَؤُلَاءِ، لهذا فعندما يزعم فِيزيائي ك«دِيفِزْ» أن
الدليل الكوني ليس صحيحًا؛ فإنه لا يفعل هذا بوصفه فِيزيائيًا، بل هو متأثر فِي ما
يَقُول ببعض مشاهير الْفَلَاسِفَة الغربيين؛ بل هو ناقل عَنْهُمْ ومقلد لهم؛ لأن كثيرًا
من الناس يحدث عَنْده خلط كبير، فيأتي مثل هذا العالم الفيزيائي ليقرر أمثال هذه الْحَقائق
– كذا يجعلها حقائق !!- وهي فِي غير تخصصه
الَّذِي يُنْظَرُ إِلَيْهِ فِيه، فيتلقاها من يتلقاها من الأغرار المخدوعين على أَنَّهُا
من نتاج علمه فِي تخصصه، ولَكِنه لا يَقُول مثل هذا القول على أَنَّهُ فِيزيائي، ولا
عالِمٌ فِي الطبيعة، وإنما هو مقلد فِي ذَلِكَ لبعض الخائبين من الْفَلَاسِفَة المنحرفين
الغربيين، فيقول ديفيز:
إن الدليل الكوني مبني على افتراض أن كل شيء
لا بد له من سبب - وهو قانون السببية -.
فيقول:
الدليل الكوني الَّذِي يصل به المؤمنون إِلَى
إثبات وُجُود الخَالِق الْعَظِيم، أو كما يَقُول المتقدمون: السبب الأول الَّذِي هو
سبب الأَسْبَاب. يَقُول: إن هذا الدليل الكوني مبني على افتراض أن كل شيء لا بد له
من سبب؛ لَكِنه ينتهي إِلَى القول بأن هُنَالِكَ شيئًا واحدًا على الأقل – يعني الله عز وجل – ليس له سبب.
يقول: فالدليل يبدو متناقضًا.
شرحه: كيف تقولون: إن لكل شيء سَبَبًَا، ثم تقولون:
إن الله لا سبب له؟
هو نفسه يعترف بأن هُنَالِكَ صيغًا مختلفة للدليل
الكوني، وهو بالطبع لا يشير هنا إِلَى صيغة القرآن التي لا يصدق عليها ما يَقُول؛ لَكِن
كثيرًا من اعتراضاته لا تصدق حتى على صيغتها التي اختارها للمناقشة، هذه الصيغة تقول:
"كل حادثة لا بد لها من سبب".
ولا
يمكن أن تكون هُنَالِكَ سلسلة غير متناهية من الأَسْبَاب، وإذًا فيلزم أن يكون هُنَالِكَ
سبب أول لكل الأشياء، وهذا السبب هو الله.
هذه الصيغة تقول: "كل حادثة لا بد لها من
سبب".
لَكِنه جعل الصيغة هكذا: "كل شيء لا بد
له من سبب"!!
وشتان بين الصيغتين!!
الصيغة تقول: "كل حادثة لا بد لها من سبب،
كل حادث لا بد له من محدث، كل مخلوق لا بد له من خالق، كل موجود لا بد له من موجد".
وأما هو؛ فيقول: "كل شيء لا بد له من سبب"،
فيقول: الله عز وجل لا بد له من سبب – على القانون الَّذِي صاغه هو -!!
والفرق بين الصيغتين كبير؛ فالْحَادثة لها بالضرورة
بداية؛ لَكِن ما كل شيء حادث، وما كل شيء يلزم أن تكون له بداية، فالله تعالى شيء؛
«قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ»، ومع ذَلِكَ فهو أزلي.
وعليه؛ فليس هُنَالِكَ من تناقض فِي قول القائل:
"كل شيء حادث لا بد له من سبب".
وأما الأشياء التي ليس لوجودها بداية؛ فلا يمكن
أن يكون لها سبب.
هذه الحجة كَانَت تصلح...... «كلمة غير واضحة»
الجدوى لو أَنَّهُا بدأت بالقول بأن كل شيء حادث، ولا بد لكل حادث من سبب، فيلزم أن
يكون له سبب فاعل، وانتهت إِلَى القول بأنه حتى الأشياء التي لا بداية لها؛ فلا بد
لها كذَلِكَ من سبب فاعل.
الحجة - بحسب ما ساقها هو - تبدأ بتقرير أن لكل
حادثة سَبَبًَا، وتنتهي إِلَى القول بأن كل الأشياء يلزم أن يكون لها سبب.
لعله وقع منه ذهول فِي تقرير الحجة، فلعله تأثر
فِي هذا بما قَالَ الفيلسوف البريطاني «أَنْتُونِي فْلُو»؛ لأن اعتراضه هو عين اعتراض
هذا.
قال بعضهم: إنَّهُ إِذَا كَانَ الكون بحاجة إِلَى
سبب؛ فالله كذَلِكَ بحاجة إِلَى سبب!!
يقول دِيفِزْ أَيْضًا: حتى لو سلمنا للدليل الكوني
إِلَى حد القول بأن للكون سَبَبًَا؛ فهُنَالِكَ مشكلة منطقية فِي عزو ذَلِكَ السبب
إِلَى الله؛ لِأَنَّهُ يمكن حينئذ أن يقال: وما الَّذِي سَبَّبَ الله؟
الإجابة المعهودة: هي أن الله لا يحتاج إِلَى
سبب، لِأَنَّهُ واجب الوجود، ولا سبب له إلا نفسُه، ثم إنَّهُ إِذَا كَانَ المرءُ مستعدًا
للتسليم بأن شيئًا مَّا هو الله؛ يمكن أن يكون موجودًا من غير سبب خارجي؛ فلماذا الْمُضِيُّ
إِلَى هذا الحد فِي السلسلة؟!
لماذا لا يكون الكون موجودًا من غير سبب خارجي؟!!
هل يقتضي القول بأن الكون خلق نفسه تعليقًا أعظم
لعدم الإيمان من القول بأن الله خلق نفسه؟!!
فلماذا تسير فِي هذه السلسة؟!!
لماذا لا تقول من البداية: إن الكون هو سبب نفسه،
فيكون سَبَبًَا ومسبَّبًا فِي آن واحد، وخالقًا ومخلوقًا فِي آن واحد؟!!
فاعتراضه على الدليل الكوني هو بعينه اعتراضُ
«هُيُوم» عليه، لِذَلِكَ فهو ينقل عَنْه موافقًا له فِي قوله: إِذَا كنا نقف ولا نمشي
أبعد عَنْ الله – كذا يَقُولون -؛ فلماذا نمضي إِلَى
هذا الحد؟!
لماذا لا نقف عَنْد حدود العالم المادي بافتراضنا
أَنَّهُ يتضمن فِي نفسه مبادىء نظامه، فنكون قد أكدنا القول بأنه هو الله؟
حجته هذه؛ بل كل حججه فِي تأييد الْإِلْحَاد
- لِأَنَّهُ من كبار الداعين إِلَى الْإِلْحَاد ومن كبار الْمُلْحِدِينَ - هي حجج فِي
غاية التهافت؛ لَكِنها وجدت طريقها إِلَى قلوب أعداد كبيرة من المفكرين الغربيين المعاصرين،
فهم يقلدونه فِيها من غير نظر ولا تفكير، فها هو الفيزيائي «بَارُو» يأتي من بَعْدِ
ِديفِزْ» ليقول: لِأَنَّهُ يزعم أن كل شيء يجب أن يكون له سبب؛ عليه فيجب أن يكون للكون
سبب مختلف فِي جوهره عَنْ الكون، بَيْدَ أن منطق هذه الحجة بالذات ليس قوي الإلزام
– كذا يَقُول -، إن كل من يستطيع أن يَقْنَعَ
بمفهوم للخالق على أَنَّهُ سبب غريب مسبِّب؛ يستطيع بكل تأكيد أن يقنع بالكون نفسه
على أَنَّهُ سبب غير مسبب!!
وهذا عكس للدليل!!
والجواب: إن الدليل الكوني لا ينتهي إِلَى القول
بأن الله خالق نفسه؛ بل بأن الله أزلي، والأزلي لا يكون له خالق.
كذَلِكَ لا يمكن أن يتصور أن إنسانًا مفكرًا
– مؤمنًا كَانَ أو غير مؤمن – يمكن أن يتساءل جادًا: من خلق الله؟
هل يعرف المعنى التي تَدُلّ عليه هذه الكلمة؟
لا شك أَنَّهُ يبدو أن بعض كبار الفيزيائيين
الغربيين والْمُلْحِدِينَ يأخذون هذا السؤال مأخذ الجِدّ؛ بل ويعدونه من المآخذ الكبيرة
على القول بوجود الخَالِق سبحانه، فها هو «هُنكْ» يَقُول عَنْ الله: ومن الَّذِي خلقه؟!
والإجابة عَنْ هذا السؤال الَّذِي يظنه هَؤُلَاءِ
الْفَلَاسِفَة والْعِلْماءُ وكثيرون غيرهم سؤالًا عويصًا؛ هو فِي غاية السهولة.
إذا سلم الخصم بأن الكون الحَادث لا بد له من
سبب غير حادث، ثم سلم بأن هذا السبب غير الحَادث – أي الأزلي – هو المسمى: الله؛ فإن سؤاله عَنْ خالقه
أو سبب لله لا يكون له معنى إطلاقًا!!
إنَّهُ سؤال من لا يتصور ما يَقُول!!
إنَّهُ سؤال ينطوي على تناقض عجيب؛ لأن السبب
ضرورةً سابقٌ للمسبَّب، ولأن الأزلي ضرورةً غيرُ مسبوق بشيء؛ فكيف يكون له سبب؟!
فالذي يَقُول بضد ذَلِكَ هو لا يدري ما يخرج
من رأسه!!
قول القائل: من خلق الله؟ يساوي قوله: ما الَّذِي
سبق الشيءَ الَّذِي لا شيء قبله؟!
أو: ما بَعْدَ الشيء الَّذِي لا شيء بعده؟!
فهل تجد لمثل هذا السؤال من معنى؟!
إذا أخبرت إنسانًا بأن فلانًا كَانَ أول العَدَّائين؛
فهل يصح أن يَقُول لك: نعم؛ ولَكِن من الَّذِي سبقه؟!!
لله المثل الأعلى.
قام الدليل على أن الله هو الأول الَّذِي لا
شيء قبله؛ فكيف يقال: ما سببه؟!!
أو: من خالقه؟!!
ومن العجب العجاب: أن ديفز الَّذِي قلد هيوم
فِي هذا الاعتراض على وُجُود الخَالِق قَالَ بنقيضه تمامًا فِي سياق آخر أتى به أَيْضًا
للاعتراض على وُجُود الخَالِق سبحانه!!
اسمعه يَقُول: انظر فِي هذا القول الجازم السابق:
"كل شيء يجيء إِلَى الوجود يكون قد أوجده شيء"؛ ماذا لو أن الشيء لم يجئ
إِلَى الوجود أبدًا، بل كَانَ دائمًا موجودًا؟ هل من معنى للسؤال عما إِذَا كَانَ هُنَالِكَ
سبب لشيء هو موجود أزلًا لشيء لم يكن غير موجود فِي أي وقت من الأوقات؟
والجواب: أجل؛ إِذَا كَانَ الكون أو شيء فِيه
موجودًا أزلًا؛ فإنه لا معنى للسؤال عَنْ موجد له، ولَكِن إِذَا ثبت أَنَّهُ لا الكون
ولا شيء منه موجود أزلًا؛ فلا بد له موجد أزلي، فلا معنى للسؤال بعد ذَلِكَ عَنْ موجد
أو خالق لهذا الخَالِق الأزلي؛ لَكِنك تسلم بهذه الحجة حين تفترض الأزلي شيئًا فِي
هذا الكون، وتنكرها حين يكون هو الخَالِقَ الَّذِي تتحدث عَنْه الأديان!!
فيتبين لنا الآن سهولة الرد على هذا السؤال الَّذِي
طرحه هذا الملحد ديفز، ومن قبله طرحه الملحد هيوم: إِذَا كَانَ الله تعالى موجودًا
من غير سببٍ موجِدٍ؛ فلماذا لا يكون العالم أَيْضًا موجودًا من غير سبب موجد؟
والإجابة: لأن الله تعالى أزلي، أول لا بداية
له، ولا شيء قبله، بينما الكون حادث، أوجده الله رب العالمين الَّذِي أوجد كل شيء،
وخلقه الله تعالى الَّذِي خلق كل شيء.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا إيماننا،
وأن يثبتنا عليه حتى نلقى الله تبارك وتعالى غير شاكِّين ولا مترددين ولا زائغين ولا
ضالين ولا مضلين، إنه تعالى على كل شيء قدير.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.