«الرد على الملحدين»
«الدليل الخُلُقي ودلالته على وجود الخالق»
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ،
وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ،
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فقد مر فِي دليل الكون ودليل الآيات أن حدوث
الأشياء إنما هو دليل على حاجتها إِلَى خالقٍ يَخْلُقُها.
والحدوث: صفةُ كلِّ ما فِي الكون من مخلوقاتٍ،
لِذَلِكَ كَانَ كلٌّ منها آيةً وعلامةً دالةً على خالقه.
وأما فِي دليل العناية؛ فإن الصفة التي نستدل
بها على وُجُود الخَالِق هي فِي علاقةِ هذه المخلوقاتِ بعضُها ببعضٍ، أو فِي علاقةِ
أجزاءِ الواحدِ منها ببقيةِ الأجزاء.
إنَّ كل متأمِّلٍ للمخلوقات يَرَى أَنَّهُا ليست
كَوْمَةً عشوائيةً من الموجودات، بل هي مرتبةٌ ترتيبًا، ومُصَمَّمَةٌ تصميمًا وراءَه
غايةٌ تَدُلّ على أن لها صانعًا عالمًا حكيمًا، يتجلى هذا التصميمُ فِي الإحكام الَّذِي
يجعل كلَّ مخلوقٍ أو كلَّ جزءٍ من مخلوقٍ مصنوعًا بطريقةٍ وموضوعًا وضعًا يجعله محقِّقًا
لهدف، والذي يجعل حركة الخلق حركةً مُتَّسِقَةً لا يعطِّلُ بعضُها بعضا، والذي يجعلها
أنواعًا متشابهة تشابهًا دقيقًا، والذي يجعل القوانين التي تَحْكُمُها قوانينَ واحدةً
لا تختلف مهما اختلف الزمان أو المكان؛ اللهم إلا إِذَا أراد الله لها أن تتخلف تخلفًا
يكون هو نفسُه معجزةً دالةً على الخَالِقِ الواضعِ لتلك القوانين.
في كتاب «الفيزياء ووجود الخَالِق»:
هذا الإحكامُ الدَّالُّ على أن للمخلوقاتٍ خالقًا
مُرِيدًا عليمًا حكيمًا؛ هذا الإحكامُ تُنَبِّهُنَا إِلَيْهِ كثيرٌ من آياتِ القرآنِ
الكريم؛ «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْض مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ
أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا
(10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا
(12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً
ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16»).
هذه الآيات لا تقول لنا: إن هُنَاكَ أرضًا وجبالًا،
وبشرًا ونومًا وليلًا، وسماءً وشمسًا، وماءً ونباتًا، وجناتٍ أَلْفَافًَا؛ فهذه كلُّها
أمورٌ نَشْهَدُها ونُشَاهِدُهَا ونَعْرِفُهَا، وكلُّ إنسانٍ - كافرًا كَانَ أو مؤمنًا
- يُسَلِّمُ بها، وإنما تدعونا الآياتُ إِلَى أن نُفَكِّرَ فِي الصِّلَةِ بينَ كلِّ
واحدٍ من هذه المخلوقاتِ والأحوالِ، وبَيْنَ شيءٍ آَخَرَ هو الإنسانُ المخاطَبُ بهذا
الكلام.
تدعونا الآيات إِلَى أن نلاحظ أن كل واحد من
هذه الأشياء والأحوال يحقق بالنسبة لنا نحن البشرَ هدفًا، وهذا لا يمنع أن تكون لها
غاياتٌ أخرى لا نعلمها، فالأرضُ؛ هذا المكانُ الَّذِي نعيشُ فِيه جُعِلَ لنا مهادًا
- أي: فراشًا - كما جاء فِي آية أخرى.
والمقصود أَنَّهُا جُعِلَتْ مناسِبَةً لحاجتنا
مناسَبَةَ الفراشِ لصاحبه من حيث اللِّينُ والسَّعَةُ والوِقَايةُ.
فكأن الآية تقول لنا: إنَّهُ إِذَا كَانَت صناعةُ
الفراشِ تَدُلُّ على أن إنسانًا عاقلًا صَنَعَهُ، وأنه لم يَأْتِ اتفاقًا؛ فمِنَ الأَوْلَى
أن تَدُلَّ صناعةُ الْأَرْضِ بهذه الطريقةِ المناسِبَةِ لِمَعَاشِكُم على أنَّ لها
صانعًا حكيمًا.
«وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا»، فكما أن الوَتِدَ
الَّذِي تصنعونه ليس مجردَ قطعةٍ من الخشبِ مغروسةٍ فِي الْأَرْضِ؛ بل هو مصنوعٌ ومغروسٌ
بهذه الطريقةِ لِيُؤَدِّيَ غايةً؛ فكذَلِكَ الجبالُ ليست مجردَ نُتُوآَتٍ فِي الْأَرْض؛
بل إن لها وظيفةً متعلِّقةً بالأرض، ومِنْ ثَمَّ بحياتِكم.
«وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا»؛ لكي يَسْتَمْتِعَ
بعضُكم ببعض، ولكي تُنْجِبُوا أطفالًا تستمتعون بهم، ولكي يُحْفَظَ جِنْسُكُمُ البَشَرِيُّ.
«وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا» تَنْقَطِعُ
فِيه حَرَكَتُكُم، وَتَرْتَاحَ فِيه أجسامُكم، وتَبْرُدَ أعصابُكم، وتتخلصون به من
كثيرٍ من الهُمُومِ والمشكِلاتِ النفسيةِ.
والليل والنهار، إنَّهُما ليسا مجردَ ظواهرَ
فَلَكِيَّةٍ نَتَجَتَا مصادفةً عَنْ حَرَكَتَيِ الشَّمْسِ والأرضِ، بل إن لهما خالقًا
جعلهما بهذه الطريقة خدمةً لكم، ففي الليل ترتاحون، وفي النهار تَكْدَحون، وحتى تلك
الأفلاكُ البعيدةُ عَنْكم لها تَعَلُّقٌ بكم، فكما أن الْأَرْض لكم فراشٌ فالسماء لكم
بناء - أي سقف -، والشمسُ سراجٌ يُمِدُّكم بالنور والحرارة اللَّتَيْنِ لا تكون بدونهما
حياةٌ بشريةٌ ولا حيوانيةٌ ولا نباتيةٌ.
«الذي جعل لكم الْأَرْض فراشا والسماء بناء».
«وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا
وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32»).
«وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا
(14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16»).
إِذَا كَانَ كثير من الناس يَغْفُلُون عَنْ الحكمة
فِي خلق ما مضى ذكره من ظواهر وأحوال؛ فلا يكاد أحدٌ يَنْظُرُ إِلَى الغيثِ على أَنَّهُ
مجردُ ماءٍ نازلٍ على الْأَرْض من السحاب، بل إنَّهُم لَيُدْرِكون صِلَتَهُم به وحاجتَهم
إِلَيْهِ، فَبِهِ يَنْبُتُ الزرعُ الَّذِي يأكلون منه كما تَأْكُلُ أنعامُهم التي يَعِيشون
عليها.
إن مِيزَةَ الأدلةِ القرآنية: أن دلالتها ليست
قاصرة على أن للكون خالقًا؛ بل تتضمن الدلالة على أن هذا الخَالِقَ هو وحده الَّذِي
ينبغي أن يُعْبَدَ ويُشْكَرَ ولا يُكْفَرَ؛ بل إن بعضها كما هو الحال هنا فِي الآيات
لَيَتَضَمَّنُ الدلالةَ على أنَّ بَعْدَ هذه الحياةِ حياةً أخرى، يَلْقَى فِيها المحسِنُون
جزاءَ إحسانِهِم، ويعاقَبُ فِيها الظالمون على ظلمهم.
إن بعضَ الْمُنْكِرِينَ لِوُجودِ الخَالِق، المستكْبِرِينَ
عَنْ عبادته، يَذْهبون كلَّ مَذْهَبٍ فِي إنكار هذا التَّنَاسُقِ العجيبِ فِي المخلوقات؛
لِمَا يَعْلَمون من دلالتِه على وُجُود الخَالِق ووجوبِ عبادتِه، وهم حتى يَعْتَرِفُون
به يتعلقون بأَوْهَى النظريات التي تُفَسِّرُه تفسيرًا يَنْفِي عَنْه القصدَ، ويَجْعَلُه
أمرًا حادثًا بالمصادفة.
فهذا هو دليلُ العنايةِ، وقد مَرَّ ذكرُ كثيرٍ
من الأمثلة عليه فِيما يتعلق بالناس، وما يتعلق بكثير من الأحياء؛ بل من الموجودات.
ويلحق بدليل العناية: «الدليلُ الْخُلُقِيُّ»،
فالقِيَمُ الخُلُقِيَّةُ قِيَمُ الصدقِ والأمانةِ والوفاءِ وغيرِها قيمٌ ضروريةٌ لوجود
المجتمعات البشرية.
إنَّهُا قيمٌ لا يقوم بدونها مجتمعٌ، ولِذَلِكَ
قَالَ بعضهم: إنَّهُا مِلَاطُ المجتمعِ الَّذِي يُمْسِكُ أفرادَه، كما يُمْسِكُ المِلَاطُ
اللَّبِنَاتِ التي يَتَكَوَّنُ منها البناءُ.
إنه بغير هذه القيم لا يكون علمٌ - حتى بأمور
الدنيا! -، ولا يكون اقتصادٌ، ولا تكون علاقاتٌ اجتماعية!!
تَصَوَّرْ مجتمعًا لا يَرَى بالكذبِ بأسًا، ولا
يَعُدُّهُ مَذَمَّةً؛ فالناس فِيه كلُّهم كذابون، وليس من شرط الكذاب أَلَّا يَصْدُقَ
أبدًا، بل هو يَصْدُقُ إِذَا رَأَى الصدقَ له، ويكذب إِذَا رأى الصدقَ عليه؛ هل يكون
فِي هذا المجتمعِ الَّذِي خَلَا من الصدقِ عِلْمٌ؟!!
لا يكون؛ فإنَّ مِنْ ضروراتِ الْعِلْم: الصدقَ
فِي الرواية، فإذا ادَّعَى إنسانٌ فِي مِثْلِ هذا المجتمعِ الَّذِي عَمَّ فِيه الكذبُ
أَنَّهُ اكْتَشَفَ فِي مَخْبَرِهِ حقيقةً مَّا؛ فإننا لن نُصَدِّقَه؛ لأننا لا نعلم
إن كَانَ صادقًا أو كاذبًا؛ بل سنقطع بكذبه إِذَا وجدنا أن هذه الدعوى تخدم غرضًا له،
ولن تكون هُنَالِكَ كتب ولا دروس ولا محاضرات ولا مدارس ولا جامعات.
ما الفائدة من قراءة كتاب لا أعلم إن كَانَ صاحبه
صادقًا أو كاذبًا؟! ولا أستطيع أن أستعين بغيري؛ لِأَنَّهُ هو الآخر قد يكذب عَلَيَّ!!
وقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ الْمُدَرِّسِينَ والمحاضِرِينَ.
وقُلْ مثلَه عَنْ رواة الأخبار فِي سائر وسائل
الإعلام.
وقُلْ مِثْلَه عَنْ التُّجَّارِ والزُّرَّاعِ
والصُّنَّاعِ.
كيف تتعامل مع أَيٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا كنتَ
لا تدري أصادقٌ هو أم كاذب فِيما يَدَّعِيهِ لك مِنْ ثَمَنِ بضاعةٍ، أو جودةِ محصولٍ،
أو إحكامِ صنعةٍ؟!!
الصدق ليس إذًا فضيلةً خُلُقيةً فَحَسْب؛ بل
هو ضرورةٌ اجتماعيةٌ أَيْضًا، وعليه فكلما كَثُرَ عددُ الصادقين فِي المجتمع؛ كَانَ
المجتمعُ أقوى تماسكًا، وأَدْعَى لِأَنْ تَزْدَهِرَ فِيه العلومُ والتِّقْنِيَةُ والاقتصادُ
إِذَا ما تَوَفَّرَتْ شروطُها الأخرى، وكلما تَفَشَّى الكذبُ بين حُكَّامِهِ وولاةِ
أمرِهِ وعُلَمَائِهِ وتُجَّارِهِ وزُرَّاعِهِ وصُنَّاعِهِ؛ كَانَ أكثرَ تَمَزُّقًا
وأَقَلَّ تطَوُّرًا فِي تلك الأمورِ كلِّها.
فالصادقون إذًا يُسْدُونَ إِلَى المجتمعِ خدمةً
هي مِنْ ضروراتِ وُجُودِ المجتمعِ، والكَذَّابون هم مِنْ مَعَاوِلِ تَقْوِيضِ المجتمعِ؛
لَكِنَّ مشكلةَ الأخلاقِ فِي حياتِنا الدنيويةِ هذه هي أنَّ الصادقَ قد لا يَجِدُ جَزَاءَ
صِدْقِهِ؛ بل قد يكونُ صدقُهُ سَبَبًَا فِي خَسَارَةٍ ماليةٍ، أو فِقْدَانِ مكانةٍ
اجتماعيةٍ؛ بل قد يُوقِعُهُ الصدقُ حتى فِي عقوباتٍ جسديةٍ!!
والكاذب لا يعاقَبُ دائمًا على كذبه؛ بل قد يكونُ
كَذِبُهُ وسيلةً إِلَى كَسْبٍ مَالِيٍّ، أو نَيْلِ مَنْصِبٍ اجتماعيٍّ، أو تَفَادِي
أَذَىً جَسَدِيٍّ، ولو لا ذَلِكَ ما كَذَبَ إنسانٌ.
فالمشكلةُ إذًا هي أن الَّذِينَ يَنْفَعُون المجتمعَ
قد يُضَارُّونَ مادِّيًَّا، بينما الَّذِينَ يَضُرُّونَهُ قد يَنْتَفِعُونَ مادِّيًَّا،
فإذا لم يكن هُنَالِكَ مِنْ خالقٍ يَرَى ويَسْمَعُ ما يَفْعَلُ البشرُ، واذا لم يكن
هُنَالِكَ من دارٍ أخرى يُثِيبُ اللهُ فِيها المحسنَ على إحسانِه، ويعاقِبُ المسيءَ
على إساءَتِهِ، وكان الكَسْبُ المادِّيُّ فِي هذه الحياةِ الدنيويةِ هو وحدَه الكَسْبَ
الْمُعْتَبَرَ؛ لَكَان الصادقون الْأُمَنَاءُ الْمُوفُون بعهودهم هم الْمُغَفَّلِينَ
الَّذِينَ لا عَقْلَ لهم، ولَكَانَ الكذابون الْخَوَنَةُ هم العقلاءَ؛ لَكِنَّ العقلَ
يَقُول: إن الأمر لا يمكن أن يكون كذَلِكَ!!
لا يمكن أن يكون العقلاءُ هم الَّذِينَ يُقَوِّضُون
المجتمعَ، والْمُغَفَّلُونَ هم الَّذِينَ يُبْقُونَهُ متماسكًا!!
لو كَانَ الأمر كذَلِكَ؛ لكانت اللَّاعَقْلَانِيَّةُ
أصلًا أصيلًا فِي بِنْيَةِ هذه الحياةِ الدنيويةِ، ولكانت هذه الحياةُ لِذَلِكَ كلُّها
عبثًا؛ لَكِنْ ما مِنْ عاقلٍ يمكن أن يَقْبَلَ نتيجةً كهذه؛ لأن فِيها مِنْ بَيْنِ
ما فِيها تقويضًا لِأَهَمِّ مَبْدَأٍ تقوم عليه علومُنا الكونيةُ كلُّها.
إن هذه العلومَ كلَّها تقومُ على افتراضِ الْمَبْدَأِ
الْمُسَمَّى بِتَنَاسُقِ الطبيعةِ، المبدأِ الَّذِي يَقُول: إنَّ قوانينَ الطبيعةِ
لا تَتَخَلَّفُ، وإنه لِذَلِكَ يمكن أن تُدْرَسَ دراسةً علميةً؛ بل رياضيةً؛ فكيف يكون
هذا الكونُ فِي جانبه الماديِّ عقلانيًا، وفي جانبه البَشَرِيِّ متناقضًا مع المبادىءِ
العقلية؟!!
وهُنَالِكَ تناقضٌ آخرُ يؤدي إِلَيْهِ الْإِلْحَادُ
بالنسبةِ لِلْقِيَمِ الخُلُقِيَّةِ.
إن الناس مفطورون على أن هذه القِيَمَ قِيَمٌ
يَحْسُنُ بهم أن يلتزموا بها، فهي جزءٌ مِنْ تَكْوِينِهِمُ العقليِّ، وهم يَشْعُرُونَ
لِذَلِكَ؛ وما دَامُوا مُحْتَفِظِينَ بِفِطْرَتِهِم يَشْعُرون بالسعادة حين يَصْدُقُون
الْحَدِيثَ، ويُؤَدُّونَ الأمانةَ، ويُوفُون بالعهدِ، ويَشْعُرون بالشَّقَاءِ حين يَكْذِبُون
أو يَخُونون ويَنْكُثُون.
فالملحد الَّذِي يريد أن يتصرف وَفْقَ ما يقتضيه
إِلْحَادُه يَمُرَُ بحالاتٍ يَشْعُرُ فِيها بالتَّمَزُّقِ بين وازِعِهِ الداخليِّ وتفكيرِه
العقلانيِّ، فبينما يَقُول له الوازعُ الداخلي: "اُصْدُقْ، فهذا أكثرُ راحةً لنفسِك
وأَسْعَدُ لقلبِك"؛ يَقُول له فِكْرُه: "لَكِنك تعتقدُ أَنَّهُ ليس وراءَ
هذه الحياةِ مِنْ حياةٍ، والصدقُ فِي هذه الحالِ يُفَوِّتُ عليك لذةً عاجلةً؛ ففيم
التضحيةُ بها وأنت لا تَنْتَظِرُ أخرى بعدها آَجِلًا؟!".
يقول بعض مَنْ يَسْمَعُ مثلَ هذه الحجةِ: لَكِنَّ
الواقعَ أنه ما كلُّ الْمُلْحِدِينَ كَذَّابون، ولا كُلُّ المؤمنين صادقون، فَقَدْ
يَصْدُقُ الملحدُ، وقد يَكْذِبُ المؤمنُ.
والجواب: أَجَلْ، إن هذا لا يحدث؛ لَكِن الملحد
حين يصدق يتناقض مع مقتضياتِ مبدئه، أي أَنَّهُ لا يصدق صدقًا يُفَوِّتُ عليه مصلحةً
إلا حين يتخلى مؤقتًا عَنْ مبدئِهِ أو عَنْ عقلِهِ.
أما المؤمن؛ فالأمر بالنسبة له عكسُ ذَلِكَ تمامًا،
فهو حين يَكْذِبُ يكون قد سَلَكَ سلوكًا يتناقض مع مبدئِهِ ومع عقلِهِ، وحين يَصْدُقُ
يكون موافقًا لهما ولِفِطْرَتِهِ.
وعليه؛ فإنه كلما كَثُرَ عددُ الْمُلْحِدِينَ،
واشْتَدَّ اقْتِرَابُهُمْ مِنْ مقتضياتِ مذهبِهِم؛ فإن الكذب عَنْدهم سيزدادُ لا مَحَالة،
وكلما كثر عدد المؤمنين، واشتد استمساكهم بدينهم؛ ازداد عدد الصادقين منهم لا مَحَالَة.
يقول بعضُ الْمُتَحَذْلِقِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَة:
إنه لا معنى للسلوكِ الخُلُقِيِّ الا أن تُضَحِّيَ
مِثْلَ هذه التضحيةِ التي لا ترجو لها ثوابًا، وأنك إِذَا عَمِلْتَ الخيرَ رجاءَ الثوابِ
كما يفعل الْمُتَدَيِّنُونَ؛ لا يكون سلوكُك هذا سلوكًا خُلُقِيًَّا؛ بل تُجَارِيًَّا!!
لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ما علموا أن التضحية المطلقة
أمر يتنافى مع العقل الَّذِي يسير عليه الناس فِي حياتهم الدنيوية كلِّها، وإلا لو
كَانَت مثل هذه التضحية مما يدعو إِلَيْهِ العقل؛ لكان أعقل الناس هم الَّذِينَ لا
يسعون لنيل لذة، ولا يعملون، مما يؤدي إِلَى اتقاء الأذى، فلا يأكلون، ولا يشربون،
ولا يتقون حَرًَّا ولا بردًا ولا خطرًا، وإذا كَانَ هذا غيرَ سائغٍ عقلًا؛ فلماذا يسوغ
فِي حالة السلوك الخلقي؟!!
وما الفرق بين هذا السلوك وغيره من أنواع السلوك؟!!
قد يقال: إن الفرق هو ما ذكرتَه أنتَ نفسُك آنفًا
مِنْ أَنَّ فِي الإنسانِ وازعًا داخليًا يدعوه إِلَى السلوك الخلقي.
ونقول: هذه هي المشكلة.
كيف نُوَفِّقُ بين هذا الوازِعِ الداخلي الَّذِي
يَدْعُونا إِلَى مكارم الأخلاق، والعقلِ الَّذِي يدعونا إِلَى تحصيلِ ما ينفعنا ودَرْءِ
ما يضرنا؟!
إنَّهُ لا حَلَّ عَنْد الملحد.
إن إِلْحَاده يوجب عليه؛ إما أن يكون داعيًا
إِلَى نبذ الأخلاق، أو أن يكون داعيًا إِلَى نبذ العقل، وكِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الأمورِ
ذَمِيمُ.
كيف يَحُلُّ الدينُ هذا الاشكال؟!
يَقُول الدين الْحَقّ: نعم، إن الأخلاق من الخير
الَّذِي فطر الله عليه عباده؛ ولَكِنَّ هذه الأخلاقَ نفسَها تقتضي أنْ يُثَابَ المحسنُ
على إحسانه، وأن يعاقَبَ المسيءُ على إساءتِهِ؛ ولَكِنَّ هذا لا يتأتى فِي دار الدنيا
هذه كما هو مشاهَد ولا يمكن اذن الا أن يتأتى فِي حياة أخرى بعد هذه الحياة ولا يتأتى
فِي تلك الحياة الثانية؛ إلا إِذَا كَانَ هُنَالِكَ إلهٌ عليمٌ حكيمٌ عادلٌ يَعْلَمُ
ما يَعْمَلُ الناسُ الآن ليجازيهم عليه غدًا، فالمؤمن يعمل الخير؛ لأن الله فطره على
حبه، ويعمله لأن الله يثيبه على فعله، ولا تناقُضَ بين الأمرين؛ لأن إثابة المحسن هي
نفسُها مَبْدَأٌ خُلُقِيٌّ، فإثابةُ المحسنِ نفسُها مَبْدَأٌ خُلُقِيٌ.
ذَكَرَ تعالى ما أَعَدَّه لعباده الصالحين فقال:
«وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
(47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا
عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا
مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
(53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ
دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (57) كَأنَهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ (59»)، ثم خَتَمَ هذا بقوله: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ
(60»).
فإثابة المحسن هي نفسُها مبدأ أخلاقي.
السؤال هاهنا: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا
الْإِحْسَانُ (60»)؛ سؤالٌ استنكاريٌّ، فكأن الآية تقول: إن هذا هو الأمرُ الَّذِي
تَدُلّكم عقولكم على أَنَّهُ ينبغي أن يكون؛ فكيف تتوقعون غيره؟!
لا شك أن الدليل الخلقي هو فرعٌ عَنْ دليل العناية؛
لأنَّ فَحْوَى هذا الدليلِ الخلقي: أن الكون فِيه من التناسق والعناية ما يدل على أن
له مُبْدِعًَا حكيمًا، والحكيم لا يفعل شيئا عبثًا؛ لَكِنَّ عدمَ وُجُودِ دارِ الآخرة
يَلْقَى فِيها المحسنُ ثوابَ إحسانِه، والمسيءُ عقابَ إساءتِه هو مما يتناقض مع تلك
الحكمةِ وهذا الإحكامِ.
فهذا الَّذِي مر ذكره مما يتعلق بالعناية يَمُتُّ
بصلةٍ وثيقةٍ إِلَى هذا الدليل الخلقي، فمما لا يُخْطِئُهُ الناظرُ الْمُتَمَعِّنُ
- لاسيما الناظرُ فِي القرآن الكريم -: أَنَّهُ يَجِدُ فِي الكتابِ العزيزِ عِدَّةَ
آياتٍ تدعو إِلَى التفكُّرِ فِي الكون؛ لمعرفة أن له خالقًا حكيمًا ينبغي أن يُعْبَدَ
وحدَه، وأَلَّا يُعْبَدَ غيرُه مما لا يَخْلُقُ.
ولِمَعْرِفَةِ أَنَّهُ لم يَخْلُقْ عبثًا ولا
لَعِبًَا ولا باطلًا، وإنما خَلَقَ بالحق، أيْ مِنْ أجلِ غايةٍ، وإنك لتجد فِي أكثر
تلك الآيات أو فِي سياقها ربطًا بين نفي البطلان واللعب والعبث عَنْ خلق الكون، وبين
أَنَّهُ لا بد أن تكون هُنَاكَ دارٌ آخرة، أيْ إنَّهُ لو لم تكن آخرةً؛ لكان خَلْقُ
هذا الكونِ كلِّه عبثًا وباطلًا ولَعِبًَا ولم يكن حقًا؛ لأن هذا يتنافى مع الإحكام
الَّذِي فِيه، ومع ما يدل عليه هذا الإحكام من كونه مخلوقًا لِخَالِقٍ حكيمٍ.
إن الخَالِق الحكيم لا يَخْلُقُ خَلْقًا فيأمرهم
وينهاهم ثم يجعل مصير الَّذِينَ استجابوا لرسله فعملوا صالحًا كمصير الَّذِينَ تمردوا
عليهم وخاضوا فِي كلِّ فعلٍ قبيحٍ!!
فالآخرة – إذًا - ضرورةٌ خُلُقِية.
الآخرة ضرورة خلقية.
وتأمل فِي هذه الآيات، وانظر كيف جَعَلَت الإحكامَ
فِي خلق الله دليلًا على ضرورةِ وُجُودِ دارٍ آخرة، هذا الإحكامُ دلت الآياتُ على أنه
لا بد من وجودِ دارٍ آخرةٍ؛ «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ
نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22»)
تأمل كيف رَبَطَت الآيةُ بين خلق السماوات والأرض
بالحق، وبين عدم الظلم.
وتأمل كيف ربطت الآية التالية بين عدم خلقها
باطلًا - أي عَبَثًا -، وبين مساواة المحسنين بالمسيئين؛ «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْض أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
(28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ
أَوَّابٌ (30»).
إن أُولِي الألبابِ؛ أُولَئِكَ الَّذِينَ يتفكرون
فِي الأمور ويستدلون بها الاستدلالاتِ الصحيحةَ، لا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدَّعُون
العقلانيةَ وَهُمْ مِنْ أَبْعَدِ الناسِ عَنْ الالتزام بمقتضيات العقول.
هم الَّذِينَ يتدبرون فِي كون الله المخلوق،
وفي كتابه المقروء، وفي آيات الله الكونية وآياته الكلامية، فَيَصِلُون بِفِكْرِهِمُ
المستقيمِ إِلَى الْحَقِّ، ويلتزمون بمقتضياته.
هذه المعاني تتكرر فِي آيات كثيرة من آيات الكتاب
العزيز.
قد يقال: إنَّ هذه الحجةَ إنما تَصْلُحُ لإنسانٍ
يُؤْمِنُ بالخَالِق وينكرُ وُجُودَ الدارِ الآخرة؛ لَكِننا هنا بصدد إنسانٍ ملحدٍ يُنْكِرُ
وُجُودَ الخَالِقِ، واللهُ ربُّ العالمين يَقُول: «خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3»)
فهذه الآية فِيها أمران: مِنْ ناحيةٍ تُخَاطِبُ
مَنْ يُقِرُّ بوجودِ الخَالِق ويُنْكِرُ البعثَ؛ ولَكِنها مِنْ ناحيةٍ أخرى تَدُلّ
على أن إحكامَ الخلقِ وما فِيه من تَنَاسُقٍ وعنايةٍ مِنْ بَيْنِها وُجُودُ قِيَمٍ
خُلُقِيَّةٍ لا تَصْلُحُ مجتمعاتُ الناسِ إلا بها؛ يَتَنافَى مع عدمِ وُجُوده دارٍ
آخرة؛ ولَكِنْ إِذَا كَانَت هُنَالِكَ دارٌ آخرةٌ، ولم يكن هُنَالِكَ إلهٌ شهيدٌ على
الناس فِي هذه الحياة الدنيا كي يجازيَهم عليها فِي تلك الدار؛ لم يكن لها من فائدةٍ؛
بل صار الأمر فِيها كالأمر فِي هذه الحياة الدنيا.
فالآخرة – إذًا - ضرورةٌ خلقية، ولو شئتَ لقلتَ:
هي ضرورةٌ عقليةٌ؛ لأن المبادىء الخلقية هي مِنْ بَيْنِ الموازينِ التي فَطَرَ اللهُ
عليها العقولَ لِقِيَاسِ الأمورِ وتقويمِها، فالذي يَتَنَافَى مع الأخلاقِ يَتَنَافَى
مع هذا العقلِ الفِطْرِيِّ، وإذا قَرَّرَ اللهُ تعالى أمرًا فِي صيغةِ سؤالٍ استنكاريٍّ؛
فإنه يدل على أن الأمرَ معروفٌ لا ينبغي أن يُنْكَرَ أو يُخَالَفَ.
ومما يدخل فِي هذا: ما كَانَ معروفًا فِي هذا
العقل الفطري.
تأمل هذه الآيات؛ كيف تَسْتَنْكِرُ أن يكونَ
مصيرُ المحسنينَ كَمَصِيرِ المسيئين سواءً بسواءٍ؛ لأن هذا مما يتنافى مع تلك المبادىءِ
الخُلُقِيَّةِ العقليةِ الفِطْرِيةِ، وعليه؛ فلا بد من دارٍ آخرةٍ يستقيمُ فِيها هذا
الأمرُ؛ «كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانَوا يَعْلَمُونَ
(33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عَنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».
«أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْض».
هُنَالِكَ مشكلةٌ أخرى تتعلق بالقيم الخلقية:
إنَّهُ لا مكانَ فِي الفيزياء - مثلًا - ولا فِي غيرها من العلوم الطبيعية للقيم الخلقية،
أو للقيم الجمالية، أو غيرها من القيم؛ ذَلِكَ لأن مجال هذه العلوم إنما هو الكائناتُ
الطبيعية؛ لَكِنَّ الناسَ لا يَكْفِيهِم فِي حياتِهِم عِلْمُهُمْ بالطبيعةِ؛ مهما ازداد
وعَظُمَ.
إنَّهُم يحتاجون مع هذا إِلَى قيم يهتدون بها
فِي معاملاتهم، فإذا حَلَّت العلومُ الطبيعيةُ مَحَلَّ الدينِ كما يريد لها الْمُلْحِدُونَ
فِي عصرنا، وإذا حُصِرَ الْحَقُّ فِيها وفيما يأتي عَنْ طريق هذه العلومِ الطبيعيةِ؛
فأَنَّى يَجِدِ الناسُ تلك الهدايةَ التي هي مِنْ ضروراتِ حياتهم؟!!
إن كثيرًا من ملاحدةِ الْعلماءِ الطَّبِيعِيِّينَ
يعترفون بهذه المشكلة؛ لَكِنهم لا يَذْكُرُونَ لها جوابًا.
يَنْقُلُ «تِيلَرْ» عَنْ عالِمِ الأحياءِ البريطانيّ
«مِيدَاوَرْ»، وهو ملحد مثله، ينقل عَنْه قوله: "ان الاجابة عَنْ الأسئلة المتعلقة
بالبدايات والنهايات أمر خارج منطقيا عَنْ مقدرة الْعِلْم الطبيعي".
لَكِنه يُعَلِّقُ على هذا بقوله:
إن هذا مسلكٌ يَصْعُبُ قبولُه، فما زالت هُنَاكَ
فجوة فِي حياة أناس كثيرين بِسَبَب انعدام الغاية هذه.
لقد كَتَبَ العالِمُ النفسانيُّ «يُونْكْ»:
إنَّهُ لم يكن مِنْ بَيْنِ كُلِّ مَرْضَايَ الَّذِينَ
هم فِي النصف الثاني من عمرهم بعد سن الخامسة والثلاثين؛ لم يكن مِنْ بينِهم أحدٌ لم
تكن مشكلتُه فِي النهايةِ هي الظَّفَرَ بنظرةٍ دينيةٍ إِلَى الحياة.
ثم يَنقُلُ عَنْ صَحفِيٍّ معاصِرٍ يَقُول عَنْه:
إنَّهُ ابنٌ لأحدِ الفيزيائيين، ينقل عَنْه قولَه:
إن الْعِلْم الطبيعي ليس سلعة محايِدَةً أو بريئةً
يُمْكِنُ أن يستخدِمَها الناسُ للاستفادةِ منها، بحيث إنَّهُم لا يريدون إلا أن يكون
لهم نصيب من قوة الغرب المادية.
إن هذا الْعِلْم الطبيعي مُدَمِّرٌ روحِيًَّا،
مُودٍ بكل المرجعيات والتقاليد القديمة، وبعد أن يُودِيَ بكل منافسيه؛ يبقى السؤال:
أيُّ نوعٍ من الحياة تلك التي يُقَدِّمُها الْعِلْمُ الطبيعيُّ لأهله؟
ماذا يَقُول لنا عَنْ أنفسنا؟
وكيف نحيا؟
ثم يقول: ليس هُنَاكَ من جوابٍ جاهزٍ عَنْ هذا
السؤال!!
فالذين يريدون أنْ يَحِلَّ الْعِلْمُ الماديُّ
مكانَ الدينِ؛ إنما يَسْعَوْنَ إِلَى تدميرِ الإنسانية، إِلَى تدمير هذه الحياة، إِلَى
تدمير هذا الوجود؛ لأن الناس لا يمكن أن يَحْيَوْا على الْعِلْمِ المادي وحده؛ لِأَنَّهُ
- كما مَرَّ - ليس سلعةً مُحَايِدَةً، ليس سلعةً بريئةً يمكن أن يستخدمها للاستفادة
منها قومٌ لا يريدون إلا أن يكونَ لهم نصيبٌ مِنْ قوةِ الغربِ الماديةِ.
إن هذا الْعِلْم الماديَّ مُدَمِّرٌ روحِيًَّا،
مُودٍ بكل المرجعيات والتقاليد القديمة، وبعد أن يودي بكل منافسيه يبقى السؤال: أي
نوع من الحياة تلك التي يقدمها الْعِلْم الطبيعي لأهله؟!!
ماذا يَقُول لنا العلم الطبيعي عَنْ أنفسنا؟!!
وكيف نحيا؟!!
إِذَا لم يُعْطِنَا الطريقةَ التي نَحْيَا بها،
وهو لا يُعْطِينا من ذَلِكَ شيئًا!!
وليس هُنَالِكَ مِنْ سؤالٍ يمكن أن يكونَ له
إجابةٌ جاهزةٌ على هذا النحو المذكور!!
الإنسان مِنْ أَعْظَمِ ما خَلَقَ اللهُ، لِذَلِكَ
كَانَ أَبْدَعَ ما يُعْرَفُ اللهُ به، فَبِقَدْرِ ما يَعْرِفُ الإنسانُ نفسَه يَْعِرُف
ربَّه، وبِقَدْرِ ما يَجْهَلُ نفسَه يَجْهَلُ ربَّه.
وأَهَمُّ شيءٍ فِي الإنسانِ: صِفَاتُهُ الأساسيةُ
التي لا يُمْكِنُ تَعْلِيلُها إلا بأنها قَبَسٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا، ثُمَّ
أخلاقُ الإنسانِ والصفاتُ الأساسيةُ للإنسان: الْعِلْمُ والإرادةُ والقدرةُ.
المادة لا تَعْرِفُ نفسَها، ولا تَعْقِلُ غيرُها.
المادةُ لا يمكن أن يكونَ لها خِيَارٌ.
قُدْرَتُهَا قُدْرَةٌ مَحْدَوةٌ بِإِطَارٍ.
أما الإنسان؛ فَيَعْلَمُ ويُرِيدُ تَبَعًا لهذا
الْعِلْم، وقدرتُه تَنْفُذُ فِي ضوءِ هذه الإرادة.
إن استعداد الإنسان للعلمِ ظاهرةٌ من أعظمِ ظواهرِ
الوجودِ؛ إذ الإنسانُ وحده من هذه المخلوقات التي نراها عَنْده استعداد لِيَعْرِفَ
كلَّ شيء؛ يُحَلِّلُ، ويُرَكِّبُ، ويُقَايِسُ، ويُعَلِّلُ، ويَقْبَلُ ويَرْفُضُ، ويَتَصَوَّرُ،
ويستطيعُ أن يُفَكِّرَ حتى يَعْرِفَ مجهولًا فِي ضوءِ معلومٍ، ويَرْسُمَ للحياةِ طريقًا
أو طُرُقًا، وَيَبْنِي حَضَارةً أو يَهْدِمُها.
ويَتْبَعُ ظاهرةَ الْعِلْمِ ظاهرةُ التَّعْبِيرِ
حين يُعَبِّرُ الإنسانُ عَنْ كلِّ هذا، تارةً أَدَبًا، وأحيانًا كلمةً؛ بهدوءٍ أو بشدةٍ،
بِعَاطِفَةٍ أو بِعَقْلٍ.
إنَّ عِلْمَ الإنسانِ وبيانَه يَدُلَّانِ مباشرةً
على الله؛ «الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ
الْبَيَانَ (4»).
«اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5»).
المادة لا تُرِيدُ، ليست لها إرادةٌ؛ بل هي خاضعةٌ
لإرادةٍ، وهذه الإرادةُ لا تَتَغَيَّرُ ولا تَتَبَدَّلُ سُنَنُها.
الحيوانُ إن كَانَت له إرادةٌ فهي إرادةُ غريزةٍ
ضِمْنَ أُطُرٍ مُعَيَّنَةٍ: إطارِ الحياةِ أو الموتِ، إِطَارِ الرزقِ أو السِّفَادِ.
أمَّا ما عَدَا هذا؛ فهو فِي بهيمِيَّةٍ غامضةٍ
لا يَعْرِفُ معنى الإرادةِ حِينَ يُرِيدُ؛ ولَكِنَّ الإنسانَ عَنْدَه طاقةُ إرادةٍ
يُرَجِّحُ بها بين الْمُتَقَابِلَيْنِ، ويَخْتارُ مِنْ بَيْنِ الضِّدَّيْنِ.
كلامُهُ بِإِرَادَةٍ، وَحَرَكَتُهُ بِإِرَادَةٍ،
وَعِلْمُهُ بِإِرَادَةٍ.
إن الإنسان وحده يملك حرية الاختيار بشكلٍ لا
مَثِيلَ له بينَ أجزاءِ العالَمِ المحسوسِ، يختار الكذبَ فَيَكْذِبُ، ويختارُ الصدقَ
فَيَصْدُقُ، ويختارُ الخَرَابَ فَيُخَرِّبُ، والإعمارَ فَيُعَمِّرُ.
طاقةٌ هائلةٌ من الإرادة يُرَافِقُها طاقةٌ هائلةٌ
من القدرة.
إنه بِقَدْرِ ما أُعْطِيَ الإنسانُ مِنْ طاقةِ
إرادةٍ أُعْطِيَ قدرةً، ومَظْهَرُ هذه القدرة: إمكانيةُ التسخيرِ والاستفادةِ مِنْ
كلِّ شيءٍ.
إنه يستطيع أن يَسْتَنْبِتَ الْأَرْضَ إِذَا
لم تُنْبِتْ، وأنْ يَحْصُدَ إِذَا زَرَعَ، وأنْ يَرْكَبَ مَتْنَ الرِّيحِ والماءِ،
وأنْ يَأْكُلَ لحمَ الطَّيْرِ والسمكِ، وأنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كلِّ شيءٍ ما يَنْفَعُ
نفسَه، وأنْ يَتْرُكَ مِنْ كلِّ شيءٍ ما يضرُّه.
إنَّ عِلْمَ الإنسانِ وإرادةَ الإنسانِ وقدرةَ
الإنسانِ تَدُلُّ بشكلٍ واضحٍ على تَمَيُّزِ الإنسانِ على المادة، والمادةُ لا يمكن
أنْ تُعْطِيَهُ عِلْمًا ولا إدراكًا ولا قدرةً ولا إرادةً، بل اللهُ وحدَه هو الَّذِي
يَمْلِكُ أن يُعْطِيَ الإنسان هذا؛ «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا».
«هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض
جَمِيعًا».
«هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْض وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيهَا».
«وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ
قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78»).
«أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا
وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10»).
فهذا كله يتعلق بعلمه وإرادته وقدرته.
وأما الأخلاق؛ فإنها تلك المشاعر التي تُنْتِجُ
سلوكًا، ومَحَلُّ هذه المشاعر: عالَمُ النفسِ عَنْد الإنسان، إنَّهُا عالَمٌ كاملٌ
لا نَعْرِفُ عَنْه إلا أَثَارَةً نُحِسُّها فِي أعماقنا، وتَظْهَرُ تارةً على صَفْحَاتِ
وجوهِنا، أو على ألسنَتِنَا، أو على جوارحنا.
مشاعرُ الرحمةِ والقسوةِ، مشاعرُ العفوِ والانتقامِ،
مشاعرُ الذِّلَّةِ والعزةِ، والعدلِ والظلمِ، والأمنِ والخوفِ، والحربِ والسِّلْمِ،
والغضبِ والحلمِ، والْجُبْنِ والشجاعةِ، والكِبْرِ والتواضعِ، والْجَبَرُوتِ واللِّينِ،
والهدايةِ والضَّلَالِ، والقَبْضِ والبَسْطِ، والانخفاضِ والارتفاعِ، والتَّجَمُّعِ
والتَّفْرِقَةِ، والْحُبِّ والبُغْضِ، ومَشَاعِرُ الْحِقْدِ والغِلِّ، والكراهيةِ والحسدِ،
والإحساسِ بالجمالِ والإخلاصِ لِلْمُثُلِ، ومشاعرُ تُفِيضُ بها النَّفْسُ وكَأنَّها
أمواجُ بحرٍ كبيرٍ.
نُسَاءُ فَنَبْكِي، ونُسَرُّ فَنَضْحَكُ، ونُحِبُّ
ونُبْغِضُ مَنْ أَحْبَبْنَا، ونرجو ونَيْأَسُ.
إنها النَّفْسُ؛ أَغْمَضُ ما فِي الإنسان.
إنَّ تَجَمُّعَ بُرُوتِينَاتٍ وإِلِكْتُرُونَاتٍ
لا يَكُونُ إحساساتٍ خُلُقِيَّةٍ؛ «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي».
«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8»).
إنَّ على الانسانِ أَلَّا يَخْدَع نفسَه؛ فلو
فَكَّرَ الإنسانُ بِعُمْقٍ ونَظَرٍ وإنصافٍ مِنْ نفسِه؛ سواءٌ كَانَ عالمًا أو جاهلًا؛
فماذا يَرَى؟!!
إنَّ اللهَ تعالى يُخَاطِبُ الإنسانَ فِي القرآن؛
«وَفِي الْأَرْض آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ
(21»)، ففي النَّفْسِ آياتٌ كثيرةٌ، كلُّها تُشِيرُ إِلَى أنَّ اللهَ هو الَّذِي خَلَقَ.
وجودُ النَّفْسِ نفسُه آيةٌ، وكلُّ صفةٍ من صفاتِها
الْخَيِّرَةِ أو الشِّرِّيرَةِ آيةٌ، وعَدَا هذا ففي النفسِ آياتٌ أخرى تَدُلُّ على
أنَّ هذا الكونَ فِيه عجائبُ ليست بِمَادِّيَّةٍ.
إنَّ نشأةَ الحياةِ دليلٌ على اللهِ، وتَعْقِيدَاتُ
الحياةِ دليلٌ على اللهِ، وتَنَوُّعُ الأحياءِ دليلٌ على اللهِ، ومَرْكَزُ الإنسانِ
فِي هذا الكونِ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا دليلٌ على الله.
وفي النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ - أَخْلَاقِها وعَجَائِبِها
- دليلٌ على اللهِ، وهذا وَحْدَهُ كَافٍ لِتَعْرِفَ به اللهَ؛ فكيف إِذَا اجْتَمَعَ
معه ما سَبَقَ ذِكْرُهُ؟!!
وكيف إِذَا اجْتَمَعَ مع هذا وَحْيٌ يَتَنَزَّلُ
ومُعْجِزَاتٌ تَتَحَدَّثُ؟!
وكيف إِذَا اجْتَمَعَ مع هذا رُسُلٌ صادقونَ
صالحونَ أَتْقِيَاءُ أَذْكِيَاءُ أَزْكِيَاءُ بَرَرَةٌ؟!
فهل يَبْقَى بَعْدَ هذا كُلِّهِ لِكَافِرٍ مِنْ
حُجَّةٍ أو سَبِيلٍ إِلَّا حُجَّةَ الْجَهْلِ وسَبِيلَ الْهَوى الْمُؤَدِّي إِلَى البَوَارِ
ثُمَّ إِلَى النَّار؟!!
أَلَا
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ الْمُلْحِدِينَ.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.